الفصل الحادي والعشرون

كيف عاد المنفيُّ إلى أبناء وطنه

في صباح اليوم التالي وجدتُ قائد الجيش في طريقه إلى مدينة دولونس.

قال: «أتريد قيادة الفرقة من جديد؟ لا مانع بالتأكيد. لكني أخشى أنه لم يتبقَّ الكثير من الرجال. سآمُر كار بالاتصال بمقَر القيادة العامة في أقربِ وقتٍ ممكن. يجب أن تعتني بما تبقَّى من الرجال؛ إذ لا يمكنهم أن يتركوا مواقعهم الآن — لا بد أن يصمدوا لبضعة أيام على الأقل. سامحني يا هاناي؛ فهناك أجزاءٌ من الجبهة لا يدافع عنها سوى ضابطٍ ومجندٍ فحسب. لا بد أن تصمُد حتى تصل القوات الفرنسية وتتولى زمام الأمور. فبيننا وبين الهزيمة شعرة.»

سألتُ: «ألدينا مواقعُ ننسحب إليها؟»

أجاب: «نبذل غاية وسعنا، لكن ليس لدينا ما يكفي من الرجال لإعداد هذه المواقع.» وأخرج خريطة وفتحها. ثم تابع: «هنا نحفر خطًّا دفاعيًّا من هنا إلى هنا. لو استطعنا الصمود لبضعة أيام، فسنُعِد مواقعَ دفاعيةً على النهر. لكن ربما لا يُسعِفنا الوقت.»

آنذاك حدثتُه عن بلنكيرون، ولا بد أنه سمعَ عنه من قبلُ. قلتُ: «كان أحد كبار المهندسين في الولايات المتحدة، ولديه خبرةٌ دقيقةٌ في أمور الجغرافيا. سيُفيدنا بشكل أو آخر، إن أذنتَ له بالمساعدة في هذه المهمة.»

قال: «ذلك هو الرجل المنشود،» ثم دوَّن أمرًا على ورقة. وقال لي: «أعط هذه الورقة لجاكس وسوف يتولى تكليفَه بمهمةٍ مؤقتة. يمكن للرجل أن يعثر على بذلةٍ عسكرية في مكانٍ ما في أميان.»

بعد ذلك وصلتُ إلى المعسكَر المتفَق عليه، ووجدتُ أن أفري قد وصل في الوقت المحدد.

أعلن هاميلتون: «لم يتسبَّب السجين في أي مشاكل يا سيدي لكنه حادُّ المزاج بعض الشيء. يقولون إن الألمان يُحرِزون تقدمًا في ساحة المعركة، وكنتُ أخبره أن عليه الافتخار بأبناء جلدته. لكنه لم يشعُر بالسعادة كثيرًا.»

لقد أحدثَت ثلاثةُ أيام تغيرًا كبيرًا في أفري. صار وجهه، الذي كان هادئًا وواثقًا فيما مضى، يعتريه الذعر، مثل الطريدة المحاصرة. لقد استحوذ عليه خيالُه ويمكنني أن أتصوَّر ما يُذيقه إياه من عذاب. فطالما كان على القمة يتولى إدارة الآلة، أما الآن فقد صار مجرَّد ترسٍ بها. لم يحدث من قبلُ أن تجرَّد من قوته، أما الآن فهو يقف عاجزًا خائر القوى. لقد انتقل إلى عالمٍ قاسٍ غيرِ مألوفٍ بالنسبة إليه، وقع في قبضة شيء يخشاه ولا يفهمه، وتحت إمرة رجالٍ لن تنفع معهم مهارتُه في الإقناع. كان حاله أشبه بمديرٍ مُتعالٍ مُتنمر وجد نفسَه فجأةً مدفوعًا للكدح وسط مجموعة من العمال البسطاء، أو الأسوأ من ذلك؛ فقد اعتراه خوفٌ شديدٌ مما هو قادم.

توسَّل إليَّ.

قال: «هل يعذِّب الإنجليز سجناءهم؟ لقد هزمتَني. أعترف لك بذلك وأطلب منك الرحمة. سأجثو على ركبتَي إن كان هذا ما تريده. فأنا لا أخشى الموت … بالطريقة التي أختارها.»

قلتُ: «قلةٌ من الناس يهابون الموت بالطريقة التي يختارونها.»

سأل: «لِمَ تَحُط من كرامتي؟ أنا رجلٌ نبيل.»

قلتُ: «ليس حسب مفهومنا عن الرجال النبلاء.»

فغَر فاه. سأل بصوتٍ مرتعشٍ: «ماذا ستفعل بي؟»

قلتُ: «كنتَ جنديًّا في الماضي. ستشهد بعض القتال من صفوف الجُند. لن نُمارس معك أي وحشية، بل سنُمِدك بالسلاح إن أردتَ الدفاع عن نفسك، وستحظى بفرصة النجاة مثل بقية الرجال حولك. ربما تناهى إلى أسماعك أن أبناء وطنك يُبلون بلاءً حسنًا. ويُمكن أن ينتصروا في المعركة. ماذا قلتَ في السابق؟ قلتَ إن أميان ستسقط في غضون يومَين، وأبفيل في ثلاثة أيام. يبدو أن ما توقعتَه قد تأخر عن الموعد الذي حدَّدتَه على الرغم من أنه قيد التنفيذ. أخبرتَني أنك المسئول الرئيسي عما يحدث، وسنمنحك الفرصة لأن تشهدَ ثمار مكائدك، بل قد تشارك فيه لكن مع الطرف الآخر من الصراع. ألا تجد ذلك عادلًا؟»

تأوَّه وأشاح بوجهه. لم تأخذني به الشفقة مثلما لم أفعل عندما عَلِقَت الأفعى الأفريقية السوداء التي قتلَت صديقي في شجرةٍ متشقِّقة الأغصان. ومن المُستغرَب أن ويك شاركَني هذا الشعور. لو أننا أطلقنا النار على أفري مباشرة في سانت أنطون، لنعتنا بالإجرام حتمًا حينها. أما الآن فهو يشاطرنا الرأي تمامًا. لقد دفَعه نفورُه الشديد من الحرب للاحتفاء بقرارنا بإجبار أحد المُخطِّطين الرئيسين لها على شهود أهوالها بنفسه.

قال: «لقد حاول استمالتي هذا الصباح. زعم أن مرادنا واحدٌ وردَّد ما كنتُ أقوله العام الماضي. شعرتُ بالخجل نوعًا ما من الخطابات التي ألقيتُها الفترة الماضية عندما سمعتُ ذلك النذل يُحاكيها … على ذكر ذلك الأمر، كيف ستستخدمني يا هاناي؟»

أجبتُ: «سأضمك إلى كتيبتي. أنتَ قويُّ البنية ولا يمكنني الاستغناءُ عنك.»

قال: «تذكَّر أنني لن أقاتل.»

قلتُ: «لن أطلب منكَ القتال. ما أسعى إليه هو أن أمنع تقدُّم العدو. تعلم كيف يتصرَّف الألمان في الدولة التي يحتلونها، بالإضافة إلى أنَّ ماري في مدينة أميان.»

سكتَ ويك بسماعه لهذا الخبر.

أنشأ يقول: «لكن …»

قلتُ: «لا يُوجد ما يستدعي اعتراضك. أنا لا أطلب منك التخلي عن أحد مبادئك المباركة. لكن أريد رجلًا يُبلغ عني الأوامر؛ لأنه لم تعُد لدينا جبهةٌ متصلة، بل نقاطُ تمركُزٍ متناثرة. أحتاج إلى رجلٍ بارع وشجاع من أجل هذه المهمة وأعلم أنك لا تخاف شيئًا.»

قال: «أجل. لا أخاف، أو بالأحرى لا أخاف كثيرًا. حسنًا، موافق!»

أرسلتُ بلنكيرون إلى مركز القيادة العامة بالسيارة، وبعدما انتصف النهار بدأتُ في رحلتي. كنتُ أحفظ كل شبرٍ من هذه المدينة، مثل التلة المرتفعة الشرقية، والطريق الروماني السريع المستقيم كالسهم المؤدي إلى سان كونتين، وبحيرات السوم المُستنقعية، والشريط العريض بين دومبيير وبيرون المتضرر بسبب الحرب. ذهبتُ إلى أميان في يناير الماضي من هذا الطريق؛ إذ زرتُ الجبهة قبل أن أتوجَّه إلى باريس، وكان المكان حينئذٍ هادئًا إذ انشغل الفلاحون في حراثة الحقول، والبنَّاءون في بناء المباني الجديدة على ساحة المعركة القديمة، والنجَّارون في إصلاح أسطُح الأكواخ، كما خلا الطريق تقريبًا من عربات النقل التي تُذكِّر المرء بالحرب. أما الآن فقد كان الطريق الرئيسي مُكتظًّا — مثلما كان طريق ألبرت عندما اندلعَت معركة السوم لأول مرة — بالقوات الذاهبة والعائدة، وقد بدَت على تلك العائدة علاماتُ الإنهاك الشديد، وامتلأ بسيارات الإسعاف وعربات الذخيرة المُتدفقة بلا توقُّف في اتجاهَين مختلفَين؛ وسيارات هيئة الأركان التي راحت تشُق طريقها وسط الجموع البشرية؛ هذا بالإضافة إلى صفوف المدافع التي تجرُّها الخيل وما تبقى من الخيَّالة والقليل من الجنود الفرنسيين هُنا وهناك. لم تكن هذه المشاهد جديدةً عليَّ باستثناء مشهدٍ واحدٍ. مشهد العربات الصغيرة التي تجرُّها الخيل وهي تحمل نساءً حزينات وأطفالًا حائرة وأكوامًا من الأثاث، وتزحف ناحية الغرب أو تقف عند أبواب القرية. كما كان هناك رجال طاعنون في السن وفتيان يرتدون أفضل ثيابهم كأنهم ذاهبون إلى الكنيسة. لم أرَ مثل هذا المشهد؛ لأنني لم أشهد تقهقُر الجيش البريطاني من قبلُ. لقد انهار السد الحائل دون فيضان الماء، والآن يُحاول القاطنون في الوادي الفِرار بمُمتلكاتهم الضئيلة. وفوق الخيل والجموع البشرية، والعربات التي تجرُّها الأحصنة وعربات اليد، والطريق والأرض المحروثة، قبَع غبارُ مارس الأبيض، وأطلت السماء الزرقاء لشهر يونيو، وانهمكَت الطيور الصغيرة بالزقزقة في الشجيرات، وبدأَت أزهار البنفسج تتفتَّح في زوايا الحدائق المهجورة.

فور أن بلغنا قمة تلٍّ سمعنا ضجَّة المدافع بوضوح. هذا القصف لم أختبره من قبلُ أيضًا؛ إذ لم يكن عاديًّا. كان قصفًا من نوعٍ خاص، قصفًا متقطعًا عشوائيًّا غيَر منتظمٍ، لم أسمع مثله من قبلُ. كان يدُل على نشوب قتالٍ مفتوح ومعركةٍ نشِطة.

في بيرون — التي هجرها سكانها مرةً أخرى بعدما عادوا إليها حديثًا — بدا أن الحرب على الأبواب. هناك علمتُ بأحوال الفرقة التي أقودها. كانت موغلةً في الجنوب ناحية سان كريست. شقَقنا طريقَنا عَبْر الطرق غير المُمهدة باتجاه موقع مقَرها حسب آخر أنباءٍ وردتنا، فيما علا دويُّ المدافع أكثر فأكثر. لكن تبيَّن أن هذا المقَر تابعٌ لفرقةٍ أخرى كانت تستعدُّ لعبور النهر. بعد ذلك حلَّ الظلام، وفيما حلَّقَت الطائراتُ غربًا باتجاه شمس المغيب، احمرَّ الأفق في الشرق، حيث بهتَ وميضُ المدافع المتواصل أمام الوهج الباهر لمخازن الزخيرة المشتعلة. استوقفَتني رؤيةُ خوذةٍ تحمل شارة فوج البنادق الاسكتلندي، وتبيَّن أنها لجنديٍّ من فرقتي. وفي غضون نصف ساعة، كنت أتسلَّم القيادة من ماسترتون الذي تنفَّس الصُّعداء، وسط أنقاضِ ما كان مصنعًا لسُكَّر البنجر فيما مضى.

اندهشتُ برؤية ليفروي هناك. لم تحتجزه القوات الألمانية إلا لمدة ثماني ساعاتٍ فقط. في أثنائها انهمك ليفروي في متابعةِ طريقةِ تعامُل العدو مع الهجمات التي يتعرض لها حتى إنه نسي وضعه المأسوي. ووصفَ بإعجابٍ فاحشٍ حركة الإمدادات والقوات الاحتياطية المستمرة وما اتصفَت به من هدوءٍ وانسيابيةٍ مطلقة. بعد ذلك استوعب أنه مُحتجزٌ دون أن يكون مصابًا فجُنَّ جنونه. ولأنه ملاكمٌ بارزٌ في فئة الوزن الثقيل، دحرج حارسَيه إلى خندق، وتفادى الطلقات التي أُطلِقَت عليه على إثر ذلك، قبل أن يحتمي بجانبِ مخزنِ ذخيرةٍ مشتعل؛ حيث تردَّد مطاردوه في اتباعه. ثم قضى ساعةً عصيبةً يحاول اجتياز خطِّ دفاعٍ أمامي ظنَّ أنه تابع للقوات الألمانية. لكنه عندما تسمَّعَ تبادُلًا للسباب بلكنة أهل مدينة داندي الاسكتلندية أدرك أنه في موقعٍ تابعٍ لقواتنا … شعرتُ بالراحة لعودة ليفروي لأنه شجاعٌ مِقدام وواسع الحيلة. لكن تبيَّن أن الفرقة التي أقودُها موجودةٌ على الورق فحسب. فقد استحالت الفرقة إلى لواء من ناحية العُدة والعتاد، واستحالت ألويتُها إلى كتائب وكتائبها إلى سرايا.

ليس هذا هو المقام المناسب لسرد أحداث الأسبوع التالي. فلا أستطيع سطرها، وإن شئت، لأنني لا أعلم ما وقع تحديدًا. كانت هناك خطة، ستجدها في كتب التاريخ، لكن بالنسبة إليَّ كان الأمر فوضى مُطلقة. كانت الأوامر تأتينا، لكن قبل وصولها بفترةٍ طويلة، تتغيَّر الأوضاع فيستحيل عليَّ تنفيذها. وفي كثيرٍ من الأحيان كان التواصُل ينقطع بيني وبين الفرق في كلا الجانبَين. وكانت المعلوماتُ الاستخباراتيةُ تصِلنا بصورةٍ غيرِ منتظمة، وفي أغلب الأوقات كنا نتخبَّط لعدم توافرها. سمعتُ أننا تحت قيادة الفرنسيين، في البداية قيل إن فوش هو من يقودنا، ثم قيل إنه فايول الذي قابلتُه في باريس. لكن بدا أن القيادة العليا بعيدةٌ عن ساحة المعركة بملايين الأميال، وليس أمامنا خيارٌ آخر سوى استخدام ذكائنا. كانت المُعضلة التي تُواجِهني هي تأخير تراجُعنا قَدْر الإمكان، وفي الوقت نفسه عدم التأخُّر كثيرًا؛ إذ كان الألمان يرسِلون فرقًا جديدةً كل صباح مما جعل الانسحاب حتميًّا. كانت حربًا بعيدةً كل البعد عن معارك الخنادق القديمة التي خضتُها، ولأنني لا عهد لي بهذا النوع الجديد من الحرب، اضطُررتُ إلى ارتجالِ قواعدَ جديدة. حين أسترجعُ أحداثها، أشعر أن بقاء أيٍّ منَّا على قيد الحياة لهو أعجوبة. كانت رحمة الرب وصمود الجنود البريطانيين السبب الوحيد وراء خداع الألمان ومنعهم من التدفق عَبر الثغرة والوصول إلى بلدة أبفيل ومنها إلى البحر. كنا كستارةٍ من البعوض تجمَّع على مدخل بابٍ للحيلولة دون اندفاعِ ثورٍ هائج.

كان قائد الجيش مُحقًّا؛ كانت تفصلنا عن الهزيمة شعرة. ولا بد أننا كنَّا نشكِّل أضعفَ جزءٍ في الجبهة بأكملها؛ إذ كنا نحمي مساحةً منها لا تقل بحالٍ من الأحوال عن مِيلَين، وأقدِّر أنها كانت تقترب من خمسة أميالٍ في كثير من الأحيان، دون إمداداتٍ باستثناء البقية المتبقية من سلاح الخيالة التي ركضَت في جميعِ أنحاءِ ساحةِ المعركةِ دون أوامرَ واضحة. ومن رحمة الربِّ بِنا أن ارتكب الألمان خطأً فادحًا. ربما لم يكونوا على علمٍ بوضعنا الفعلي؛ إذ أدَّى الطيارون البريطانيون أداءً بارعًا، ولم يُمكِّنوا ولو طائرةً ألمانيةً واحدةً من التحليق فوقنا في النهار فكان الألمان يستمتعون بقصفنا في أثناء الليل. ولو كانوا كشفوا خدعتَنا لانتهى أمرنا، لكنهم كرَّسوا قوَّتَهم على شمالنا وجنوبنا. ففي الشمال ضغطوا بقوة على جيشنا الثالث، لكن دكَّته قوات الحرس في شمال بلدة بابوم، فلم يستطع التقدُّم إلى آراس. وفي الجنوب تقدَّموا ناحية خط السكة الحديدي في باريس، وانتقلوا منه إلى وادي واز، لكنهم صادفوا وصول قوات الجنرال بيتان الاحتياطية، وحاربهم الفرنسيون ببسالة.

لا أقصد أن الألمان لم يُحاربوا بضراوة في منتصف الجبهة حيث تمركزنا، لكنهم صرَفوا أفضل قواتهم إلى الشمال والجنوب، وبعد أن وصلنا إلى غرب منعطف نهر السوم كانت قواتُهم قد سبقَت مدافعهم الثقيلة فأصبحَت خارج نطاق نفوذها. ومع ذلك لم يكن الوضع سهلًا البتة؛ إذ كانت قواتنا على جانبَي الجيش تنسحب بصفةٍ مستمرة، واضطُرِرنا إلى مسايرة تحركاتها غير الأكيدة. على أي حال، كنا في الطريق الذي يُفضي إلى أميان مباشرة، وكانت مهمَّتنا أن نبطئ انسحابنا حتى نعطيَ الفرصةَ لهيج وبيتان لحشد الإمدادات. ضنَنْتُ بكل ياردةٍ من الأرض؛ إذ كانت كل ياردةٍ وكل دقيقةٍ عزيزةً غالية. فنحن وحدَنا مَن وقفْنا بين العدو والمدينة التي تُوجد فيها ماري.

لو سألتَني عن خططنا فلن أستطيع الجواب. كنتُ أبتكرُ خطةً جديدة كل ساعة. كانت تأتيني تعليماتٌ من الفيلق، لكن الأوضاع كانت تتغيَّر قبل وصولها كما ذكرتُ آنفًا، وكنتُ أضطَر إلى ارتجال أغلب تحركاتي بنفسي. كانت لديَّ مهمةٌ واضحة، وتحتَّم عليَّ استخدام كل الوسائل الممكنة لتنفيذها. لم أنم سوى في النادر، ولم أتناول الطعام سوى القليل، وتنقَّلتُ من مكانٍ لآخر ليلَ نهارَ، لكن لم أشعُر بالقوة مثلما شعرتُ في ذلك الوقت. لم أشعُر بالتعب على الإطلاق، والغريب أني شعرتُ بالسعادة. لو كرَّس المرء كل جهده من أجل هدفٍ واحد، فلن يكون لديه متَّسع من الوقت للقلق … أتذكَّر أننا كنا رحماءَ فيما بيننا، ننتقي من الكلام أعذبه في تلك الفترة. وصار ليفروي، الذي اشتُهر بحدة لسانه، يهدل مثل الحمام. عانت القواتُ من افتقارِها للموارد لكنها كانت ثابتةً كالصخر. فقد كنا نُقاتِل للحيلولة دون نهاية العالم، وهذا من شأنه أن يدفع المرء للتجلُّد …

قدَّمتُ الأداءَ نفسَه يومًا تلوَ الآخر. حافظتُ على تماسُك الجبهة الضعيفة بخطِّ دفاعٍ أماميٍّ أخَّر كلَّ هجومٍ جديدٍ يشنُّه العدو حتى يتسنَّى لي أن أُقدِّر حجمه. وكان لديَّ سرايا خاصة وزَّعتُها على مواقعَ معيَّنة لشن الهجمات المضادة، واستخدمتُها متى احتجتُ للمُماطَلة بينما تنسحب بقية الفرقة. أعتقد أننا حاربنا ما يزيد عن اثنَتَي عشرةَ معركةً صغيرةَ المدى. كنا نخسر الرجال طيلة الوقت، لكن العدو لم يحقِّق تقدمًا كبيرًا، وإن اقترب من ذلك في كل مرة. أسترجع الأحداث فتبدو لي تلك المعاركُ سلسلةً من المعجزات. في كثيرٍ من الأحيان كنتُ أجد نفسي عند طرَف قرية بينما الألمان على الطرف المقابل منها. تنقَّلَت وحداتُنا المدفعية بصفةٍ مستمرة، وأدَّت المدفعية أداءً تَضيقُ العبارةُ عن وصفه. توجَّهنا للشرقِ تارة، وللشمالِ تارةً أخرى، وإلى الجنوب في لحظةٍ حاسمة؛ إذ ترنَّحَت جبهتُنا وتمايلَت مثلَ الراية في قمة الصارية … حمدًا للرب أن العدو بدأ في الابتعاد عن مُحرِّكه الأساسي، وعانت قواتُه العادية من الإنهاك وقلة المهارة. في اللحظة التي كانت تتقدَّم فيها كتائبُه المدفعيةُ حبستُ أنفاسي … فقد امتلك كميةً كبيرةً من المدافع الرشَّاشة واستخدَمها بمهارة. في الحقيقة أرفع القبعة للألمان لِما قدَّموه من أداء. لقد فعلوا ما حاولنا أن نفعلَه في السوم وأَن وآراس وإيبر ونجحوا في ذلك بصورةٍ أو أخرى. والسبب في ذلك هو عزمُهم الأكيد على النصر.

أظهر الجنود، كما قلتُ سابقًا، ثباتًا وجلَدًا منقطعَي النظير في أقسى اختبارٍ لقدراتهم على التحمُّل. كانت الفرقة التي أقودها تحوي جميع الأصناف، مثل عناصر الجيش القديم وعناصر الجيش الجديد والقوات الإقليمية، كانوا جميعًا لا يُخيَّرون عن بعضهم لتساويهم في البراعة. حارب الجنودُ مثل الطرواديين، ووجدوا بعض الكوميديا في معاناتهم، رغم القذارة والإنهاك والجوع. ولو أن ذلك يدُل على شيء فهو أن الطبيعة البشرية تتَّسِم بالعقلانية في جوهرها. رجلٌ واحدٌ بيننا كاد أن يفقد عقله …

رأيتُ أفري من حينٍ لآخر وسط الأحداث الصاخبة لتلك الأيام. كنتُ أضطَر للتنقُّل كثيرًا طوال الوقت، فكنت أزورُ في كثيرٍ من الأحيان ما تبقَّى من فوج البنادق الاسكتلندي الذي جُنِّد فيه أذكى عقلٍ في أوروبا. لم يقِف هذا الرجلُ أو حارساه في خطِّ دفاعٍ أمامي ولا شاركوا في أي هجومٍ مضاد. بل كانوا في ذلك الجزء من الجيش الذي اقتصرَت وظيفته على الانسحاب بحذَر. كان ذلك في غاية السهولة بالنسبة لهاميلتون الذي شارك في الحرب منذ معركة مونس، أما آيموس، بعد أن استغرق يومًا في الاعتياد على الأمر، فقد استغرق في فلسفته الكئيبة وبدأ يستمتع بالأمر إلى حدٍّ ما. كان من الصعب جدًّا مباغتة آيموس. لكن بالنسبة للرجل الذي كان بصُحبتهما، ولم يتركا جانبه أبدًا، فقد اختلفَت المسألة.

قال هاميلتون: «ظننا في البداية أنه فقَد عقلَه. فكلما اقتربَت منه قذيفة، قفَز مرتاعًا مثل المُهر. وإذا تعرَّض لقنابل غاز، تعجزُ العبارة عن وصف حالته. كنا نُضطَّر إلى ربط قناع الأكسجين له بسبب ارتجاف يدَيه. كانت هناك أوقاتٌ لم يمنعه وابلُ الرصاص من الوقوفِ في مكانه والتحدُّث إلى نفسه. كان مثالًا حيًّا على القنوط … بدا أنه لا يسمع ولا يرى شيئًا. أطاعنا في كل ما أمرناه به، وإذا تركناه وشأنه جلس وبكى. كان يبكي طيلة الوقت … ولغرابة الأمر، يا سيدي، لم تُصِبه طلقاتُ الألمان. كنتُ أنفضُ ثوبي من طلقات الرصاص، وأصبتُ بطلقةٍ في كتفي، وتلقَّى أندرو ضربةً في خوذته المعدنية كانت ستطرح أي أحدٍ أرضًا لو لم يكن لدَيه رأسٌ قاسٍ مثل الثور. لكن سجيننا لم يُصَب بأي خَدشٍ يا سيدي. أصبح شبابُنا يخافون منه. أخبرَني رجلٌ أيرلنديٌّ أن لدَيه عينًا حاسدة وسترى بنفسك أنه غيرُ طبيعي.»

لاحظتُ أن بشرة أفري أصبحَت رقيقةً مثل الورق وعينَيه خاليتان من التعبير. لا أعتقد أنه عرفَني.

سألتُ: «هل يتناول وجباته؟»

قال: «لا يأكل سوى القليل من الطعام. لكنه يُعاني من العطش بصورةٍ غيرِ طبيعية. فلا يمكنك إبعاده عن زجاجات مياه الجنود.»

كان أفري يتعلم سريعًا معنى الحرب التي تلاعَب بها بثقةٍ مفرطة. أرى نفسي رجلًا رحيمًا، لكن وأنا أنظر إليه، لم أشعُر بأي شفقةٍ تجاهه. كان يكابد القدَر السيئ الذي دبَّره للآخرين. وجدتُ نفسي أفكِّر في سكادر، وفي آلاف الأصدقاء الذين فقدتُهم، وفي بحور الدماء العظيمة وجبال الحزن التي سبَّبها ذلك الرجلُ وأقرانُه للعالم. لمحتُ بطَرفِ عيني الجبالَ الطويلةَ في بلدتَي كومبل ولونجيفال التي سقط خيرُ رجال الأرض من أجل الفوز بها، وقد عادت إلى سيطرة الألمان. تذكَّرتُ المدينةَ الخائفةَ خلفنا، وما تُشكِّله من قيمةٍ لي، وستارنا الضعيف الواهي الذي هو خطُّ دفاعِها الوحيد. تأمَّلتُ الأعمال القذرة، التي ارتكبها الألمان وأكسبَتْهم شهرةً سيئةً في العالم بأسْرِه، والتي كان أفري مُدبرها الرئيسي. ثم تعجَّبتُ من مقدار صبرنا وثباتنا. ليفقد أفري عقله، فالجنونُ أليقُ به من سلامة العقل.

كان تحت إمرتي رجلٌ آخر، ربما لا تراه طبيعيًّا، وهو ويك. كان يجسِّد الصفة المضادة ﻟ «اضطراب العقل» إن جاز التعبير. لم يكن ويك قد تعرَّض لنيران العدو بشكلٍ صريحٍ من قبلُ، لكنها لم تُرهِبه على الإطلاق. شهدتُ هذا الأمر مع آخرين، لكن انتهى بهم المطاف بفقدانِ عقلهم؛ إذ ليس من الطبيعي ألا يخافَ بشرٌ من لحمٍ ودمٍ مما قد ينزل به من العذاب والهلاك. من الطبيعي أن يخاف المرءُ قليلًا بصفةٍ مستمرة، كما هي حالتي، ومع الإرادة والتركيز على العمل يستطيع المرء أن يدفَع عنه خوفه. لكن ويك لم يعبأ بالحرب بوضوح. لم يكن طائشًا وإنما غير مبالٍ. كان يتجوَّل في الأنحاء بابتسامةٍ مطمئنةٍ على وجهه. وعجزَت الأهوالُ — التي تتابعَت علينا — عن التأثيرِ فيه. وفاضت عيناه، المتَّقِدتان فيما مضى، ببراءةٍ واضحةٍ فضولية، مثل عينَي بيتر. كنتُ سأشعُر بالسعادة أكثر لو أنه أظهر بعض الخوف.

ذاتَ يوم، بعدما عانَينا من قلقٍ بالغ، تحدَّثتُ إليه ونحن نتناول السجائر في مكانٍ كان ملجأً للفرنسيين فيما مضى. كان ويك بمثابة ذراعي الأيمن، وأخبرتُه بذلك. قلتُ: «لا بد أن هذه تجربةٌ غيرُ مألوفة بالنسبة لك.»

ردَّ: «أجل. إنها في غاية الروعة. لا أعتقد أن هناك رجلًا اختبر الحرب دون أن تتأثَّر سلامةُ عقله. لكن صرتُ أعرف أمورًا لم أعرفها من قبلُ. أدركتُ أن الروح قد تُولَد من جديدٍ دون مُغادرتها للجسد.»

حملقتُ فيه، وواصَل كلامَه دون أن ينظر إليَّ.

قال: «لستَ على اطلاعٍ على الأدبيات القديمة، أليس كذلك يا هاناي؟ كانت هناك طائفةٌ غريبةٌ في العالم القديم، عُباد «ماجنا ماتر» أو الإلهة العظيمة. كي يسبر الناذرون غورها، كان لا بد لهم من عبور نهرٍ من الدماء — أظن أنني حاليًّا أعبُر هذا النهر. وأومن أنني مثل المبتدئين سأشهد «ريناتوس إن إيتيرنوم»؛ أي الولادة من جديد في الأبدية.»

نصحتُه أن يتناولَ بعضَ الشراب إذ أفزعَني كلامه. بدا كأنه يتحول إلى ما يُسمِّيه الاسكتلنديون بالمخبول. لاحظ ليفروي الأمرَ نفسَه وانشغل بالحديث عنه طيلة الوقت. كان ليفروي نفسُه شجاعًا مثل الثور، ويقتربُ من شجاعة ويك إلى حدٍّ كبير؛ لكن كان في إقدام ويك شيء أقلقه. قال: «لا يُمكنني فهم هذا الرجل. إنه يتصرف كما لو أن عقله ممتلئٌ بأفكارٍ سعيدةٍ تجعلُه لا يعبأ بمدافع الألمان. لا أعني أنه يُخاطر بحماقة لكنه يتصرَّف كما لو أن المخاطرة التي اتخذها لا تعني شيئًا له. يشعُر المرء بغرابةٍ شديدةٍ وهو يراه يُسجِّل الملاحظاتِ بيدٍ ثابتةٍ وسط قذائف العدو المتتابعة كحبَّات البرد، فيما يُفكِّر في كل دقيقةٍ تمُر عليه أنها الأخيرة. احرِص عليه يا سيدي. إنه في غاية الأهمية بالنسبة إلينا ولا يُمكِننا الاستغناءُ عنه.»

كان ليفروي مُحقًّا؛ إذ لا أدري ما كنتُ سأفعله لو لم يكن ويك معي. كان أسوأ جزءٍ في مهنتنا هو التواصُل مع جناحَي الجيش وهو ما استعملتُ ويك فيه. فأخذ يقطع الأراضي بخفَّة وسرِّية، مثل قاطع الطريق، فوق دراجةٍ صدئة تارةً أو على قدمَيه تاراتٍ أخرى، دون أن يكِلَّ أو يتعَب. تُرى ما رأيُ الفرق الأخرى في ذلك الجندي الثاني المُتسِخ الذي هو وسيلةُ تواصُلنا الأساسية؟ لم يعرف ويك أيَّ شيءٍ عن الشئون العسكرية من قبلُ، لكنه استوعب تفاصيلَ هذه المعركةِ الفوضويةِ وكأنما وُلِد محاربًا. ولم يُطلِق رصاصةً واحدة، ولا حمل أيَّ سلاح؛ سلاحُه الوحيدُ كان عقله. ويا له من سلاحٍ فائق! فلم أقابل ضابطَ أركانٍ سريعَ البديهة مثله طيلة حياتي. كان ويك قد كرس كل جهده لهذه المهمة، كان يندر إيجادُ من هم في مثل مهارته الفذة. ذات يومٍ قَدِم ضابطُ أركانٍ من فرقةٍ مجاورةٍ لزيارتي.

سألني: «مِن أين جلبتَ هذا الرجل المدعو ويك؟»

قلتُ: «إنه معارضٌ للخدمة العسكرية وليس بمقاتل.»

قال: «ليتنا نحظى بالمزيد من مُعارضي الخدمة العسكرية في هذه الحرب. إنه الجنديُّ الوحيد الذي يفهم هذه الحربَ اللعينةَ فيما يبدو. جنرال فرقتي يُوصيكَ به.»

قلتُ: «لا داعي لذلك. فأنا أعرف قَدْره حقَّ المعرفة. فهو صديقي العزيز.»

استخدمتُ ويك وسيلةَ تواصُلٍ بيني وبين مقَر الفيلق خاصة مع بلنكيرون. وعند حلول اليوم السادس تقريبًا بدأ اليأس يتملَّكُني. كنتُ أعلم أن هذه الحرب لا يمكن أن تستمر إلى لأبد. لقد تقهقرنا أميالًا، خلف خط جبهة ١٩١٧، وعندما وضعنا أحد جانبَي الجيش على النهر، تحسَّن الوضع كثيرًا. لكن خسرتُ الكثير من الرجال، وما تبقى قد بلَغ منهم الإعياء مبلَغه. كما أن العدو يضغط بجيشه في الشمال والجنوب ما اضطَرَّنا لزيادة طول الجبهة الإجمالي، وأدركتُ أنه يجب أن أنشُر القوات القليلة التي تحت قيادتي هناك. كان الألمان لا يزالون يتقدمون لكن بوتيرةٍ أبطأ. ولو علموا بقلة القوات المتوافرة لإيقافهم لشنُّوا هجومًا قويًّا يوصلهم إلى أميان. وحده الأداء الرائع لطيارينا ما منعهم من الوصول إلى هذه المعلومة، لكن لا يُمكننا الحفاظ على سرية الوضع للأبد. ففي يوم من الأيام ستُحلِّق طائرة من طائرات العدو فوق جبهتنا، وستكفي كتيبةُ هجوم أو كتيبتان جديدتان لبعثرتنا. كنتُ بحاجة إلى موقعٍ مجهزٍ بالخنادق وشبكة أسلاكٍ شائكةٍ جيدة. والأهم من ذلك كنتُ بحاجة إلى الإمدادات. كانت هذه الكلمة على شفتي طيلة اليوم وطاردَتْني في أحلامي. أخبرَتْني القيادة أن القوات الفرنسية ستأتي لنجدتنا، لكن متى؟ كانت التقارير التي أرسلتُها لمقر الفيلق عبارةً عن نُواحٍ طويلٍ بشأن الحاجة لمزيد من الإمدادات. أعرف بوجود موقعٍ مُجهزٍ خلفنا، لكن كنتُ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الرجال للدفاع عنه.

أحضَر ويك رسالة من بلنكيرون. جاء فيها: «ننتظرك يا ديك وقد حضَّرنا موقعًا مجهزًا جيدًا من أجل الفرقة. هذا العجوز لم يعمل بجدٍّ منذ عثوره على النحاس في مونتانا في ١٨٩٢. لقد حفرنا ثلاثةَ خطوطٍ من الخنادق، وأقمنا عددًا كبيرًا من المتاريس المنيعة، وأعتقد أنها أُنشئت بإتقان بسبب إشراف هيئة أركان الجيش على تنفيذها، وهم لا يتهاونون في هذا الصنف من الهندسة. ستضحك عندما ترى جماعةَ العمَّال الذين استخدمناهم. كانت تضُم عمَّالًا من شتى الأصناف من الإيطاليين، والصينيين، وبعض السود من بلدك جنوب أفريقيا، جميعهم انشَغلوا بهذه المهمة غايةَ الانشغال حتى نسُوا النوم. كنتُ مُشتهرًا بأنني ربُّ عملٍ لا يرحم لكني لم أضطَر إلى استخدام مهاراتي الخاصة في هذه المهمة. لقد قرَّرتُ أن أستثمر أموالًا كثيرةً في المهام العسكرية الخارجية من الآن فصاعدًا.»

قلتُ في الرد على رسالته: «خنادقك لا فائدة منها مع عدم توافُر الرجال. أحضِر مَن يمكنهم حمل البنادق بحق السماء. ففرقتي على حافة الانهيار.»

بعد ذلك تركتُ ليفروي مع الفرقة، وركبتُ في الجزء الخلفي من سيارة إسعاف، لأتفقَّد الوضع بنفسي. هناك قابلتُ بلنكيرون، وبعضَ مهندسي الجيش، وضابطَ أركانٍ من مقَر الفيلق، بالإضافة إلى آرشي رويلانس.

لقد جهَّز العمال خنادقَ كبيرة وأحاطوها بشبكةٍ ضخمةٍ من الأسلاك الشائكة. امتدت الجبهة من النهر إلى غابة لابرويير في التلة الصغيرة فوق جدول أبلاين. وكان خط الجبهة طويلًا جدًّا، لكني أدركتُ على الفور أنه ما كان يُمكن أن يكون أقصرَ من ذلك؛ لأن الفرقة الموجودة على جنوبنا مشغولة جدًّا بالمناوشة مع أطراف الجيش الكبير الذي يهاجم القوات الفرنسية.

أخبرتُهم: «لا جدوى من غض الطرف عن الحقائق. فعدَد رجالي الباقين لا يبلغ الألف، وهم لم يعُد بهم طاقة على التحمُّل. ولو وضعتُهم في هذه الخنادق فسينامون واقفين. متى ستتولى القوات الفرنسية زمام الأمور؟»

كانوا قد أخبروني من قبلُ أنه من المقرَّر وصولُ القوات الفرنسية صباحَ اليوم التالي، لكن تأجَّل ذلك مدةَ أربعٍ وعشرين ساعة. وأن هذا إجراءٌ مؤقَّت لانتظار وصول الفرق البريطانية من الشمال.

حلَّت الجدية على ملامح آرشي. قال: «سيدفع الألمانُ بقواتٍ جديدةٍ إلى هذا الجانب. وصلَت إلينا هذه الأنباء قبل مغادرتي لمقر الأسطول. ويبدو أن الهجوم سيحدُث في القريب العاجل يا سيدي.»

قلتُ: «لا شك في ذلك. سيقع هذا الهجوم يقينًا. لن يقدر زملائي على الاستمرار على هذا الحال ليومٍ آخر. يا إلهي، لقد قضَوا أسبوعَين في الجحيم! اعثُر لي على مزيدٍ من الرجال، وإلا فسننسحِب عند أول هجومٍ جديد.» كان صبري قد بدأ ينفَد.

قال أحد ضباط الأركان: «لقد فتَّشْنا الدولة بدقة. وحشَدنا الرجال بصورةٍ مرتجلة. وبلغ عددُ ما جمعناه ألفَين تقريبًا. وجميعُهم أكفاءٌ غير أنَّ أغلبهم ليست لديهم أدنى فكرة عن القتال في قوات المشاة. بعد ذلك نظَّمنا هؤلاء الأفرادَ في فصائل، وبذلنا غايةَ ما في وسعنا لتدريبهم. هناك مسألةٌ واحدةٌ قد تبثُّ البهجة في صدرك. لقد صار لدينا مدافعُ كثيرة. هناك مدرسةٌ لسلاح المدفعية بالجوار، جنَّدنا كل مَن التحق بدَورتها، وحصلنا على المعدَّات والمواد اللازمة.»

لا أعتقد أن مثل هذه القوة أُرسلَت إلى ساحة المعركة من قبلُ. كانت أكثر عشوائيةً من جماعة مدنيِّي بلدة موسي الذين خرجوا في أعقاب العسكريين في معركة إيبر الأولى. كان الرجال العائدون من فترة الاستراحة المؤقتة من مختلف التخصصات ويُمثِّلون غالبية وحدات الجيش. كان هناك الرجال المُجندون من مدرسة سلاح المدفعية. وكان هناك سلاح المقاتلين الهندسيين، وسلاح الخدمة العسكرية، بالإضافة إلى حفنة من سلاح الفرسان. والأهم من ذلك أنه كانت هناك جماعة من المهندسين الأمريكيين أسَّسها بلنكيرون. تفحَّصتُهم عندما كانوا مُنهمكين في الحفر وراقَني مظهرهم. حدَّثتُ نفسي قائلًا: «علينا انتظارُ ثمانٍ وأربعينَ ساعةً فحسب، وإن حالفَنا الحظ فقد نفوز.»

بعد ذلك اقترضتُ دراجة، وعُدت إلى الفرقة. لكن قبل مغادرتي، تبادلتُ بضعَ كلماتٍ مع آرشي. قلتُ: «نمارس خدعةً كبيرةً على العدو، وأنتم وحدكم من تُساعدوننا في ذلك. أخبِر أُناسك أننا نُعوِّل كثيرًا على مساعدتكم. فلا تضنُّوا بالطائرات على هذا القطاع؛ إذ فور أن يشُك الألمان في قلة عدد المُقاتلين أمامهم، فستنتهي اللعبة. العدوُّ ليس بأحمق، ويعلم أن هذا هو الطريق الأقصر إلى مدينة أميان، لكنه يتخيَّل أننا ندافع عنها بكل ما نملِكه من قوة. لو واصلنا هذا العرض ليومَين آخرَين فسننجح. تقول إنه يضُخ المزيد من قواته، أليس كذلك؟»

قلتُ: «أجل، كما أنه ينشُر دبَّاباته.»

قلتُ: «حسنًا، سيستغرق الأمر بعض الوقت. لقد أصبحَت وتيرةُ العدو أبطأ مما كانت عليه في الأسبوع الماضي، كما أنهم سيبذلون جهدًا كبيرًا في عبور هذه الأراضي. هناك احتماليةٌ لانتصارنا وإن كانت بعيدة. على أي حال عُد للوطن، وانقل رسالتي للفيلَق الجوي الملكي.»

أومأ برأسه. قال: «بالمناسبة، يا سيدي، لقد انضم بينار إلى فيلقنا. سيودُّ القدومَ إليك وإلقاءَ التحية.»

قلتُ بجدية: «كن رجلًا طيبًا يا آرشي وأسدِ لي معروفًا. إن عرفتُ بوجود بيتر في أنحاء الجبهة، فسأفقد عقلي من شدة القلق. هذا ليس المكانَ المناسبَ لرجلٍ أعرج. كان من المفترض أن يكون في إنجلترا منذ عدة أيام. ألا يمكنك إرسالُه إلى مدينة أميان بأي شكلٍ من الأشكال؟»

قال: «لا نُحب أن نفارقه. جميعُنا يشعر بالأسف نحوه، كما ترى؛ إذ انقضت أيامُ متعته وانتهت مسيرتُه وما شابه. لكنه يُحب البقاء معنا والإنصات إلى حكاياتنا. كما أنه حلَّق في الجو مرةً أو مرتَين. وذلك في طائرة شارك-جلادس. لقد أقسَم لي أنها مُبهرة الصنع، ولا بد أنه يعرف كيفية التعامُل مع هذه الآلة الشيطانية.»

قلتُ: «إذن لا تسمح له بتكرار الأمر. أثِق بك يا آرشي. عِدني بذلك.»

قال: «لسخرية الأقدار أن بيتر دائمُ القلق بشأنك. إن بحوزته خريطة، يحدِّد فيها كل يوم التغييرات الطارئة على موقعك، كما أنه يسير بساقه العرجاء مسافةَ ميل، بهدف تتبُّع أخبارك ممن التقى بك من زملائنا.»

سحبتُ الفرقة إلى الخطوط التي أُعدَّت حديثًا مستترًا بظلام تلك الليلة. وأفلَتنا من قبضة العدو بسهولة؛ إذ كان مشغولًا بشئونه الخاصة. راودَني الشك في أنه يسعى إلى تبديل قواته الجديدة بالقديمة المُنهكة.

لم يكن هناك وقتٌ لإهداره، وأؤكِّد لك أنني بذلتُ غايةَ ما في وسعي لترتيب الأوضاع قبل طلوع الفجر. وددتُ لو أُعطي زملائي فترة استراحة، لكن لا يُمكِنني الاستغناءُ عنهم بعْدُ. كنتُ بحاجة إليهم كي يشُدُّوا عضُد القوات الجديدة؛ إذ كانوا مُحاربين قُدامى. سار الموقع الجديد على النسق نفسه للجبهة القديمة التي دمرها الألمان في الواحد والعشرين من شهر مارس. كانت هناك منطقةُ قتالٍ أمامية مكوَّنة من المواقع الأمامية والمتاريس الموزَّعة بكفاءة، بالإضافة إلى خط دفاع. خلف ذلك مباشرةً قبعَت الخنادق، وشكَّلَت منطقة القتال. أحاطت الأسلاكُ الشائكةُ بالمنطقتَين بإحكام، وتوافَر عددٌ كافٍ من المدافع الرشَّاشة؛ وددتُ لو يُمكنني القول إن لدَينا عددًا كافيًا من الرجال يستطيعون استخدامها. اقتصرَت مهمة المواقع الأمامية على تحذير الجيش، قبل أن تنسحِب إلى خط الدفاع، الذي يجب أن يصمُد حتى النهاية. في منطقة القتال الأمامية، وضعتُ أحدثَ ما انضمَّ إلينا من قوات، وهي وحداتٌ تدعمها الفرق العسكرية العائدة من استراحتها المؤقتة، وفقًا لأوامر الفيلق. أرسلتُ مع هؤلاء المهندسين الأمريكيين، وضعتُ جزءًا منهم في المتاريس والجزء الآخر في سرايا الهجمات المضادة. أبلغَني بلنكيرون أن المُجنَّدين الجدُد في براعة دانيال بوون في الرماية، ويتحرَّقون شوقًا للقتال. بَقيَت باقي القوات في منطقة القتال، وكانت أملَنا الأخير. لو خسرنا هذه القوات، فسيكون الطريق المؤدي إلى أميان مفتوحًا أمام الألمان. أُحضِرَت قواتٌ ميدانيةٌ إضافيةٌ لتعزيز سلاح المدفعية الضعيف لديَّ بالفرقة. كانت الجبهة طويلةً جدًّا، ما دفعني إلى وضع الثلاثة الألوية المُنهَكة على الخط؛ لذا لم تعُد هناك أي قواتٍ احتياطية. كان الأمر كله مجازفةً كبيرة.

لقد وجدنا ملاذا آمنًا في الوقت المناسب. في السادسة والنصف من صباح اليوم التالي — كانت السماء صافية، على سبيل التغيير، وبدأَت السُّحُب تتكدَّس في الغرب — أعلن الألمان أنهم لا يزالون على قيد الحياة. أطلقوا وابلًا من قذائف الغاز، لم تُحدِث ضررًا كثيرًا، ثم بعثَروا منطقة القتال الأمامية بقذائف الهاون الخاصة بالخنادق. في السابعة وعشرين دقيقة، حاولوا الزحف إلينا، فقدِمَت مجموعاتٌ صغيرةٌ بالمدافع الرشاشة في البداية، ثم تبِعَتْها قواتُ المشاة بأعدادٍ كبيرة. كانت هذه القوات قد وفدَت إلى ساحة المعركة حديثًا فيما يتضح، وعلِمنا فيما بعدُ من الأسرى أنها الفرقة البافارية السادسة أو السابعة لا أذكُر تحديدًا، لكنها الفرقة نفسها التي أعاقت تقدُّمَنا في مونشي. في الوقتِ نفسِه انبعث صوتُ قصفٍ شديد من ناحية النهر. بدا أن المعركة الرئيسية انتقلَت من ألبيرت ومونتيديه واستحالت إلى هجومٍ مباشر في محاولة للتقدُّم إلى أميان. حاولتُ مرارًا تدوينَ أحداثِ ذلك اليوم. سعيتُ لذلك في التقرير الذي أرسلتُه إلى الفيلق؛ وحاولتُ مرةً أخرى في مُذكِّراتي الخاصة؛ فعلتُ ذلك تلبيةً لرغبة ماري، لكن لم أقدِر على كتابة قصةٍ متماسكةٍ قَط. ربما كان عقلي منهكًا إلى حدِّ أنه عجز عن حفظ أي انطباعاتٍ واضحة، وإن لم أشعر بإرهاقٍ زائدٍ حينها. لكن السبب على الأرجح هو أنَّ القتال نفسه كان غيرَ متناسقٍ البتة؛ إذ لم يحدُث شيءٌ وفقًا لما هو مذكور في الكتب، ولا بدَّ أن الألمان قد تخلَّوا عن نظامهم المعهود … في البداية سار القتال وفقًا لما توقعناه. اخترق الألمان المواقع الأمامية، لكن نيران رشاشاتنا التي أطلِقَت عليهم من المتاريس أعاقت زحفهم، ومكَّنَت خط المقاومة في منطقة القتال الأمامية من أداء وظيفته على أتم وجه. كانت هناك فترةُ توقفٍ مؤقتة، تدفَّقَت بعدها موجةٌ كبيرةٌ من الجند، مدعومةٌ بوابل من المدافع الميدانية، كان قد وضَعها الألمان قريبًا من الجبهة. هذه المرة انهار خط المقاومة في عدة مواقع، ودفع ليفروي المهندسين الأمريكيين في هجومٍ مضاد. كان الأداء مبهرًا. فقد اندفع المهندسون — يصيحون مثل الدراويش — على الألمان ببنادقهم المُزوَّدة بالحراب فيما فضَّل آخرون استخدامها مثل الهِراوات. كان قتالًا باهظَ التكلفةِ ولا يتوافق على الإطلاق مع أي معايير، لكنه نجح في نهاية المطاف. فقد تقَهقَر الألمانُ خارجِين من المزرعة الخَرِبة، والغابة الصغيرة التي تقدَّموا عَبْرها، قبل أن يُعيدوا بناء الجبهة. بلنكيرون، الذي شَهِد جميعَ ما حدث لأنه خرج معهم، ونتج عن ذلك أنْ لامسَت طلقةُ مدفعٍ رشاش طرفَ أذنه، ضاقَت عبارتُه عن وصف هذا اليوم. قال مُتأوهًا: «وأنا مَن كنتُ أقول إن هؤلاء الشباب تنقُصهم اللياقة البدنية!»

كانت المرحلة الثانية، عند منتصف اليوم تقريبًا، هي الدبابات. لم أرَ طراز دبابات الألمان من قبلُ، لكني كنتُ قد سمعتُ عن سرعتها ووزنها الفائقَين مقارنةً بدباباتنا، على الرغم من صعوبة التحكم بها. لم نشهد كثيرًا من سرعتها، لكن رأينا صعوبة تحكُّمهم بها. لو سخَّرها الألمانُ بالطريقة المناسبة، لنفذَت فينا بسهولة، كأننا خشبٌ طريٌّ فاسد. لكنهم لم يُحسِنوا التعامُل معها. بدا أن الأرض مناسبةٌ لاستعمال الدبابات، لكن الرجال الذين أشرفوا على إنشاء الجبهة لم يفُتهم ذلك. هذه الآلات المتوحِّشة التي تحملُ المدافعَ الأرضيةَ وغيرها من العتاد كانت تحتاج طرقًا شِبهَ ممهَّدة كي تسير بسلاسة. لكنها كانت عديمةَ الفائدة في الأراضي الوَعْرة. تقدَّمَت الدباباتُ القادمةُ من الطريق الرئيسي جيدًا في البداية، لكن بلنكيرون كان من الحكمة أن زرَع الألغام في الطريق، فصنَعنا حفرةً تُشبه ما نستعمله في التنقيب عن الماس. سقطَت فيها دبابة وأسَرنا طاقمها؛ وعلقَت فيها أخرى وظلَّت هناك إلى أن طالتها نيرانُ مدافعِنا الميدانية ودمَّرتها. وبالنسبة للبقية — كانت هناك بحيرةٌ مُستنقعيةٌ بجوار مزرعة جافاريل، اسمها بادواه، تمتد شمالًا إلى النهر، لكن مواضع كثيرة فيها تبدو مجرد أرضٍ رخوة وسط المروج. وتحتَّم على الدبابات عبورُ هذه البحيرة للوصول إلى جبهتنا، لكنها لم تُفلِح في ذلك قَط. فقد علق أغلبها في البحيرة وصارت هدفًا سهلًا لمدافعنا، وعادت دبابة أو اثنتان؛ وانفجرَت ثالثةٌ بواسطة قنبلةٍ مؤقتةٍ وضعها الأمريكيون مُستتِرين بجدول نهر صغير.

بحلولِ وقتِ الأصيل بدأَت السعادةُ تغمُرني. كنتُ أعرف أن الهجوم الكبير لم يقع بعدُ، لكن لا تزال المنطقة الأمامية سليمة، ورجوتُ أن تنتهيَ الأمور على خير. أتذكَّر أنني كنتُ أتحدث إلى ويك، الذي كان يتنقَّل بين المنطقتَين، عندما تلقَّيتُ أول إنذارٍ بهجومٍ جديدٍ غير مُتوقع. فقد سقطَت قذيفةٌ معطوبةٌ على بُعد بضع يارداتٍ من مكاني.

قلتُ: «هؤلاء الحمقى وراء النهر لا يستطيعون التصويب بدقة.»

فحص ويك القذيفة. قال: «لا، إنها قذيفةٌ ألمانية.»

توالت أخواتها، ولم يكن ثمَّة شكٌّ في مصدرها، ثم اندلعَت المدافع الرشاشة من المنطقة نفسها. ركضنا مُستتِرين، إلى أن وصلنا إلى موقعٍ يُمكِننا منه رؤية الضفة الشمالية من النهر، ووجَّهتُ منظاري إليها. كان هناك مرتفعٌ من الأرض تأتي القذائف من ورائه. تبادلتُ وويك النظرات، فرأى كلٌّ منَّا الاستنتاجَ نفسَه منعكسًا على وجه الآخر. لقد زحف الألمانُ إلى الضفة الشمالية، ولم نعُد نستطيعُ التنسيقَ مع جيراننا. كان العدو في موقع يُخوِّل له تطويقَ جناحنا والجانب الخلفي الأيسر من قواتنا بمدافعه. فلم نستطع الرجوع للتنسيق مع الآخرين؛ إذ لو فعلنا ذلك فسنتخلى عن موقعنا المُجهَّز.

عند هذه النقطة بلغ الخوفُ منِّي مبلغَه، وللحظةٍ وقفتُ وقد أُسقِط في يدي لا أعرف ماذا أفعل. فالتفتُّ ناحية ويك، فكانت عيناه الهادئتان هما ما ساعدتاني على أن أتمالك نفسي وأُسيطر على مشاعري.

قلتُ: «إن عجزوا عن استرداد هذه الأرض فقد انتهينا تمامًا.»

قال: «أجل. يجب أن يستعيدوها إذن.»

قلتُ: «يجب أن أتَّصل بميتشينسون.» لكني في لحظتها تذكَّرتُ عدمَ جدوى الاتصال هاتفيًّا برجل هو نفسه في ظروفٍ عصيبة. المناشدة العاجِلة فحسب هي ما قد تأتي بأثرها المنشود … لا بد أن أذهب بنفسي … لا، هذا مستحيل. سأُرسِل ليفروي … لكن لا يُمكنني الاستغناءُ عنه. وجميع ضباط الأركان مُنهمكون في القتال. كما أنهم لا يعرفون موقعَه مثلما أعرفه … كيف أصل إلى هناك إذن؟ فالطريق إلى هناك عَبْر ذلك الجسر في لويزي طويل جدًّا.

فجأةً صرتُ واعيًا لصوتِ ويك. قال: «يُستحسَن أن تُرسلني. يُوجَد طريقٌ واحد، وهو السباحة في النهر إلى هناك.»

قلتُ: «هذه مجازفةٌ خطيرة. ولن أُرسل أي رجلٍ إلى موتٍ مُحتَّم.»

قال: «لكنِّي أتطوَّع لهذه المهمة. وهذا مسموحٌ في الحرب دائمًا حسبما أعتقد.»

قلتُ: «لكنك ستُقتل قبل عبورك للنهر.»

قال: «أرسِل رجُلًا معي من أجل المراقبة. لو وصلتُ للجانب الآخر من النهر، فتأكد أنني سأصل إلى جنرال ميتشينسون. إذا لم يحدُث ذلك، فأرسل شخصًا آخر عَبْر جسر لويزي. يجب أن نسرع، وأنت ترى بنفسك أن هذا هو السبيل الوحيد.»

لم يكن هناك وقتٌ للنقاش. كتبتُ ملاحظةً سريعةً لجنرال ميتشينسون في عجالة لتقديم ويك إليه. لم أكن بحاجة لإخباره بالمزيد، إذ إن ويك يعرف الجبهة مثلما أعرفها. وأرسلتُ رجلًا لمرافقته إلى نقطة الانطلاق على الضفة.

قال وهو يُصافحني: «إلى اللقاء. سترى أنني سأعود في خير حال.» بدا وجهه، حسبما أذكر، سعيدًا على نحوٍ استثنائي. بعد ذلك بخمسِ دقائقَ اندلعَت رشَّاشات الألمان في هجمتهم الأخيرة.

أحسبُ أنني حافظتُ على رباطة جأشي؛ أو هذا ما يقوله ليفروي والآخرون على أي حال. قالوا إنني رُحتُ أطوف بالمكان في فترة بعد الظهيرة بابتسامةٍ عريضةٍ على شفتي كأنَّ الوضع يَروقُني، وإنني لم أرفع صوتي ولو مرة. (فمن عيوبي أنني أصيح عندما يتأزَّم الموقف.) لكن مما أعرفه أنه لو جالت بداخلي أيُّ مشاعرَ حينها، فلم يكن الهدوء أحدها؛ إذ كان الموقف عصيبًا. كانت المسألة برمَّتها تعتمد على ويك وميتشينسون. كانت النيران الجانبية كثيفةً إلى حد أني اضطُرِرتُ إلى التخلِّي عن الجناح الأيسر من المنطقة الأمامية، الذي تعرَّض لنيران العدو مباشرة، ثم سحبتُ الجنود إلى منقطة القتال. وفَّرَت تلك الأخيرة حمايةً أفضلَ للجنود؛ إذ امتدت بينها وبين النهر غابةٌ صغيرة، وشكَّلَت الضفة جرفًا انحدر ناحيتنا لا العدو. هذا الانسحاب يعني الانتقال، وهو ليس مُستحسنًا عندما تقضي الضرورة ارتجالَه في وسط القتال.

لقد اعتمد الألمان على النيران الجانبية. تمحورَت خطتهم حول تدميرِ جناحَي جيشنا، وهي خُطتهم القديمة التي يتبنَّونها في كل قتال. في البداية ترك الألمان مركزنا وشأنه، واندفعوا بمحاذاة ضفة النهر، وانتقلوا إلى غابة لابرويير؛ حيث تتَّصِل فرقتنا بالفرقة المجاورة لنا من الميمنة. كان ليفروي في المنطقة الأولى، وماسترتون في المنطقة الثانية، ولمدة ثلاث ساعاتٍ استمر القتال باستماتة لم أشهدها من قبلُ … نُفذَت عملية الانتقال المرتجلة واختفت أجزاءٌ من منطقة القتال الأمامية واحدة تلو الأخرى. كان الطقس في فترة الظهيرة ربيعيًّا ساخنًا صافيًا، وتدفَّق العدو في أثناء القتال المفتوح في نسقٍ مُحكَم كما يحدث في المناورات. وفي ناحية الميسرة بلغ العدوُّ ساحة المعركة، ورأيتُ جسدَ ليفروي الضخم، وهو يقود هجومًا مضادًّا بنفسه، فيما تلطَّخ وجهُه بالدماء التي سالت من جرحٍ في فروة رأسه …

كنتُ على استعداد لبذل الغالي والنفيس في سبيل أن أتمكن من الوجود في مكانَين في آنٍ واحد، لكن اضطُررتُ إلى التضحية بالميسرة، ومُلازمة جانب ماسترتون، الذي كان في حاجةٍ ماسةٍ إليَّ. بدا المشهد في غابة لابرويير في قمة الجنون. فقد كاد العدو أن يخترقها أكثر من مرة. لم يكن باستطاعة المرء تحديدُ مكانه، وأخذَ معظم القتال صورةَ نزالٍ بين قوات المدافع الرشاشة على الجانبَين. تمكَّن جزءٌ من جيش العدو من الالتفاف خلفنا، وحال الأداء الرائع لسَرِية تشيشاير دون اختراقه للغابة بشكلٍ كامل.

أما ليفروي، فلا أدري كيف صمد حتى النهاية، وهو نفسُه لا يدري كيف حدث ذلك؛ إذ ما انفك العدو يرشقه بتلك النيران الجانبية اللعينة. في حوالي الرابعة ونصف مساءً، تلقَّيتُ رسالةً قصيرةً تُبلِغُني بعبور ويك النهر، لكن لم تخفَّ حدةُ نيران العدو، إلا بعد مرور بضعِ ساعاتٍ من القتال الشديد. كنتُ أتنقَّل بين جناحَي الجيش، وفي كل مرة أَتَّجِه شمالًا، كنتُ أتوقع أن أجد ليفوري مهزومًا. لكنه قاوم بمعجزةٍ ما. كان العدو يصل إلى منطقة قتاله، مرةً بعد الأخرى، لكنه ظلَّ يردُّه على أعقابه خائبًا. أتذكَّر رؤية بلنكيرون في قمة الانفعال، يبثُّ الحماسة في نفوس الأمريكيين بلهجته الغريبة. ذات مرةٍ مررتُ به، ولاحظتُ ذراعه اليسرى معصوبة. ابتسم لي بوجهه المُكفَهِر ابتسامةً عريضة. وقال بصوتٍ مبحوح: «هذه المساحة الخضراء غير آمنة بالمرة لممارسة الديمقراطية. بالله عليك وجِّه مدافعك للشياطين في الناحية الأخرى من النهر. إنهم يُنزِلون برجالي أشد العذاب.»

في حوالي الساعة السابعة، حسبما أعتقد، خفَّت وتيرةُ نيرانِ العدو الجانبية، لكن لم يكن ذلك بسبب مدافع الفرقة. فقد دوَّى صوتُ قصفٍ مدفعيٍّ قوي في الضفة الشمالية، وكنتُ واثقًا أن قواتنا البريطانية وراء ذلك. بعد ذلك تطوَّرَت الأحداث. أبلغتنا إحدى الطائرات — التي أدَّت أداءً مبهرًا طيلة اليوم، وهي تنقضُّ مثل الصقر، وتُهاجم بالمدافع الرشاشة قواتِ المشاة الألمانية — أن ميتشينسون يضرب بقوة، ويتقدَّم بشكلٍ جيد. تنفَّستُ الصُّعداء بسماع هذا الخبر، وانطلقتُ باتجاه ماسترتون، الذي تعقَّد وضعه عن ذي قبل؛ إذ بدأ العدو يُخفِّف ضغطه على ضفة النهر، ويركِّز قوَّتَه الأساسيةَ على الميمنة … لكن أوقفَني ضابط أركاني الثاني في طريقي إليه. قال: «ويك. إنه يريد رؤيتك.»

هتفتُ: «ليس الآن.»

قال: «لم يتبقَّ له سوى دقائقَ معدودة.»

استدرتُ، واتبعتُه إلى حظيرة البقر الخرِبة التي كانت مقر قيادة الفرقة. لقد سبح ويك، حسبما عرفتُ في وقتٍ لاحق، في النهر ناحية ميسرة ميتشينسون، وبلغ الضفة الأخرى بأمان، رغم وابل الرصاص المنهمر على سطحها. لكنه فور أن وضع قدمه على الشاطئ تأذَّى بشدة بفعل شظيةٍ أصابت فخذه. في البداية، سار مستندًا على مرافِقه، ثم حُمل على نقَّالة، حتى وصل بمشقةٍ بالغة إلى مقر الفرقة، وهناك سلَّم رسالتي وشرَح الموقف. ولم يسمح لأحد بتفقُّد جرحه حتى تأكد من إنجاز مهمَّته. أخبرَني ميتشينسون لاحقًا أن ويك رسم له موقعنا في عجالة، وشرح له مدى اقترابنا من الهزيمة بدقة، بملامحَ مُنقبضةٍ من شدة الألم … بعد ذلك طلب إعادتَه إلى مكاني، فحملوه إلى بلدة لويزي في سيارة إسعاف مكتظة بالمُصابين، ثم نقلوه إلى مقَرنا في سيارة إسعاف عائدة فارغة. رأى الضابط الطبيب، الذي تفقَّد جرحه، أن شفاءَه لا أملَ منه، وتوقَّع ألا يحيا لأبعد من بلدة لويزي. فقد كان يُعاني نزيفًا داخليًّا غزيرًا ولا يستطيع أيُّ جرَّاح على وجه الأرض إنقاذه.

عندما وصل إلينا كان نبضُه يكاد يتوقَّف، لكنه أفاق لحظةً وطلب إحضاري إليه.

وجدتُه أزرقَ الشفتَين شاحِبَ الوجه، يرقد فوق فِراشٍ قابل للطي. بدا صوتُه شديد الخفوت بعيدًا.

سأل: «كيف سار الأمر؟»

قلتُ: «سننجو بمشيئة الرب … بفضلك يا صديقي العزيز.»

قال: «عظيم»، وانغلقَت عيناه.

فتح عينَيه مرةً أخرى.

وقال: «كم هي غريبة الحياة! منذ سنةٍ كنتُ أدعو للسلام … ولا أزال … ولا آسف على ذلك.»

أمسكتُ يدَه دقيقتَين ثم فارق الحياة.

في غِمار القتال لا يستوعب المرء الموت، ولو كان موتَ أحد أصدقائه. تعيَّن عليَّ أن أُحقِّق ما أكَّدتُه لويك، فانطلقتُ إلى ماسترتون مباشرة. هناك، في فوضى غابة لابرويير، والشمسُ آخِذةٌ في الأُفول، دار قتالٌ يائسٌ دموي. كانت هذه هي الجولة الأخيرة في السباق. اثنتا عشرة ساعة — حدَّثتُ نفسي — وستصل القوات الفرنسية إلى هُنا بعدما نكون قد أنجزنا مهمتَنا. وا أسفاه! كم سيعود منَّا في فترة استراحة؟ … شنَّت سرايا الهجوم المضاد هجمةً جديدة إذ لم يسَعْها حتى الترنُّح. لقد تجاوزوا حدود التحمُّل البشري، لكن الروح البشرية قادرةٌ على أن تتحدَّى كل قوانين الطبيعة. تذبذبَت كفَّتا الميزان، ثم تساوتا، ثم رجحَت كفَّتُنا. خارت القوة الدافعة للعدو، وتوقفَت، وبدأَت عملية الانسحاب.

عزمتُ على إنهاء المهمة. أطلق سلاح المدفعية وابلًا من قذائفه، وأرسلتُ ما تبقَّى من جنود، لا تزال بهم قدرةٌ على القتال، في هجومٍ مضاد. كان معظم الرجال لم يخضعوا للتدريبات، لكن كان في صفوفنا من الرجال من لا حاجة له بالتدريبات، وباغَتْنا العدو في أكثر لحظاته ضعفًا. دحرْناه من غابة لابرويير، وأعدناه إلى منطقة القتال الأمامية، ثم دفعنا به إلى الموقع الذي بدأ منه القتال اليومَ.

لم يكن هناك مجالٌ للراحة للمُنهكين. كنَّا قد خسرنا ثلثَ قوَّتنا على الأقل، ولا بد من تزويد الجبهة الطويلة نفسها بالجنود. عزَّزنا الجبهة قَدْر الإمكان، وبدأنا نُغيِّر الأسلاك التي تدمَّرَت في أثناء القتال، وتواصلنا مع الفرق في الميمنة، وأنشأنا مواقع أمامية. عُدتُ إلى المقَر الخاص بي — بعدما عقدتُ مؤتمرًا مع قادة الألوية في فرقتي — وأنا في غاية الإنهاك، حتى لم أقوَ على الشعور بالرضا أو القلق. في غضون ثماني ساعاتٍ ستصل القوات الفرنسية إلى هُنا. كان لهذه الكلمات وقعُ ابتهالٍ على أذنيَّ.

في حظيرة البقر؛ حيث كان ويك يرقد منذ قليل، وجدتُ شخصَين بانتظاري. كشف ضوء الشمعة الموضوعة في حاملٍ من معدن التَلْك عن هاميلتون وآيموس، متَّسِخَين بما لا تحيط العبارة بوصفه، مُسْوَدَّين من أثر الدخان، ومُلطخَين بالدماء، تُغطيهما ضماداتٌ مربوطةٌ بإحكام. كانا يقفان في وضعية الانتباه.

قال هاميلتون: «السجين يا سيدي. لا بد أن أبلغَ عن موت السجين.»

حملقتُ بهما، لأنني نسيتُ أمر أفري. بدا أنه كائن من عالمٍ بائد.

قال: «حدَث الأمر كما يلي يا سيدي. بدا السجين حذرًا منذ الصباح. لقد كان فيما يُشبِه الحلم طيلة الأسبوع كما تذكُر. لكن بدا أن فكرةً مُعيَّنة تشغل بالَه، وعندما اندلعَت المعركة، ظهرَت عليه علاماتُ الاضطراب. كان يستلقي في الخندق تارة، ويريد العودة إلى المخبأ تارةً أخرى. زوَّدتُه بمسدس، وفقًا للتعليمات، لكنه كان يجهل كيفية استخدامه فيما يظهر. كانت تعليماتك، يا سيدي، أن نُزوِّده بوسيلةٍ يدافع بها عن نفسه عند هجوم العدو؛ لذا أعطاه آيموس السكين المُستخدَم في قتال الخنادق. لكن سرعان ما بدا أنه يُفكِّر في قطع عنقِه بها، فنزعتُها منه.»

توقف هاميلتون لالتقاط أنفاسه. كان يتحدَّث دون سكتاتٍ بين الجُمَل وكأنما يسرد درسًا حفظه.

تابع: «أحسستُ، يا سيدي، أنه لن ينجوَ اليومَ، وشاطرَني آيموس الرأي. حانت لحظةُ النهاية بعد الثالثة بعشرين دقيقة، وعلمتُ بالتوقيت تحديدًا؛ لأنني قارنتُ ساعتي مع آيموس. تذْكُر أن الألمان كانوا قد شرعوا في هجومهم الكبير. كنَّا في الخندق الأمامي لما يُسمُّونه بساحة القتال، وانشغلتُ وآيموس في مراقبة العدو، الذي كان يزحف في الأرض المفتوحة. آنذاك، رأى السجين العدو، فقفز إلى السطح. حاول آيموس الإمساك به، لكنه ركلَه في وجهه. بعد ذلك رأيناه يعدو ناحية العدو، وهو يرفع يدَيه فوق رأسه، ويصيح بلغةٍ أجنبية.»

قال آيموس المُثقف عَبْر أسنانه المكسورة: «إنها الألمانية.»

واصل هاميلتون: «كانت الألمانية، بدا كأنَّ أفري يناشد العدو لمساعدته. لكنهم لم يلتفتوا إليه وأطلقوا عليه مدافعهم الرشاشة. رأيناه يدور حول نفسه، مثل الخذروف، وأيقنَّا أنه قضى نحبه.»

سألتُ: «هل توثَّقتُم من موته؟»

أجاب: «أجل يا سيدي. عندما قمنا بهجومٍ مضاد، وجدنا جثته.»

هناك قبرٌ بجوار مزرعة جافاريل، يحمل صليبًا خشبيًّا، عليه اسم الكونت فون شبابينج وتاريخ وفاته. أخذ الألمان جثمانَه بعد ذلك بفترةٍ قصيرة. أُحِب أن أظنَّ أنهم قرءوا ما نُقِش على الشاهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤