الفصل السادس

لكن هل هو ذكاء حقًّا؟

لنفترض أن أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي العام المستقبلية (المزودة بشاشة أو الروبوتات) تساوى مع أداء البشر. هل ستتمتع تلك الأنظمة بذكاء حقيقي أو فهم حقيقي أو إبداع حقيقي؟ هل سيكون لديها ذوات أو مكانة أخلاقية أو اختيار حر؟ هل سيكون لها وعي؟ ولو من دون وعي، فهل يمكن أن تتمتع بأيٍّ من الخصائص الأخرى؟

إنها ليست أسئلةً علمية، بل إنها أسئلة فلسفية. يشعر كثيرون بديهيًّا أن الإجابة على كل سؤال هي «من الواضح، لا!»

لكن الأمور لا تستقيم على الدوام. إننا نريد حججًا دقيقة، وليس مجرد بديهيات مدروسة. ولكن تُظهر هذه الحجج أنه لا يوجد إجابات عن تلك الأسئلة يتعذر دحضها. يرجع السبب إلى أن المفاهيم المتضمنة جدلية إلى حد كبير. وفقط إذا فُهمت تلك الأسئلة على نحوٍ مُرضٍ، فيمكن أن نطمئن إلى كون الذكاء الاصطناعي العام الافتراضي — أو عدم كونه — ذكيًّا. باختصار، لا أحد يعلم على وجه اليقين.

قد يقول البعض هذا لا يهم، ما يمكن أن تفعله أنظمة الذكاء الاصطناعي العام هو المهم. لكن يمكن أن تؤثر الإجابات في مدى ارتباطنا بها كما سنرى.

إذن، لن يقدم هذا الفصل إجابات جلية. ولكنه سيقترح أن بعض الإجابات منطقية أكثر من غيرها. وسيوضح كيف استخدم (بعض) الفلاسفة مفاهيم الذكاء الاصطناعي لإلقاء الضوء على طبيعة العقول الحقيقية.

اختبار تورينج

في ورقة بحثية نُشرت في مجلة «مايند» الفلسفية عام ١٩٥٠، وصف ألان تورينج ما أسماه اختبار تورينج. يطرح الاختبار سؤالًا عما إن كان بإمكان المرء أن يميز هل يتفاعل مع جهاز كمبيوتر أم مع شخص بعد ٣٠ بالمائة من مدة تصل إلى خمس دقائق أم لا. قال ضمنًا إنه إن لم يتحقق ذلك، فلن يكون هناك سبب لإنكار أن الكمبيوتر بإمكانه التفكير حقًّا.

كان هذا استهزاءً. على الرغم من تصدُّر اختبار تورينج الصفحات الافتتاحية، فإنه كان عنصرًا ثانويًّا في ورقة بحثية كان الهدف الأساسي منها أن تكون بيانًا عن الذكاء الاصطناعي. في الحقيقة، ذكر تورينج أمر هذا الاختبار لصديقه روبن غاندي باعتبارها «دعاية» غير جادة، بل دعوة إلى الضحك وليس النقد الجاد.

وعلى الرغم من ذلك، نهض الفلاسفة إلى النقد. قال معظمهم إنه حتى إن لم تفرق ردود فعل البرنامج عن ردود فعل الإنسان، فهذا لا يثبت ذكاءه. وكان الاعتراض الأشهر — ولا يزال — هو أن اختبار تورينج لا يهتم إلا بالسلوك المرصود؛ ومن ثَم يمكن أن يجتازه زومبي، وهو شيء يتصرف مثلنا ولكنه يفتقر إلى الوعي.

يفترض هذا الاعتراض أن الذكاء يتطلب الوعي، وأن مخلوقات الزومبي محتملة من حيث المنطق. سنرى أن بعض حسابات الوعي (في قسم «الذكاء الاصطناعي والوعي المدرَك بالحواس») تشير إلى أن مفهوم الزومبي ليس مُتماسكًا. وإذا كانوا على حق، فإنه لا يوجد ذكاء اصطناعي عام يمكن أن يكون زومبي. وفي هذا الشأن، سيكون لاختبار تورينج مسوغاته.

أثار اختبار تورينج اهتمام الفلاسفة (والعامة) كثيرًا. لكنه لم يكن مهمًّا في الذكاء الاصطناعي. غالبًا ما يهدف الذكاء الاصطناعي إلى تقديم أدوات مفيدة، ولا يهدف إلى محاكاة ذكاء الإنسان، بل إلى جعل المستخدمين يعتقدون أنهم يتعاملون مع إنسان. والحق أن الباحثين في الذكاء الاصطناعي التوَّاقين إلى الشهرة يزعمون في بعض الأحيان ويسمحون للصحافة أن تزعم أنَّ أنظمتهم اجتازت اختبار تورينج. ومع ذلك، لا تتوافق هذه الاختبارات مع وصف تورينج. على سبيل المثال، نموذج باري (PARRY) الذي طوره كين كولبي خدع الأطباء النفسيين، وجعلهم يعتقدون أنهم يطلعون على مقابلات مع مصابين بجنون العظمة، حيث إنهم افترضوا بصورة طبيعية أنهم كانوا يتعاملون مع مرضى بشريين. وبالمثل، غالبًا ما يُنسب فن الكمبيوتر إلى الإنسان إذا لم يكن هناك إشارة على احتمالية استخدام الآلة.

أقرب شيء إلى اختبار تورينج الأصلي هو مسابقة لوبنر السنوية (التي تُعقد الآن في بلتشلي بارك). تنص القواعد على أن يكون هناك تفاعل لمدة ٢٥ دقيقة باستخدام ٢٠ سؤالًا سبق وضعهم لاختبار الذاكرة والتفكير المنطقي والمعلومات العامة والجوانب الشخصية. تنظر هيئة التحكيم في مدى ملاءمة التعبير/القواعد وصحتها ووضوحها ومنطقيتها. وحتى الآن، لم يوجد برنامج قد خدع هيئة التحكيم في مسابقة لوبنر بمقدار ٣٠ بالمائة من الوقت. (في ٢٠١٤، قيل إن برنامجًا لطفل أوكراني يبلغ من العمر ١٣ عامًا خدع ٣٣ في المائة من المحققين، لكن الأخطاء تُغفر بسهولة عند غير الناطقين باللغة، لا سيما الأطفال).

مشكلات الوعي الكثيرة

لا يوجد شيء اسمه مشكلة الوعي. بل يوجد العديد من المشكلات الخاصة به. تُستخدم كلمة «الوعي» لتعيين العديد من الفروق مثل ما يأتي: اليقظة/النوم، التشاور/الغفلة، الانتباه/عدم الاكتراث، سهولة الوصول إلى الشيء/صعوبة الوصول إلى الشيء، التبليغ/عدم التبليغ، التفكر/عدم التفكر، وغيرها. لا يوجد شرح واحد يوضح كل تلك الفروق.

الأضداد المدرَجة عبارة عن أضداد وظيفية. وسيقول العديد من الفلاسفة إن تلك الأضداد قد تُفهم من حيث المبدأ في معالجة المعلومات ومصطلحات علم الأعصاب أو أحدهما.

لكن يبدو أن الوعي المدرَك بالحواس مختلف، الأحاسيس (مثل الحزن أو الألم) أو الكيفيات المحسوسة (المصطلح الفني الذي يستخدمه الفلاسفة). ووجود الكيفيات المحسوسة في عالم مادي أساسًا لغز ميتافيزيقي معروف أنه مستعصٍ.

أطلق ديفيد تشالمرز على هذا اللغز «المسألة الصعبة». إنه يقول إنها مسألة لا مفر منها: «[يجب] أن نأخذ الوعي على محمل الجد … وغير مقبول أن [نعيد] تعريف المسألة بأنها توضيح لطريقة أداء وظائف معرفية أو سلوكية معينة».

طُرحت العديد من الحلول ذات درجة التخمين العالية. تضمنت تلك الحلول إصدار تشالمرز عن النفسانية الشاملة، وهي نظرية تعترف أنها «شائنة أو حتى مجنونة»، وبموجبها يكون الوعي المدرَك بالحواس خاصية في الكون لا يمكن اختزالها، وهي شبيهة بالكتلة أو الشحنة. لجأ العديد من أصحاب النظريات إلى فيزياء الكم، ويقول الخصوم إنهم يستخدمون لغزًا لحل لغز آخر. قال كولين ماكجين إن البشر غير قادرين دستوريًّا على فهم العلاقة بين العقل والكيفيات المحسوسة، مثلما لا تفهم الكلاب الحساب. كذلك يعتقد جيري فودور، وهو من رواد فلسفة العلوم المعرفية، إذ يقول: «لا أحد لديه أدنى فكرة عن كيف يمكن أن تعي المادة. ولا أحد يعلم حتى كيف سيكون الأمر إن كانت هناك أدنى فكرة عن كيف يمكن أن يعي أي شيء مادي.»

باختصار، يزعم قلة من الفلاسفة أنهم يفهمون الوعي المدرَك بالحواس، ومن يزعمون ذلك لا يكاد يصدقهم أحد. فالموضوع شرَك فلسفي.

وعي الآلة

المفكرون المتعاطفون مع الذكاء الاصطناعي يتعاملون مع الوعي بطريقتين. الطريقة الأولى بناء نماذج كمبيوتر خاصة بالوعي؛ ويطلق على تلك النماذج «وعي الآلة». والطريقة الثانية تحليل الوعي من منظور حاسوبي واسع من دون نمذجته (وهي سمة الفلاسفة المتأثرين بالذكاء الاصطناعي).

الذكاء الاصطناعي العام الذكي بحق سيكون له وعي وظيفي. على سبيل المثال، سيركز (ينتبه، يعي) الذكاء الاصطناعي على الأشياء المختلفة في أوقات مختلفة. ستتمكن الأنظمة التي ترتقي إلى مستوى الإنسان من التشاور والتفكر. بإمكانها أن تولد أفكارًا إبداعية، وأن تقيمها على نحو تشاوري. من دون تلك القدرات، فلا يمكن أن تولد أداءً ذكيًّا على ما يبدو.

يمكن أن يدخل الوعي المدرَك بالحواس عندما يقيِّم الإنسان الأفكار الإبداعية (انظر الفصل الثالث). في الحقيقة، يقول العديدون إنه داخل في كل فرق وظيفي. وعلى الرغم من ذلك، عادةً ما يتجاهل الباحثون في وعي الآلة الوعي المدرَك بالحواس، حيث إنهم جميعًا يعتبرونه وعيًا وظيفيًّا.

من مشاريع وعي الآلة المثيرة للاهتمام مشروع «تعلُّم وكيل التوزيع الذكي» الذي طورته مجموعة ستان فرانكلين في ممفيس. هذه التسمية تنطبق على شيئين. الأول هو نموذج مفاهيمي للوعي (الوظيفي)، وهو نظرية حاسوبية يعبَّر عنها بالألفاظ. والثاني عبارة عن تنفيذ جزئي ومبسط لذلك النموذج النظري.

وكلاهما يُستخدم لأغراض علمية (وهو الهدف الأساسي لفرانكلين). ولكن الشيء الآخر له تطبيقات عملية أيضًا. يمكن تخصيص تنفيذ مشروع تعلُّم وكيل التوزيع الذكي بحيث يتناسب مع نطاقات مسائل معينة، مثل الطب.

وعلى خلاف مشاريع التوجيه نحو النجاح وتحقيق الأهداف والتحكم المتكيف مع التفكير والعقلانية و«سي واي سي» (انظر الفصل الثاني)، فإن هذا المشروع حديث. أُطلق الإصدار الأول عام ٢٠١١ (وقد صُمم للبحرية الأمريكية بهدف تنظيم الوظائف الجديدة للجنود الذين انتهت مدة خدمتهم). يتضمن الإصدار الحالي الانتباه وتأثيراته في التعلم في أنواع الذاكرة المتنوعة (العرضية والدلالية والإجرائية)، وفي الوقت الحالي ينفَّذ التحكم الحسي الحركي في الروبوتات. لكن لا تزال العديد من الميزات مفقودة، مثل اللغة. (الوصف التالي يتعلق بالنموذج المفاهيمي، بغضِّ النظر عن الجوانب التي نُفذت بالفعل.)

نظام «تعلُّم وكيل التوزيع الذكي» عبارة عن نظام مختلط؛ إذ يحتوي على تنشيط النشر والتمثيلات المتفرقة (انظر الفصل الرابع)، وكذلك البرمجة الرمزية. إنه يعتمد على نظرية عصبية نفسية وضعها برنارد بارز، وهي نظرية مساحة العمل العامة ذات الصلة بالوعي.

ترى نظرية مساحة العمل العامة الدماغ على أنه نظام موزع (انظر الفصل الثاني)، يحتوي على مجموعة من الأنظمة الفرعية المتخصصة التي تعمل بالتوازي وتتنافس للوصول إلى الذاكرة قيد التشغيل (انظر شكل ٦-١). تظهر العناصر التي يحتوي عليها في ترتيب تسلسلي (تدفق الوعي)، ولكنها عبارة عن «محطة بث» لجميع المناطق القشرية.

وإذا حفز عنصر بث — مستمد من عضو حسي أو نظام فرعي آخر — استجابة من منطقة قشرية معينة، فقد تتمتع تلك الاستجابة بالقوة الكافية للفوز بالمنافسة على الانتباه، وهو ما يتحكم في الوصول إلى الوعي تحكمًا نشطًا. (عادةً ما تستحوذ الإدراكات/التمثيلات الجديدة على الانتباه، فالعناصر المتكررة تتلاشى من الوعي). غالبًا ما تكون الأنظمة الفرعية معقدة. وبعض تلك الأنظمة متشابك هرميًّا، والعديد منها له اتصالات ترابطية من أنواع مختلفة. تتشكل تجربة الوعي بمجموعة من السياقات اللاواعية (المنظمة في ذاكرات مختلفة)، وكلاهما يستحضر العناصر في مساحة العمل العامة ويعدلها. ومحتويات الانتباه بدورها تكيِّف السياقات الدائمة عن طريق التسبب في تعلم العديد من الأنواع.

fig2
شكل ٦-١: مساحة العمل العامة في النظام الموزع. يحتوي الجهاز العصبي على معالجات متخصصة غير واعية (عوامل تحليل الإدراك، أنظمة مخرجات، أنظمة تخطيط، وغيرها). التفاعل بين هذه الأنظمة المتخصصة غير الواعية والتنسيق بينها والتحكم فيها يتطلب التبادل المركزي للمعلومات أو «مساحة العمل العامة». أدوات المدخلات المتخصصة يمكن أن تتعاون وتتنافس على الوصول إلى تلك المساحة. في الحالة الواردة هنا، تتعاون أربعة معالجات للمدخلات كي تترك رسالة عامة، وحينها تُبث الرسالة إلى النظام بأكمله.

عند بث هذه المحتويات، فإنها توجه اختيار الإجراء التالي. العديد من الإجراءات معرفية؛ بمعنى أنها تتمثل في بناء التمثيلات الداخلية أو تعديلها. كذلك تخزَّن المعايير الأخلاقية (في الذاكرة الدلالية) باعتبارها إجراءات لتقييم الإجراءات المحتملة. وأيضًا قد تتأثر القرارات بالتفاعلات المسبقة/المتوقعة من العوامل الاجتماعية الأخرى.

تأمل التخطيط على سبيل المثال (انظر الفصل الثاني). تُمثَّل النوايا على أنها بنيات غير واعية إلى حد كبير، ولكنها عالية المستوى نسبيًّا، وقد تؤدي تلك البنيات إلى صور أهداف واعية (وتختارها السمات البارزة في وقتها من الإدراك أو الذاكرة أو الخيال). وهذه توظف أهدافًا فرعية ذات صلة. إنها «توظف» ولا «تسترد»؛ حيث إن الأهداف الفرعية نفسها تقرر صلتها. ومثل كل الأنظمة الفرعية القشرية، فإنها تظل منتظرة حتى يحفزها عنصر بث؛ وفي هذا المقام يكون عبارة عن صورة هدف ملائمة. بإمكان نظام تعلُّم وكيل التوزيع الذكي تحويل مخطط عمل موجه بالأهداف إلى إجراءات حركية منخفضة المستوى يمكن تنفيذها، وتستجيب إلى السمات التفصيلية في بيئة غير متوقعة ومتغيرة.

نظرية بارز (وإصدار فرانكلين منها) لم يتخيلها أحد في أوساط علماء الكمبيوتر. على النقيض من ذلك، وُضعت النظرية كي تأخذ في الاعتبار مجموعة كبيرة من الظواهر النفسية المعروفة، ومجموعة كبيرة من الأدلة التجريبية (انظر شكل ٦-٢). لكن يزعم المؤلفان أن هذه النظرية تحل بعض الألغاز النفسية التي لم يسبق حلها.
fig3
شكل ٦-٢: أوجه التشابه بين مساحة العمل العامة وغيرها من المفاهيم المنتشرة. كل فكرة من هذه الأفكار المألوفة تعرفها (نظرية مساحة العمل العامة) من حيث الوظائف غير الواعية والوظائف الواعية.

على سبيل المثال، يقولان إن نظرية مساحة العمل العامة/نظام تعلُّم وكيل التوزيع الذكي تحل مشكلة «الربط» التي يدور حولها جدال منذ فترة طويلة. هذا يطرح سؤالًا، وهو كيف لمدخلات متنوعة من حواس مختلفة في مناطق مختلفة من الدماغ — مثل الشعور والشكل الخارجي والشم والصوت لدى قطة — تُعزى إلى شيء واحد فقط. يقول فرانكلين وبارز إن هذه النظرية تشرح أيضًا كيف أن الدماغ البشري يتجنب مشكلة الإطار (انظر الفصل الثاني). عند توليد أمثلة إبداعية على سبيل المثال، فإنه لا توجد أداة تنفيذ مركزية، بل يُبحث في بنية البيانات بكاملها عن العناصر ذات الصلة. بل إذا أدرك النظام الفرعي أن عنصر بث يتلاءم/يقترب من الشيء الذي يبحث عنه (دائمًا)، فإنه يتنافس للدخول إلى مساحة العمل العامة.

يذكِّرنا منهج الذكاء الاصطناعي ذاك ﺑ «البرامج الخفية» في نظام بانديمونيوم، والبنيات المعمارية ﻟ «الألواح» المستخدمة في تنفيذ أنظمة الإنتاج (انظر الفصلين الأول والثاني). هذا ليس مدهشًا؛ حيث إن تلك الأفكار ألهمت نظرية بارز النفسية العصبية التي أدت في النهاية إلى إنشاء نظام تعلُّم وكيل التوزيع الذكي. عادت عجلة النظريات إلى نقطة البداية.

الذكاء الاصطناعي والوعي المدرَك بالحواس

يتجاهل ممارسو وعي الآلة المشكلة الصعبة. لكن ثلاثة فلاسفة استلهموا الحل من الذكاء الاصطناعي وحلوها مباشرةً، وهم: بول تشيرشلاند ودانييل دينيت وآرون سلومان. والقول بأن إجاباتهم مثيرة للجدل قولٌ بخس. لكن بما أن الأمر له علاقة بالوعي المدرَك بالحواس، فهذا يتسق مع التوقعات.

تنكر «المادية الإقصائية» لتشيرشلاند وجود الأفكار والتجارب غير المادية. بل إنها تعرِّفها بأنها حالات عقلية.

إنه يطرح نظريةً جزء منها حاسوبي (ترابطي) وجزء آخر عصبي، وتلك النظرية تحدد «مساحة تذوق» رباعية الأبعاد تتسم بالمنهجية في وضع فروق موضوعية (الكيفيات المحسوسة) للتذوق في بنيات عصبية محددة. الأبعاد الأربعة تعبر عن المستقبلات الأربعة الخاصة بالتذوق في اللسان.

بالنسبة إلى تشيرشلاند، تلك المسألة ليست علاقة بين العقل والدماغ؛ الحصول على تجربة تذوق يعني ببساطة أن يزور الدماغ نقطة معينة في تلك المساحة الحسية المحددة تحديدًا مجردًا. المعنى الضمني هو أن كل الوعي المدرَك بالحواس عبارة عن وجود الدماغ في موقع محدد في مساحة تشعبية يمكن اكتشافها بالتجربة. وإذا كان الأمر كذلك، فعندئذٍ لن يكون هناك جهاز كمبيوتر (ربما باستثناء محاكاة الدماغ بالكامل) يتمتع بالوعي المدرَك بالحواس.

ينكر دينيت أيضًا وجود تجارب مميزة وجوديًّا، فضلًا عن الأحداث الجسدية. (لذا، الرد المشهور على كتابه الاستفزازي الصادر عام ١٩٩١ هو: «لم يوضَّح الوعي، ولكن انتُحلت له الأعذار»).

يرى أن التجربة هي التمييز. لكن في تمييز الأشياء الموجودة في العالم المادي، فإن المرء لا يأتي بشيء آخر إلى الوجود في عالم آخر غير مادي. وقد عبَّر عن ذلك في محادثة من خياله:

[أوتو] : يبدو لي أنك تنكر وجود معظم الظواهر الحقيقية التي لا شك فيها، وتلك المظاهر لم ينكرها حتى ديكارت في كتابه «التأملات».
[دينيت] : بمعنًى أو بآخر، أنت محقٌّ، هذا ما أنكر وجوده. [لنفكر] في ظاهرة انتشار لون النيون. يبدو أن هناك حلقة متوهِّجة بلون مائل إلى الوردي على الغلاف الورقي للكتاب. [إنه يصف سرابًا بصريًّا تسبِّبه الخطوط الحمراء والسوداء على ورقة بيضاء لامعة].
[أوتو] : لا شك في وجود تلك الظاهرة.
[دينيت] : لكن لا يوجد أي حلقة مائلة إلى اللون الوردي. ليس على وجه الحقيقة.
[أوتو] : صحيح. ولكن يبدو أن هناك حلقة وردية بلا شك!
[دينيت] : صحيح.
[أوتو] : إذن، أين هي؟
[دينيت] : أين ماذا؟
[أوتو] : الحلقة المتوهجة المائلة إلى اللون الوردي.
[دينيت] : لا توجد أي حلقات، اعتقدت أنك اعترفت بذلك للتو.
[أوتو] : نعم، لا توجد أي حلقات مائلة إلى اللون الوردي على الورقة، ولكن لا شك أنها موجودة.
[دينيت] : صحيح. يبدو أن هناك حلقة متوهجة مائلة إلى اللون الوردي.
[أوتو] : إذن، لنتحدث عن تلك الحلقة.
[دينيت] : أي واحدة؟
[أوتو] : التي يبدو أنها موجودة.
[دينيت] : لا يوجد شيء في شكل حلقة وردية وتبدو وكأنها موجودة.
[أوتو] : اسمع، أنا لا أقول يبدو أن هناك حلقة متوهجة مائلة إلى اللون الوردي، بل يبدو أن هناك حلقة متوهجة مائلة إلى اللون الوردي بالفعل!
[دينيت] : أنا أتسرع في موافقتك. أنت تعني ما تقوله بالفعل حين تقول إنه يبدو أن هناك حلقة متوهجة مائلة إلى اللون الوردي.
[أوتو] : اسمع. أنا لا أقصد. أنا لا أعتقد فقط أن هناك حلقة متوهجة مائلة إلى اللون الوردي، بل هناك حلقة متوهجة مائلة إلى اللون الوردي بالفعل!
[دينيت] : لقد فعلتها الآن. لقد وقعت في فخ كما وقع فيه كثيرون غيرك. وكأنك تعتقد أنه لا يوجد فرق بين الاعتقاد (إصدار حكم، اتخاذ القرار، التثبت من رأي) بأن شيئًا كأنه وردي في نظرك وشيئًا تراه «بالفعل» بلون وردي. لكن لا يوجد فرق. لا توجد ظاهرة تُرى وكأنها حقيقة، بالإضافة إلى ظاهرة الحكم بطريقة أو بأخرى بأن ذلك الشيء هو الواقع.

بعبارة أخرى، لا يمكن الوفاء بمتطلبات شرح الكيفيات المحسوسة. فهذه الأشياء ليست موجودة.

لا يتفق آرون سلومان مع هذا الرأي. إنه يُقرُّ بالوجود الفعلي للكيفيات المحسوسة. لكنه يُقرُّ بطريقة غير عادية؛ إنه يحلِّلها باعتبارها أنماطًا لأجهزة افتراضية متعددة الأبعاد، ونحن نطلق عليها اسم العقل (انظر القسم التالي).

يقول إن الكيفيات المحسوسة عبارة عن حالات حاسوبية داخلية. وقد يكون لها تأثيرات سببية في السلوك (مثل تعبيرات الوجه اللاإرادية) وفي الأنماط الأخرى لمعالجة المعلومات في العقل. إنها لا توجد إلا في الأجهزة الافتراضية ذات التعقيد الهيكلي الكبير (إنه يوضح أنواع الموارد الحاسوبية المنعكسة المطلوبة). لا يمكن الوصول إليها إلا ببعض الأجزاء الأخرى في الجهاز الظاهري المعنى، وليس بالضرورة أن ينطوي على أي تعبير سلوكي. (ومن هنا تأتي الخصوصية). إضافة إلى ذلك، لا يمكن وصفها بعبارات لفظية على الدوام باستخدام مستويات العقل العليا الذاتية الرصد. (ومن هنا يأتي عدم إمكانية وصفها).

هذا لا يعني أن سلومان يحدد الكيفيات المحسوسة بعمليات الدماغ (مثلما يفعل تشيرشلاند). فالحالات الحاسوبية عبارة عن أنماط للأجهزة الافتراضية؛ ومن ثَم لا يمكن تحديدها بلغة الأوصاف المادية. ولكن لا يمكن أن توجد ويكون لها تأثيرات سببية إلا عند تنفيذها ببعض الآليات المادية الكامنة.

ماذا عن اختبار تورينج؟ تقول تحليلات كلٍّ من دينيت وسلومان (ويقول دينيت صراحةً) بشكلٍ ضمني إن مفاهيم الزومبي غير ممكنة. والسبب في رأيهم أن مفهوم «الزومبي» غير مترابط. بتوافر السلوك المناسب والجهاز الظاهري أو أحدهما، يرى سلومان الوعي بأنه مضمون حتى وإن كان يتضمن الكيفيات المحسوسة. ومن ثَم يُحفظ اختبار تورينج من الاعتراض بأنه يمكن أن «يجتازه» زومبي.

وماذا عن الذكاء الاصطناعي العام الافتراضي؟ إذا كان دينيت على صواب، فسيتضمن رأيه كل الوعي الذي نعيه، ولكن من دون الكيفيات المحسوسة. وإذا كان سلومان على صواب، فسيتضمن رأيه الوعي المدرَك بالحواس بالمعنى نفسه الذي لدينا.

الأجهزة الافتراضية ومعضلة العقل والجسم

طرح هيلاري بوتنام نظرية «الوظيفية» في ستينيات القرن العشرين، استخدمت النظرية فكرة آلات تورينج، وكذلك التمييز بين البرمجيات والأجهزة (المستحدثة حينذاك) كي يقول — فعليًّا — إن العقل هو وظيفة الدماغ.

الانقسام الميتافيزيقي (الديكارتي) بين مادتين مختلفتين تمامًا، أفسح الطريق إلى الانقسام المفاهيمي بين مستويات الوصف. المقارنة بين البرنامج والكمبيوتر أفادت بأن «العقل» مختلفٌ تمام الاختلاف عن «الجسم». ولكن تلك الفكرة تتماشى تمامًا مع المادية. (ثار جدلٌ كبير بشأن ما إذا كانت الفكرة تنطوي على الكيفيات المحسوسة، ولا يزال الجدل قائمًا).

على الرغم من أن العديد من برامج الذكاء الاصطناعي المثيرة للاهتمام طُورت بحلول عام ١٩٦٠ (انظر الفصل الأول)، فنادرًا ما فكَّر الفلاسفة من أصحاب المذهب الوظيفي في أمثلة محدَّدة. فقد ركَّزوا على المفاهيم الأساسية، مثل حوسبة تورينج. وبمجرد ظهور المعالجة الموزعة المتوازية (انظر الفصل الرابع) في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، فكَّر العديد من الفلاسفة بالفعل في طريقة عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي. وحتى ذلك الحين، لم يتساءل سوى قلةٍ قليلةٍ ما الوظائف الحاسوبية التي يمكن أن تجعل التفكير أو الإبداع (على سبيل المثال) ممكنًا.

أفضل طريقة لفهم تلك المسائل هي اقتراض مفهوم الأجهزة الافتراضية الذي صاغه علماء الكمبيوتر. بدلًا من القول بأن العقل هو وظيفة الدماغ، ينبغي القول (تبعًا لسلومان) بأن العقل عبارة عن جهاز ظاهري، أو بالأحرى مجموعة متكاملة تتكون من عدة أجهزة افتراضية مغروسة في الدماغ. (ولكن مطابقة العقل بالجهاز الظاهري له تأثير مناقض جدًّا للبديهة؛ انظر قسم «هل البروتين العصبي ضروري؟»).

حسب ما ورد في الفصل الأول، الأجهزة الافتراضية حقيقة ولها تأثيرات سببية؛ بمعنى أنه لا يوجد تفاعلات ميتافيزيقية غامضة بين العقل والجسد. ومن ثَم تكمن الأهمية الفلسفية لمشروع تعلُّم وكيل التوزيع الذكي — على سبيل المثال — في تحديد مجموعة منظمة من الأجهزة الافتراضية التي تبيِّن مدى احتمالية الأنماط المتنوعة للوعي (الوظيفي).

يعدِّل نهج الأجهزة الافتراضية نمطًا أساسيًّا لمبدأ الوظيفية، وهو فرضية نظام الرموز الفيزيائية. في سبعينيات القرن العشرين، عرَّف ألين نيويل وهيربرت سيمون فرضية نظام الرموز الفيزيائية بأنها «مجموعة كِيانات تُسمى الرموز، وهي عبارة عن أنماط فيزيائية يمكن أن تكون في صورة مكونات لنوع آخر من الكِيانات يُسمى التعبير (أو هيكل الرمز). … [داخل] بنية الرموز … ترتبط مثيلات الرموز (أو الرموز المميزة) بطريقة فيزيائية (كأن يكون رمز مميز بجوار رمز مميز آخر)». يقولون تهدف عمليات المعالجة إلى إنشاء بنيات الرموز وتعديلها؛ بمعنى عمليات المعالجة التي يحدِّدها الذكاء الاصطناعي الرمزي. وقالوا أيضًا «إن فرضية نظام الرموز الفيزيائية تنطوي على الوسائل الضرورية والكافية للإجراء الذكي العام». بعبارة أخرى، العلاقة بين العقل والدماغ عبارة عن نظام رموز فيزيائية.

ومن منظور مطابقة العقل بالجهاز الظاهري، كان ينبغي أن يُطلَق على تلك الفرضية «نظام الرموز المطبق فيزيائيًّا» (لنتجنب التعبير عن ذلك في صورة اختصار)، حيث إن الرموز هي محتويات الأجهزة الافتراضية وليس الأجهزة المادية.

هذا يعني أن الأنسجة العصبية ليست ضرورية للذكاء ما لم تكن المادة الأساسية الوحيدة القادرة على تنفيذ الأجهزة الافتراضية المعنية.

تقترح افتراضية نظام الرموز الفيزيائية (وكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الأولى) أن التمثيل — أو الرموز الفيزيائية — سمة يمكن عزلها بوضوح أو تحديد موقعها بدقة في الجهاز/الدماغ. ستقدم الترابطية معنًى مختلفًا تمامًا عن التمثيلات (انظر الفصل الرابع). إنها ترى التمثيلات من حيث شبكات الخلايا بالكامل، وليس الخلايا العصبية التي يمكن تحديد مواقعها بوضوح. كذلك رأت المفاهيم من حيث القيود المتضاربة جزئيًّا، وليس التعريفات المنطقية الصارمة. وتلك الفكرة استهوت إلى حد كبير الفلاسفةَ المطلعين على وصف لودفيج فيتجنشتاين عن «التشابهات العائلية».

بعد ذلك، أنكر العاملون في الروبوتات الكائنة أن الدماغ يحتوي على تمثيلات على الإطلاق (انظر الفصل الخامس). هذا الموقف قبِله بعض الفلاسفة، ولكن ديفيد كيرش على سبيل المثال احتجَّ بأن التمثيلات التركيبية (والحوسبة الرمزية) ضرورية لكل السلوكيات التي تحتوي على مفاهيم، بما في ذلك المنطق واللغة والتشاورات.

القصد والفهم

طبقًا لنيويل وسيمون، أي نظام رموز فيزيائية ينفذ العمليات الحاسوبية الصحيحة ذكي بالفعل. إنه يتضمن «الوسائل الضرورية والكافية للتصرف بذكاء». يطلق الفيلسوف جون سيرل على هذا المطلب «الذكاء الاصطناعي القوي». («الذكاء الاصطناعي الضعيف» يرى أن نماذج الذكاء الاصطناعي تساعد فقط علماء النفس على صياغة نظريات متسقة).

يقول إن الذكاء الاصطناعي القوي كان مخطئًا. ربما تقبع الحوسبة الرمزية في رءوسنا (على الرغم من أنه يشك في ذلك)، ولكن لا يمكنها وحدها أن توفر الذكاء. بمزيد من الدقة، إنها لا توفر «القصدية»، وهي اللفظة التي اصطلح عليها الفلاسفة، وتعني القصد والفهم.

اعتمد سيرل على تجربة فكرية لا تزال محل جدل حتى اليوم، وهي: «يوجد سيرل في غرفة من دون نوافذ، ويوجد بها فتحة تُمرَّر منها قصاصات ورق مكتوب عليها رموز عبثية. يوجد صندوق من القصاصات المرسوم عليها رموزٌ عبثية مماثلة، ومعها كتاب قواعد يقول إذا مُرِّر رمز عبثي فعلى سيرل أن يُخرج رمزًا عبثيًّا، أو ربما يطلع على سلسلة طويلة من أزواج الرموز العبثية قبل أن يُخرج قصاصة من الفتحة. ومن دون أن يعلم سيرل، كانت الرسوم العبثية كتابة صينية، وكتاب القواعد عبارة عن برنامج معالجة اللغة الطبيعية الصينية، والصينيون خارج الغرفة يستخدمون سيرل للرد على أسئلتهم. على الرغم من ذلك، دخل سيرل الغرفة من دون أن يكون قادرًا على فهم اللغة الصينية، وسيبقى غير قادر على فهمها عندما يغادر الغرفة». الاستنتاج: «الحوسبة الصورية وحدها (وهي ما يفعله سيرل داخل الغرفة) لن تتولد عنها القصدية. ومن ثَم، فالذكاء الاصطناعي القوي مخطئ، ويستحيل تحصيل الفهم الحقيقي في برامج الذكاء الاصطناعي.» (كان الذكاء الاصطناعي الرمزي هو الهدف الأساسي من تلك الحجة التي تُسمى «الغرفة الصينية»، ولكنها عُممت بعد ذلك وانطبقت على الترابطية وعلم الروبوتات).

زعمُ سيرل هنا مُفاده أن «المعاني» المنسوبة إلى برامج الذكاء الاصطناعي تنبع بالكامل من المستخدم البشري/المبرمج. تلك المعاني مطلقة فيما يتعلق بالبرنامج نفسه، حيث إنه فارغ من حيث الدلالات. وبما أن البرنامج عبارة عن «تراكيب لغوية من دون دلالات»، فإنه يمكن تفسير البرنامج نفسه على أنه جدول حسابات ضرائب أو تصاميم حركات.

وهذا صحيح في بعض الأحيان. ولكن تذكر أن مطالبة فرانكلين بأن نماذج تعلُّم وكيل التوزيع الذكي رسَّخت — بل جسَّدت — المعرفة باستخدام وسائل الاقتران المنظم بين المعاني ووحدات التشغيل والبيئة. تذكر أيضًا وحدة التحكم التي تطورت وأصبحت وحدة اكتشاف الاتجاهات لدى الروبوت (انظر الفصل الخامس). وإطلاق اسم «وحدة اكتشاف الاتجاهات» ليس اعتباطيًّا. فوجودها يعتمد على تطورها باعتبارها وحدة اكتشاف اتجاهات مفيدة في تحقيق هدف الروبوت.

المثال الأخير وثيق الصلة، لا سيما أن بعض الفلاسفة يرون التطور على أنه مصدر القصدية. تقول روث ميليكان على سبيل المثال إن التفكير واللغة من الظواهر البيولوجية، وتعتمد معانيهما على التاريخ التطوري. وإذا صح ذلك، فلا يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي العام غير التطوري فهم حقيقي.

الفلاسفة الآخرون ذوو التفكير العلمي (مثل نيويل وسيمون أنفسهم) يعرِّفون القصدية من منظور السببية. لكنهم يواجهون صعوبة في تفسير العبارات غير الصحيحة: إذا ادَّعى شخصٌ ما رؤية بقرة، ولكن لا توجد بقرة هناك تدفعه للتلفظ بتلك الكلمات، فما الذي تعنيه كلمة بقرة؟

بإيجاز، لا توجد نظرية عن القصدية تتفق مع آراء كل الفلاسفة. ولأن الذكاء الحقيقي يتضمن الفهم، فهذا سبب آخر لعدم معرفة أي شخص ما إذا كان الذكاء الاصطناعي العام الافتراضي لدينا سيكون ذكيًّا حقًّا أم لا.

هل البروتين العصبي ضروري؟

من الأسباب التي رفض سيرل الذكاء الاصطناعي القوي من أجلها، أن أجهزة الكمبيوتر ليست مصنوعة من البروتين العصبي. قال إن القصدية ناتجة عن البروتين العصبي مثلما ينتج البناء الضوئي عن الكلوروفيل. قد لا يكون البروتين العصبي المادة الوحيدة في الكون التي بإمكانها دعم القصدية والوعي. لكن قال إنه من الواضح أن المعدن والسيليكون لا يدعمانهما.

تلك الخطوة بعيدة للغاية. من المسلَّم به أنه من غير البديهي للغاية أن نقول إن أجهزة الكمبيوتر المصنوعة من القصدير يمكن أن تعاني حقًّا من الحزن أو الألم أو تفهم اللغة حقًّا. ولكن الكيفيات المحسوسة الناتجة عن البروتين العصبي لا تقل في منافاتها للبديهة وإثارة الإشكاليات الفلسفية. (ومع ذلك، فإن الشيء المنافي للبديهة قد يكون صحيحًا).

إذا قبل أحدٌ تحليل الكيفيات المحسوسة الذي أجراه جهاز سلومان الظاهري، فستتلاشى هذه الصعوبة الخاصة. لكن التصوير العام للعقل بالجهاز الظاهري يستحضر صعوبة أخرى مماثلة. إذا نُفذ جهاز ظاهري مؤهل للعقل في جهاز يعمل بالذكاء الاصطناعي، فإن ذلك العقل سيوجد في الجهاز، أو ربما في عدة أجهزة. لذا، فإن مطابقة العقل بالجهاز الظاهري يعني من حيث المبدأُ إمكانيةَ خلود الأشخاص (مضاعفة الاستنساخ) في أجهزة الكمبيوتر. ومن وجهة نظر الناس (انظر الفصل السابع)، هذا لا يقل في منافاته للبديهية عن أجهزة الكمبيوتر التي تدعم الكيفيات المحسوسة.

إذا كان البروتين العصبي هو المادة الوحيدة القادرة على دعم الأجهزة الافتراضية على مستوى الإنسان، فيمكننا نبذُ مقترَح «الخلود المستنسخ». لكن هل الأمر كذلك؟ لا نعلم.

ربما يحتوي البروتين العصبي على خصائص خاصة، أو ربما ذات درجة تجريد عالية، وهذه الخصائص تمكِّنه من تنفيذ هذه المجموعة الكبيرة من العمليات الحاسوبية التي ينفذها العقل. على سبيل المثال، يجب أن يمتلك القدرة على استخلاص الجزيئات المستقرة (بسرعة كبيرة نوعًا ما)، وكذلك (القابلة للتخزين) والمرنة أيضًا. يجب أن يكون قادرًا على تكوين البنيات والاتصالات بين تلك البنيات التي تحتوي على خصائص كهروكيميائية تمكِّنها من تمرير المعلومات فيما بينها. وربما توجد مواد أخرى على كواكب أخرى تؤدي تلك المهمات أيضًا.

ليس الدماغ فحسب، بل الجسم أيضًا

يقول بعض فلاسفة العقل إن الدماغ يحظى بقدر كبير من الاهتمام. يقولون إنه من الأفضل أن ينصبَّ التركيز على الجسد بكامله.

يستند موقفهم على الظواهر القارية التي تؤكد على «شكل الحياة» الإنسانية. وهذا يشمل كلًّا من الوعي الهادف (بما في ذلك «مصالح» الإنسان التي ينبني عليها إحساسنا بالصلة بالموضوع) والتجسيد.

التجسيد يعني أن يُوجَد الإنسان في بيئة ديناميكية ويتفاعل معها تفاعلًا نشطًا. تعني البيئة — والتفاعل — كلًّا من العوامل الفيزيائية والاجتماعية الثقافية. الخصائص النفسية ليست التفكير المنطقي والأفكار، ولكن التكيف والتواصل.

لا يولي فلاسفة التجسيد وقتًا طويلًا للذكاء الاصطناعي الرمزي؛ فهم يرونه يهتم بجانب العقل اهتمامًا مُفرِطًا. وهم لا يفضِّلون غير النُّهُج القائمة على السبرانية (انظر الفصلين الأول والخامس). وبما أن الذكاء الحقيقي يعتمد على الجسم وفقًا لوجهة النظر هذه، فلا يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي على الشاشة ذكيًّا حقًّا. حتى إذا كان النظام على الشاشة عبارة عن عامل مستقل هيكليًّا ومقترن ببيئة مادية، فلن يُعتبر (كما هي الحال مع فرانكلين) مجسدًا.

ماذا عن الروبوتات؟ في النهاية، الروبوتات عبارة عن كائنات مادية توجد في عالم حقيقي وتتكيف معه. وفي الحقيقة، يُثني هؤلاء الفلاسفة على الروبوتات الكائنة في بعض الأحيان. لكن هل الروبوتات لها أجسام؟ أو هل لها مصالح؟ أو هل تشكل حياة؟ هل هم أحياء على الإطلاق؟

سيجيب علماء الظواهر «بالتأكيد لا!» ربما يستشهدون بملاحظة فيتجنشتاين الشهيرة: «إذا كان بإمكان الأسد أن يتكلم، فلن نفهمه.» نمط حياة الأسد مختلف عن نمط حياة البشر لدرجة أن التواصل يكاد يكون مستحيلًا. لا شك أن هناك تداخلًا بين الجوانب النفسية لدى الأسد ومثيلاتها لدى الإنسان (مثل الجوع، والخوف، والتعب، وغير ذلك) لدرجة أنه قد يجدي قدر ضئيل من الفهم والتعاطف. ولكن حتى هذا لن يتوفر عند «التواصل» مع الروبوت. (لذلك، الأبحاث على أجهزة الكمبيوتر الرفيقة تثير المخاوف؛ انظر الفصلين الثالث والسابع).

مجتمع أخلاقي

هل سنقبل — أو ينبغي أن نقبل — بوجود أجهزة الذكاء الاصطناعي العام بمستوى ذكاء الإنسان باعتبارها أعضاءً في مجتمعنا الأخلاقي؟ وإن قبلناها، فسيكون لهذا تبعات عملية خطيرة. فتلك الأنظمة ستؤثِّر في الإنسان؛ حيث إن الكمبيوتر يتفاعل بثلاث طرق.

الطريقة الأولى: يستقبل الذكاء الاصطناعي العام اهتمامنا الأخلاقي، مثلما تفعل الحيوانات. ونحن سنحترم مصالحه إلى حد معين. وإذا طُلب من أحد أن يقطع وقت راحته أو حل لغز الكلمات المتقاطعة كي يساعده في تحقيق هدف «له أولوية عليا»، فسيفعل الشخص ذلك. (ألم يسبق ونهضتَ من على كرسيك كي تتمشى بالكلب أو تدع الدعسوقة تخرج إلى الحديقة؟) كلما ارتفع مستوى حُكمنا بأن مصالحهم تهمنا، زادت درجة التزامنا باحترامها. لكن قد يعتمد الحكم إلى حد كبير على ما إذا كنا نسند الوعي المدرَك بالحواس (بما في ذلك العواطف المحسوسة) إلى الذكاء الاصطناعي العام أم لا.

الطريقة الثانية: سنعتبر أفعال تلك الأنظمة قابلة للتقييم الأخلاقي. الطائرات بدون طيار القاتلة لا تتحمل مسئولية أخلاقية (على خلاف مستخدميها/مصمميها؛ انظر الفصل السابع). لكن هل يتحمل نظام الذكاء الاصطناعي العام الذكي بحقٍّ المسئولية؟ من المفترَض أن تتأثر قرارات النظام بتفاعل الإنسان تجاهها؛ بالمدح أو الذم من جانب الإنسان. وإذا لم يكن كذلك، فلن يكون هناك مجتمع. بإمكان النظام أن يتعلم «الأخلاقيات» بقدر ما يستطيع الرضيع (أو الكلب) أن يكون حسن السلوك، أو الطفل الكبير أن يكون مراعيًا لرغبات الآخرين. (تتطلب مراعاة الآخرين تطوير ما يُسميه علماء النفس «نظرية العقل» التي تفسر سلوك الإنسان من حيث القدرة على الفعل والنية والاعتقاد). حتى العقاب يمكن تبريره بموجب مسوغات جوهرية.

الطريقة الثالثة: يمكن أن نجعل النظام هدفًا للحجة والإقناع بشأن القرارات الأخلاقية. يمكن كذلك أن يقدِّم مشورات أخلاقية للناس. كي ننخرط بجدية في هذه المحادثات، فيجب أن نكون على ثقة بأن النظام يقبل الاعتبارات الأخلاقية على وجه التحديد (بالإضافة إلى التمتع بالذكاء على مستوى ذكاء الإنسان). ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟ لا يوافق أصحاب فلسفة الأخلاق بشدة على محتوى الأخلاقيات فحسب، بل لا يوافقون على أساسها الفلسفي.

كلما نظر المرء في الآثار المترتِّبة على «المجتمع الأخلاقي»، بدا أن فكرة الاعتراف بالذكاء الاصطناعي العام تزيد إشكاليتها. في الواقع، لدى معظم الناس حدس قوي بأن الاقتراح نفسه سخيف.

الأخلاقيات والحرية والنفس

ينشأ هذا الحدس إلى حد كبير لأن مفهوم المسئولية الأخلاقية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفاهيم أخرى — القدرة الواعية على الفعل والحرية والنفس — ومن ثَم يساهم في فكرتنا عن الإنسانية.

المشاورات الواعية تزيد مقدار المسئولية الأخلاقية في اختياراتنا (على الرغم من إمكانية انتقاد الأفعال غير المدروسة أيضًا). يُعزى المدح أو الذم الأخلاقي إلى الفاعل أو النفس التي ارتكبت الفعل. كذلك الأفعال التي ارتُكبت في ظل قيود صارمة أقل عُرضة للذم أكثر من الأفعال التي ارتُكبت بحرية.

تثير هذه المفاهيم كثيرًا من الجدل حتى عندما تنطبق على الناس. لا يبدو من الملائم تطبيقها على الآلات لا سيما أنها ناتجة عن آثار التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر التي استشهدنا بها في القسم السابق. وعلى الرغم من ذلك، فإن اتباع منهج «مطابقة العقل بالجهاز الظاهري» وتطبيقه على العقول البشرية هو أمرٌ يمكن أن يساعدنا على فهم هذه الظاهرة في حالتنا نحن.

يحلل الفلاسفة المتأثرون بالذكاء الاصطناعي الحرية من منظور أنواع معينة من التعقيد التحفيزي المعرفي. إنهم يشيرون إلى أنه لا يخفى أن الإنسان يتمتع ﺑ «حريات» لا تتمتع بها صراصير الليل على سبيل المثال. تجد أنثى صرصور الليل وليفها عن طريق استجابات منعكسة مرتبطة بعضها ببعض (انظر الفصل الخامس). لكن المرأة التي تبحث عن زوج تتوافر لها العديد من الاستراتيجيات. كذلك يكون لها أهداف أخرى غير الزواج، ولا يمكن إشباعها كلها في وقتٍ واحد. وعلى الرغم من ذلك، فإنها تستطيع فِعل أشياء لا تستطيعها الصراصير بفضل الموارد الحاسوبية (أي الذكاء).

تأصَّلت هذه الموارد بالوعي الوظيفي، وتتضمن التعلم الإدراكي والتخطيط المسبق والواجب الافتراضي وترتيب التفضيلات والتفكير في الواقع المضاد وجدولة الأفعال الموجهة بالعاطفة. وفي الواقع، يستخدم دينيت في كتابه «المجال الفسيح» تلك المفاهيم لشرح حرية الإنسان، ويضرب مجموعة من الأمثال عليها. ومن ثَم يساعدنا الذكاء الاصطناعي في فهم إلى أي مدًى نتمتع بالحرية في الاختيار.

الجبرية/التخيير مسألة مضلِّلة إلى حدٍّ كبير. يوجد قدر من التخيير في أفعال البشر، ولكن هذا لا يحدث عند الوصول إلى القرار؛ لأن هذا لن يخيره في المسئولية الأخلاقية. ومع ذلك، قد يؤثر التخيير في الاعتبارات التي تنشأ في أثناء المشاورات. قد يفكر العامل في القرار «س» أو يذكَّر بالقرار «ص»، حيث إن «س» و«ص» يتضمنان كلًّا من الحقائق والقيم الأخلاقية. على سبيل المثال، اختيارُ أحدٍ ما هدية عيد الميلاد قد يتأثر بملاحظة عرضية لشيء ما يذكره بأن مستلم الهدية يحب اللون الأرجواني أو يدعم حقوق الحيوان.

كل الموارد الحاسوبية المدرجة للتو ستتوفر للذكاء الاصطناعي العام على مستوى الإنسان. ولذا، إذا لم يتوجب أن يتضمن الاختيار الحر الوعي المدرَك بالحواس (وإذا لم يرفض أحدٌ التحليلات الحاسوبية الخاصة بذلك الاختيار)، فيبدو أن الذكاء الاصطناعي العام الذي نتخيله سيحظى بالحرية. حتى إن كنا نفهم أن للذكاء الاصطناعي العام دوافع متنوعة تهمُّه، فإنه يمكن التمييز بين الاختيارات التي اتخذها ﺑ «حريته» أو التي اتخذها «تحت قيود». لكن ذلك «الشرط» واسع للغاية.

بالنسبة إلى النفس، يؤكد الباحثون في الذكاء الاصطناعي على دور الحوسبة التكرارية، وفي ذلك يمكن أن تعمل المعالجة على نفسها. يمكن حل العديد من الألغاز الفلسفية التقليدية المتعلقة بمعرفة النفس (وخداع النفس) باستخدام تلك الفكرة المألوفة للذكاء الاصطناعي.

لكن ما مدى الاضطلاع ﺑ «معرفة النفس»؟ ينكر بعض الفلاسفة حقيقة النفس، ولكن المفكرين المتأثرين بالذكاء الاصطناعي لا ينكرونها. إنهم يرونها نوعًا خاصًّا من الأجهزة الافتراضية.

في رأيهم، النفس بنية حاسوبية دائمة تنظِّم أفعال العامل وتهذِّبها، لا سيما أفعاله التطوعية المدروسة بعناية. (على سبيل المثال، يصف مؤلف مشروع تعلُّم وكيل التوزيع الذكي النفسَ بأنها «السياق الدائم للتجربة التي تنظم التجارب وتُثبتها عبر العديد من السياقات المحلية المختلفة»). إنها ليست موجودة في الطفل الحديث الولادة، ولكنها بناء يستمر بطول العمر، كما أنها طيِّعة إلى حدٍّ ما إلى القولبة الذاتية المتعمدة. يتيح تعدُّد أبعادها تنوعًا كبيرًا؛ مما يولِّد عاملًا فرديًّا يمكن تمييزه، وخاصيةً شخصية مميزة.

السبب المحتمل في ذلك هو أن نظرية عقل العامل (التي تفسر سلوك الآخرين مبدئيًّا) تُطبَّق من دون تفكير على أفكار الشخص الفردية وأفعاله. إنها تُعطي معنًى منطقيًّا لأفعاله من حيث الدوافع والنوايا والأهداف التي لها الأولوية. وهذه بدورها تترتب حسب التفضيلات الفردية المستمرة والعلاقات الشخصية والقيم الأخلاقية/السياسية. تسمح هذه المعمارية الحاسوبية ببناءِ كلٍّ من الصورة الذاتية (التي تمثل الشخصية التي يعتقد الشخص أنه عليها) والصورة الذاتية المثالية (التي يحب الشخص أن يكون عليها)، وكذلك الأفعال والعواطف التي تستند إليها الفروق بين الصورتين.

يطلق دينيت (المتأثر بمينسكي كثيرًا) على النفس «مركز ثقل السرد»؛ أي إنها بنية (جهاز ظاهري) تولِّد أفعال المرء وتحاول أن تشرحها حينما تسرد حياة المرء الخاصة، لا سيما علاقات المرء مع الآخرين. بالطبع هذا يترك مجالًا لخداع النفس واللامنظورية المتعددة الجوانب للنفس.

وبالمثل، يصف دوجلاس هوفشتادتر النفس بأنها أنماط مجردة ذاتية المرجعية تنشأ من أساس لا معنى له للنشاط العصبي ثم تعود إليه في بعض الأحيان. هذه الأنماط (الأجهزة الافتراضية) ليست أنماطًا سطحية للشخص. على النقيض من ذلك، حتى توجد النفس فلا يلزم سوى تجسيد ذلك النمط.

باختصار، اتخاذ القرار بارتقاء أنظمة الذكاء الاصطناعي العام إلى مستوى ذكاء الإنسان — بما في ذلك الأخلاقيات والحرية والنفس — سيكون خطوة كبيرة لها تأثيرات عملية خطيرة. ومن المرجَّح أن يكون هؤلاء الذين ينكر حدسهم الفكرة بالجملة لأنها خاطئة من الأساس مصيبين. للأسف، لا يمكن دعم حدسهم بحجج فلسفية غير مثيرة للجدل. لا يوجد إجماع على تلك المسائل؛ ومن ثَم لا توجد إجابات سهلة.

العقل والحياة

كل العقول التي نعرفها موجودة في الكائنات الحية. ويعتقد كثيرون — بمن فيهم علماء السبرانية (انظر الفصلين الأول والخامس) — أنه لا بد من وجود العقل. أي إنهم يفترضون أن العقل يقتضي وجود الحياة مسبقًا.

يصرِّح الفلاسفة المهنيون في بعض الأحيان بهذا، ولكن نادرًا ما يحاجُّون عنه. قال بوتنام — على سبيل المثال — مما لا شك فيه أنه إذا لم يكن الروبوت حيًّا فلن يكون واعيًا. لكنه لم يقدم أسبابًا علمية، بل اعتمد على «القواعد الدلالية للغة». حتى القلة الذين دافعوا عن هذا الافتراض مدة طويلة لم يقدموا دليلًا لا يدع مجالًا للشك، ومنهم الفيلسوف البيئي هانس يوناس، ومؤخرًا عالم الفيزياء كارل فريستون عبر «مبدأ الطاقة الحرة» السيبراني العام.

لكن لنفترض أن هذا الاعتقاد السائد صحيح. وإذا كان صحيحًا، فلن يتحقق الذكاء الحقيقي في أنظمة الذكاء الاصطناعي إلا إذا دبَّت فيها حياة حقيقية. عندئذٍ، لا بد أن نسأل ما إذا كانت «الحياة الاصطناعية القوية» (الحياة في الفضاء السيبراني) ممكنة أم لا.

لا يوجد تعريف للحياة مقبول لدى الجميع. ولكن عادةً ما تُذكر تسع سمات للحياة، وهي: التنظيم الذاتي، والاستقلالية، والنشوء، والنمو، والتكيف، والاستجابة، والتكاثر، والتطور، والأيض. يمكن فهم أول ثماني سمات من حيث معالجة المعلومات؛ ومن ثَم يمكن تجسيدها في الذكاء الاصطناعي/الحياة الاصطناعية. على سبيل المثال، تحقق التنظيم الذاتي بطرق متنوعة، وقد فُهم على نطاق واسع، كما أنه يتضمن كل السمات الأخرى (انظر الفصلين الرابع والخامس).

لكن الأيض مختلف. يمكن نمذجة الأيض بالكمبيوتر، ولكن لا يمكن تمثيله به. فلا الروبوتات الذاتية التجميع ولا الحياة الاصطناعية الافتراضية (على الشاشة) يمكنها عمل التمثيل الغذائي في الواقع. الأيض هو استخدام المواد الكيميائية الحيوية وعمليات تبادل الطاقة من أجل تكوين الكائن الحي والحفاظ عليه. ومن ثَم فهي عملية مادية لا يمكن اختزالها. يشير المدافعون عن الحياة الاصطناعية القوية إلى أن أجهزة الكمبيوتر تستخدم الطاقة، وأن بعض الروبوتات لديها مخازن طاقة فردية وتحتاج إلى التجديد الدوري. ولكن هذا بعيدٌ كل البعد عن الاستخدام المرن للدورات الكيميائية الحيوية المتشابكة التي تبني النسيج الجسدي للكائن الحي.

لذا، إذا كان الأيض ضروريًّا من أجل الحياة، فإن الحياة الاصطناعية القوية يستحيل تحقيقها. وإذا كانت الحياة ضرورية من أجل العقل، فإن الحياة الاصطناعية القوية يستحيل تحقيقها كذلك. لا يهمُّ مدى روعة أداء بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي العام في المستقبل، لكن لن يكون لها ذكاء حقًّا.

الانقسام الفلسفي الكبير

يعتبر الفلاسفة التحليليون ومعهم الباحثون في الذكاء الاصطناعي أن احتمالية بعض الجوانب النفسية العلمية أمرٌ مسلَّم به. وفي الحقيقة، افتُرض هذا الموقف بين صفحات الكتاب، بما في ذلك هذا الفصل.

لكن علماء الظواهر يرفضون هذا الافتراض. يقولون إن كل المفاهيم العلمية ناشئة من وعي له مغزًى؛ ومن ثَم لا يمكن استخدامها لشرح هذا الافتراض. وقبل وفاة بوتمان عام ٢٠١٦، هو نفسه قبِل هذا الموقف. حتى إنهم يزعمون أنه من غير المنطقي افتراض وجود عالم حقيقي قائم بشكل مستقل عن الفكر البشري، وربما يكتشف العلم خصائصه الموضوعية.

إذن، عدم الإجماع على رأي بشأن طبيعة العقل/الذكاء أعمق مما أشرت إليه في هذا الكتاب.

لا يوجد حجة دامغة تدحض رأي علماء الظواهر، ولا تؤيدها كذلك. يرجع السبب إلى عدم وجود أرض مشتركة يمكن الانطلاق منها. فكل فريق يدافع عن نفسه وينتقد الفريق الآخر، ولكنهم يستخدمون حججًا لا يتفق الطرفان على مصطلحاتها الأساسية. تقدِّم الفلسفة التحليلية والفلسفة الظواهرية تفسيرات مختلفة اختلافًا جوهريًّا حتى للمفاهيم الأساسية، مثل «السبب» و«الحقيقة». (قدَّم عالم الذكاء الاصطناعي براين كانتويل سميث ميتافيزيقا طموحة لكلٍّ من الحوسبة والقصدية والكائنات التي تهدف إلى احترام رؤى كلا الفريقين، ولكن مع الأسف لم تكن حجته المثيرة للجدل مقنِعة).

لم يُحَل هذا النزاع، وقد لا يُحَل. يرى البعض أن رأي علماء الظواهر جليُّ الصواب. ويراه آخرون أنه جليُّ السخف. ولهذا السبب لا أحد يعلم على وجه اليقين ما إذا كان الذكاء الاصطناعي العام سيصبح ذكيًّا بحق أم لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤