الرحلة الثالثة

أقلع كولومب في اليوم الثلاثين من مايو سنة ١٤٩٨ باسم الثالوث الأقدس بعدما قرر في فكره أنه يدعو أول أرضٍ يكتشفها في هذه الرحلة بهذا الاسم «الثالوث»، وقد كان يريد أن يصل هذه الدفعة إلى العالم الجديد نفسه وليس إلى سواه. ففي الحادي والثلاثين من يوليو شاهد على بُعد اثني عشر أو خمسة عشر فرسخًا ثلاث قمم عالية لجبل شامخ شاهق يناطح الجوزاء. فامتلأ كولومب إيمانًا حيث صادف ما كان يأمل وجوده، فدعا كولومب تلك الأرض ثالوثًا Trinité.

وفي جنوب تلك الجزيرة لاحظ كولومب تيارًا شديدًا من الماء العذب يمتد على مسافة ثلاثة فراسخ في البحر، تلك هي دلتا «الأورنوك» ذي الأربعين فمًا التي تشغل أكثر من خمسين فرسخًا. ففهم الأميرال بذكائه وإدراكه الفائقين أن جميع تلك الجزائر ليست بأرخبيل وإنما هي أراضٍ قطعها هذا النهر بقوة تياره، فدعاها كولومب «أرض العناية».

ثم اشتدت على الأميرال وطأة المرض فكلف القبطان الفاضل «بطرس دير ترير» أن يقيم الصليب بالنيابة عنه على ساحل تلك المقاطعات باسم تاجَيْ إسبانيا. ففعل بطرس هذا كما أمره رئيسه، وكان هو أول أوروبي وطأت قدماه أرض العالم الجديد نفسه، وكان ذلك في الخامس من أغسطس سنة ١٤٩٨، وبذا عرفوا خليج «باريا» فاتبعوا جزيرة «سنت مارجريت»، وكان الماء هناك عذبًا جدًّا حتى قال عنه الأميرال: «إنه لم يشرب مثله قط»، وكانوا وجدوا أخيرًا بحر اللؤلؤ.

فإذا تأملنا فيما سبق ذكره نجد أن كولومب قد اكتشف في هذه الرحلة الاكتشافات الثلاثة الكبرى؛ فإنه أثبت:
  • أولًا: وجود العالم الجديد.
  • ثانيًا: تجوُّف اليابسة عند خط الاستواء.
  • ثالثًا: التيار المحيطي الأكبر.

وواضح كالشمس في رابعة النهار أن اكتشافًا واحدًا من هذه الثلاثة يكفي لتخليد اسم صاحبه، فكم وكم يكون تخليد اسم من ضم الثلاثة، وكم يلزم أن يكون مقداره عظيمًا عند كافة المؤرخين، وكم يجب أن تكون أهمية مكانته في عالم الاكتشافات والرحلات!

ولما عاد كولومب إلى سنت دومنج «هسبنيولا» وجد الثائرين يرأسهم «رولدان»؛ لأن «برتلماوس» الذي كان جعله كولومب حاكمًا هناك بالنيابة عنه لم يلبث أن تآلف مع أمراء الجزر الوطنيين، وأعد للانتقال في المناجم كل المعدات وأسس مدينة «سنت دومنج». حتى شق رولدان وشركاؤه عصا الطاعة عليه؛ لأنهم كانوا يريدون أن يستبدوا بأعمال المناجم واستخراج بعض ما فيها، وهذا ما كان يأباه عقل «برتلماوس» وعدله الفائقان.

فعزم كولومب أن يعود إلى إسبانيا لمقابلة الملكين اللذين كانا كأنهما غير واثقين بحُسن سير كولومب وجميل معاملته. ثم نزل «أوجيدا» إلى البر كمبعوث من قِبل البلاط الملوكي الإسباني ليحاكم الوالي ويقتص منه، فاستشاط كولومب غضبًا واعتراه ضعف؛ لأنه كان سريع التأثر خفيف العاطفة رقيق الإحساس، فابتهل إلى الله سبحانه وتعالى، واتكل عليه. وكأن فؤاده قد أوحى إليه أن يرتاح، وأن الله قد أصغى إليه وأجابه إلى مطلبه. وبعد ذلك بقليل علم أن «رولدان» الذي كان بالأمس ثائرًا، يسد الطريق في وجه «أوجيدا» منضمًا إلى حزب كولمب، ولكن كان السهم قد نفذ؛ لأن رولدان كان قد بعث برسالة إلى إسبانيا يذم فيها كولومب وأتباعه، وبمقتضاها أرسل البلاط «بوباديلا» إلى سنت دومنج ليكون حاكمًا عليها، وكان كولومب حينئذٍ في «كونسبسيون». وفي تلك الأثناء أخذت الثورة تزداد.

وفي الثالث والعشرين من أغسطس سنة ١٥٠٠ نزل «بوباديلا» إلى الساحل، أما البسطاء السذج فسُرُّوا وابتهجوا وأملوا منه خيرًا. ولكن أبى الدهر إلا عكس آمالهم؛ فإن «بوباديلا» فتح السجون وأدخل فيها «برتلماوس» و«ديجو كولمب»، ثم استولى على كل التقارير والرسميات والأقمشة والأواني الظريفة والنقود النفيسة، وكل شيء حفظه كولومب ليقدمه إلى ملكيه العزيزين، ثم اختلس أثناء غياب كولومب مركز الولاية. ولما جاء الأميرال تجاسر ذلك الوغد اللئيم على إهانته وتكبيله بالسلاسل الحديدية وإلقائه في أعماق السجون، فاستشاط الهنود والبحارة غيظًا لهذا الأمر المنكر مع أنهم كانوا حانقين على كولمب؛ لأنه كان يريد قمع شهواتهم وشرورهم العديدة.

ولقد وجدوا في بيت الأميرال نفسه من أوثق له القيود وشد حلقات أسره، وكانت سلاسله مربوطة بحجارة ثابتة في الأرض وكذلك أخويه أيضًا، إلا أنه كان مفصولًا عنهما، فأثَّر عليهما بكلامه الرقيق طالبًا منهما متوسلًا إليهما أن يصبرا على هذا المضض فإن الله رءوف رحيم. وبكلامه اللطيف وألفاظه العذبة استدرَّ عبرات الجميع ومن ضمنهم السجانون. ولما خال أنهم سيقودونه مسلسلًا هكذا أمام الملكين رفض خلع السلاسل، وكان لا يعتبر رئيسًا له ولا حاكمًا عليه إلا الله سبحانه وتعالى، ولم يكن ليعترف لأحد بحق أبدًا عليه ولا بنجاته إلا لله عز وجل.

ولما وصل خبر تلك المعاملة السيئة إلى فردينند وإيزابل أمرا بإعطائه حريته التامة، وحررا إليه كتابًا قالا فيه ما معناه: «إن ثقل السلاسل كان كأنه واقع على قلبيهما.» ولما وصل إلى إسبانيا دعته الملكة إلى زيارة خصوصية فقص عليها القصة الحقيقية، فاغرورقت عيناها بالدموع، وأذرفت دمعًا سخينًا. ولما رأى كولومب تلك العواطف الحساسة، وهذا التأثر الغريب نسي ما جرى له، ولا سيما أنه كان سليم النية خالص الطوية، لا يحقد ولا يكمن بل يكظم الغيظ. ومع ذلك فلم تمنع العوامل السياسية من تعيين حاكم آخر لتلك الولايات المكتشفة. وسافر «أوفاندو» حينئذٍ لهذا الخصوص إلى «سنت دومنج». ثم ألح كولومب في طلب أسطول؛ ليعاود الملاحة، ويطوف حوالي السواحل الأرضية؛ إذ قد أتم اكتشاف العالم الجديد، وكان لا يريد أن يترك ساحلًا من سواحل المحيط أو جزيرة من جزره إلا وينشر فيها اسم الله القدوس ويباركه، فاصطحب معه «أدلتندو» و«فردينند» — هذا ليس بالملك — وكان يطمح في هذه الرحلة الرابعة أن يرجع إلى إسبانيا من بحار آسيا وجنوب أفريقيا بعدما يطوف حول الأرض.

ففي الخامس والعشرين من مايو رسا كولومب باسم الثالوث الأقدس على «سنت دومنج» أو «هسبنيولا»، فوصل إلى جزائر «الكارائب» في ستة عشر يومًا. وفي التاسع والعشرين من يونيو رسا على بُعد فرسخ من «هسبنيولا»، وكان عازمًا على إبدال سفينة «جاليسيين» بأخرى أخف سيرًا، فأرسل ضابطًا على قارب يلح على الحاكم «أفندو» في طلب سفينة أخرى يدفع إليه ثمنها، وكذلك ليحصل منه على تصريح يسمح له بالالتجاء في الميناء ريثما تهدأ العاصفة التي أظهرت بوادرها أنها ستكون من أفظع العواصف. فرفض «أوفندو» بتاتًا أن يصرح بإبدال السفينة، ومنع كولومب كذلك أن يرسو على الأرض أو أن يدخل إلى الميناء.

ومع ذلك كله، وما كان يوعزه كولومب من حلول العاصفة، فإن ستًّا وثلاثين سفينة استعدَّت للسفر إلى إسبانيا من طرف أوفندو، وقد طرد «والي الهند» ذلك الحاكم الثابت على تلك الأراضي الشاسعة التي غنمها بمعونة الله له باسم إسبانيا مُخاطرًا بحياته.

وكان داعي الرابطة المسيحية وعامل التحاب الشديد بعث في كولومب أن يرسل مرة أخرى إلى أوفندو رسولًا آخر يخبره أن العاصفة ستكون فظيعة جدًّا. ولكن الجو كان ساكنًا والسماء صافية الأديم؛ فسخروا به وسمَّوه نبي السوء! وأقلعت سفنهم الست وثلاثين، ولم تكد تقطع ثمانية فراسخ في البحر حتى انقلب النهار الباهر ليلًا بهيمًا، وامتنع الموج عن الحركة، وانقطع الريح عن الهبوب، وكأن البحر صار كتلة من رصاص مذاب. ثم احتاطت بالسفن قبة كأنها شعلة من نار فلم يمكنها التحرك قدومًا ولا رجوعًا.

وقد هلك من الست وثلاثين سفينة ست وعشرون، ابتلعتها تلك الهاوية المائية التي لا قرار لها في نفس مركزها التي لبثت فيه. وأما العشرة الأخرى فضلَّت في الظلام الحالك والضباب الشديد ولم يجدوا فيها رجالًا ولا غنائم. ولقد اختفى في تلك الظروف كل ما كانوا جمعوه في الشهور والأعوام. وكذلك أيضًا راح نحو الخمسمائة رجل شهداء تعنُّت ذلك الحاكم وسخريته بكولومب. فراح فيها المفترون والثائرون ورولدان وبوبا ديلا، وكل من كان يطمح في اغتيال الكنوز والإثراء من غير الباب القويم، وكل من عادى كولومب وقاتل الهنود وسفك الدماء ونهب الآثار. أجل، تم كل ذلك في تلك اللحظة الهائلة والبرهة المريعة، بينما كان كولومب يصلِّي طالبًا إلى الله بحرارة شديدة في مرفأ صغير بعيدًا عن أعين الناظرين.

فهذا الحادث الهائل بل هذه الكارثة الفظيعة اعتبرها أعداءُ كولومب أنفسهم قصاصًا إلهيًّا لهم. بل إن هيئتها الغريبة والشكل الذي أخذته أثَّرا تأثيرًا عظيمًا على بلاد الإسبان وحكومتها (كما ذكر ذلك روزلي دي لورج المؤرخ المشهور). بل إن هول تلك الظروف وعِظم الخسارة والتلف وحداد أكثر من خمسمائة أسرة، جعلت لتفاصيل ذلك الحادث حقيقة فاجعة، جديرة بالذكرى والعبرة لمن اعتبر بما يحدث للآخرين قبلما يصير عظة لهم:

فلنعتبر بمن قضى خير لنا
من أن نكون عبرة لغيرنا

ولما صفا الجو وهبَّ النسيم العليل أتم كولومب جولانه في البحار عاكفًا على الرحلات، رغمًا عن معاكسة أعدائه العديدين وما كانوا يوجهونه إليه من المظاهرات العدائية العديدة. فاكتشف على مقربة من ساحل «هندراس» جزيرة «جوانابا». ثم في السابع عشر من أغسطس سنة ١٥٠٢ رسا بالقرب من نهر دعاه «بوسيسيون»؛ أي المستعمرة، وفي ذلك اليوم اكتشف كولومب ليس فقط جزر «الأنتيل» — أي الهند الغربية — ولكنه وصل بدون علم إلى جزئي أميركا الشمالي والجنوبي بواسطة أميركا الوسطى.

وكان كولومب يدخل الأجوان ويتبع الشواطئ مداومًا على الملاحة بكل بسالة وبدون ملل، لا يحوله عن الجِدِّ في البحث عن البوغاز شيء أبدًا. وكان وقتئذٍ بالقرب من «شاجر» من الجهة الأخرى «لبناما». ومن العجب أن نفس المكان الذي صمم على أن يصادف فيه البوغاز، وكان يبحث عنه ليتم طوافه حول الأرض، ولينتقل من المحيط الأتلانطيقي إلى المحيط الهادي، هو نفس النقطة التي يريد رجال يومنا هذا أن يجعلوها مركز علاقاتهم التجارية بين أعظم الأمم وأكبر الشعوب! وذلك مما يدل على ذكاء كولومب ونبوغه العظيم وخبرته الواسعة في انتقاء المراكز المهمة ورصانته وحزمه. ولكن إذ لم يجد ممرًا اتجه نحو المشرق، واتبع البرزخ بدون علم منه. ومع ذلك فلم يلبث الجو هادئًا والريح معتدلة حتى ازدادت الزوبعة، وساءت الحال، وصارت قلوب أبسل الشجعان تخفق وتضطرب، وكان البحر ثائرًا يغلي ويفور كأن مياهه فوق دست عظيم تتقد من تحته نيران الجحيم. ثم هطل المطر مدرارًا بغزارة ودويٍّ تهتز له الأجسام ارتعابًا وارتعادًا، بل أستغفر الله أن أسميه مطرًا، فقد ذكر كولومب في كتاباته التي تركها أنه لا يجوز تسمية هذا مطرًا بالمرة، وكأن ذلك كان ينبئ بقرب حلول زوبعة دورية.

أما كولومب فانفتح جرحه المعهود ثانيًا، وأوشك أن يميته من شدة الألم. وما لبث كذلك حتى هبطت الزوبعة الدورية في البحر على هيئة مخروط من الماء تتخلله كتل ثلجية، ولم تمر مدة قصيرة حتى قام أمامها عمود آخر من الماء تكوَّن من الأمواج الهائجة. ثم تقدم ذلك العمود المائي إلى السفينة، وكأنه يتهددها بالخراب والدمار. فأسرع كولومب حينئذٍ بإشعال الشموع المكرسة وشد شريط القديس «فرانسوا»، وقبض على الكتاب المقدس بيد وعلى حسامه بالأخرى ورسم بالأخير في الفضاء صليبًا عظيمًا، وناشد ذلك العمود الهائل أن يُجِلَّ ويحترم خدام الكلمة التي تم بها كل شيء.

وفي الحال كأن العمود المائي دُفع بنفخة غير منظورة؛ فتغيَّر اتجاهه وانزلف بين السفن وضاع في الأفق نازلًا في تلك الهاويات البحرية العميقة. ولكن إذ رأى كولومب استمرار ثوران البحر وانعكاس هبوب الرياح رغمًا عن اختفاء الزوبعة الدورية، اضطر أن يلتجئ إلى ميناء صغير يُدعى «بيلين»، حتى إذا هدأ الماء وهبَّت الرياح وفق إرادته واصل السير إلى مناجم «فيراجوا» الغزيرة. وهناك هجم عليه أحد أمراء أولئك الهنود المدعو «كيبيان»، ولولا هروب هذا الرجل لوقع غنيمة باردة في يدي كولومب وأتباعه إلا أنه أفلت. فأخذ الهنود في ذبح الإسبانيين الذين أرسلهم كولومب في قارب إلى هناك للاستعلام والاستقصاء على تلك السواحل. بينما أخذ البعض الآخر في محاصرة الحاكم في حصنه. ولكنه بفضل إخلاص «ديجو مندز» لهم وبسالته العجيبة؛ فازوا بنجاة كل ما كان في الحصن، ثم أقلعوا قبل أن يهدأ البحر.

ورأى كولومب سفينة من سفنه على وشك الدمار، ولكنها استمرت في مداومة المسير حتى وصلوا إلى سواحل «جاميكا» وهناك شحطت. ورأى أيضًا أن السفينتين الأخريين لا يمكنهما متابعة السير فالتزم إيقاف عمل السفينة «الكابتان» — أي القبودان — وربطها ربطًا محكمًا على سواحل «سان جاك دي بالوس»، وابتنى عليها شبه حصن متين أودع فيه كل ما كان معه، بعدما نبَّه على رجاله أنه سيعامل كل من يحيد عن سواء السبيل بكل قسوة وشدة. أما «ديجو مندز» ذلك الباسل المغوار فبعدما نشر لواء الأمن وتدارك كل ما يهم البحارة، ووعده أمراء الهنود بتوريد جميع المؤن اللازمة لهم بواسطة المبادلات التجارية، فإنه ركب زورقًا صغيرًا غير مبالٍ بالهلاك، وذهب توًّا إلى «سنت دومنج» فطلب من «أوفندو» أن يرسل معه سفينتين ليرجع عليهما كولومب ورجاله إلى أوروبا. وإذ كان ديجو في مأموريته هذه التي استغرقت شهورًا طويلة مال الإسبانيون الذين كانوا في «جاميكا» إلى الثورة، وكثيرًا ما ساعدهم على ذلك أخوان من أسرة «بوراس» بكل جسارة وجراءة. إلا أنهما بعدما نهبا السفن، وسلبا منها ما استطاعا إليه سبيلًا، نزلا في قوارب طالبين العودة إلى أوروبا.

أما الهنود وأمراؤهم ففكروا جميعًا في أمر الثورة، ولما علم بذلك كولومب دعاهم لرؤية مشهد عظيم؛ فاشرأبت لهذا أعناقهم وتوافدوا عليه زرافات ووحدانًا. فانتهز كولومب تلك الفرصة التي اجتمع فيها هذا الجم الغفير، وذكَّرهم أنه عند وصوله أخبرهم بأن سيده المسيح إله هذا الكون أرسله إلى تلك البقاع، وأنه يجب عليه أن يبقى فيها حتى يصدر أمر هذا الملك الكريم بالانسحاب. ثم قال لهم: إن السيد الإله له المجد عرف أنهم سينزعون إلى الثورة، ويأبون توريد المؤن للملاحين؛ ولذلك قد غضب عليهم غضبًا شديدًا. ثم شرح لهم أنه بعد ظهور القمر بقليل في نفس الساعة التي حددها يأخذ الكوكب في الاحمرار وينتهي بالسواد، وعند انتهائه من الكلام سخر البعض بتهديداته وارتعد البعض الآخر عند سماعها.

أما وقد وافت الساعة التي ذكرها لهم، ورأوا أن لون القمر يتغير وكأنه قد تقنَّع هُرعوا إلى السفن، ووعدوا كولومب وعدًا صادقًا لا يبرون فيه أنهم منذ ذلك لا ينهجون إلا في سواء السبيل ولا يألون جهدًا عن إرضاء سيده. ثم توسلوا إلى «رسول الإله العظيم» (لقبوا كولومب بذلك بعد خسوف القمر؛ لأنهم اعتقدوا أن تلك معجزة من معجزاته) أن يصلِّي إلى سيده من أجلهم.

فانسحب كولومب من وسطهم، ودخل إلى مخدعه. وهناك توسل إلى السيد له المجد أن يفتح عيون هؤلاء القوم، ويهبهم العقل والذكاء؛ لكيما يعرفون مقداره، ولكيما يؤدون له ما يلزم من الطاعة والتبجيل والمحبة والاحترام. ثم خرج وأخبرهم أنه توسل إلى الله. وبعد ذلك قال لهم: إن ما رأوه إنما هو أصغر مشاهده التي تدل على عظمته وجبروته، وأنه ليس مجهولًا ولا مخيفًا لمن يخدمه بأمانة وطاعة ونشاط. ثم انتهز فرصة خضوعهم وإصغائهم إليه، وجعل في قلوبهم الخشوع والاحترام لإله المسيحيين العظيم (هكذا كانوا يدعون الله). ومنذ تلك اللحظة لم يتكلموا عن هذا الإله إلا بشفاهٍ ملأى خشوعًا وتبجيلًا.

هكذا تجنب كولومب ثورة الهنود وأمرائهم، وخاب مسعى الأخوين «بوراس». ومع ذلك فإن كولومب لعلو نفسه وكرم شيمه صفح عن الأخوين الغادرين واصطحبهما معه، وبذل جهده في حفظهما سالمين حتى وصلا إلى إسبانيا عندما رجع إليها الأميرال.

أما «أوفندو» — وليرجع مرجوعنا إليه — فلم يوافق على إرسال سفينة إلى الأميرال كولومب — كما طلب منه «ديجو» — إلا مكرهًا، وذلك بعدما رأى من شعبه قالًا وقيلًا، صوبوا سهامهما نحوه. وما كان من «ديجو مندز» إلا أنه استأجر على تلك السفينة سفينة أخرى، وذهب بالاثنتين إلى «جاميكا» ومنها إلى إسبانيا حاملًا خطابًا من كولومب إلى الملكة.

أما هذا الخطاب الذي شرح فيه كولومب اكتشافاته الجديدة، ومحنه الغريبة التي صادفها في هذه الرحلة، فإنه وصل إلى الملكة في اللحظة التي رقدت فيها إيزابل على سرير الموت عقب مرض عضال أصابها. إلا أنها قرأت تلك الرسالة، وعرفت نتيجة اكتشافات كولومب الأخيرة التي لم تكن لِتُرْجَى. ثم عرفت من مصدر آخر ثورة الأخوين «بوراس» ومعاملة «أوفندو» الذميمة لكريستوف وجوره وعسفه على أهالي تلك الجزر التعساء.

على أن كولومب لم يلبث حتى علم وهو في «سنت دومنج» بخبر مرض الملكة. ومع أن السفينتين كانتا خربتين لا تستطيعان الملاحة، فإنه عزم أن يذهب لرؤية إيزابل العظيمة قبل مماتها مهما كانت الطوارئ والعقبات.

فلم تكد السفينتان تتركان مرساهما حتى أتتهما لفحة ريح شديدة كسرت الصاري الأكبر لإحداهما. فلم يكن من الأميرال إلا أنه بعث بإحدى السفينتين إلى «سنت دومنج» ثم ركب الأخرى وسار. أما البحر فكان هائجًا على الدوام كرجل غضوب ملآن حقدًا كمينًا. ولتوالي الزوابع والعواصف صارت الصواري تتكسر حتى قصرت جدًّا، وحينئذٍ تراكمت على كولومب الهموم والأحزان والآلام والأوجاع حتى سها عليه أن يُصلِح سفينته في جزائر الآثور عندما مر بها. وكانت غايته المقصودة وضالته المنشودة الوصول إلى تلك الأرض التي تتنفس عليها إيزابل الكريمة الخَلق والخُلق.

ففي السابع من نوفمبر سنة ١٥٠٤ دخل كولومب في ميناء «سنت ليكاردي باراميدا». إلا أن الظروف والمقادير لم تساعد ذلك البطل العظيم أن يقابل إيزابل سلطانة الكاستيل على سطح هذه البسيطة الغبراء الفانية، وإنما في الحياة الأخرى حياة الخلود والدوام … ففي يوم الثلاثاء ٢٦ نوفمبر سنة ١٥٠٤ طلبت إيزابل إذ أحست بدنو ساعة احتضارها الرهيب وقرب أجلها، أن تُردى بثوب القديس «فرنسوا» بصفتها عضوًا من أعضاء شيعته. ثم تناولت القربان المقدس ومسحت المسحة المقدسة بثبات ونفس متأهبة لسماع حكم الإله العادل. أقول: عادل؛ لأنها قد خدمت يسوع له المجد دائمًا بأمانة وذمة وشهامة وهمة وصبر ونشاط، فاستحقَّت منه كل خير، واعتنقت مبادئه القويمة اعتناقًا تامًّا، وخصصت لخدمته كل قواها وقوى مملكتها الواسعة الأطراف. لذلك كانت تستحق منه سبحانه وتعالى أن يكلل هامتها بالإكليل الأزلي المرصع بجواهر الرحمة والغفران ولآلئِ الطوبى والنعمة، ذلك الإكليل الذي يضمحل بجانبه — بل ويختفي من أمامه — إكليل الكاستيل، والذي سيضيء على رأسها ضوءًا حيًّا أبديًّا.

وإذ علم كولومب أن إيزابل قضت نَحْبَها حزن حزنًا شديدًا، ثم ذهب إلى «سيجوفيا» في ربيع سنة ١٥٠٥ حيث كان فردينند هناك. فاستقبله الملك بكل ترحاب وانعطاف، وأصغى بطول بالٍ إلى قصته الغريبة، وتاريخ رحلاته واكتشافاته. ومع أنه اعترف له بألقابه التي يستحقها بلا جدال ولا نزاع فإنه لم يعده بشيء من تلك الألقاب، وكان يوصيه دائمًا بنفسه وصحته، وبعد انتهاء المجلس يسمح له بالانصراف مبديًا ذلك بإشارة صغيرة لطيفة.

ولما رأى كولومب أنه عومل كملك الملوك — له المجد — مهجورًا من الجميع محرومًا من حقوقه الشرعية القانونية، قضى أيامه كسير القلب مدمى الفؤاد، لا سيما لما كان يراه من سوء معاملة الناس للهنود الذين أحضرهم معه. وقد زاد الطين بلة موت تلك الملكة العظيمة الشأن الرفيعة المقام. فصار كولومب يقتدي بالسيد تمام الاقتداء في خضوعه وانقياده. وكما حمل الصليب إلى كل مكان حمله أيضًا على جسمه وفي نفسه، ومات وهو ناظر إلى المصلوب ملك اليهود. وبما أنه قطع الأمل والرجاء إلا في الله سبحانه وتعالى ولم ينتظر جزاء لأعماله إلا منه عز وجل، مضى حياته في شقاء تام وتعاسة زائدة، واستعد أن يلفظ روحه الطاهرة استعداد بطل مغوار، بل استعداد قديس زاهد متعبد.

فدعا كولومب يوم ١٩ مايو سنة ١٥٠٦ كاتبًا شرعيًّا في قاعة حقيرة بإحدى الفنادق الصغيرة، فأعاد له قراءة وصيته قبل وفاته. ثم دُعي قس لكي يُعده لاستقبال السيد — له المجد — للمرة الأخيرة، ولكي يرى وجهًا لوجه ذلك الذي أعانه وعزَّاه في ضيقاته وكروبه، وصروفه وخطوبه. وكان حول كولومب في تلك الساعة الرهيبة أبناؤه وبعض أقاربه وأصدقائه راكعين مصغين إلى آخر وصاياه ونصائحه الذهبية. وكانت السلاسل التي حملها بأمر ذلك العاتي اللئيم «بوباديلا» معلقة في الحائط ليس من ستار يحجبها عن نظره، ولا من غطاء يمنعه من رؤيتها، وكان ينظر إليها بتأمل غريب؛ لأنها كانت كل ما كوفئ به على سطح هذه الدنيا الدنية، وكانت آلة شهادته وعنوان فخره الأزلي وفضله الدائم الذكر. ثم بعدما ارتدى ثياب القديس فرانسوا التي كان يلبسها دائمًا تحت اللباس العسكري، لمس السلاسل الحديدية وطلب أن توضع مع جثته في التابوت. وبعد ذلك رقد رقادًا هادئًا، وأسلم روحه، وله تمام الثقة بمن حمل اسمه من مشارق الأرض إلى مغاربها. وكان موته ليلة الصعود في التاسع عشر من مايو سنة ١٥٠٦ ميلادية، فكأن السيد — له المجد — أراد أن يحتضنه صباح الصعود ويشركه في موكبه الحافل. هكذا مات كولمب، هكذا مات مذيع سر الكرة الأرضية.

(انتهى)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤