الفصل الثاني عشر

جَزِيرَةُ الْيَأْسِ

مَا إِنْ أَصْبَحْتُ قَادِرًا عَلَى الْوُقُوفِ، حَتَّى نَظَرْتُ حَوْلِي. أَيْنَ جَمِيعُ رِفَاقِي؟ هَلْ فُقِدُوا جَمِيعًا؟ هَلْ كُنْتُ أَنَا النَّاجِيَ الْوَحِيدَ؟ وَسَرِيعًا جِدًّا، تَكَشَّفْتُ حَقِيقَةَ مَوْقِفِي؛ فَكُلُّ مَا وَجَدْتُهُ مِنْهُمْ قَلَنْسُوَةٌ وَاحِدَةٌ، وَثَلَاثُ قُبَّعَاتٍ، وَحِذَاءَانِ.

صَرَخْتُ مُلْتَاعًا: «لَا! قُلْ إِنَّ الْوَضْعَ لَيْسَ كَمَا أَرَى! لَا يُمْكِنُ أَنْ أَكُونَ أَنَا النَّاجِيَ الْوَحِيدَ!»

بَقِيَ لِي شَيْءٌ مِنَ الْأَمَلِ وَقْتَئِذٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي شَيْئًا عَنْ مَوْقِعِي، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيَّ مَلَابِسُ جَافَّةٌ، وَلَا مِيَاهُ شُرْبٍ وَلَا شَيْءٌ لِأَسْتَخْدِمَهُ فِي صَيْدِ طَعَامِي. فَمَعَ أَنِّي لَمْ أَغْرَقْ مِثْلَ بَاقِي رِفَاقِي مِنَ الْبَحَّارَةِ الْمَسَاكِينِ، إِلَّا أَنَّ أَمَلِي فِي النَّجَاةِ كَانَ وَاهِيًا. فَالشَّيْءُ الْوَحِيدُ الْمَوْجُودُ بِجَيْبِي هُوَ سِكِّينٌ صَغِيرَةٌ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ تُرْجَى مِنْ سِكِّينٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانٍ غَرِيبٍ بِلَا مَأْوًى وَلَا طَعَامٍ؟

صَرَخْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي. وَكَانَ حَالِي مَيْئُوسًا مِنْهُ؛ فَاللَّيْلُ يَهْبِطُ، وَكُنْتُ أَحْتَاجُ أَنْ أَجِدَ مَأْوًى، وَكَانَ يُوجَدُ عَدَدٌ مِنَ الْأَشْجَارِ بَعْدَ مِنْطَقَةِ الشَّاطِئِ مُبَاشَرَةً. وَلَمْ أَسْتَغْرِقْ وَقْتًا طَوِيلًا كَيْ أَجِدَ شَجَرَةً تَبْدُو كَمَكَانٍ جَيِّدٍ لِلِاخْتِبَاءِ خِلَالَ اللَّيْلِ، فَتَسَلَّقْتُهَا وَوَجَدْتُ غُصْنًا مُرِيحًا. وَلَا بُدَّ أَنَّ الْمَوْقِفَ الْمُرِيعَ أَرْهَقَنِي بِلَا شَكٍّ، فَتَمَكَّنْتُ مِنَ الْحُصُولِ عَلَى قِسْطٍ ضَئِيلٍ مِنَ النَّوْمِ.

أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ بِسُطُوعٍ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّاْلِي، وَكَانَ الْبَحْرُ هَادِئًا، وَتَوَقَّفَتِ الْعَاصِفَةُ. وَمَعَ أَنَّ الطَّقْسَ تَغَيَّرَ وَأَصْبَحَ مَاتِعًا، إِلَّا أَنَّ مَعْنَوِيَّاتِي وَحَالِي لَمْ يَتَحَسَّنَا كَثِيرًا. نَزَلْتُ مِنْ مَكَانِي الْعَالِي عَلَى الشَّجَرَةِ، وَعُدْتُ إِلَى الشَّاطِئِ.

وَصِحْتُ مُتَعَجِّبًا: «آهٍ يَا إِلَهِي!» فَالسَّفِينَةُ كَانَتْ عَالِقَةً فِي بَعْضِ الصُّخُورِ عَلَى بُعْدِ فَرْسَخٍ تَقْرِيبًا مِنَ الْمَكَانِ حَيْثُ جَرَفَتْنِي الْمِيَاهُ، وَلَمْ تَكُنْ مُحَطَّمَةً! فَلَوْ بَقِينَا فَقَطْ عَلَى سَطْحِهَا، لَنَجَوْنَا كُلُّنَا، لَكِنِّي لَمْ أَسْتَطِعِ التَّفْكِيرَ فِي هَذَا الْآنَ.

بَلْ جَالَ فِي خَاطِرِي: «الْآنَ، هَذَا يَبْعَثُ عَلَى الْأَمَلِ، فَكُلُّ مَا عَلَيَّ فِعْلُهُ هُوَ التَّفْكِيرُ فِي كَيْفِيَّةِ الْوُصُولِ لِلْمُؤَنِ. وَيَبْدُو أَنَّ فُرْصَتِي فِي النَّجَاةِ لَمْ تَضِعْ بَعْدُ.»

انْتَظَرْتُ تَرَاجُعَ الْمَدِّ، فَكَانَتِ الْمِيَاهُ شِبْهَ ضَحْلَةٍ بِمَا يُتِيحُ لِيَ السَّيْرَ إِلَى السَّفِينَةِ. نَزَعْتُ مُعْظَمَ مَلَابِسِي لِكَيْ أُبْقِيَهَا جَافَّةً، وَكُنْتُ خَائِفًا مِنَ الْمِيَاهِ، لَكِنِّي كُنْتُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْوُصُولِ لِلسَّفِينَةِ. فَابْتَلَعْتُ مَخَاوِفِي وَبَدَأْتُ السَّيْرَ. وَعِنْدَمَا أَصْبَحَتِ الْمِيَاهُ عَمِيقَةً وَصَعُبَ الْمَشْيُ فِيهَا، سَبَحْتُ بَاقِي الْمَسَافَةِ. وَكَانَ هُنَاكَ حَبْلٌ يَتَدَلَّى مِنْ جَانِبِ السَّفِينَةِ، فَاسْتَخْدَمْتُهُ لِلصُّعُودِ إِلَى السَّطْحِ.

أَخَذْتُ وَقْتِي وَنَظَرْتُ فِي أَرْجَاءِ السَّفِينَةِ الَّتِي رَسَتْ تَقْرِيبًا بِكَامِلِهَا عَلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ الْمَخْزَنُ مُمْتَلِئًا بِالْمِيَاهِ، نِصْفُهُ مُبَلَّلٌ بِالْكَامِلِ، بَيْنَمَا بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ جَافًّا تَمَامًا. وَلِحُسْنِ الْحَظِّ، احْتَوَى النِّصْفُ الْجَافُّ عَلَى الْعَدِيدِ مِنَ الْمُؤَنِ. فَنَزَلْتُ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي كَانَ يُوجَدُ فِيهِ الْخُبْزُ وَأَكَلْتُ بِسُرْعَةٍ بَعْضَ الْبَسْكَوِيتِ، وَمَا إِنْ تَوَقَّفَتْ مَعِدَتِي عَنِ الْقَرْقَرَةِ، بَدَأْتُ فِي جَمْعِ أَشْيَاءَ أَدْرَكْتُ أَنَّنِي سَأَحْتَاجُهَا.

اسْتَخْدَمْتُ كُلَّ الْخَشَبِ وَالْحِبَالِ الزَّائِدَيْنِ، مِمَّا تَمَكَّنْتُ مِنَ الْعُثُورِ عَلَيْهِ لِبِنَاءِ طَوْفٍ صَغِيرٍ كَيْ أَنْقُلَ الْمُؤَنَ مِنَ السَّفِينَةِ عَائِدًا إِلَى الشَّاطِئِ. وَبَعْدَ تَجْرِبَتِهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، كَانَ مُلَائِمًا لِحَمْلِ حَتَّى أَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ. وَبِدَايَةً، أَنْقَذْتُ الْكَلْبَ الَّذِي كَانَ مَعَنَا عَلَى سَطْحِ السَّفِينَةِ، فَكَانَتْ مُعْجِزَةً أَنَّهُ نَجَا مِنَ الْعَاصِفَةِ بِأَيِّ حَالٍ!

أَتْلَفَتِ الْمِيَاهُ الْعَدِيدَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْبَحَّارَةِ الشَّخْصِيَّةِ؛ لِذَا قَرَّرْتُ اسْتِخْدَامَ صَنَادِيقِهِمْ كَيْ أَخْزِنَ طَعَامِي وَأَجْمَعَهُ. فَكَانَ لَدَيَّ الْخُبْزُ وَالْأُرْزُ وَالْجُبْنُ وَلَحْمُ الْمَاعِزِ وَالْقَلِيلُ مِنَ الْحُبُوبِ الْأُورُوبِّيَّةِ. وَأَفْسَدَتِ الْفِئْرَانُ الْقَمْحَ، مِمَّا أَحْبَطَنِي وَلَكِنْ لَا يَسَعُنِي فِعْلُ أَيِّ شَيْءٍ حِيَالَ ذَلِكَ الْآنَ.

وَتَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِي: «أَتَمَنَّى أَنْ يَظَلَّ الْبَحْرُ هَادِئًا لِمُدَّةٍ تُتِيحُ لِيَ الْعَوْدَة.» وَلِذَا، لَا مَزِيدَ مِنَ التَّبَاطُؤِ. وَجَدْتُ أَيْضًا مَلَابِسَ، وَصُنْدُوقَ نَجَّارٍ وَبَعْضَ الْأَسْلِحَةِ.

وَعَقَدْتُ الْعَزْمَ: «هَذَا يَكْفِي لِلْيَوْمِ، وَحَانَ وَقْتُ الذَّهَابِ.» وَبِوَاسِطَةِ مِجْدَافَيْنِ مَكْسُورَيْنِ وَجَدْتُهُمَا عَلَى سَطْحِ السَّفِينَةِ، جَدَّفْتُ بِنَفْسِي مُتَحَرِّكًا نَحْوَ الشَّاطِئِ، وَلَكِنَّ الصُّخُورَ أَمَامَ الشَّاطِئِ حَيْثُ رَسَوْتُ الْبَارِحَةَ كَانَتْ خَطِرَةً جِدًّا. فَلِكَيْ أَرْسُوَ بِالطَّوْفِ فِي سَلَامٍ، كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَجِدَ جَدْوَلًا صَغِيرًا أَوْ نَهْرًا.

فَكَّرْتُ بِتَعَقُّلٍ: «لَا بُدَّ أَنَّ أَيًّا مِنْهُمَا يُوجَدُ بِالْجِوَارِ.» لِذَا جَدَّفْتُ بَعِيدًا عَنْ شَاطِئِي. وَكَانَ الْبَحْرُ لَا يَزَالُ هَادِئًا، حَمْدًا لِلهِ. وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ فِي صَالِحِي، لَكِنَّنِي عَرَفْتُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَغَيَّرَ فِي لَحْظَةٍ. وَتَلَاعَبَ الْبَحْرُ بِالطَّوْفِ مِنَ الْخَلْفِ وَالْأَمَامِ، وَاسْتَعَنْتُ بِقَدَمَيَّ لِأَتَشَبَّثَ بِقُوَّةٍ بِحَمُولَتِي. نَبَحَ الْكَلْبُ، وَلَمْ يَكُنْ بِوُسْعِي تَحَمُّلُ خَسَارِةِ أَيِّ شَيْءٍ؛ لِذَا حَاوَلْتُ أَنْ أَكُونَ فِي شِدَّةِ الْحِرْصِ.

جَدَّفْتُ فِي الْأَرْجَاءِ حتَّى وَجَدْتُ نَهْرًا، ثُمَّ اسْتَغْرَقْتُ نَحْوَ سَاعَتَيْنِ لِأَجِدَ مَكَانًا مُنَاسِبًا لِإِرْسَاءِ الطَّوْفِ. وَمَا إِنْ سَحَبْتُ كُلَّ أَشْيَائِي إِلَى الشَّاطِئِ، أَمَّنْتُ الطَّوْفَ كَيْ أَسْتَعْمِلَهُ فِي الْغَدِ. وَأَمَّا الْخُطْوَةُ الْهَامَّةُ التَّالِيَةُ، فَكَانَتْ إِيجَادَ مَكَانٍ آمِنٍ لِتَخْزِينِ كُلِّ شَيْءٍ.

قَفَزَ الْكَلْبُ عَنِ الطَّوْفِ تَقْرِيبًا فِي الْحَالِ، وَبَدَأَ يَكْتَشِفُ وَيَشْتَمُّ كُلَّ شَيْءٍ يَرَاهُ، وَسَلَّحْتُ نَفْسِي بِمُسَدَّسٍ وَبَعْضِ الْبَارُودِ، وَكَانَ هَدَفِي إِيجَادَ مَأْوًى أَيًّا مَا كَانَ، مَأْوًى أَكْثَرَ رَاحَةً مِنَ الشَّجَرَةِ!

لَاحَظْتُ وُجُودَ تَلٍّ صَغِيرٍ مِنْ عَلَى بُعْدٍ، وَكَانَ يَبْعُدُ قُرَابَةَ مِيلٍ، فَقُلْتُ لِنَفْسِي: «رُبَّمَا يُمْكِنُنِي الرُّؤْيَةُ بِصُورَةٍ أَفْضَلَ مِنَ الْأَعْلَى هُنَاكَ.» وَمَعَ الْكَلْبِ فِي رِفْقَتِي، بَدَأْتُ رِحْلَتِي فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ.

قُلْتُ لَهُ: «حَسَنًا، سَتَحْتَاجُ إِلَى اسْمٍ إِذَا كُنَّا سَنَغْدُو صَدِيقَيْنِ، فَبِمَاذَا أَدْعُوكَ؟» نَبَحَ الْكَلْبُ بِالْإِجَابَةِ، وَضَحِكْتُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ يَوْمَيْنِ: «عَرَفْتُ. فَسَأَدْعُوكَ شيبي؛ لِأَنِّي أَنْقَذْتُكَ مِنْ عَلَى السَّفِينَةِ.»

سِرْنَا لِفَتْرَةٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ الطَّقْسُ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ، وَعِنْدَمَا بَلَغْتُ قِمَّةَ التَّلِّ، رَأَيْتُ أَنَّنِي عَلَى جَزِيرَةٍ، وَلَا يُوجَدُ أَيُّ بَشَرٍ سِوَايَ فِي الْأَرْجَاءِ، عَلَى الأَقَلِّ لَمْ أَرَ أيًّا منهم بِأَيِّ حَالٍ. وَكَانَ يُوجَدُ الْعَدِيدُ مِنَ الطُّيُورِ الْجَمِيلَةِ، لَكِنَّنِي لَمْ أَتَعَرَّفْ عَلَى أَيِّ نَوْعٍ بِعَيْنِهِ مِنْهَا.

وَبَعْدَ اسْتِكْشَافِ الْجَزِيرَةِ بِسُرْعَةٍ، هَبَطْتُ عَائِدًا إِلَى الطَّوْفِ، وَفَكَكْتُ مُتَعَلَّقَاتِي وَرَتَّبْتُهَا. وَمَا أَثَارَ دَهْشَتِي، أَنَّ هَذَا اسْتَغْرَقَ مِنِّي بَاقِيَ الْيَوْمِ. أَكَلْتُ الْمَزِيدَ مِنَ الْبَسْكَوِيتِ، ثُمَّ صَنَعْتُ مَا يُشْبِهُ الْكُوخَ مُسْتَخْدِمًا صَنَادِيقَ الْبَحَّارَةِ، فَلَمْ أُرِدْ أَنْ يَلْتَهِمَنِي أَيٌّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَسَاءِ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤