الفصل الخامس عشر

الْحَيَاةُ عَلَى جَزِيرَةٍ مَهْجُورَةٍ

عَلَى مَدَى الْأَسَابِيعِ الْقَلِيلَةِ التَّالِيَةِ، عَمِلْتُ جَاهِدًا لِتَحْسِينِ مُخَيَّمِي، حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى تَوْسِعَتِهِ لِتَخْزِينِ جَمِيعِ مُؤَنِي. وَبَعْدَ عِدَّةِ مُحَاوَلَاتٍ صَنَعْتُ مِنْضَدَةً وَكُرْسِيًّا؛ مِمَّا أَذْهَلَنِي تَمَامًا وَقْتَهَا، فَلَمْ أَكُنْ قَطُّ أُجِيدُ أَعْمَالَ النِّجَارَةِ. وَعَلَّمَنِي الْوَقْتُ وَالْمَجْهُودُ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى الْبِنَاءِ، أَوِ النَّحْتِ، أَوْ عَمَلِ أَيِّ شَيْءٍ طَالَمَا عَزَمْتُ عَلَى عَمَلِهِ. وَرُبَّمَا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي صَنَعْتُهَا تَبْدُو غَيْرَ مَصْقُولَةٍ، لَكِنَّهَا عَلَى الْأَقَلِّ كَانَتْ صَالِحَةً لِلِاسْتِخْدَامِ، وَكَانَ هَذَا أَهَمَّ كَثِيرًا فِي رَأْيِي.

اتَّسَمَتْ أَيَّامِي الْآنَ بِرُوتِينٍ وَاضِحٍ؛ فَأَنَا أَخْرُجُ فِي الصَّبَاحِ، حَتَّى زُهَاءِ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْجَوْلَاتُ لِلتَّمْرِينِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ لِلصَّيْدِ. وَلَاحَظْتُ وُجُودَ بَعْضِ الطُّيُورِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُنِي أَكْلُهَا، بِالْإِضَافَةِ لِلْمَاعِزِ. وَكَانَ مِنَ الْمُهِمِّ بِالنِّسْبَةِ لِي الِاسْتِفَادَةُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي أَصْطَادُهَا؛ فَاسْتَخْدَمْتُ جُلُودَهَا، وَأَكَلْتُ لُحُومَهَا، وَلَمْ أَقْتُلْ أَبَدًا عَلَى سَبِيلِ الرِّيَاضَةِ: فَالْبَارُودُ كَانَ عَزِيزًا جِدًّا، كَمَا أَنَّ ضَمِيرِي لَمْ يَكُنْ لِيَرْضَى بِهَذَا عَلَى أَيِّ حَالٍ.

كَانَ الطَّقْسُ حَارًّا، فَبَعْدَ جَوْلَتِيَ الطَّوِيلَةِ فِي الصَّبَاحِ، عَادَةً مَا كُنْتُ أَغْفُو. وَمَا إِنْ تَبْدَأُ الشَّمْسُ فِي الْهُبُوطِ، أَقُومُ بِإِعْدَادِ الْعَشَاءِ وَالْبَدْءِ فِي الْعَمَلِ عَلَى مَشَارِيعِي الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمُتَنَوِّعَةِ؛ فَصَنَعْتُ شُمُوعًا، وَكَتَبْتُ مُذَكِّرَاتِي، وَنَحَتُّ أَوَانِيَ لِلطَّعَامِ، وَفَعَلْتُ أَيَّ شَيْءٍ لِيَمْضِيَ الْوَقْتُ.

وَفِي إِحْدَى جَوْلَاتِي، سَعِدْتُ بِاكْتِشَافِي لِشَجَرَةِ الْخَشَبِ الْحَدِيدِيِّ فِي الْغَابَةِ.

قُلْت لِنَفْسِي: «مِثْلُ هَذَا الْخَشَبِ الْقَوِيِّ يُمْكِنُنِي اسْتِخْدَامُهُ لِعَمَلِ مِجْرَافٍ، بَلْ حَتَّى لِعَمَلِ مِسَنٍّ لِلْمُسَاعَدَةِ فِي شَحْذِ أَدَوَاتِي.»

وَكَانَ خَشَبًا قَوِيًّا بِحَقٍّ! اسْتَغْرَقْتُ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً فِي تَقْطِيعِهِ بِفَأْسِي، كَيْ أَقْطَعَ وَلَوْ جُزْءًا صَغِيرًا مِنْ خَشَبِ الشَّجَرَةِ. وَلَكِنَّ الْأَدَوَاتِ الَّتِي صَنَعْتُهَا لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّهْلِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي رَأْيِي، وَأَثْمَرَتْ كُلُّ جُهُودِي الْمُضْنِيَةِ.

انْقَضَى الْوَقْتُ؛ فَفِي غَمْضَةِ عَيْنٍ مَرَّ مَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ وَأَنَا عَلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ حَلَّ الْمَوْسِمُ الْمُمْطِرُ. وَكَانَ الطَّقْسُ يُعْطِينِي إِشَارَاتٍ بِاحْتِمَالِيَّةِ حُلُولِ مَوْسِمٍ مُمْطِرٍ؛ لِذَا قَضَيْتُ وَقْتًا طَوِيلًا فِي الشُّهُورِ السَّابِقَةِ لَهُ مُحَاوِلًا بِنَاءَ غِطَاءٍ أَفْضَلَ لِمَا تُسَمَّى «خَيْمَتِي». وَسُرْعَانَ مَا تَحَوَّلَ الْهَيْكَلُ كُلُّهُ لِيَغْدُوَ بِنَاءً مُلَائِمًا، ذَا جُدْرَانٍ، وَبَابٍ، وَسَقْفٍ جَيِّدٍ مَتِينٍ. وَنَحَتُّ الْأَلْوَاحَ الْخَشَبِيَّةَ لِلسَّقْفِ ثُمَّ اسْتَخْدَمْتُ سَعَفَ النَّخِيلِ كَمَادَةٍ عَازِلَةٍ لِلْمَطَرِ. وَمَعَ هَذَا، فَكَانَ الْمَاءُ لَمْ يَزَلْ يَتَسَرَّبُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَحِينَهَا كُنْتُ أُوثِرُ النَّوْمَ فِي كَهْفِ التَّخْزِينِ!

وِمْنَ يَنَايِرَ حَتَّى أَبْرِيلَ عَمِلْتُ عَلَى تَحْصِينِ سِيَاجِي، فَكُلَّمَا أَصْبَحَ أَقْوَى ازْدَادَ شُعُورِي بِالْأَمَانِ. وَأَضَفْتُ عَدَدًا مِنَ التَّحْسِينَاتِ الْأُخْرَى لِمَنْزِلِي هَذَا الْمَوْسِمَ، وَعَمَّا قَرِيبٍ أَضْحَيْتُ مُسْتَرِيحًا أَيَّمَا رَاحَةٍ، فَأَضَاءَتْ لَيَالِيَّ الشُّمُوعُ، وَكَانَ مَنْزِلِي جَافًّا (فِي مُعْظَمِهِ)، وَلَدَيَّ شيبي لِيَبْقَى بِرِفْقَتِي.

اسْتَيْقَظْتُ ذَاتَ صَبَاحٍ فِي ذَاتِ شَهْرِ أَبْرِيلَ مَشْدُوهًا؛ إِذْ وَجَدْتُ أَنَّ بَعْضَ الْأَطْعِمَةِ التَّالِفَةِ الَّتِي أَلْقَيْتُ بِهَا بَعِيدًا أَنْبَتَتْ، فَكَانَتْ هُنَاكَ سِيقَانٌ خَضْرَاءُ رَائِعَةٌ فِي سَهْلِي. وَفَرِحْتُ بِاكْتِشَافِي أَنَّهَا شَعِيرٌ وَأُرْزٌ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ الْمَحَاصِيلُ صِحِّيَّةً تَمَامًا! وَتَذَكَّرْتُ إِلْقَائِي لِلْحُبُوبِ فِي كَافَّةِ أَرْجَاءِ الْمَكَانِ لِكَيْ أُفْرِغَ الْحَقِيبَةَ، حَيْثُ احْتَجْتُ إِلَيْهَا لِأُخَزِّنَ بِهَا بَارُودِي. وَبِالتَّأْكِيدِ الطَّبِيعَةُ مُذْهِلَةٌ! فَمَا كُنْتُ لِأَتَوَقَّعَ أَبَدًا أَنْ يَنْمُوَ طَعَامُ الدَّجَاجِ فِي مَرْجِي الْأَمَامِيِّ، وَلَكِنِّي فِي غَايَةِ السَّعَادَةِ الْآنَ بَعْدَ وُجُودِهِ.

وَبِالتَّأْكِيدِ، كَانَ شَهْرُ أَبْرِيلَ مَلِيئًا بِالْمُفَاجَآتِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ جَمِيعُهَا سَارَّةً. فَذَاتَ يَوْمٍ، بَينَمَا كُنْتُ فِي كَهْفِي أُصَنِّفُ مُؤَنِي، بَدَأَتِ الْأَرْضُ تَحْتَ قَدَمَيَّ فِي الِاهْتِزَازِ. وَكَانَ هُنَاكَ صَوْتُ تَصَدُّعٍ عَالٍ، وَبَدَأَتِ الْأَحْجَارُ فِي التَّسَاقُطِ مِنْ حَوْلِي، وَكُنْتُ مَرْعُوبًا وَجَرَيْتُ إِلَى الْخَارِجِ بِسُرْعَةٍ. وَاهْتَزَّتِ الْأَرْضُ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً. وَمِثْلَمَا بَدَأَ سَرِيعًا، انْتَهَى سَرِيعًا. زِلْزَالٌ! قَرَأْتُ عَنْهُ فِي صِبَايَ، لَكِنَّنِي لَمْ أَشْهَدْ أَيَّ زِلْزَالٍ فِي حَيَاتِي قَطُّ.

فَكَّرْتُ: «حَسَنًا، أَتَمَنَّى أَلَّا يَحْدُثَ مِثْلُ هَذَا ثَانِيَةً أَبَدًا.» وَعُدْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَأَزَحْتُ الصُّخُورَ مِنْ كَهْفِ التَّخْزِينِ.

وَبِالرُّغْمِ مِنْ تَرَاجُعِ الْأَمْطَارِ بِحُلُولِ مَايُو، تَبِعَتِ الزِّلْزَالَ عَاصِفَةٌ عَاتِيَةٌ. وَفِي الصَّبَاحِ التَّالِي لِانْتِهَائِهَا، سِرْتُ فِي جَوْلَتِي الْمُعْتَادَةِ هَابِطًا نَحْوَ الشَّاطِئِ، وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَا عَلَى الشَّاطِئِ، وَلَمْ يَبْدُ كَأَعْشَابٍ بَحْرِيَّةٍ أَوْ أَخْشَابٍ طَافِيَةٍ مِمَّا اعْتَدْتُ رُؤْيَتَهُ هُنَاكَ بِالْأَسْفَلِ.

فَقُلْتُ بِصَوْتٍ عَالٍ بَيْنَمَا سِرْتُ نَحْوَ هَذَا الشَّيْءِ كَيْ أَرَاهُ عَنْ قُرْبٍ: «مَا هَذَا؟ عجبًا، إِنَّهَا السَّفِينَةُ!»

قَضَيْتُ النَّهَارَ فِي تَجْمِيعِ كُلِّ أَجْزَائِهَا وَحَمْلِهَا بَعِيدًا أَعْلَى الشَّاطِئِ. وَانْجَرَفَ بِرْمِيلٌ آخَرُ مِنَ الْبَارُودِ إِلَى الشَّاطِئِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمِيَاهَ كَانَتْ قَدْ أَفْسَدَتْهُ. وَبَدَلًا مِنَ الْعَوْدَةِ لِمَنْزِلِي لِأَنْعَمَ بِغَفْوَتِي الْمُعْتَادَةِ، قَضَيْتُ بَاقِيَ الْيَوْمِ فِي مُحَاوَلَةِ إِعَادَةِ بِنَاءِ السَّفِينَةِ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمَلٌ. وَمَعَ ذَلِكَ، قَرَّرْتُ الِاحْتِفَاظَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَحَسْبُ، فَرُبَّمَا يُمْكِنُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهَا. وَاسْتَغْرَقَ مِنِّي تَفْكِيكُ السَّفِينَةِ بِالْكَامِلِ قُرَابَةَ الشَّهْرِ. وَبِحُلُولِ مُنْتَصَفِ يُونْيُو، كَانَتْ مُفَكَّكَةً لِأَجْزَاءَ، وَأَخْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّاطِئِ؛ فَلَا يُمْكِنُكَ التَّخَلِّي عَنِ الْحَذَرِ.

عَلَّمَتْنِيَ الْحَيَاةُ عَلَى الْجَزِيرَةِ عِدَّةَ دُرُوسٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَوَّلُهَا مَا حَدَثَ فِي ذَاتِ شَهْرِ يُونْيُو. وَنَظَرًا لِأَنِّي كُنْتُ أَقْضِي وَقْتًا طَوِيلًا فِي الْأَسْفَلِ بِجِوَارِ الْمَاءِ كَيْ أُفَكِّكَ السَّفِينَةَ، فَكُنْتُ هُنَاكَ حِينَ رَأَيْتُ سُلَحْفَاةً، وَتَحَمَّسْتُ. فَبَعْدَ شُهُورٍ مِنْ أَكْلِ الْحَمَامِ وَالْمَاعِزِ، سَتَكُونُ السُّلَحْفَاةُ تَغْيِيرًا مُحَبَّبًا إِلَى النَّفْسِ. وَتَنَاوَلْتُ عَشَاءً شَهِيًّا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ.

وَبَعْدَ مُرُورِ أَيَّامٍ وَأَيَّامٍ، مَرِضْتُ لِدَرَجَةٍ مُمِيتَةٍ. فَكُنْتُ مَحْمُومًا وَأَصَابَتْنِي تَقَلُّصَاتٌ رَهِيبَةٌ فِي مَعِدَتِي، فَتَاهَ عَقْلِي وَأَخَذْتُ أَتَقَلَّبُ فِي فِرَاشِي، وَطَارَدَتْ لَيَالِيَّ الْأَحْلَامُ الْمُرِيعَةُ، فَبَكَيْتُ وَبَكَيْتُ، مُشْتَاقًا لِأُمِّي وَأَبِي، وَلَعَنْتُ قَرَارِي لِلذَّهَابِ لِلْبَحْرِ، وَلَعَنْتُ هَجْرِي لِمَزْرَعَتِي. وَلَكِنَّ الْأَهَمَّ أَنِّي لَعَنْتُ الظُّرُوفَ الَّتِي أَلْقَتْ بِي فِي جَزِيرَةِ الْيَأْسِ تِلْكَ.

بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى الْأَمْرُ، وَتَرَكَنِيَ الْمَرَضُ شَاعِرًا بِالِاضْطِرَابِ وَالضِّيقِ. لِمَ حَدَثَ لِي كُلُّ هَذَا؟ وَكَيْفَ سَأَنْجُو مِنْ هَذِهِ المِحْنَةِ؟ وَلِكَمْ مِنَ الْوَقْتِ سَأَبْقَى هُنَا؟ وَهَلْ سَيَأْتِي أَحَدٌ لِإِنْقَاذِي؟ كَانَ جِسْمِي فِي غَايَةِ الْوَهَنِ، وَلَمْ أَسْتَعِدْ قُوَّتِي عَلَى مَدَى الْعَدِيدِ وَالْعَدِيدِ مِنَ الْأَسَابِيعِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤