الفصل الثالث

عَاصِفَةٌ عَاتِيَةٌ

فِي يَوْمِنَا السَّادِسِ فِي الْبَحْرِ، اضْطُرِرْنَا أَنْ نَرْسُوَ فِي يارماوث بِسَبِبِ الرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي تَهُبُّ فِي الِاتِّجَاهِ الَمُعَاكِسِ. وَكَانَ هُنَاكَ سُفُنٌ عَدِيدَةٌ مُنْتَظِرَةٌ بِالْمِثْلِ.

وَبَعْدَ قُرَابَةِ أُسْبُوعٍ، هَبَّتِ الرِّيَاحُ أَخِيرًا فِي الِاتِّجَاهِ الْمُوَاتِي سلَنَا، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ شَدِيدَةً لِلْغَايَةِ، وَاعْتَقَدَ وَالِدُ جون — الْقُبْطَانُ — أَنَّهُ لَا بَأْسَ فِي أَنْ نُبْحِرَ، لَكِنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِرَأْيِهِ.

شَرَعَ الْعُمَّالُ جَمِيعُهُمْ فِي إِنْزَالِ الْأَشْرِعَةِ الْعَالِيَةِ مِنَ الصَّوَارِي الْعُلْيَا، وَبَذَل أَفْرَادُ الطَّاقَمِ قُصَارَى جُهْدِهِمْ لِيَتَأَكَّدُوا مِنْ تَأْمِينِ الْحَمُولَةِ وَالْمُعَدَّاتِ وَرَصِّهَا عَلَى سَطْحِ السَّفِينَةِ، فَلَمْ نُرِدْ أَنْ يَطِيرَ أَيُّ شَيْءٍ بفعل الرِّيَاحِ. وَتَأَكَّدَ أَفْرَادُ الطَّاقَمِ أَنَّ السَّفِينَةَ سَتَسِيرُ بِسَلَاسَةٍ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ فَوْقَ الْأَمْوَاجِ.

بَدَأْنَا رِحْلَتَنَا بَاكِرًا ذَلِكَ الصَّبَاحَ، وَبِحُلُولِ الظَّهِيرَةِ انْقَلَبَ الْبَحْرُ ضِدَّنَا. كَانَتْ عَاصِفَةٌ عَظِيمَةٌ وَمُخِيفَةٌ. رَأَيْتُ الرُّعْبَ وَالذُّهُولَ فِي أَعْيُنِ أَفْرَادِ الطَّاقَمِ، وَظَلَّ وَالِدُ جون يَرُوحُ وَيَجِيءُ مِنْ وَإِلَى حُجْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يُغَمْغِمُ قَائِلًا: «سَنَضِيعُ كُلُّنَا.»

لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَ مَدَى فَزَعِي؛ تَمَايَلَتِ السَّفِينَةُ تَمَايُلًا شَدِيدًا وَهِيَ تَجْرِي بِنَا فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ. وَكُلَّ بِضْعِ دَقَائِقَ تَرْتَطِمُ مَوْجَةٌ جَدِيدَةٌ بِالسَّفِينَةِ، وَلَطَمَتِ الْأَمْوَاجُ الْعَنِيفَةُ سُفُنًا أُخْرَى عَدِيدَةً مِنْ حَوْلِنَا.

كُنْتُ أَرْقُبُ الْبَحَّارَةَ الْآخَرِينَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ بِجِدٍّ عَلَى إِنْزَالِ صَوَارِيهِمْ كَيْ لَا تَجْرِفَهَا الرِّيَاحُ، فَإِذَا أُنْزِلَتِ الصَّوَارِي سَاعَدَ ذَلِكَ فِي مَنْعِ الْأَمْوَاجِ مِنْ دَفْعِ السَّفِينَةِ إِلَى تَحْتِ الْمَاءِ. وَفِي الْبِدَايَةِ، تَرَدَّدَ الْقُبْطَانُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَمُولَتَنَا مِنَ الْبَضَائِعِ كَانَتْ ثَقِيلَةً، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَنْعَدِمَ تَوَازُنُنَا. بَعْدَ ذَلِكَ، ازْدَادَ الْبَحْرُ اضْطِرَابًا وَازْدَادَتِ الْعَاصِفَةُ عُتُوًّا.

وَسُرْعَانَ مَا اقْتَنَعَ الْقُبْطَانُ، فَصَاحَ: «نَكِّسُوا الْأَشْرِعَةَ! أَنْزِلُوهَا مَعَ الصَّوَارِي! بِسُرْعَةٍ يَا شَبَابُ، وَإِلَّا سَنَضِيعُ كُلُّنَا!» وَدَعَوْنَا، لَعَلَّ مَا فَعَلْنَاهُ يَكُونُ جَدِيرًا بِإِنْقَاذِ أَرْوَاحِنَا. وَكَانَتْ سُفُنٌ أُخْرَى عَدِيدَةٌ لَا زَالَتْ تُوَاجِهُ الصِّعَابَ فِي الْعَاصِفَةِ، بَيْنَمَا غَرِقَتْ بِالْفِعْلِ إِحْدَى السُّفُنِ الَّتِي كَانَتْ تَتَقَدَّمُنَا حِينَهَا.

كَانَ الْأَسْوَأُ فِي انْتِظَارِنَا. تَجَمَّعَ الرِّجَالُ بِالْقُرْبِ مِنِّي فِي الْحُجْرَةِ قَائِلِينَ إِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا عَاصِفَةً مِثْلَ هَذِهِ قَطُّ. فَدَعَوُا اللهَ أَنْ يُنَجِّيَهُمْ، وَرَجَوْهُ أَنْ يُنْقِذَهُمْ. لَكِنَّ الْعَاصِفَةَ لَمْ تَرْفُقْ بِهِمْ، حَتَّى الْقُبْطَانُ ظَنَّ أَنَّ الْمَكَانَ الْوَحِيدَ الَّذِي قَدْ نَرْسُو فِيهِ هُوَ قَاعُ الْبَحْرِ.

وَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي اعْتَقَدْنَا فِيهَا أَنَّ الْأُمُورَ وَصَلَتْ لِأَسْوَأِ حَدٍّ، جَاءَ رَجُلٌ مُهَرْوِلًا مِنْ أَسْفَلَ وَصَاحَ أَنَّ سَفِينَتَنَا قَدْ أَصَابَهَا خَرْقٌ، وَأَنَّ ارْتِفَاعَ المِيَاهِ فِي مَخْزَنِ السَّفِينَةِ بَلَغَ أَرْبَعَ أَقْدَامٍ! اسْتُدْعِيَ الْعُمَّالُ جَمِيعُهُمْ إِلَى أَسْفَلِ سَطْحِ السَّفِينَةِ لِتَفْرِيغِ الْمَاءِ، فَنَزَلْتُ إِلَى أَسْفَلَ وَبَذَلْتُ قُصَارَى جُهْدِي.

بَدَتِ الْمِيَاهُ كَأَنَّهَا هِيَ الطَّرَفُ الْفَائِزُ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَمَعَ أَنَّ الْعَاصِفَةَ هَدَأَتْ قَلِيلًا، إِلَّا أَنَّ الْمَخْزَنَ ظَلَّ مُمْتَلِئًا بِالْمِيَاهِ. وَأَدْرَكَ الْقُبْطَانُ أَنَّنَا لَنْ نَبْلُغَ الْمِينَاءَ التَّالِيَ أَبَدًا، فَأَمَرَ أَفْرَادَ الطَّاقَمِ بِالْبَدْءِ فِي إِطْلَاقِ مَدَافِعِنَا لِطَلَبِ النَّجْدَةِ.

سَمِعْتُ أَحَدَ الْبَحَّارَةِ يَصِيحُ: «انْتَظِرُوا! هَا قَدْ أَتَى قَارِبُ إِنْقَاذٍ!» وَلَكِنَّ الْأَمْوَاجَ جَعَلَتْ وُصُولَ الْقَارِبِ إِلَيْنَا شِبْهَ مُسْتَحِيلٍ. وَكَانَتْ أَمَامَنَا فُرْصَةٌ وَاحِدَةٌ: أَنْ نَقْذِفَ إِلَيْهِمْ بِحَبْلٍ، حَتَّى نَظَلَّ عَلَى قَدْرٍ مِنَ الثَّبَاتِ يُتِيحُ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِمْ. فَرَاقَبْنَا جَمِيعًا نَائِبَ الْقُبْطَانِ وَهُوَ يُلْقِي الْحَبْلَ بِحِرْصٍ بِاتِّجَاهِ الْبَحْرِ الْمُمْتَدِّ، وَيَا لَهُ مِنْ حَظٍّ! فقَدْ أَمْسَكُوا بِالْحَبْلِ! وَتَدَافَعْنَا نَتَزَاحَمُ بِالْمَنَاكِبِ لِنَعْلُوَ إِلَى سَطْحِ الْقَارِبِ.

مَعَ كُلِّ مَرَّةٍ يَصِلُ فِيهَا قَارِبُ الْإِنْقَاذِ الصَّغِيرُ إِلَى ذِرْوَةِ مَوْجَةٍ، كُنْتُ أَخْشَى عَلَى حَيَاتِي؛ إِذْ كَانَتِ الْأَمْوَاجُ عَالِيَةً جِدًّا! وَكُنَّا نَحْنُ صِغَارَ الْحَجْمِ جِدًّا! وَاسْتَمَرَّ الرِّجَالُ الشُّجْعَانُ فِي التَّجْدِيفِ، فَقَدْ حَمَلُوا أَرْوَاحَهُمْ عَلَى أَكُفِّهِمْ لِمُسَاعَدَتِنَا، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى إِنْقَاذِنَا.

وَبَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ دَقِيقَةً فَقَطْ مِنْ إِنْقَاذِنَا، شَاهَدْنَا سَفِينَتَنَا — وَالرُّعْبُ مِلْءُ قُلُوبِنَا — وَهِيَ تَنْقَلِبُ وَتَغُوصُ فِي الْعُمْقِ. وَبَعْدَمَا ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَنْتَظِرُ دَهْرًا كَامِلًا حَتَّى أَرَى الشَّاطِئَ، تَمَكَّنْتُ أَخِيرًا مِنْ رُؤْيَتِهِ، حَيْثُ يَعْدُو رِجَالٌ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ مُنْتَظِرِينَ وُصُولَنَا، وَمُحَاوِلِينَ الْمُسَاعَدَةَ إِنْ أَمَكَنَهُمْ ذَلِكَ.

رَسَوْنَا بِأَمَانٍ! وَانْطَلَقَتْ صَيْحَاتُ الْمَرَحِ وَالتَّهْلِيلِ لَحْظَةَ اصْطِدَامِ الْقَارِبِ بِالشَّاطِئِ الرَّمْلِيِّ. وَأَلْقَى رِجَالٌ حَوْلَنَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِالْبَطَاطِينِ عَلَيْنَا كَيْ لَا نَشْعُرَ بِالْبَرْدِ. وَشَكَرَ قُبْطَانُنَا الرِّجَالَ الشُّجْعَانَ الَّذِينَ أَنْقَذُونَا شُكْرًا حَارًّا.

سَارَ طَاقَمُنَا كُلُّهُ بِبُطْءٍ عَائِدًا إِلَى يارماوث، وَرُوحُنَا الْمَعْنَوِيَّةُ فِي الحَضِيضِ لِأَنَّنَا فَقَدْنَا سَفِينَتَنَا. وَلَكِنَّ طِيبَةَ النَّاسِ فِي يارماوث كَانَ لَهَا دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي التَّخْفِيفِ عَنَّا، فَقَدْ دَبَّرَ الْقَاضِي الْمَحَلِّيُّ سَرِيرًا دَافِئًا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَّا لِقَضَاءِ اللَّيْلِ، وَكَانَ الْعَدِيدُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَتَاجِرِ طَيِّبِينَ، حَتَّى إِنَّهُمْ سَاعَدُونَا فِي الْعَوْدَةِ إِلَى لَنْدَنَ أَوْ هَال.

رَاوَغَنِي شَيْءٌ مِنَ الْحَنِينِ لِلْعَوْدَةِ إِلَى هال، وَمِنْ هُنَاكَ كَانَ يُمْكِنُنِي السَّفَرُ إِلَى يورك لِأَرَى وَالِدَيَّ، لَكِنَّ عَاطِفَتِي الْكُبْرَى كَانَتْ لَا تَزَالُ مُنْجَرِفَةً نَحْوَ خَوْضِ مُغَامَرَةٍ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْسِمَ أَمْرِي: هَلْ يَنْبَغِي لِي الْبَقَاءُ فِي يارماوث وَالْعُثُورُ عَلَى سَفِينَةٍ جَدِيدَةٍ؟ أَمْ عَلَيَّ الْعَوْدَةُ إِلَى الْوَطَنِ؟

فِي يَوْمِيَ الثَّالِثِ فِي يارماوث، الْتَقَيْتُ صَدِيقِي جون صُدْفَةً وَهُوَ يَسِيرُ مَعَ وَالِدِهِ، وَبَدَا عَلَى كِلَيْهِمَا الضِّيقُ وَالِانْزِعَاجُ.

قَالَ جون: «أَبِي، هَذَا هُوَ روبنسون. أَتَذْكُرُ أَنَّنِي أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ صَاحَبَنَا لِيَعِيشَ حَيَاةَ الْبَحَّارِ. إِنَّهُ يَرْغَبُ فِي أَنْ يُمْضِيَ حَيَاتَهُ فِي الْبَحْرِ.»

نَظَرَ إِلَيَّ الْقُبْطَانُ بِتَأَمُّلٍ وَقَالَ: «روبنسون، اعْتَبِرْ هَذِهِ إِشَارَةً، وَعُدْ إِلَى بَلَدِكَ، فَحَيَاةُ الْبَحْرِ لَيْسَتْ لَكَ.»

سَأَلْتُهُ: «لَكِنْ يَا سَيِّدِي، هَلْ غَيَّرَتْ فِكْرَكَ هَذِهِ الْعَاصِفَةُ بِالْمِثْلِ؟ هَلْ سَتَتَوَقَّفُ عَنِ الْإِبْحَارِ بِسَبَبِهَا؟»

أَجَابَ الْقُبْطَانُ: «إِنَّ حَيَاتِي مُخْتَلِفَةٌ؛ هَذِهِ هِيَ مِهْنَتِي، وَمِنْ وَاجِبِي أَنْ أَعْمَلَ بَحَّارًا. أَمَّا أَنْتَ، فَمَا حَدَثَ كَانَ تَجْرِبَةً أَوِ اخْتِبَارًا، وَفِي الْحَالَتَيْنِ لَمْ يُحَالِفْكَ التَّوْفِيقُ. فَلَوْ أَصْرَرْتَ عَلَى حَيَاةِ الْبَحْرِ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ مَا قَدْ يَحْدُثُ لَكَ.»

تَحَدَّثَ الْقُبْطَانُ بِجِدِّيَّةٍ عَنِ الْحَظِّ الطَّيِّبِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّنِي أُدَاعِبُ الْمَوْتَ بِاسْتِمْرَارِي فِي السَّيْرِ وَرَاءَ أَحْلَامِي. وَانْجَرَفَ بِكَلَامِهِ بَعِيدًا حَتَّى قَالَ إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ النَّحْسِ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ فِعْلِي!

وَكَانَتْ آخِرُ كَلِمَاتٍ قَالَهَا لِي: «روبنسون، يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَأَكَّدَ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ إِذَا تَجَاهَلْتَ رَغَبَاتِ وَالِدِكَ، فَسَوْفَ تَلْقَى خَيْبَةَ الْأَمَلِ وَالنَّكَبَاتِ.»

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي وَسِرْتُ مُبْتَعِدًا. وَلَمْ أَرَ جون أَوْ وَالِدَهُ قَطُّ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ. وَبَيْنَمَا كُنْتُ أَسِيرُ، فَكَّرْتُ مَلِيًّا فِيمَا قَالَهُ: فَمَاذَا إِنْ كَانَتِ الْعَاصِفَةُ إِشَارَةً؟ مَاذَا لَوْ كَانَتْ تَعْنِي أَنَّنِي لَا يَنْبَغِي لِي مُطْلَقًا أَنْ أَصِيرَ بَحَّارًا؟

وَقُلْتُ لِنَفْسِي: «رُبَّمَا يَنْبَغِي لِي الِاكْتِفَاءُ بِإِحْصَاءِ النِّعَمِ الَّتِي أَمْلِكُهَا وَالْعَوْدَةُ لِبَلَدِي. فَمَاذَا لَوْ كَانَ عَلَى صَوَابٍ وَتُلَاحِقُنِي لَعْنَةٌ؟» لَكِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعِ الْعَوْدَةَ لِلْبَيْتِ مُجَرْجِرًا أَذْيَالَ الْفَشَلِ، فَلَنْ يَفْخَرَ بِي أَبِي أَبَدًا. لِذَا ابْتَلَعْتُ شُكُوكِي وَسَافَرْتُ إِلَى لَنْدَنَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤