الفصل السابع

خائف بل غير خائف

الرهاب والوساوس

«ورأيت أن كل ما كنت أخشاه وكل ما كان يخيفني لم يكن هو في ذاته حسنًا أو سيئًا. إنما كان كذلك بحسب ما كان العقل يراه ويتأثر به.»

سبينوزا

كان يحس بأن موجة من الدوار تغشاه، وظن أنه على شفا الإغماء. فجهد أن يحتفظ بقبضته على وعيه. وداخله في نفس الوقت شعور بالغرابة والغربة؛ كأنه ليس هو! كان بطنه موجوعًا كأنه يريد أن ينفجر. والغثيان يكاد يسلمه للقيء. كان بوسعه أن يُحس بنبضه يتدافع وبقلبه يخبط جدار صدره. حاول أن يأخذ نفسًا عميقًا فما استطاع. وبينما كان فمه جافًّا يابسًا بدرجة مزعجة، كان سائر جسده ينضح عرقًا. يداه ترتعشان رغمًا عنه وجسده يترنح، حاول أن يتكلم ولكن الكلمات لم تطاوعه غير جَمجمة ضئيلة لا تبين. كانت الفكرة الرئيسية التي تعتلج في صدره هي أنه مشرِف على الموت.

هذه الصورة توحي بشخص في حالة طارئة. وهي تحتمل أن يكون هذا الشخص نهب مرض حاد؛ نوبة قلبية أو التهاب حاد بالزائدة الدودية، وتحتمل أيضًا أن يكون هذا الشخص قد حلت به كارثة خارجية فهو منها في قلق غامر.

الحق أنه مريض بالرهاب، أقحمته الظروف في موقف دأب أن يرتاع منه دون مبرر. إن كشف هذه البنية وحل خيوط هذه الاستجابة الفادحة بإزاء موقف مأمون نسبيًّا هو شيء مثير في حد ذاته. فضلًا عن أنه يلقي مزيدًا من الضوء على تعقد السلوك الإنساني وتركُّبه.

عندما سادت (موضة) تقسيم الرهابات بحسب الشيء أو الموقف المرهوب، نحت لها الأطباء المثقفون مائة وسبعة من الأسماء على الأقل (Terhune, 1949)، بين أكثرها غرابة: رهاب القطط ailurophobia، رهاب الأزهار anthophobia، رهاب البرق astraphobia، رهاب الرعد brontophobia، رهاب القذَر أو الجراثيم mysophobia، رهاب الظلام nyctophobia، رهاب الثعابين ophidiophobia. وقد أخذت هذه الأشياء والموضوعات المرتبطة بالمواقف الرهابية تتغير من حقبة إلى أخرى بنفس الطريقة التي تغير بها محتوى الضلالات الفكرية delusions. ففي القرن السادس عشر مثلًا تركزت الرهابات حول العفاريت demonophobia والشيطان Satanophobia. وعندما كان الزهري همًّا شائعًا في النصف الأول من القرن العشرين كان كثير من الناس يتجنبون الأشياء الوسخة والسلام بالأيدي وما إلى ذلك خشية التقاط المرض، رغم علمهم أنه لا ينتقل إلا بالاتصال الجنسي.

يبرهن هذا التكاثر في أسماء الرهابات على أنه لا حدَّ لأصناف المخلوقات والأشياء والمواقف التي يمكن أن تثير قلقًا زائدًا في غير محله. فمع تقدم التكنولوجيا مثلًا ظهرت رهابات جديدة لا عهد للأقدمين بها مثل قيادة السيارة في الأنفاق ومثل رهاب المصاعد، ومثل الخوف من النشاط الإشعاعي المنبعث من ميناء ساعات اليد.

بديهي أن ليس كل خوف رهابًا. فالحق أن بيئتنا تعج بأشياء هي مصدر خطر حقيقي على الصحة وعلى الحياة. إن الناس لتلقي حتفها كل يوم في الحوادث — السقوط من علٍ، تصادم السيارات، الحرائق، الانفجارات — وتعتل أو تموت بالأمراض المعدية. ومن العسير أن نتهم شخصًا بالعصابية حين يتجنب مناطق الانفجارات أو شرَك النار أو الأسلاك الكهربائية المكشوفة أو العقاقير السامة أو مرض الدرن أو الأسلحة المشحونة بالذخيرة. إن الذي يخشى السباحة في بحر هائج أو شُرب ماء ملوث أو السير ليلًا في مناطق موبوءة بالجريمة ليس عصابيًّا أو هيَّابًا،ُ بل إننا قد نغبطه ونطريه لتعقُّله وحصافته.

كيف نفرِّق، والحال على هذا الشكل من مخاطر حقيقية ومخاوف متفشية، بين الخوف السويِّ والرهاب؟ يقدم لنا أحد المعاجم القياسية للمصطلحات النفسية تعريفًا مفيدًا للرهاب: «فالرهاب هو الخوف الزائد الدائم من صنف معين من الأشياء أو المواقف على غير أساس صحيح أو دون أساس مقبول من جانب الشخص الذي يعاني من هذا الخوف.» (English and English, 1958). فالخوف القائم على مجرد الجهل لا يصح تصنيفه كرهاب. فقد يرتاب الشخص مثلًا ويحترس من الحيوانات العجيبة الضخمة أو المعدات الميكانيكية الغريبة. يعتبر بولبي Bowlby (١٩٧٠م) الخوف من المجهول أو غير المألوف «خوفًا طبيعيًّا».

من المكونات الهامة للرهاب تلك الرغبة الملحة في تجنب الموقف الرهابي، وتراكم القلق المفرط إذا اقترب الشخص من الموقف، مصحوبًا بالرغبة في الهرب والابتعاد. وكثيرًا ما يتمكن الشخص من تجنب موضوع رهابه والعيش في هدوء نسبي، رغم ما يورثه ذلك من متاعب كبيرة وتضييق في نطاق حياته. وجدير بالملاحظة أن الشخص رغم اعترافه الصريح بلامعقولية رهابه فهو لا يملك أن يزيل هذا الخوف ولا أن يمحو تلك الرغبة في تجنب الموقف الرهابي.

يمكننا أن نعرِّف الرهاب تعريفًا أكثر شمولًا من تعريف المعجم فنقول: «إنه الخوف من موقفٍ ما خوفًا هو، بإجماع الناس وبتقييم الشخص نفسه وهو بعيد عنه، لا يتناسب مع احتمال أو درجة الضرر الكامن في هذا الموقف.» الرهابي بالتالي يعاني من قلق زائد في مثل هذه المواقف ويميل إلى تجنبها. وهو إذ يفعل ذلك يضيِّق حياته تضييقًا شديدًا.

عندما يرغم المريض نفسه (أو تُضطره الظروف) أن يتعرض للموقف الرهابي، فقد تلمُّ به أعراض نوبة قلق حاد: قلق شديد، تنفس سريع، خفقان القلب، آلام بالبطن، صعوبة في التركيز والتذكر. على أن بعض المرضى يجدون كربهم أخف مما كانوا يتوقعون ولا يتناسب بحال مع درجة خشيتهم وتجنبهم، فهو أشبه بشعور «زاحف» مُنمِل قريب مما يحسه بعض الناس في وجود الحشرات. ورغم رد فعلهم الملطَّف نسبيًّا حيال الموقف الرهابي فقد تبقى لديهم رغبة شديدة في تجنبه. من الواضح إذَن أن الخبرة لا تروِّض الخوف المسرف ولا تخفف النزوع الشديد إلى التجنب عند مرضى الرهاب.

مشكلة «الخوف الموضوعي»

يصعب علينا أحيانًا أن نرسم خطًّا فاصلًا بين الخوف الواقعي والرهاب. ففي بعض الأحيان يعاني المرء من رد فعل معطِّل تجاه خطر موضوعي قائم. مثل ذلك الطيار الذي يتخطَّفه القلق في إحدى الطلعات القتالية. ومثل عامل الجسور المتمرس الذي يغشاه قلق مقعد وهو يقترب من الجسر. ولكن تأمل، في المقابل، شخصًا يصيبه مثل ذلك وهو يستقل ترامًا إلى عمله، وبالتالي يفترض خطرًا أعظم في أن يقود سيارته على طريق حرٍّ ذي معدل عالٍ للحوادث. من الأيسر كثيرًا أن نقرر أن هذا الشخص يعاني رهابًا — هو رهاب الترام. فكلما علا القلق والعجز بالمقارنة بالخطر الحقيقي ساغ لنا أن نستخدم مصطلح «الرهاب». وبإمكاننا أن نشخص «الرهاب» على الفور إذا كان مضمون الخوف بعيد الاحتمال؛ شأن ذلك الشخص الذي يتجنب كل الأنشطة الخلوية خوفًا من العواصف المكهربة المفاجئة، وتلك المرأة التي تتجنب الأنفاق والحافلات (الباصات) خوفًا من الاختناق.

يملك كثير من الناس قدرة خاصة على تخفيف أو إخماد الخوف في مواقف واضحة الخطورة. فكلنا يعرف ذلك الهدوء النسبي الذي يتحلى به المتخصصون في الأعمال الخطرة: بهلوانات المشي على الحبال، مدربو الأسود، مصلحو المداخن، متسلقو الجبال. وتشير دراسات تجريبية إلى أن رياضيي المظلات يخفضون من قلقهم كلما ازداد تمرسهم ونمت خبرتهم (Epstein, 1972). كذلك يعاني الجنود المحنكون في ميدان القتال قلقًا أقل مما يعانيه المجندون الجدد. بإمكان المعالجين النفسيين في الغالب أن يطبقوا نفس المبادئ التي تحكم تكيُّف الناس بالمواقف الشديدة الخطورة كي يساعدوا مرضاهم المروَّعين بأشياء ومواقف هينة العواقب محدودة الخطر.

في الممارسة الإكلينيكية تكون الرهابات عادة من الوضوح والتحدد بحيث لا تحتاج إلى أي جهد لتمييزها عن المخاوف «المخاوف السوية». ففي معظم الحالات يلتمس الرهابي العلاج إما لأنه يدرك أنه يعاني ويألم من مواقف لا ينزعج لها غيره من الناس، أو لأنه لم يَعُد يحتمل ذلك التقييد الذي يفرضه على حياته تجنب مثل هذه المواقف. وقد تداهم المريض أعراض مؤلمة حين تجدُّ ظروف حياتية تفرض عليه مواقف كان باستطاعته تجنبها في السابق؛ مثل طالب الطب الذي يرهب منظر الدم حين يكون عليه أن يشهد عملية جراحية.

نعلم كذلك من ممارستنا الإكلينيكية أن الرهابي الذي تروعه مواقف معينة قد يكون ثابتًا ورابط الجأش تمامًا في مواقف أخرى تسبب لغيره قلقًا شديدًا. فهذا على سبيل المثال مريض لم يكن يهتز له جفن حين يلقي كلمة في حشد عام وكان يستطيب أن يتحدث إلى عدد كبير من الحضور غير أنه كان يهلع ويرتاع إذا ما زحف عليه صرصور أو حشرة أخرى صغيرة. وكان يتملكه قلق بالغ كلما انفرد في منزله ليلًا خشية أن تهاجمه الحشرات. وقد ألجأه هذا الرهاب إلى طلب العلاج.

النظام الاعتقادي الثنائي

يتضمن التراث الإكلينيكي كثيرًا من التوكيدات والاعتقادات الجازمة التي تشوش فهمنا للرهاب. فمن الصياغات المضللة مثلًا أن نقول إن الرهابي يعلم ويدري أن ليس ثمة خطر. يقول فريدمان Friedman (١٩٥٩م) على سبيل المثال إن الرهاب هو «ذلك الخوف المتعلق بأشياء أو مواقف ليست مصدرًا لخطر موضوعي أو، بتعبير أدق، يعلم الشخص أنها ليست مصدر خطر.» (ص٢٩٣). هذه التوكيدات تجعل الرهاب يلوح أكثر غموضًا مما هو عليه بالفعل. فهل صحيح أنه ليس هناك مصدر خطر في الموقف الرهابي؟ هل صحيح أن المريض حين يكون في الموقف الرهابي بالفعل يكون على قناعة حقيقية بأن ليس ثمة من خطر؟

حين نفحص محتوى الرهاب نجد أن الخوف قلما يكون غريبًا أو منافيًا للعقل. تأمل مثلًا أولئك المرضى الذين يعانون رهابًا من السَّبح في الماء العميق، أو من الأكل في مطاعم غير مألوفة لهم، أو من عبور الجسور، أو من الاجتياز خلال الأنفاق، أو من ركوب المصاعد. هل ينكر أحد أن هناك شيئًا من المخاطرة في كل من هذه المواقف؟ كلنا نعلم أن الناس تغرق بالفعل وأنهم يموتون بالأطعمة الملوثة أو الماء الملوث، وأن الجسور والأنفاق تنهار والمصاعد تتعطل. ثَم خطر لا شك فيه بحيث لا يصح أن ننعت أحدًا بالرهاب إلا إذا كان مغاليًا إلى حد بعيد في تقدير احتمالات الضرر وكان ما يغشاه من كرب لا يتناسب مع الخطر الفعلي.

كذلك يحتمل إلقاء الخطب أو دخول الامتحانات مخاطر الأذى النفسي. إن من حقائق الحياة أن الناس يقسون على زميل لهم يرتبك في حديث عام ويجرحون شعوره. ومن الحق أن الامتحان ينطوي على خطر الرسوب وبالتالي على الرفض والخزي والكرب. كذلك لا تخلو الرهابات المتعلقة بالمواقف التي تحتمل أذًى اجتماعيًّا من عنصر خطر حقيقي.

حين نتمعن في بعض الرهابات الأكثر شيوعًا نجد أن كثيرًا منها يجسد مخاوف منتشرة بين الأطفال في مراحل مختلفة من نموهم. وسوف نرى حين نستعرض نشوء الرهابات أن كثيرًا منها ينتج من مخاوف يشيع وجودها في سن الطفولة. غير أن معظم الأطفال يتعلمون أن يتغلبوا على الخطر المحتمل وبذلك يتخطونه ويتجاوزونه.

ما يزال علينا أن نعلل لبعض ألوان الرهاب التي لا يبدو أنها تنطوي على أي عنصر من الخطر على المريض. مثل ذلك القلق العنيف الذي يعتري البعض لدى رؤية شخص آخر يصاب أو ينزف أو تجرى له عملية جراحية. تسفر هذه المخاوف عن نفسها بين العاملين بالمستشفيات، كالأطباء والممرضات، ممن تدفعهم ظروف عملهم إلى مثل هذه المواقف ولا حيلة لهم في التهرب؛ فتعتريهم الأعراض النموذجية للقلق كما فصَّلناها آنفًا. وإذا كان معظم هؤلاء يتمرسون بتلك المواقف بمرور الزمن ويزدادون ثباتًا وصلابة؛ فإن بعضهم يظل على رهابه مهما تعرض لتلك المواقف.

نجد الإجابة على هذا اللغز إذا لاحظنا أن مثل هذه الرهابات تنطوي على درجة عالية من «تقمص (التوحد مع) الضحية» identification with the victim؛ فعند سؤال المريض تتجلى لنا آلية التقمص (التوحد) واضحةً صريحة: إن بإمكانه أن يستدعي صورة بصرية أو حسية أو شكلًا ما من المعرفة cognition التي تشير إلى أنه يتفاعل مع الحدث كما لو كان هو «الضحية». فهذا طالب طب يشهد عملية جراحية؛ فتتسلط عليه صورة بصرية يرى فيها نفسه على طاولة العمليات (انظر الفصل الثالث). وهذا طبيب مقيم يقوم بعملية بَزل قصِّي (وخز عظم الصدر) sternal puncture لأحد المرضى فيحس ألما في عظم صدره هو. وهذه ممرضة تلاحظ مريضًا ينزف من تهتك laceration بالجلد؛ فتحدث نفسها «ترى ماذا كنت أشعر لو كنت أنا التي تنزف؟» ثم يغشاها الدوار والإغماء (تمامًا كما لو كانت تفقد دمًا).

هناك أشكال أخرى من الرهاب تتعلق بإثارة خيال بصري. فهذا واحد من مرضاي كان يتجنب الذهاب إلى ناحية معينة من المدينة سبق أن وقع له فيها حادث سيارة. وبسؤاله علمت أنه كلما اقترب من تلك المنطقة الجغرافية عاده خيال الحادث القديم واستبد به قلق حاد. وهذه امرأة كان ينخلع قلبها لرؤية القوارب (أو حتى صورة القوارب) وتبيَّن أنها تعاني من رهاب الماء. فكلما صادفت منبهًا (مثيرًا) يذكِّرها بأنها في الماء تراءى لها خيال قوي بأنها تغرق.

تشير تقارير الرهاب إلى سمة هامة يتسم بها المريض، هي أنه يستجيب للموقف الرهابي وفق دراما داخلية. فحين يقترب أحد مرضى رهاب المرتفعات من حافة منحدر تتخطَّفه خيالات السقوط وأفكاره. وربما أحس بجسمه يميل تجاه الحافة. وقد يلاحظ من يراه أنه قد بدأ يترنح.

هنا يبدو لغز الرهاب وقد ازداد عمقًا: فكثيرًا ما يقول المريض حين يكون بعيدًا عن المنبه المخيف «أعرف أنه ليس هناك خطر حقيقي، وأعلم الآن أن خوفي عبث وسخف …» كيف نفسر إذَن هذا التناقض في استجاباته؟

بوسع المريض أن يقدم لنا الإجابة. فليس ما يمنع أن يكون لدى شخص ما تصورات واعتقادات متناقضة تمامًا في ذات الوقت. فحين يكون المريض بعيدًا عن الموقف الرهابي؛ فإنه يعتنق مفهوم السلامة النسبية وقلما يعي أن لديه فكرة الخطر. فإذا ما شارف الموقف الرهابي فإن فكرة الخطر تزداد وتتنامى إلى أن تهيمن تمامًا على تقديره للموقف. إن اعتقاده يتبدل من مفهوم «إنه مأمون» إلى مفهوم «إنه خطِر».

لقد تحققت من هذه الملاحظة مرات عديدة فكنت أطلب من مرضى الرهاب تقدير احتمالات الضرر. فلم أعدَم مريضًا يقدرها بصفر حين يكون بعيدًا عن الموقف الرهابي. فإذا قاربه تغيرت الأرجحية odds١ فإذا هي عشرة بالمائة، ثم خمسون بالمائة، حتى إذا دخل أخيرًا في الموقف الرهابي؛ فربما اعتقد أن الضرر واقع بنسبة مائة بالمائة.

في حالات رهاب الطائرات، كنت أسأل المرضى أن يدونوا احتمالات الخطر المحيق الذي يتوقعونه عندما يكونون بالطائرة. فحين لم تكن لدى المريض نية الطيران في المستقبل المنظور كان يحس أن فرص تحطم الطائرة هي واحد إلى مائة ألف أو واحد إلى مليون. وبمجرد أن عقد النية على السفر جوًّا قفزت احتمالات الحادث في تقديره. وحين اقترب وقت الطيران جعلت الاحتمالات تزداد باستمرار. ولحظة أقلعت الطائرة بلغت فرص الحادث خمسين إلى خمسين. فإذا ما كانت الرحلة وعرة كثيرة المطبات فربما تجاوزت الأرجحية مائة إلى واحد لصالح تحطم الطائرة.

وقد قمت في مناسبات عديدة باصطحاب المرضى إلى المواقف الرهابية (مثل ارتقاء دَرج أو النزول في الماء أو الصعود في مصعد)؛ فأمكنني التحقق من مسألة تزايد توقعات الضرر. ولاحظت أن كثيرًا من المرضى ينتابهم شعور شبيه بما هم متوجسون من حدوثه. فعندما اصطحبتُ امرأة مريضة برهاب المرتفعات إلى قمة أحد التلال وجدت أنها بدأت تشعر بالدوار ثم تترنح ثم أحست كأن قوةً ما تشدها صوب الحافة. وعندما كانت في الطابق الأربعين من إحدى ناطحات السحاب أحست أن الأرض تميل بزاوية حادة. ولازمت امرأة أخرى مصابة برهاب الماء فوجدتها نَهب تخيلٍ بصري لنفسها وهي تغرق رغم أنها لم تكن جاوزت الشاطئ، فأخذت تلهث كأنها تغرق بالفعل. كذلك المريض الذي كان مهمومًا بأن تصيبه نوبة قلبية وهو بعيد عن النجدة الطبية، فكان دائم الإحساس بألم في صدره. تمثل هذه الحالات وأضرابها ظاهرة «التصور الجسدي» somatic imaging التي سوف نعرض لها في الفصل القادم.

ومن الأهمية بمكان أن نعرف أن التعرض الشديد لموقف رهابي أو التعرض المتكرر لعدد من المواقف الرهابية المختلفة قد يُرسِّب حالة عصاب قلق حاد.

إن الميل إلى تبني اعتقادين متضاربين عن موضوع واحد ليتمثل في أوضح صوره في حالات الرهاب. غير أنه يوجد أيضًا في بقية الاضطرابات الانفعالية. ففي هذه الاضطرابات، كما في الرهاب، يكون أحد المفهومين أقرب إلى البدائية واللاواقعية، ويكون المفهوم المضاد أكثر نضجًا وواقعية. وحين يتغلب المفهوم اللاواقعي؛ فإن بقية علامات العصاب، مثل الكرب الانفعالي، تكون حَريَّة بالظهور.

الجوهر الفكري للرهاب

مم يخاف مريض الرهاب على وجه التحقيق؟

لقد دأب المرضى على أن يعنونوا مشكلتهم بحسب المواقف التي تبعث القلق — الأمر الذي أوقع كثيرًا من الكتَّاب في شرَك سيمانتي (دلالي)؛ فافترضوا مثلًا أن المريض إذا قال إنه يخشى الأماكن المزدحمة — دون أن يسألوه المزيد — فذلك يعني أن مصدر خوفه هو الموقف نفسه، أي الأماكن المزدحمة. وإذ تبدو هذه المواقف في الغالب حميدة مأمونة فقد أقام هؤلاء الكتَّاب تفسيرات ملتفة يفسرون بها ذلك الخوف. تلتقي التفسيرات التي قدمها كل من التحليليين psychoanalysts والسلوكيين behaviorists في نقاط عديدة سنعرض لها هنا باختصار.
يؤكد المعالجون السلوكيون أن الرهابي ليس خائفًا من المرتفعات أو المصاعد أو الجياد لخطر داخلي صميم في الموضوع المرهوب. ويقترحون نظرية في الرهاب تقوم على «الإشراط الطارئ» accidental conditioning. يفترض ولبي Wolpe (١٩٦٩م) مثلًا أن كل رهاب إنما ينشأ بالشكل التالي:
  • أولًا: يطرأ حدث مخيف ويولِّد قلقًا. يوجد مثير (منبه) آخر (محايد) إبان، أو قبيل، الحدث المخيف.
  • ثانيًا: يصبح المثير المحايد مرتبطًا بالقلق من خلال هذا التداعي العارض.
  • فيما بعد: يصبح الشخص قلقًا في وجود المثير «المحايد». أي يعاني من رهاب هذا المثير.
يفترض التحليليون أيضًا صلة غير مباشرة بين مصدر الخوف من جهة والمحتوى الخاص للخوف الذي يخبره المريض من جهة أخرى. فالشخص في زعمهم يقوم بإزاحة displacement خوفه الحقيقي إلى موضوع خارجي ما (حميد غير مؤذ). ففي حالات الرهاب كما يقول فرويد (١٩٣٣م) «يكون من السهل جدًّا أن نلاحظ الطريقة التي يتحول بها الخطر الداخلي إلى خطر خارجي.» (ص٨٤). مثال ذلك تلك المرأة التي تكنُّ في نفسها خيالات بغاء لاشعورية. وحيث إن هذه الخيالات المحرمة تثير القلق فإنها تقوم بتحويل (إزاحة) خوفها من أن تصير عاهرة إلى خوف آخر أكثر قبولًا من المجتمع، فتعاني من رهاب الشارع (Snaith, 1968).

لماذا يلجأ الكتَّاب لمثل هذه التفسيرات الملتوية؟ يبدو لي أن ذلك يرجع، في جزء منه، إلى فكرة أن خوف المريض هو من التمحُّل والشطط؛ بحيث يتحتم أن يكون مرتبطًا بشيء آخر أو مستمدًّا من مصدرٍ ما هو الذي يهدد أمنه وقيمه. غير أنك إذا سألت المريض فإن خوفه لا يلبث أن يتضح ولا يعود عبثًا ولامعقولًا إلى هذا الحد. فهذه فتاة مراهقة، على سبيل المثال، راجعت إحدى العيادات النفسية بسبب خوفها من تناول الأطعمة الصلبة. وكان والداها وطبيبها الباطني قد اعتبروا أن خوفها غير معقول ولم يحاولوا التحقق مما تخاف منه بالفعل. ذكرت هذه الفتاة أثناء المناظرة (المقابلة) النفسية أنها تخاف من أن تغص بالطعام حتى الموت. فقد حدث أن غصَّت بقطعة كبيرة من اللحم قبل بضع سنوات فلم تستطع أن تلتقط أنفاسها وظنت أنها ستموت. وصارت بعد هذه الواقعة حساسة بشكل خاص لما يُروى عن أناس غصوا حتى الموت؛ فكان هذا يدعم خوفها ويذكيه. حين ننظر إلى خوفها في هذا السياق يغدو مفهومًا مبرَّرًا ونكون في غنًى عن البحث عن تفسيرات أخرى ملتفة غير مباشرة. ويتبين لنا فضلًا عن ذلك أن مصدر قلقها ليس في تناولها الطعام الصلب بحد ذاته، بل في توقعها للغصة والاختناق.

وعندما نسأل بعناية مرضى الرهابات الأخرى يتضح أيضًا أنهم ليسوا خائفين من موقف معين أو من شيء في حد ذاته، بل من «عواقب» consequences وجودهم في ذلك الموقف أو اتصالهم بذلك الشيء؛ فمريض رهاب المرتفعات يشير إلى أنه خائف من السقوط، ومريض الرهاب الاجتماعي يفيد أنه خائف من أنه سوف يُمتهن أو يُرفض.
هناك عدد لا حصر له من الرهابات المختلفة؛ بحيث يصعب تصنيفها. ويشير عدد من الدراسات الإحصائية للمخاوف والرهابات أثناء الطفولة إلى أنها تنحصر في ثلاث فئات كبرى:
  • (١)
    مخاوف قائمة على أخطار من صنع الإنسان man-made كالخوف من أن يهاجم المرء أو يُختطف أو تُجرى له عملية جراحية.
  • (٢)

    أخطار طبيعية أو خارقة للطبيعة مثل الرعد والبرق والأشباح.

  • (٣)
    مخاوف تعكس ضغوطًا نفسية-اجتماعية مثل الخوف من الامتحانات، والخوف من إغضاب الآخرين، والخوف من الانفصال عن الوالدين (Miller et al., 1972).

وتحتمل الفئة الأولى والثالثة الاستمرار إلى مرحلة الرشد أكثر من الفئة الثانية. ولكي نفي بمقاصدنا الحالية سوف نطلق على توقع الأذى الجسدي أو الموت باسم «المخاوف الجسدية»، وعلى توقع الأذى النفسي (الخزي والإحباط والوحدة والحزن) اسم «المخاوف النفسية-الاجتماعية». آخذين في الاعتبار أن كثيرًا من الرهابات يتضمن عناصر من كلا الصنفين.

بناءً على حالة ٦٠ رُهابيًّا يتلقون العلاج النفسي وعلى دراسة منهجية لمرضى الرهاب قام بها فريقنا البحثي أمكننا أن نحدد خوفًا مركزيًّا معينًا لكل رهاب (Beck and Rush, 1975). جاءت هذه النتائج متمشية مع نتائج باحثين آخرين قاموا بمحاولة تحديد محتوى الخوف من خلال المناظرة الإكلينيكية الشاملة (Feather, 1971). وقد انكشف الجوهر الفكري للرهاب في كل حالة من خلال تقرير المريض نفسه ولم يعتمد على استدلال أو تأمل نظري كشأن النموذج التحليلي.
ثمَّة ملاحظة جديرة بالانتباه. فرغم أن الطبيعة العامة للرهابات الخاصة specific phobias قد تبدو واحدة فإن مكوناتها المركزية تختلف اختلافًا كبيرًا من حالة إلى أخرى. ومهما يكن من أمر تلك الاختلافات؛ فإن من المفيد أن نحدد ضروب المخاوف الأكثر تواترًا في قلب الرهابات الشائعة التي نقابلها في الممارسة الإكلينيكية. إن قائمة الرهابات الخاصة ليست شاملةً بأي حال من الأحوال، ونحن نوردها لكي نوضح الجوهر الفكري للرهابات النموذجية قبل أي غرض آخر.

الخوف من الأماكن المفتوحة Agoraphobia

نحت وستفال Westphal عام ١٨٧٢م مصطلح أجورافوبيا الذي يعني حرفيًّا «الخوف من السوق». في كتابه «الأجورافوبيا» يصف وستفال الأعراض التالية: «… استحالة السير في شوارع أو ميادين معينة وإلا اعتراه قلق مرعب … يزداد الكرب زيادة كبيرة في تلك الساعات التي تكون فيها تلك الشوارع المرهوبة خالية والدكاكين مغلقة … يجد المرضى راحة كبرى في اصطحاب غيرهم أو حتى في اصطحاب أشياء مادية مثل عربة أو عصا.» ويدرج ماركز (Marks, 1969) في هذا الاضطراب العديد من الرهابات كالخوف من الإغماء على الملأ، والخوف من الأماكن المزدحمة، والأماكن المفتوحة الواسعة، وعبور الجسور والشوارع.

وحين تستخبر مريض الأجورافوبيا تجده في أمثل الأحوال يعرب عن خوف من كارثةٍ ما سوف تحيق به وهو بعيد عن مأمن بيته وحيث لا أحد يخفُّ لمساعدته. وبالتالي فهو يرتاح لوجود شخصٍ ما يراه قادرًا على تقديم العون له إذا ما أصابته أزمة جسمية حادة. إنه، بصفة عامة، يزداد خوفًا كلما ابتعد عن مصدر معين للمساعدة الطبية. ويعرب بعض المرضى عن خوفهم من الوحدة الشديدة، وخوفهم من أن يتوهوا، وكأن وجودهم في مكان غريب بمفردهم قد يفصلهم عن أصدقائهم وأسرتهم إلى الأبد. وهناك مرضى يخافون من الشوارع المكتظة بالغرباء، لأنهم يخشون أن يفقدوا سيطرتهم على أنفسهم فيتعرضوا للمهانة الاجتماعية. فقد يخشى المريض أن يغمى عليه أو أن يشرع في الصياح الجنوني أو يتغوط دون إرادة فيكون موضع سخرية. الخوف من فقد السيطرة إذَن متصل بالخوف من الرفض الاجتماعي وممتزج به.

الخوف من المرتفعات Acrophobia

يتجلى هذا الرهاب الشائع عندما يكون المريض في طابق عالٍ من أحد المباني أو عندما يكون على تل أو جبل. ويشكو كثير من هؤلاء المرضى أيضًا من خوفهم من الوجود بالقرب من حافة جسر أو في خطوط الأنفاق. يتعلق الخوف هنا عامة بهاجس السقوط والإصابة الخطيرة أو الموت. فمن المرضى من تتسلط عليه خيالات بصرية تتضمن السقوط وربما أحس جسده بالسقوط وإن تكن قدماه راسختين على الأرض. ومنهم من يتوجس رعبًا من أن تتلبس به رغبة قاهرة شاذة إلى القفز. بل إن البعض ليشعر بقوة خارجية تجذبه إلى حافة المرتفع. هذا الإحساس بالسقوط أو الانزلاق والتردِّي هو مثال من أمثلة «التصور الجسدي» somatic imaging. ويشكو كثير من مرضى رهاب المرتفعات من الدوار. وهذا الدوار قد يكون مظهرًا فسيولوجيًّا للقلق وقد يكون تعبيرًا عن «التصور الجسدي» وشكلًا من أشكاله.

ينضوي الخوف من الشرفات والدرج والسلالم المتحركة تحت رهاب المرتفعات، من حيث إن الخوف فيها هو من السقوط. وغالبًا ما يكون هذا الاحتمال بعيدًا جدًّا لأن هناك حاجزًا واقيًا (درابزين) يؤمِّن سلامة الشخص أو لأنه بعيد عن الإفريز بما يكفي لنفي هذا الاحتمال. من أمثلة ذلك تلك المرأة التي كانت تخاف من السلالم ولا تشعر بأمان إلا إذا بلغت منبسط السلَّم شريطة ألا تكون بقربها نافذة. فإن تصادف وجود نافذة تملَّكها الخوف من السقوط واستبد بها.

الخوف من المصاعد

رغم أن الخوف من المصاعد يبدو هين الأمر نسبيًّا؛ فإنه قد يعيق المرء إعاقة جسيمة في زمننا هذا — زمن الأبراج الإدارية والشقق السكنية. تصل هذه الإعاقة بالبعض إلى حد العجز عن تجاوز عدد معين من الطوابق صعودًا بالمصعد، وإلى حد أن يصبح هذا الخوف هو الذي يملي عليهم اختياراتهم لأماكن عملهم ومعيشتهم وزياراتهم. يتضمن المحتوى الشائع لهذا الرهاب الخوف من انكسار الكابلات وتحطم المصعد. وتتكون لدى الشخص فكرة استقرابية عن عدد الطوابق التي يمثل ارتفاعها خطرًا ويبلغ خوفه الذروة عندما يصل إلى هذه النقطة (الدور الثاني أو الثالث عادة وإن كان البعض ليفزع من مجرد تجاوز الدور الأرضي). ويتركز الخوف عند البعض على احتمال تعطل المصعد بين الأدوار مما يؤدي إلى استحالة فتح الباب وبالتالي إلى انحباسهم وموتهم صبرًا. والبعض يخشى بالأكثر من الاختناق من جراء نقص الهواء. ويغلب على هؤلاء أن يعانوا من رهابات أخرى تنصب على الخوف من نقص الهواء (كالخوف من الأماكن المغلقة والزحام والأنفاق).

وقد يتفق للبعض أن يعاني من خوف جسمي مقرون بخوف اجتماعي شبيه برهاب التجمعات. فقد كان أحد المرضى على سبيل المثال يخشى بالدرجة الأساس من أن يغمى عليه في المصعد ويتعرض بالتالي للحرج، ولم يكن هذا الخوف ينتابه إلا في وجود أشخاص آخرين بالمصعد.

الخوف من الأنفاق

يشبه الخوف من اجتياز الأنفاق سائر ضروب الخوف من الأماكن المغلقة. فهناك خوف من أن يختنق الشخص لنقص الهواء، أو أن ينهار النفق فيدفن حيًّا أو يقتل تحت الأنقاض. هكذا نرى مرة أخرى أن الخوف ليس وليد شيء غير معقول بل شيء بعيد الاحتمال. حين يكون المريض مجتازًا خلال النفق (أو متواجدًا في مكان مغلق) فقد يشعر بقصر النفس كما لو أن صدره ضيقٌ حرج (التصور الجسدي).

الخوف من السفر بالطائرة

هل يعد الشخص الذي يتجنب السفر بالطائرة رهابيًّا بالضرورة؟ تلك مسألة تبقى موضع خلاف. غير أن بعض الناس يصل قلقه من السفر بالجو — حتى لضرورة علاجية — درجة من العنف تسوِّغ أن نسميه رهابًا. ورغم أن الخوف ينصب في معظم الحالات على فكرة تحطم الطائرة، فقد يقوم هذا الرهاب على ألوان أخرى من الخوف. فهذه امرأة مثلًا لم تكن تخشى من احتمال تحطم الطائرة بل من احتمال حدوث خلل في الإمداد الهوائي بالطائرة بحيث تموت اختناقًا. وهذا مريض آخر هاجسه الأكبر هو فقدان السيطرة في المواقف الاجتماعية، فكان تخوُّفه هو من أن يقيء في الطائرة فيبدو ضعيفًا دونًا ويكون هدفًا للامتعاض والسخرية.

وقد وجدتُ في عدد من الحالات أن منشأ الخوف من الطيران يعود إلى حدث صدمي حقيقي سبق وقوعه في رحلة ماضية، وأن هؤلاء كانوا يطيرون في السابق دون قلق يذكر إلى أن مروا برحلة صادمة بسبب الطقس السيئ أو الأعطال الميكانيكية.

الرهاب الاجتماعي

يمثل هذا الرهاب صورة كاريكاتورية لتلك الأفضلية التي يضعها مجتمعنا المعاصر للجاذبية الاجتماعية، وكراهة الاستهجان الاجتماعي وفقدان الشعبية. من شأن هذه التوكيدات والتشديدات الاجتماعية أن ترغم الفرد على مجاراة الجماعة والانصياع لمعاييرها. فما من طالب إلا مرَّ في حياته بنوعين من المواقف التي تجسد ذلك الخوف من الأداء المستهجن. الأول هو الخوف من الامتحانات، ويطلق عليه مصطلح «قلق الاختبار» test anxiety، وقد يبعث من الكرب والإعاقة والتثبيط ما يبرر تسميته رهابًا. فقد يبلغ خوف الطالب من الرسوب مبلغًا يعيق سيطرته على وظائف فكرية معينة كالفهم والتذكر والتعبير.
من الطريف هنا أن نشير إلى أننا حين نعلن الطلاب أن درجات الامتحان لن تسجَّل أو أن بإمكانهم تقديم ورقة الإجابة غفلًا من الاسم فإن قلقهم يهبط إلى أدنى حد (Sarason, 1972b). تدلنا هذه الملاحظة على أن الطالب لا يخشى من الامتحان ذاته، بل بالأحرى من جرائر الأداء الهابط في الامتحان.
الحديث العام public speaking هو «بعبع» آخر للطلبة. والحالة التالية تعرض رهابًا نموذجيًّا يتصل بالحديث العام: فهذا طالب جامعي جاء يلتمس العلاج بسبب الكرب الشديد الذي اعتاد أن يرين عليه لأيام عديدة وربما لأسابيع قبل أن يلقي كلمة أمام الفصل كلما كان عليه أن يفعل ذلك. كانت تراوده خلال هذه الفترة أفكار من قبيل «سوف يكون أدائي ضعيفًا،» «سوف أبدو مرتبكًا،» «لن أكون قادرًا على النطق.» كانت هذه الأفكار تثير فيه القلق والرغبة في التنصل من هذه المهمة. وحين يكون هذا الطالب منخرطًا بالفعل في الحديث العام يكون فكره نهبًا لتيار متصل من الأفكار مثل: «إنني أبدو متوترًا … إنهم ضجرون مما أقول … إنهم يرونني ضعيفًا دونًا … حين أفرغ من هذه الكلمة لن أغفرها لنفسي ما حييت.» ليس من المستغرَب، نظرًا لهذه الأفكار السلبية المتسلطة، أن يشعر هذا الطالب في نفسه بالتوتر والضعف أثناء إلقاء كلمته وأن يجد صعوبة في التركيز أثناء حديثه.
تنصب الرهابات الاجتماعية على أمور من قبيل المحبة أو الكراهية، القبول أو الرفض، الإعجاب أو الاستهزاء، ومقدار ما يحظى به الشخص من هذه الاستجابات الاجتماعية. إن التقييمات الاجتماعية السلبية تثير في المريض مشاعر أليمة، مما يجعله متخوفًا من الظهور بمظهر الأحمق أو العاجز أو الضعيف. يسمى هذا اللون من التخوف «تخوف التقييم» evaluation apprehension. وتختلف المواقف التي تثيره بين شخص وآخر. فمن الناس من يخشى جميع المواقف البينشخصية التي تنطوي على أدنى احتمال لأن يكون موضع تقييم أو حكم. ومنهم من ينحصر خوفه في مواقف محددة. ومهما يكن من أمر فمن المؤكد أن خوف الشخص قائم على رد فعل الآخرين تجاهه. فهذا مريض على سبيل المثال كان يعاني من رهاب اللقاءات الاجتماعية ويتجنب من ثَم حضور الحفلات. وتبين أن خوفه الأكبر هو من أن يبدو معيبًا دميمًا مفتقرًا إلى اللياقة الاجتماعية.

من الأشكال الغريبة بعض الشيء من الرهاب الاجتماعي ذلك الخوف من فقدان السيطرة على السلوك. فالمريض بهذا اللون من الرهاب قد يكون متخوفًا من احتمال أن يسلك بطريقة اندفاعية غير مقبولة: فيشرع مثلًا في الصراخ دون مبرر، أو يفقد التحكم في بعض الوظائف الفسيولوجية؛ فيقيء دون إرادة منه أو يتغوط أو يبول أمام الملأ. من شأن هذا الخوف أن يحمله على تجنب المواقف التي يحتمل فيها أن يحدث هذا التفلُّت وأن يكون ملحوظًا من الآخرين.

صفوة القول أن مريض الرهاب الاجتماعي هو شخص خائف من أن يأتي أداؤه في موقف معين دون المستوى الذي وضعه الآخرون أو وضعه هو لنفسه: إن أداءه الهابط سوف يقيَّم سلبيًّا، وهو من ثم يتوقع لنفسه أن يكون موضع نقد ورفض من جانب الآخرين. وهناك ألوان أخرى من الرهاب الاجتماعي (مثل قلق الاختبار) تقوم على توقع المريض بأن يحرمه أداؤه السيئ من أن يحقق أهدافه كأن ينال جائزة أو يحظى بشعبية أو يباشر عملًا مهنيًّا ناجحًا.

تعدد المعاني: رهاب صالون الحلاقة

كثيرًا ما تحمل الأعراض المتماثلة في الظاهر معاني مختلفة فيما بينها أشد الاختلاف. وقد تجلى ذلك في دراسة قام بها ستيفنسون وهاين عام ١٩٦٧م (Stevenson and Hain, 1967) فتبيَّنا في نفس اللون من الرهاب (رهاب صالون الحلاقة) أصنافًا مختلفة من المخاوف. دأب أحد المرضى، على سبيل المثال، على أن يهرب من الصالون إذا أشرف دوره على المجيء. وقد تبين أنه يعاني أيضًا من خوف من مواقف أخرى مثل حضور الكنيسة أو قاعات الاستماع بالمدرسة إذا اكتظت بالحاضرين … إلخ. لقد كان خوف هذا المريض متعلقًا بالتفرُّس الاجتماعي. فهو يخشى أن يكون محط الأنظار، ويتحرج من أي موقف يكون فيه سلوكه موضع ملاحظة أو تفحُّص.

وكانت مشكلة مريض آخر هي أنه لا يتحمل الانتظار الذي تقتضيه مهمة الحلاقة. وكان أيضًا لا يصبر على الاختناقات المرورية. وهناك مرضى تثير قلقهم ملازمة كرسي الحلاقة. إن جوهر مشكلتهم هو تخوفهم من التقيد والعجز عن الهروب، فهم يحسون أثناء الحلاقة بأنهم أشبه بالمساجين.

وكما هو متوقع، يقوم رهاب الحلاقة عند البعض على الخوف من التشوه بالآلات الحادة التي يستخدمها الحلاق. ومن الاستجابات النادرة لموقف الحلاقة ما وصفه أحد المرضى من أنه يتحرج من احمرار وجهه عندما يمثل على كرسي الحلاقة، ومن أن يكون ذلك ظاهرًا بحيث يجعله موضع سخرية.

العنصر الرئيسي في الرهاب المتعدد

يعاني كثير من المرضى من مجموعة متنوعة من الرهابات لا يربط بينها في الظاهر أي رباط. إلا أن بإمكاننا دائمًا أن نعثر على تيمة مركزية واحدة تجمع هذه الرهابات التي تبدو متباينة ظاهريًّا. هذه التيمة تتعلق دائمًا بخوف محدد من عواقب التواجد في هذه المواقف. وهو خوف واحد وعواقب واحدة على تعدد المواقف وتفاوتها الشكلي.

فهذه امرأة كانت تخاف من السفر جوًّا، ومن الرقود على الشاطئ في يوم حار، ومن الوقوف في الأماكن المزدحمة، وركوب سيارة مكشوفة في يوم عاصف، وركوب سيارة مغلقة، ومن المصاعد والأنفاق والتلال. حين أخذنا في تحديد سبب الخوف في كل موقف من هذه المواقف. لم يصعب على الإطلاق أن نجد بينها قاسمًا مشتركًا. ذلك هو احتمال الاختناق في كل حالة منها والذي يستند عند هذه السيدة إلى خرافات معينة وإلى اعتقادات شعبية (إلى جانب الاحتمال الحقيقي بالطبع).

الخوف المركزي في حالة هذه السيدة هو الحرمان من الهواء. فالأماكن المغلقة محدودة التهوية، والرياح الشديدة (كما سمعت في طفولتها) تسحب الهواء من فمك، والحر الشديد يقطع الأنفاس، وركوب الطائرة ينطوي على احتمال أن تثقب القمرة المكيفة للضغط مصادفة فينفد الأوكسجين.

وقد اكتشفنا أيضًا أن لديها خوفًا كامنًا من الماء أمكنها تفاديه باصطحاب شخص ما كلما ذهبت للسباحة ليكون متهيئًا لإنقاذها إذا لزم الأمر. ذاك مثال يبين لنا أحد الأسباب الرئيسية لاعتمادية الرهابيين وتعويلهم على الآخرين: إنهم ينشدون توافر النجدة إذا ما وقع الحدث المرهوب.

يروي فيذر Feather (١٩٧١م) عن مريض آخر كان يخاف من الأبواب الدوَّارة ومن قيادة سيارته ومن إفشاء أسرار العمل. وكان فوق ذلك يقوم بطقوس معقدة حين يتناول دواءه. لقد كان العنصر المشترك اللافت للنظر في كل هذه الأعراض هو خوفه من أن «يضر الآخرين»: أن يدهس بسيارته أحد المشاة، أن يؤدي إفشاء المعلومات إلى حوادث مفجعة للطائرات، أن الباب الدوار قد يخبط شخصًا آخر، أن سهوه عن دوائه قد يفضي إلى أن يتناوله مريض آخر بطريق الخطأ فيؤذيه.

يذكر فيذر أيضًا حالة طبيب مصاب بالخوف من السفر بالطائرة، ومن الجلوس بين الحاضرين في اللقاءات المهنية، ومن الحفلات الموسيقية، والمحاضرات، وإلقاء كلمة أمام جمع، وحضور حفلات الكوكتيل. قد يسبق إلى الظن أن التيمة المركزية هنا هي الخوف من الرفض الاجتماعي، غير أن هذا لا يفسر خوفه من الطائرات. الحق أن خوف هذا الطبيب الرهابي في كل من هذه الحالات كان من «فقد السيطرة على النفس» مما قد يؤدي إلى إيذاء الآخرين. فقد تحقق الطبيب النفسي من ذلك. واسترعى انتباهه أن هذا المريض لم يكن يخشى من تحطم الطائرة، بل بالأحرى من أن يأخذه هياج مسعور ويفقد التحكم في نفسه ويحمل على المسافرين ويروغ عليهم ضربًا. أما في الحفلات الموسيقية والتجمعات الشبيهة فكان خوفه هو من أن يهبَّ من مكانه ويلوح بذراعيه ويصيح في النظارة بالشتائم والبذاءات. وكانت تعاوده خيالات تتضمن جلوسه بالصف الثاني في الحفلة وتعطيلها تمامًا إذ يقيء على الجالس قبالته، ويطأ أقدام الجالسين وهو يبرح مقعده، ويصرف الجميع عن متابعة الموسيقى.

أما خوفه من الحديث العام في الاجتماعات المهنية فبدا أنه يرتبط بإشفاقه من أن يدحض رأي زميل آخر ويهدم نظريته. وبالنسبة لحفلات الكوكتيل فقد كان قلقه هو من أن يريق كأسه ويصِم الحاضرين بالغباء في فورة اندفاعية. من الواضح مرة ثانية أن العنصر المشترك في هذه الرهابات المتعددة هو خوفه من أن يؤذي الآخرين، وخوفه (بشكل ثانوي) من الإحراج الناجم عن فقد سيطرته على نفسه.

معظم مرضى الرهاب الاجتماعي المتعدد يخشون بالأساس من رفض الآخرين لهم. ولدينا مثال في هذه المرأة التي كانت تعالَج بسبب خوف رئيسي من الرد على الهاتف (التليفون). فقد كانت تخشى أن ترد بغض النظر عما إذا كان المتحدث صديقًا أو غريبًا. وكان لها في تجنب الرد على الهاتف أفانين وحيَل. كانت هذه المرأة، فضلًا عن ذلك، تخاف من القراءة الجهرية أمام الآخرين، ومن عمل وديعة بالبنك، ومن قص الحكايات في التجمعات الاجتماعية، ومن طلب الطعام بالمطاعم، ومن تصحيح التجارب الطباعية لكتابات أي سكرتيرة أخرى بالمكتب.

لم يكن صعبًا أن يقف المعالج على القاسم المشترك بين هذه المخاوف: فقد كانت المريضة تخشى من الرفض بسبب عدم إجادة الكلام. والحق أنها عانت في الماضي من التأتأة stuttering وغيرها من صعوبات النطق العابرة. فكانت تتلعثم مثلًا في كلمات معينة وترتبك في القراءة الجهرية في المدرسة الثانوية. ورغم أن هذه المشكلات كانت قد انتهت إلا أن خوفها من الرفض بقي على حاله وكان يبلغ ذروته كلما ازداد احتمال الخزي والرفض (Feather, 1971).
تبرز هذه الأمثلة أهمية تجنب الأحكام «القبلية» a priori بخصوص المحتوى الفكري للرهابات. فكما يختلف المعنى المسبغ على الموضوع الرهابي الواحد بين مريض وآخر، كذلك قد تُردَّ التشكيلة المتعددة من المخاوف لدى المريض الواحد إلى خوف واحد، وتحمل على نفس المعنى.

التفرقة بين عصاب القلق والرهاب

يفضي النظر في الرهابات المتعددة بشكل تلقائي إلى السؤال عن الفرق بين الرهاب وعصاب القلق، وهي تفرقة هامة من حيث إن مريض الرهابات المتعددة قد يكون غرضًا للقلق المتوالي، وذلك لاستحالة أن يتفادى جميع المواقف الرهابية. فالرهابي خليق أن يعاني نوبة قلق حاد كلما تعرَّض للموقف الرهابي وتعذَّر عليه الهروب. وهذا الصنف من النوبات لا يختلف في جوهره عن أية نوبة أخرى من نوبات القلق الحاد.

ما الفرق إذَن بين الرهاب وعصاب القلق؟ الفرق هو أن الرهاب شيء نوعي مخصَّص إلى حد كبير، وأن الرهابي قد يظل بمنأًى عن القلق عن طريق التجنب avoidance. هب أن شخصًا لديه رهاب من اعتلاء قمة جبل أو ناطحة سحاب: إن بمقدوره، ببساطة، أن ينظم نمط حياته بحيث يتجنب هذه المواقف.

أما مريض القلق العصابي فليس بمقدوره أن يتجنب المنبه (المثير) المؤذي. فقد يكون خوفه مثلًا متمركزًا حول فكرة إصابته بمرض خطير. وهو بالتالي يفسر أي إحساس جسدي شديد أو غير معتاد أو غير مفسَّر بوصفه علامة على المرض الخطير أو القاتل. وحيث إنه لا يملك أن يهرب من إحساساته الجسمية ويتجنبها فلا فكاك له من القلق. وكثيرًا ما يسبب قلقه مزيدًا من الأحاسيس الجسمية؛ فيضيف ذلك وقودًا جديدًا لخوفه من المرض.

كذلك الشخص الذي يخشى من استهزاء الناس به وازدرائهم إياه وتهجمهم عليه فهو حري أن يدوم قلقه ما دام بين الناس. فإذا ما قام هذا الشخص بعزل نفسه عن الآخرين عزلًا تامًّا فهو عندئذ نهب للرهاب وليس لعصاب القلق.

وتستدقُّ الحدود بين الرهاب والقلق أكثر وأكثر في حالة ذلك المريض الذي «يخاف من كل شيء»، فهو في خوف مثلًا من الجلوس بين الناس ومن الجلوس وحده، ومن البيت والخارج (من الأشياء المنزلية والمواقف الخارجية). من الواضح في مثل هذه الحالة أن «إنذارات الخطر» هي في نشاط دائب يجعل القلق انفعالًا مستديمًا، وأن مثل هذا المريض يعاني من استجابة قلق نموذجية: ذلك أن تفكيره مسكون بهواجس القلق وخيالاته حتى وهو في مكان يعتبره آمنًا.

نشوء الرهاب

تتوافر لدينا أدلة كثيرة على أن الرهابات المختلفة عند الراشدين تقع بصفة تقريبية في مجموعتين:
  • (١)
    تلك المخاوف الشديدة المبكرة التي تشيع في سن الطفولة وتحدث لمعظم الأطفال والتي يتجاوزها المرء بعد ذلك و«يكبر عنها». يطلق على هذه المخاوف مصطلح «رهابات التثبيت» fixation phobias إشارة إلى أن النضج التصوري (المفاهيمي) فيما يتعلق بهذا الخوف قد توقَّف عند مرحلة مبكرة من مراحل النمو.
  • (٢)
    «رهابات الصدمة» traumatic phobias أو «الرهابات الصدمية»، الشبيهة بعصابات الصدمة. وفيها تؤدي خبرة مؤلمة يمر بها المرء إلى زيادة حساسيته تجاه هذا النوع من المواقف. ومن الأمثلة الصارخة لهذه الرهابات ما يعرف بصدمة القذائف shell shock وكذلك الخوف من السفر بالسيارة بعد خبرة حادث أليم.
من الجدير بالذكر أن المحتوى الفكري لمخاوف المرضى الراشدين الذين يأتون للعلاج من الرهابات الخاصة تتبع بصفة عامة نفس التوزيع الإحصائي للمخاوف عند عامة الناس (أو في مجموعة ضابطة من الأسوياء). تشير دراسة سنيث Snaith (١٩٦٨م) لمرضى الرهاب أن صنف الخوف الذي أبداه معظم المرضى لاح أشبه بصورة مكبرة لما يشعر به كثير من الأسوياء من عامة المواطنين. فقد وجد سنيث مثلًا أن أكثر المخاوف شيوعًا عند مرضاه (باستثناء الأجورافوبيا) هي الخوف من العواصف والعواصف الرعدية والحيوانات والمرض وتهدَّد الحياة. وجاء توزيع هذه المخاوف بين مرضى الرهاب موازيًا لتوزيعها بين أفراد مجموعته الضابطة من أسوياء الناس.

لكي نفهم العلاقة بين الخوف والرهاب يجب أن نبرز الفارق بين هذا الصنف أو ذاك من الخوف إذ يخبره العديد من الأسوياء وبينه إذ يصير رهابًا.

فالرهابي أولًا يَعُد المنبه المؤذي أخطر بكثير مما هو في نظر الآخرين. والرهابي ثانيًا يستشعر قلقًا أكبر بكثير من غيره بسبب ما أضفاه على الموقف أو الشيء من خطورة هائلة. وهو ثالثًا يتجنب المنبه الرهابي جهد ما يستطيع ويفرض «مسافة أمان» بينه وبين ذلك المنبه. ويضمر بعض المرضى «رهابًا خفيًّا» لا يسفر عن نفسه إلا حين تحول الظروف بينهم وبين تجنب الموضوع أو الموقف الرهابي. حينئذٍ يضطرهم القلق الموجع والتقييدات الحياتية إلى التماس العلاج.

يغلب على مخاوف الطفولة أن تتركز على الأذى الجسدي أو على الموت. وكثيرًا ما تدوم هذه المخاوف طوال الحياة. ويبدي الأطفال الأكبر سنًّا، بالإضافة إلى ذلك، خوفًا من الأذى الاجتماعي كالرفض أو النبذ (Berecz, 1968).

وقد أفادت أمهات الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ثلاثة أشهر وست سنوات بأن أغلب مخاوفهم تتراتب كالتالي: الخوف من الكلاب، ثم من الأطباء، فالعواصف، فالمياه العميقة، فالظلام. وقد كان محتوى المخاوف لدى الطفل مناظرًا بشكل لافت لمحتواها لدى الأم، وكان هناك ارتباط دال بين المجموع الكلي لمخاوف الأطفال والمجموع الكلي لمخاوف الأمهات، مما يوحي بوجود نمط عائلي للخوف — وهي نقطة سوف نعود إليها عندما نعرض لرهابات التثبيت.

قام جيرسيلد وماركز وجيرسيلد عام ١٩٦٠م (Jersild, Marks, and Jersild, 1960) بمناظرة إكلينيكية مباشرة ﻟ ٣٩٨ طفلًا تتراوح أعمارهم بين الخامسة والثانية عشرة لتحديد معدل المخاوف بينهم فجاءت النتيجة كالتالي: الخوف من القوى الخارقة للطبيعة (الأشباح، السحرة، الجثث، الأحداث الخفية) – ١٩٫٢٪، الوحدة في الظلام بمكان غريب، التيه، والمخاطر المرتبطة بهذه المواقف – ١٤٫٦٪، التعرض لهجوم الحيوانات أو خطر الهجوم – ١٣٫٧٪، الإصابة الجسمية، المرض، السقوط، الحوادث المرورية، العمليات الجراحية، الأذى والألم — ١٢٫٨٪. وقد دلت الأبحاث بصفة عامة على أن مخاوف الأطفال الأصغر تتعلق أساسًا بالضرر الجسمي، أما الأطفال الأكبر فيعانون فوق ذلك من مخاوف الأذى النفسي-الاجتماعي مثل رفض قرنائهم لهم، الرسوب، السخرية والاستهزاء (Miller et al., 1972; Angelino and Shedd, 1953) على أن نلاحظ مع ذلك أن خوفهم من هذه الصدمات الاجتماعية لا يحدث إلا إذا كانت نتائجها مما يهمهم ويعنيهم (مثل مشاعر الحزن أو الوحدة أو الإحراج أو الذنب أو الحزن).

من الملاحظات الهامة أن المخاوف عند الأطفال مرتبطة بالأخطار التي توجد في بيئتهم بالفعل. فصبية الطبقات الدنيا مثلًا يخافون من المُدى النابضية (المطاوي)، والسياط، واللصوص، والقتلة، والمسدسات، والعنف. بينما يخاف صِبية الطبقات العليا من حوادث السيارات، والقتل، والصِّبية الجانحين، والكوارث، والأحداث الأخرى الأكثر غموضًا. وتخشى فتيات الطبقات الدنيا من الحيوانات والغرباء وأعمال العنف، بينما تخشى فتيات الطبقات العليا من المختطفين والمرتفعات وألوان من الأحداث الصدمية غير الواردة عند فتيات الطبقات الدنيا مثل تحطم القطارات وتحطم السفن.

وتنشأ رهابات التثبيت fixation phobias من المخاوف الطفولية الشائعة التي لم يتجاوزها المريض والتي يعترف بأنه كان يعاني منها طفلًا بقدر ما تسعفه ذاكرته البعيدة. ومن أمثلتها النموذجية الخوف من الماء والعواصف والعواصف الرعدية والأطباء والدم. وقد قمت في عدد من هذه الحالات بسؤال المرضى، وكانوا شبانًا في مقتبل العمر، عما إذا كان والداهم يعانيان من نفس الرهاب (أو سؤال الوالدين مباشرة عن ذلك). فمن بين اثني عشر مريضًا علمت يقينًا أن خمسة منهم يعاني أحد والديهم من نفس الرهاب. بينما كان السبعة الآخرون على غير يقين من ذلك، ومن ثَم قاموا بالاستعلام من والديهم عن ذلك الأمر فظهر أن ثلاثة من بين السبعة كان أحد والديهم يعاني من نفس الرهاب (رهاب الماء، الأماكن المغلقة، العواصف الرعدية) بذلك يكون هناك ثمانية من بين الاثني عشر من مرضى الرهاب المستديم يعاني أحد والديهم من نفس الصنف من الرهاب.
لماذا ظل هؤلاء المرضى «مثبَّتين» fixated عند هذه الرهابات بينما تمكَّن سائر الأطفال من تجاوزها وتخطيها؟ يبدو أن الآباء في هذه الحالات هم الذين أدَّوا إلى تدعيم المخاوف لدى أطفالهم؛ فلم يتمكنوا من السيطرة عليها. فكلما لاحظ الطفل تجنب أحد أبويه للموضوع الرهابي اقتدى به واتبع طريقته. على أن هناك بعض الحالات يحدث فيها التثبيت بسبب حدث مؤلم يدعم الرهاب ويديمه. مثل تلك المرأة التي تذكر أن رهاب العواصف الذي بدأ عندها في الطفولة قد تفاقم واستفحل وصار خوفًا رهيبًا مستديمًا بعد أن رأت بعينيها صبيًّا صغيرًا صعقه البرق وأرداه (انظر رهابات الصدمة).

وبصرف النظر عن موقف الوالدين، وحتى في حالة خلوهما من أي رهاب، فإن تجنب المريض للموقف الرهابي يلعب دورًا حاسمًا في استمرار الرهاب. فالتجنب يحول بينه وبين السيطرة على الرهاب وتخطيه. ومع كل تجنب متعاقب يتأصل الرهاب ويزداد عمقًا ورسوخًا.

بوسع مرضى رهابات الصدمة traumatic phobias عادةً أن يؤرخوا لحدوث الرهاب بحادث صدمي محدد. وتشمل رهابات الأذى الجسدي رهاب الكلاب على أثر عضة كلب، ورهاب المرتفعات بعد واقعة سقوط من طابق، ورهاب الحقن عقب تفاعل شديد، ورهاب ركوب السيارة بعد حادث أليم.
وفيما يلي حالات تبين كيفية حدوث المخاوف الجسدية:
  • (١)

    هذا طفل في الثامنة من العمر أصابه خوف بالغ الشدة مصحوب بإغماء يتعلق بالمستشفيات والأطباء وروائح التخدير بعد أن أُجرِيت له عملية خطيرة. واستمر هذا الخوف ينتابه في الكبَر.

  • (٢)

    وهذه امرأة مريضة برهاب المرتفعات ألمَّ بها الرهاب بعد أن سقطت ذات يوم من عارضة غطس عالية وأصيبت.

  • (٣)

    كثير من مرضى رهاب قيادة السيارة أصابهم هذا الرهاب بعد حادث صدمي أصيبوا فيه أو أصيب فيه شخص كانوا يتقمصونه (يتوحدون به أو يتماهون معه).

  • (٤)

    أصيب عدد من المرضى برهاب المرض عندما أصيب أحد أعزائهم بمرض قاتل مثل السرطان، القلب، النزيف الدماغي … إلخ.

  • (٥)

    وهذه امرأة في الثالثة والعشرين أصابها خوف مقعد من الرعد والبرق. فكانت تتخوف كلما رأت سحبًا داكنة؛ فإذا استهل الرعد ارتاعت وتركت ما في يدها سواء كانت بالعمل أو بالبيت أو أي مكان آخر وهرعت للاختباء في أي مكان لا نوافذ له كالمرحاض. بدأ هذا الرهاب ينتابها في سن الثامنة بعد أن شهدت صبيًّا صغيرًا صعقه البرق وأرداه قتيلًا.

  • (٦)

    تنشأ بعض الرهابات البينشخصية أيضًا بعد حادث صادم. مثل ذلك المريض الذي أصيب برهاب الظهور في الأماكن العامة بعد نوبة دوار وإغماء، أو الذي أصيب برهاب القيء بعد نوبة قيء مفاجئ ألمت به في مكان عام، وذلك المحامي الذي أصابه رهاب المثول في المحكمة بعد أن أصيب بحالة إنفلونزا معوية مصحوبة بإسهال (كان خوفه متعلقًا باحتمال أن يداهمه إسهال لاإرادي في قاعة المحكمة فيدمر حياته المهنية).

  • (٧)
    قد تحدث رهابات غريبة أيضًا على أثر حدث صدمي. فهذا عامل أصابه خوف رهابي من العمل في الطرق بعد أن صدمته شاحنة بينما كان يرسم خطًّا أبيض. واتسع الرهاب ليشمل الخوف من ركوب الدراجة أو الدراجة النارية على أي طريق (Kraft and Al-Issa, 1965a).
  • (٨)
    وهذه فتاة أصيبت بخوف مستديم من الحرارة بعد أن شاهدت حريقًا أخرجوا فيه جثتَي طفلتين متفحمتين من المنزل المحترق. وقد شمل الرهاب خوفها من أن تستحمَّ بماء حار أو أن تأكل أطعمة ساخنة أو تشرب ماءً ساخنًا. كذلك كانت تتخوف من لمس أي موقد كهربائي سواء أكان في حالة تشغيل أو إبطال، وتتخوف من استعمال أي مكواة ساخنة (Kraft and Al-Issa, 1965b).

تُلقي الرهابات الصدمية أضواءً على العمليات التصورية (المفاهيمية) المتضمنة في تكوين المخاوف. فنتيجة للخبرة الصادمة، يقوم الشخص بتعديل جذري لتقييمه السابق فيما يتعلق بإمكانات الخطر القابع في موقف أو موضوعٍ ما؛ فيرى خطرًا ما كان يعتبره من قبل موقفًا مأمونًا إلى حد كبير.

١  الأرجحية odds تعني (في حساب الاحتمالات) نسبة النجاح إلى الفشل. وهي غير الاحتمال probability الذي يعني نسبة المحاولات الناجحة إلى المجموع الكلي للمحاولات. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤