تكريم

ألقيت هذه القصيدة في حفل لتكريم الدكتور علي توفيق شوشه، وكيل وزارة الصحة بمناسبة الإنعام عليه برتبة الباشوية عام ١٩٤٥م.

نَغَمُ الشِّعْرِ في رُبا جَنَّاتِهْ
أسكت ابنَ الغُصونِ في دَوْحاتِهْ١
مالَ سَمْعُ الدنيا إليه وأصغَتْ
هاتفاتُ المُنَى إلى هاتفاته٢
وَتَرٌ صاغَه الإلهُ وألْقَى
نَغَماتِ الفِرْدَوْسِ في نَغَماته٣
ورنينٌ من السماء تَمنَّى
كلُّ طَيْرٍ لو أنَّهُ من لَهاته٤
صُنْتُه أنْ يهونَ، والفنُّ يسمو
حينَ تسمو به نفوسُ حُماته٥
وتقلدتُه حسامًا لمصرٍ
تتوقى الخطوبُ وَقْعَ شَباته٦
وهززتُ الشبابَ للسبقِ فانثـ
ـالوا سِراعًا على هُدَى مِشْكَاتِهْ٧
ما مدحتُ الكريمَ إلَّا لأدعو
بمديحي إلى كريمِ صِفاته
أنا بالمجدِ مُولَعٌ وبأهليـ
ـه، وبالباقياتِ من ذِكْرَياته
أعشَقُ النُّبْلَ في جلالةِ معنا
ه، وأهوَى الإقدامَ في عَزَماته
قد رأيتُ العَلاءَ في اسم «عليٍّ»
ورأيتُ «التوفيقَ» خيرَ سِماته٨
فشدا باسمِه قَريضي كما يَشـ
ـدو طليقُ الْجَناحِ في رَوْضاته٩
وإذا كَرَّم الرجالُ ابن توفيـ
ـقٍ فقد كرَّموا النبوغَ لذاته

•••

بَسَماتُ الربيع في بَسَماته
وسنا الصبح من سنا قَسَماته١٠
كوكبيُّ الذكاء لو صَدَعَ الليـ
ـلَ لجلَّى بنورِه ظُلُماتِه١١
باحث لا يَصيدُ في مَهْمَهِ العلـ
ـمِ سوى الشارداتِ من آبداته١٢
رأيُه مِجْهَرٌ فما غاب أمرٌ
كيفما دقَّ عن مدَى نَظَراته١٣
لَمَحاتٌ كأنَّها خاطفُ البر
قِ، وأين البُروقُ من لمحاته؟١٤
إن رَمى الشكَّ رأيُهُ فَرَّ حَيْرا
ن، يَجرُّ الذيولَ من شُبُهاته١٥
ما رأى عَبْقَرٌ ولا جِنُّ واديـ
ـه كهذا الذكاء في مُعجزاته١٦

•••

وشبابٌ كأنه ناضِرُ الريحـ
ـانِ في حُسنِه وفي نَفَحاته
صانَه النُّبْلُ أن يُمَسَّ له ذَيـ
ـلٌ، وأدَّى الإيمانُ فرض ذكاته١٧
غرسَ اللهُ نبتَه فنما نَضـ
ـرًا، وآتى الشَّهِيَّ من ثمراتِه١٨
يمتطي العبْقَرِيُّ ناجيةَ العز
مِ حثيثَ الْخُطا إلى غاياته١٩
لا يَرَى الطرْفُ منه إلَّا غُبارًا
عَجَزَ الطرْفُ أنْ يَرَى قَصَباته٢٠
يتمنَّى الشُّيوخُ لو بذلوا العُمـ
ـرَ لِقاءَ القليلِ من ساعاته
عُمُرُ المرءِ بالجليلِ من الأعـ
ـمالِ لا بالكثيرِ من سنواته
بُؤْرَةُ الضوءِ كم بها من شُعاعٍ
ملأ الأُفْقَ في جميعِ جِهاته!
ورحيقُ الأزهارِ كم ضمَّ من رَوْ
ضٍ شَذِيِّ الشَّميمِ في قَطَراته!٢١

•••

جَمَعَ الفضلَ حين فرَّقه النا
سُ، وآواه بعدَ طولِ شَتاته
دائراتُ المعارفِ اجتمعت فيـ
ـه ففتِّش عنهن في صَفحَاتِه٢٢
كم لُغاتٍ جرَى بها لفظُه العَذْ
بُ سليمًا كأنَّها من لغاته
هو في الطبِّ من كِبار نُحاته
وهو في النحوِ من كِبارِ أُساته٢٣
وهو في حَلْبَةِ البيانِ أديبٌ
تسمَعُ السحرَ في رُقَى نَفَثَاته٢٤
وهو إن شئتَ حافظٌ لغويٌّ
كلماتُ «القاموسِ» من كلماته٢٥
نسخةٌ «للسانِ» في صدرِه الوا
عي، سما طبعها على طَبَعاته٢٦
يعرِفُ الأَيْهُقَانَ والثولَ والذعـ
ـلوقَ والسَيْسَبَى ونوعَ نباته٢٧
أنا أخشَى جِدالَه كلَّما صا
لَ عنيفَ الجِدال في صَوْلاته
مجمعُ الضادِ يرفعُ الرأسَ في
زهوٍ بآرائه وصدق أناته٢٨
حَسْبُ دهرٍ جنَى على الناسِ أنْ كا
ن «عليٌّ» يُعَدُّ من حَسَنَاتِهْ٢٩
«معملُ المَصْلِ» وهو فتحٌ مبينٌ
بعضُ ما نال مصرَ منَ مَأْثُراته٣٠
فَتَكاتُ المكروبِ ألقتْ سلاحًا
للسريعِ السديدِ منَ فَتَكاته
يصرَعُ الموتَ ثابتَ العزمِ مِقْدا
مًا جريئًا في عزمِه وثباته
كم حبا الناسَ من حياةٍ، أمدَّ اللهُ
للمجدِ والعُلا في حياته!٣١
نال أسمَى الألقابِ والفضلُ فضلٌ
كيفما قد رفعتَ من درجاته!

هوامش

(١) ربا: جمع ربوة. ابن الغصون: الطائر المغرد. دوحاته: أشجاره الكبيرة.
(٢) هاتفات المنى: صائحات بالأماني.
(٣) صاغه: صنعه. الفردوس: حديقة في الجنة.
(٤) لهاته: اللهاة زائدة لحمية في مؤخرة سقف الحلق والمقصود حنجرته.
(٥) حماته: المدافعون عنه.
(٦) تقلدته: حملته. حسامًا: سيفًا. وقع شباته: ضرب طرفه الحاد.
(٧) هززت: أثرت وحركت. انثالوا: جاءوا من كل وجه. مشكاته: مصباحه.
(٨) العلاء: الشرف والمجد. سماته: صفاته.
(٩) طليق الجناح: الطيور الحرة المغردة.
(١٠) سنا: نور. قسماته: ملامحه.
(١١) كوكبي: نوره كالنجم. صدع: شق. جلى: كشف.
(١٢) مهمه: الفلاة يقصد اتساع العلم. الشاردات: يقصد أموره الشاردة الغريبة. آبداته: عويصات.
(١٣) مجهر: المنظار المكبر. مدى: غاية ونهاية.
(١٤) لمحات: نظرات. خاطف البرق: البرق السريع.
(١٥) شبهاته: الشكوك والظنون، الالتباس.
(١٦) جن واديه: الجن من المخلوقات التي لا ترى، وقد زعم العرب أن لها واديًا هو وادي عبقر.
(١٧) ذكاته: طهارته.
(١٨) نبته: غرسه. آتى: أثمر. الشهي: ما يشتهى لحلاوته.
(١٩) يمتطي: يركب. ناجية: سريعة. حثيث: سريع. غاياته: مراده وهدفه.
(٢٠) الطرف: العين. قصباته: القصب الذي يوضع في حلبة السباق.
(٢١) شذيّ الشميم: ذكي الرائحة.
(٢٢) دائرات المعارف: جمع دائرة المعارف وهي الموسوعة العلمية.
(٢٣) نحاته: علماء اللغة. أساته: أطباؤه.
(٢٤) حلبة: مكان السباق. رقى: تعاويذ.
(٢٥) القاموس: يقصد القاموس المحيط.
(٢٦) نسخة للسان: المراد باللسان كتاب لسان العرب وهو معجم لغوي ضخم. سما: علا.
(٢٧) الأيهقان: عشب يطول ساقه وله وردة حمراء وورقه عريض ويؤكل وهو الجرجير البري. الثول: شجر الحمض. الذعلوق: بقل كالكرات. والسيسبى: السيسبان.
(٢٨) مجمع الضاد: هو مجمع اللغة العربية والممدوح كان عضوًا به.
(٢٩) حسب دهر: يكفي الزمن.
(٣٠) معمل المصل: معمل المصل واللقاح وكان الممدوح يشرف عليه. مأثراته: مآثره وحسناته.
(٣١) حبا: أعطى، اختص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤