المقدمة

العوالم الأخرى: قد لا نكون بمفردنا في هذا الكون

الأرض كروية وتتحرَّك عبر الفضاء. كان هذا الاستنتاج إدراكًا مثيرًا تمَّ التوصُّل إليه قبل فترة زمنية لا تتعدَّى بضع مئات من السنين. وهي فكرة تتناقض تمامًا مع المنطق، لدرجة أن بعض الأشخاص ما زالوا لا يستطيعون قَبولها. قد لا تكون واحدًا من هؤلاء، ولكن هل صدَّقت هذه القصة لمجرَّد أن هذا هو ما قيل لك في صغرك، ولأن «الجميع يعرفون» أنه حقيقي، أم سبق لك أن استوقفك التفكير في مدى اعتبار هذه الفكرة مجنونة، من واقع خبرتك اليومية، وأخذ الأدلة بعين الاعتبار؟

لكي نرى مدى معقولية فكرة أن الأرض مسطحة، وإلى أي مدًى كانت فكرة كروية الأرض إدراكًا مثيرًا، يمكننا أن نعود بالتاريخ إلى عصر الفيلسوف اليوناني أناكساجوراس الأثيني، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد تقريبًا. لم يكُن أناكساجوراس أحمق. وإنما استند منطقه إلى أفضل الأدلة المتاحة له، وكان منطقه صحيحًا في ضوء هذه الحقائق. وقد تبيَّن عدم صحة استنتاجاته، ولكن الأهم من ذلك هو حقيقة أنه قد حاول فهم طبيعة الشمس باعتبارها كِيانًا ماديًّا، يخضع لنفس القوانين السارية على الأجسام الموجودة هنا على سطح الأرض. ولم يتعامل معها باعتبارها ظاهرةً خارقةً للطبيعة تفوق قدرة البشرية على الفهم.

كان الدافع وراء تخمينات أناكساجوراس هو سقوط حجر نيزكي ذات يوم في نهر إيجوسبوتامي. كان الحجر النيزكي ساخنًا؛ ومن ثم استنتج أنه أتى من الشمس حتمًا. وكان يحتوي على عنصر الحديد؛ ولذا استنتج أن الشمس تتكوَّن حتمًا من الحديد؛ أي كرة ساخنة من الحديد تسير عبر السماء. كل هذا كان منطقيًّا تمامًا في ضوء المعرفة المتاحة له آنذاك. ولكن أثار هذا تساؤلَين مثيرَين للاهتمام شرع أناكساجوراس في الإجابة عنهما: كم يجب أن يبلغ حجم تلك الكرة الحديدية الساخنة، وكم تبلغ المسافة التي تفصلها عن سطح الأرض أثناء الحركة؟

لم يكُن أناكساجوراس كثير الترحال، ولكنه سمع روايات من أشخاص سافروا إلى دلتا النيل، وإلى أبعد من ذلك، وصولًا إلى الروافد العليا لنهر النيل. ذكرت هذه الروايات أنه في ذروة فترة الظهيرة أثناء الانقلاب الصيفي (أي «أطول أيام الصيف نهارًا»)، كانت الشمس عموديةً فوق مدينة تُدعى سين، بالقرب من الموقع الحالي للسد العالي بأسوان. لعلك صادفت هذه المعلومة الطريفة في سياق آخر، فإذا حدث ذلك، كن مستعدًّا للمفاجأة. عرف أناكساجوراس أيضًا أنه في ظهيرة أطول أيام الصيف نهارًا تبتعد الشمس بزاوية تبلغ ٧ درجات عن الوضع العمودي عند دلتا النيل. وعرف المسافة الفاصلة بين دلتا النيل ومدينة سين. ومع توافر هذه المعلومات، وبافتراض أن الأرض مسطحة، وبالاستعانة بعلم هندسة المثلَّثات ذات الزاوية القائمة، كان من السهل على أناكساجوراس أن يحسب ارتفاع الشمس في فترة الظهيرة أثناء الانقلاب الصيفي فوق رءوس سكان مدينة سين والذي قُدِّر بأربعة آلاف ميل تقريبًا (وفقًا لوحدات القياس المعاصرة). ونظرًا إلى أن الشمس تغطِّي نحو نصف درجة قوسية من السماء (تمامًا مثل القمر، وهي مصادَفة مثيرة خارج نطاق هذا الكتاب)، أوضحت له هندسة المثلَّثات أن قطر الشمس يبلغ حتمًا نحو ٣٥ ميلًا، ما يعادل تقريبًا نفس مساحة شبه جزيرة بيلوبنيز جنوب اليونان.

كان اقتراح أناكساجوراس باعتبار الشمس ظاهرةً طبيعيةً اقتراحًا صادمًا جدًّا بالنسبة إلى مواطنيه، لدرجة أنه أُلقي القبض عليه بتهمة الهرطقة، ونُفي إلى الأبد خارج مسقط رأسه بمدينة أثينا. وبعد مرور ما يربو على ألفَي عام، وتحديدًا في القرن السابع عشر ميلاديًّا، حاول مفكِّر آخر، وهو جاليليو جاليلي، أن يفسِّر الشمس كظاهرة طبيعية أيضًا، واتُّهم بالهرطقة كذلك.

ولكن بعد مرور مائتَي عام فقط على افتراض أناكساجوراس، استعان فيلسوف يوناني آخر، يُدعى إراتوستينس، بالبيانات نفسها بالضبط لإجراء عملية حسابية مختلفة قليلًا. لعلك سمعت بهذه النسخة من القصة. فقد افترض إراتوستينس أن الأرض كروية، وخمَّن أن الشمس تبتعد عن الأرض بمسافة كبيرة لدرجة أن أشعة الشمس تصل إلى الأرض عبر خطوط متوازية. وبهذا الافتراض، تكون زاوية السبع درجات التي قيست عموديًّا عند دلتا النيل هي نفس الزاوية المقابلة من عند سطح الأرض مضروبةً في المسافة بين الدلتا ومدينة سين، والتي قيست من عند مركز الأرض (انظر الرسم البياني في الصفحة التالية). وهذا يتيح لنا حساب نصف قطر الكرة الأرضية. ونظرًا إلى أن الزاوية واحدة، فإن «الإجابة» واحدة؛ أي ٤ آلاف ميل. ولكن هذا الرقم فُسِّر بكونه نصف قطر الكرة الأرضية، لا المسافة الفاصلة بين الشمس وسطح الأرض. ونظرًا إلى أن إراتوستينس كان «محقًّا»، كان تصوُّره هذا هو ما سُجِّل في الكتب المدرسية والحكايات الشعبية، بينما قوبل تصوُّر أناكساجوراس بالتجاهل. بيد أن العبرة ليست بمن هو المحق ومن المخطئ. فالنظريات الجيدة قائمة على الأدلة السليمة وتُقدِّم تكهُّنات يمكن إخضاعها للاختبارات. فإذا اجتازت النظرية هذه الاختبارات، يستمر العمل بها، وإذا فشلت في اجتيازها، يتم استبعادها. بالوضع في الاعتبار كلا التصورَين، نجد أن نظريتَي الفيلسوفَين اليونانيَّين (أو تحريًا للدقة، الفرضيتان، ولكن لن أتلاعب هنا بالمسمَّيات) تتحدان معًا لتخبرنا بأن الأرض إمَّا مسطحة والشمس تقع فوقها بنحو ٤٠٠٠ ميل، وإمَّا أن الأرض عبارة عن كرة يبلغ نصف قطرها ٤ آلاف ميل والشمس تبعد عنها بمسافة شاسعة ولكن مجهولة. وأتاحت لنا عمليات الرصد والقياسات اللاحقة تحديد أيهما أفضل لوصف العالم الحقيقي.

figure
بافتراض أن الأرض مسطحة، يسهل حساب المسافة الفاصلة بينها وبين الشمس.
figure
بافتراض أن الأرض كروية، تعطينا الملاحظة نفسها تقديرًا لنصف قطر الكوكب.

ثمة عبرة من هذه القصة أيضًا. فحتى المفكِّر الراديكالي البعيد النظر، الذي لم يكُن يخشى مواجهة السلطات في زمنه في خضم سعيه وراء الحقيقة، لم يستطِع أن يحرِّر نفسه من التصوُّر المسبق بأن الأرض مسطحة. ولم يفكِّر أناكساجوراس مطلقًا في البدائل. وتاريخ العلوم يزخر بأمثلة مؤسفة مشابهة لأفكار قائمة على منطق لا تشوبه شائبة ودقة متناهية، ولكنها أفكار قائمة على إيمان مطلق لا جدال فيه بشيء تبيَّن أنه غير صحيح تمامًا. لا ينبغي أن يدور العلم حول الإيمان بمعتقد ما، بل يجب أن يدور حول التشكيك في المعتقدات الراسخة في الذهن. وهذا لا يضمن دومًا حياةً هادئة؛ إذ دفع جوردانو برونو تكلفة هذا الأمر. مع العلم بأن برونو يبدو أنه قد بذل قصارى جهده لجعل حياته صعبةً في مجملها، وليس في سبيل العلم فحسب.

كثيرًا ما يُرجِع المؤرِّخون (وأنا من بينهم) تاريخ بداية العلوم الحديثة إلى عام ١٥٤٣، العام الذي نُشر فيه كتاب بعنوان «ﻋﻦ دوران الأَجْرام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ» تأليف نيكولاس كوبرنيكس. ولكن في الحقيقة، لم يُحدِث الكتاب ضجةً آنذاك؛ إذ لم تلقَ الأفكار الواردة فيه رواجًا واسعًا لنحو مائة عام، ولم يُسهم كثيرًا في إزاحتنا عن مركز الكون. حافظ كوبرنيكس على فكرة وجود مركز ثابت للكون، بيد أنه نقل هذا المركز من الأرض إلى الشمس. فأوضح أن الحركة الظاهرية للنجوم عبر السماء تحدث بسبب دوران الأرض، إلا أنه تمسَّك بفكرة أن النجوم والكواكب مثبتة على أفلاك صلبة تتحرَّك حول الشمس. وكان مقترحه الأكثر «هرطقةً» هو اعتبار الأرض كوكبًا أيضًا، يدور حول الشمس مرةً واحدةً في السنة، ولكن كان هذا أقصى ما وصل إليه.

figure
جوردانو برونو. «ساينس فوتو لايبراري».

عزم برونو على استكمال مسيرة كوبرنيكس. وُلد برونو بالقرب من مدينة نابولي الإيطالية في عام ١٥٤٨؛ أي بعد خمس سنوات من صدور كتاب كوبرنيكس الشهير «ﻋﻦ دورانِ الأَجْرام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ»، وسُمِّي باسم فيليبو، ثم الْتحق بسلك الرهبنة الدومينيكية في سن السابعة عشرة، متخذًا اسم جوردانو، ورُسِّم قسًّا رسميًّا في عام ١٥٧٢. وسرعان ما واجه صعوبات بسبب تفكيره المتحرِّر وميله إلى قراءة الكتب الممنوعة (أو على الأقل الكتب الخلافية). ويبدو أنه واجه مشكلةً خاصةً بسبب اعتناقه المذهب الآريوسي، وهو المعتقد القائل إن المسيح يحتل مرتبةً وُسطى بين بني البشر والرب؛ بمعنى أنه مقدَّس ولكن لا يرقى إلى منزلة الإله. وعندما احتدمت الأمور وخرجت عن السيطرة، فرَّ من نابولي هاربًا، وخلع الزي الديني، وبدأ سلسلةً من الأسفار أخذته إلى أماكن عدة من بينها جنيف وليون وتولوز، حيث حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت وألقى محاضرات في الفلسفة. وفي عام ١٥٨١، انتقل إلى باريس، حيث نعم بالأمان وحظي بحماية الملك هنري الثالث، ونشر عدة أعمال هناك.

في عام ١٥٨٣، سافر برونو إلى إنجلترا ومعه خطابات توصية من ملك فرنسا، وتقرَّب من دوائر البلاط الملكي الإليزابيثي حيث الْتقى بمشاهير مثل فيليب سيدني و(ربما) جون دي. وعلى الرغم من أنه ألقى بعض المحاضرات في جامعة أكسفورد عن النموذج الكوبرنيكي للكون، لم يستطِع الحصول على منصبٍ بالجامعة، حيث كانت آراؤه المثيرة للجدل محل سخرية من جانب جون أندرهيل، الذي كان آنذاك يشغل منصب عميد كلية لينكولن، ثم منصب رئيس أساقفة كانتربري في وقت لاحق، والذي استهزأ ببرونو لاعتناقه «رأي كوبرنيكس القائل إن الأرض تدور، في حين تبقى السماء ثابتة؛ لكن في الحقيقة إن رأسه هو الذي يدور، بينما يظل عقله ساكنًا.»١ ولكن يبدو أن شخصية برونو وكذلك معتقداته جعلته منبوذًا داخل حرم جامعة أكسفورد. يبدو أنه كان متغطرسًا، وعزف عن منح المزيد من الوقت لمن يراهم حمقى، واستطاع أن يُثير حفيظة الآخرين، حتى أولئك الذين يشاركونه الرأي.

ولكن كان هذا غيضًا من فيضِ ما أراد برونو تقديمه. ففي عام ١٥٨٤، نشر سلسلتَين من «حوارات» دعم فيها علم الكونيات الكوبرنيكي، وبحلول عام ١٥٨٨، كان يكتب أن الكون «لا نهائي … وأبدي وغير محدود.» إذن، أين كانت النجوم؟ من خلال تجميع الأفكار التي أعرب عنها برونو في عدة مواضع، نجد أنه كان أول شخص يدرك أن النجوم ليست شموسًا أخرى، بل أدرك أنه ربما كان لكل منها عائلتها الخاصة من الكواكب، مثل الشمس نفسها. وهذه العوالم الأخرى، حسب قوله «ليست أقل سموًّا أو ذات طبيعة مختلفة عن كوكب الأرض الذي نعيش عليه»، ومن ثم ربما «تضم حيوانات وسكانًا.»

كان هذا كافيًا للزج به في مزيد من الصراعات مع السلطات الرومانية الكاثوليكية، وأحيانًا ما يُنظر إلى برونو باعتباره شهيدًا للعلم. بيد أن مشكلاته مع السلطة كانت عميقةً جدًّا، لدرجة أن هذه المعتقدات لا تتعدَّى في الواقع سوى كونها حاشيةً هامشيةً في قصة حياته فيما بعدُ ومصيره. ففي عام ١٥٨٥، وبسبب تدهور الوضع السياسي بين إنجلترا وفرنسا، عاد برونو إلى باريس، ومنها إلى ألمانيا وبراغ، حيث ذاع صيته (نظرًا إلى تحديه السلطات الكاثوليكية بالفعل) بعد أن عوقب بالحرمان الكنسي على أيدي اللوثريين. وفي عام ١٥٩١، انتهز الفرصة للعودة إلى إيطاليا، متوجِّهًا في البداية إلى مدينة بادوا على أمل الحصول على درجة الأستاذية. ولكن كان المنصب من نصيب جاليليو، فانتقل إلى مدينة البندقية، وهي الأكثر تحرُّرًا بين المدن-الدول الإيطالية. ولكن اتضح أنها ليست متحرِّرةً بالقدر الكافي. ففي يوم الثاني والعشرين من مايو عام ١٥٩٢، أُلقي القبض على برونو واتُّهم بالكفر والهرطقة، وكان اعتقاده بتعدُّدية العوالم مثالًا واحدًا من بين العديد من الأمثلة التي وردت في الاتهامات الموجَّهة إليه. ربما كان سيُفلت بعقوبة مخفَّفة نسبيًّا، إلا أن محاكم التفتيش طالبت بوجوب نقله إلى روما ليبتُّوا في أمره، وفي النهاية رضخت السلطات في البندقية للضغوط وسلَّمته في فبراير عام ١٥٩٣.

استمرَّت محاكمة برونو سبع سنوات، على نحو متقطِّع، وفي هذه الأثناء كان مسجونًا في روما. فُقد العديد من الأوراق المتعلِّقة بالمحاكمة، بيد أن الاتهامات الموجَّهة إليه لم تكُن تضم الكفر البيِّن والهرطقة وحسب، بل السلوك المشين أيضًا. ويُعتقد أنه قد وُجهت إليه اتهامات محدَّدة كان من بينها إبداء معارضة — قولًا وكتابةً — فكرة الثالوث وألوهية المسيح، والتشكيك في عذرية السيدة مريم البتول، أم المسيح. كما أنه طرح ذلك الاقتراح الصادم بوجوب التعايش بين الطوائف المختلفة للكنيسة المسيحية في وئام واحترام وجهات نظر بعضها مع بعض. وكانت هذه الخطايا، في نظر محاكم التفتيش، أعظم جرمًا من فرضية تعدُّدية العوالم، ولكنها أُضيفت إلى قائمة الاتهامات على أي حال.٢ وكما هو معتاد مع المهرطقين، مُنح برونو في النهاية فرصةً للتراجع عن آرائه، وهو ما رفضه، وفي ٢٠ يناير عام ١٦٠٠ أعلن البابا كليمنت الثامن رسميًّا اتهامه بالهرطقة. وزُعم أنه لوَّح بإشارة تهديد للقضاة حين أصدروا الحكم عليه؛ إذ أُحرق على الخازوق في يوم ١٧ فبراير عام ١٦٠٠، بعد أن تمَّ تكميمه ليُمنع من التفوُّه بأي كلمات هرطقة أخيرة قد يسمعها المتفرِّجون. وفيما يلي بعض كلماته التي تنم عن عمق تفكيره، وإن لم تكُن من بين كلماته الأخيرة:

لا يوجد ارتفاع مطلق ولا هبوط مطلق، كما علمنا أرسطو؛ ولا يوجد مَوْضعٌ مطلق في الفضاء؛ وإنما موضع جرمٍ ما هو موضع نسبي بالنسبة إلى مواضع الأجرام الأخرى. وفي كل مكان يوجد تغيير نسبي متواصل في الموضع عبر الكون، والراصد يكون دومًا في قلب الأحداث.

وعلى الرغم من أن فكرة اعتبار النجوم شموسًا أخرى سرعان ما أصبحت محل تقدير — كان إسحاق نيوتن واحدًا من بين عدة أشخاص حاولوا تقدير المسافات إلى النجوم من خلال افتراض أنها تحظى تقريبًا بنفس درجة سطوع شمس مجرتنا — لم يستطِع علماء الفلك قياس بعضٍ من تلك المسافات مباشرة إلا في أربعينيات القرن التاسع عشر باستخدام تقنية الإزاحة البصرية أو التخاطل الهندسية، التي تستعين بتغيُّر موضع النجوم القريبة مقارنةً بالنجوم البعيدة الموجودة في الخلفية أثناء حركة الأرض حول مدارها. ولم تُتِح لنا التقنيات الأخرى قياس المسافات البعيدة عبر الكون إلا في القرن العشرين، وفي النهاية، وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، صارت فكرة الكون اللامحدود محل تقدير. ولكن حتى في ذلك الحين ظلَّت فكرة أن النجوم ربما يكون لها عائلات من الكواكب مجرَّد تكهُّنات.

تغيَّر الوضع في عام ١٩٩٥، تزامنًا مع اكتشاف كوكب يدور حول نجم، سُمي باسم «٥١ بيجاسي»، شبيه بالشمس تقريبًا. تمَّ التوصُّل إلى هذا الاكتشاف من خلال تحليل تذبذب النجم الذي تسبَّب فيه سحب الجاذبية الخاصة بالكوكب الذي يدور حوله. وهذه القياسات ممكنة؛ لأن التذبذب يُحدث تغييرًا دقيقًا للغاية في الخطوط الطيفية للنجم،٣ وهي عملية تُعرف باسم تأثير دوبلر. وتبيَّن أن القياسات سهلة نسبيًّا؛ نظرًا إلى أن الكوكب كبير جدًّا ويدور بالقرب من النجم إلى حد ما؛ لذلك يتمتَّع بتأثير جاذبية عال نسبيًّا. ولم يكُن هذا ما توقَّعه علماء الفلك.

يوجد في مجموعتنا الشمسية أربعة كواكب صخرية صغيرة (تشبه كوكب الأرض إلى حد كبير) تدور في المنطقة الداخلية بالقرب من الشمس، وأربعة كواكب غازية كبيرة (تشبه كوكب المشتري إلى حد كبير) تدور في المناطق الخارجية، بالإضافة إلى قطع صغيرة ومتنوِّعة من الحطام، من بينها الجرم السماوي بلوتو. وفي ظل عدم توافر معلومات أخرى للعمل على أساسها، خمَّن علماء الفلك أن الأنظمة الكوكبية الأخرى ربما تكون مشابهة. غير أن الكوكب الذي يدور حول النجم «٥١ بيجاسي» هو كوكب كبير جدًّا، ويدور على مسافة قريبة جدًّا من نجمه. ولذا؛ صار يُعرف باسم كوكب «مشتري حار». فتبلغ كتلته أكثر من نصف كتلة كوكب المشتري، أكبر كواكب مجموعتنا الشمسية، ويدور حول نجمه في مسافة تبلغ عُشر مسافة عطارد، الكوكب الأقرب من الشمس داخل مجموعتنا الشمسية. وأول درس مستفاد من هذا هو أنه لا يمكنك التعميم استنادًا إلى مثال واحد! فمن الواضح أن مجموعتنا الشمسية ليست النوع الوحيد من النظم الكوكبية في الكون، بل ربما يكون استثنائيًّا. والنتيجة الطبيعية لذلك هي أنه لا ينبغي علينا افتراض أن كوكب الأرض هو كوكب نمطي، وسنستفيض في مناقشة هذه النقطة لاحقًا.

ومنذ عام ١٩٩٥، اكتُشِف العديد من الأنظمة الكوكبية «خارج المجموعة الشمسية»، والكثير منها يضم كواكب مشتري حارة، وبات معروفًا الآن أن الكثير منها يحوي كواكب متعدِّدة، تأتي في تكوينات وأشكال متنوِّعة، تدور حول النجوم المركزية. لم يعُد اكتشاف كوكب «جديد» خبرًا مثيرًا، فضلًا عن تصدُّره عناوين الصحف، ما لم يكُن من تلك الكواكب التي يروق لوكالات الأنباء أن تصفه بأنه كوكب «شبيه بالأرض». ولكن احذر عناوين الصحف. فكل ما يقصدونه بذلك هو أن الكوكب صخري على الأرجح، وكتلته تبلغ بضعة أضعاف كتلة كوكب الأرض. فحجمه مماثل لحجم كوكب الأرض، وليس شبيهًا بالأرض. ولكي نوضِّح الفارق علينا أن نلقي نظرةً فقط على أقرب جيراننا في المجموعة الشمسية، ألَا وهو كوكب الزُّهَرة، الذي يدور حول الشمس بمسافة أقرب قليلًا من كوكب الأرض. ويكاد يكون حجم كوكب الزُّهَرة مماثلًا تمامًا لحجم كوكب الأرض، كما أنه كوكب صخري، وبوجه عام يُعتبر مُرشَّحًا لوصفه بالكوكب «الشبيه بالأرض» أفضل من أي كوكب آخر خارج المجموعة الشمسية تحتفي به وسائل الإعلام. فهو يتمتَّع بنفس الحجم، والكتلة، والكثافة والجاذبية السطحية. ولكن تصل درجة الحرارة على سطح كوكب الزهرة إلى ٤٦٢ درجة مئوية، وهي درجة حرارة كافية لصهر الرصاص. ودرجة الحرارة هذه ليست بسبب أن الكوكب أقرب قليلًا إلى الشمس من كوكبنا؛ وإنما الفضل في ذلك يرجع إلى التأثير القوي للاحتباس الحراري الناتج عن غلافه الجوي السميك الغني بثاني أكسيد الكربون. ويصل الضغط الجوي على سطح كوكب الزُّهَرة إلى ٩٢ ضعفًا للضغط الجوي على سطح كوكب الأرض، وهو ما يعادل الضغط الجوي على مسافة كيلومتر واحد تحت سطح البحر.

ويُعيدنا هذا إلى برونو مرةً أخرى وافتراضه بوجود العديد من الكواكب تُئوي العديد من الكائنات الحية، بما فيها البشر. فهناك عدد وافر من الكواكب. ويبدو أن كل نجم شبيه بالشمس، وربما كل نجم، يحظى بعائلة من الكواكب. دعونا لا نبالغ في التشاؤم. هناك مئات المليارات من النجوم في مجرة درب التبانة، مجرتنا الأصلية، الشبيهة بجزيرة وسط الكون. حتى وإن كانت نسبة صغيرة منها تحظى بأنظمة كوكبية مثل نظامنا الشمسي، وحتى لو كانت نسبة صغيرة من تلك الأنظمة تحظى بكوكب واحد على الأقل أشبه بالأرض من الزُّهَرة، فمن الممكن أن يكون هناك في الفضاء الخارجي ملايين المَواطن المحتملة لأشكال الحياة الشبيهة بنا، قبل حتى أن نفكِّر في الاحتمالات الأكثر غرابة. فنسبة واحد بالمائة من ١٠٠ مليار لا تزال تعادل مليارًا واحدًا، ونسبة واحد بالمائة من المليار تعادل ١٠ ملايين. ويشيع وجود الكواكب في الكون، وربما حتى تكون كواكب شبيهة بكوكب الأرض. وقد لا نكون وحدنا في هذا الكون. ومواطن الحياة ربما تكون معتادةً أيضًا. ولكن ماذا عن الحياة في حد ذاتها؟ كيف وصلنا إلى هنا؟ الإجابة قائمة على سبعة اكتشافات مذهلة بخصوص آلية عمل الكون؛ أعمدة العلم السبعة التي تعزِّز وجودنا، والوجود المحتمل لحياة أخرى في هذا الكون.

هوامش

(١) انظر أندرو وينر، https://www.jstor.org/stable/437245.
(٢) يقال إنه لولا برونو لربما اتخذت الكنيسة موقفًا عنيفًا ضد كوبرنيكس؛ إذ أدرجت كتابه فقط على قائمة الأعمال المحرَّمة في عام ١٦١٦، وظلَّ على هذه القائمة حتى عام ١٨٣٥.
(٣) التحليل الطيفي للنجوم هو واحد من أعمدة العلم التي سنناقشها لاحقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤