العمود الثالث: لا وجود للقوة الحيوية

إن فكرة أن الحياة هبة خاصة — أي إن الكائنات الحية تُحرِّكها «قوة حيوية» غامضة تفتقر إليها الجمادات — فكرة أقدم من التاريخ نفسه، وقد ناقشها فلاسفة مصر القديمة واليونان. ويبدو أنها نابعة من المنطق السليم. ولكن كما هو الحال مع فهمنا لأمور كثيرة في هذا العالم، فإن المنطق السليم يكون مُضلِّلًا في إدراك الحقائق.

جاءت بداية تكوين فهم صحيح للكيفية التي تحيا بها الكائنات الحية مع التجارب التي أجراها كلٌّ من الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازييه وزميله بيير لابلاس في ثمانينيات القرن الثامن عشر. فقد وضعا خنزيرًا غينيًّا داخل وعاء كان موضوعًا داخل وعاءٍ آخر مملوء بالثلج، وقاسا كمية الثلج التي أذابتها حرارة جسم الحيوان خلال فترة زمنية محدَّدة. وكذلك قاسا مقدار «الهواء المثبت» (المعروف الآن باسم ثاني أكسيد الكربون) الذي زفره الحيوان. فوجدا أن مقداره كان مساويًا للمقدار الناتج عن إحراق الفحم لإذابة الكمية ذاتها من الثلج. فقد كان يُعتقد آنذاك أن الحيوانات خاضعة للقوانين ذاتها التي تخضع لها عملية احتراق الفحم أو الشموع.

على الرغم من ذلك ظهر اكتشاف آخر في العقد التالي أشار في البداية إلى وجود قوة حيوية بالفعل. فكما هو معروف لاحظ الطبيب الإيطالي لويجي جلفاني، على سبيل المصادفة، ارتجاف ساقَي ضفدع في أثناء تشريحه عند ملامستهما للحديد. ولكن القصة أكثر تعقيدًا قليلًا ممَّا توحي به العديد من الروايات الشائعة، وحريٌّ بنا استعراض التفاصيل لنتبيَّن الآلية التي تعمل بها عقلية العالِم.

أجرى جلفاني أنواعًا متعدِّدةً من التجارب، وحوى مختبره آلة تدوير يدوي تُولِّد كهرباء ساكنة عن طريق الاحتكاك، مثل الصدمة التي يمكن أن تتعرَّض لها حينما تلامس جسمًا معدِنيًّا عقب المشي فوق بعض أنواع السجاد. وفي أحد الأيام، وبينما كان يُشرِّح ساقَي أحد الضفادع، لامس المشرط الذي كان يستخدمه في التشريح الآلة والتقط شحنةً كهربية. وعندما لامس المشرط العصب الوركي لإحدى ساقَي الضفدع، أصدرت تلك الساق ركلةً وكأن الضفدع لا يزال حيًّا. فقاده ذلك إلى تجارب أظهرت أن سيقان أحد الضفادع الميتة تنتفض عند توصيلها مباشرة بالآلة الكهربية، أو إذا وُضعت على لوح معدِني في أثناء عاصفة رعدية عندما يكون هناك برق في السماء. غير أن ملاحظته الرئيسة جاءت مصادفة. ففي أثناء تجهيزه لمجموعات من سيقان الضفادع لإجراء تجاربه، كان يُعلِّقها في خطافات نحاسية في الهواء الطلق حتى تجف. وعندئذٍ لامس أحد هذه الخطافات سياجًا حديديًّا، فنتج عن ذلك ركلة من السيقان، رغم عدم وجود مصدر خارجي للكهرباء. وعندما أخذ السيقان والخطاف إلى الداخل، وحرص على إبقائها بعيدةً تمامًا عن آلته الكهربية، وجعل الخطاف يلامس حديدًا؛ انتفضت السيقان مجدَّدًا. وتكرَّر ذلك في كل مرة مع كل مجموعة من السيقان.

ظنَّ جلفاني أن هذا يثبت وجود نوع من «الكهرباء الحيوانية» تختلف عن الكهرباء «الساكنة» المولِّدة للبرق، أو التي يمكننا توليدها بالاحتكاك. وافتُرض أن هذه الكهرباء الحيوانية هي أحد أنواع السوائل التي تُصنَّع داخل الدماغ، وتُنقل إلى العضلات عن طريق الأعصاب، وتُخزَّن بها لحين الحاجة إليها. ولكن كان لمُواطن جلفاني، أليساندرو فولتا، رأيًا مخالفًا. فقد قال إن الكهرباء التي أسفرت عن النفضة لا صلة لها بالقوة الحيوية، وإنما هي نتيجة تفاعل تدخل فيه المعادن التي كانت السيقان الخاضعة للتشريح تلامسها. وقاده ذلك، من خلال سلسلة من التجارب، إلى اختراع جهاز لتوليد الكهرباء. كان هذا الاختراع عبارةً عن عمود من عدة أقراص من الفضة والزنك بالتناوب، يفصل بينها أقراص من الورق المقوى، مغموسة في محلول ملحي. عند توصيل الجزء العلوي من العمود بالجزء السفلي عن طريق سلك كهربي، تدفَّق تيار كهربي في السلك. وبهذا كان «العمود الفلطاني» أول بطارية كهربية.

طُوِّر اختراع فولتا في المعهد الملكي بلندن؛ حيث استعان همفري ديفي بهذا الاختراع في تجارب مذهلة استُخدمت فيها الكهرباء لتفكيك المركبات إلى العناصر المكوِّنة لها، ليكشف عن وجود معادن «جديدة»، من ضمنها البوتاسيوم والصوديوم. ولكن بدلًا من دحض فكرة القوة الحيوية جاءت تجارب ديفي مشجعةً لبعض مُؤيدي الفكرة. وعلى وجه التحديد رأى أحد جراحي لندن، وهو جون أبرنيثي، وجود علاقة بين الكهرباء وشيء آخر أسماه الحيوية، وكان هذا بالأساس المسمَّى الذي يُطلقه على القوة الحيوية. وتعرَّضت استنتاجاته للهجوم من قِبل ويليام لورانس، وكان أحد زملائه، ممَّا أثار جدلًا احتدم في العقد الثاني من القرن التاسع عشر (ولم يكن تأليف ماري شيلي لروايتها «فرانكشتاين» في هذا الوقت تحديدًا من قبيل المصادفة؛ إذ كان لورانس الطبيب المعالج لزوجها بيرسي بيش شيلي، في الفترة من ١٨١٥ وحتى ١٨١٨). ولم تتمكَّن دراسة الكهرباء من حسم الخلاف. لكن كان من المرجَّح أن تُسطِّر النتيجة المذهلة لإحدى التجارب الكيميائية التي أُجريت عام ١٨٢٨ كلمةَ النهاية للمذهب الحيوي.

بنهاية القرن الثامن عشر، بدأ الكيميائيون يفهمون كيف تتحد المواد المختلفة لتكوين مركبات أكثر تعقيدًا. وسرعان ما اتضح أن الكربون قادر بالفعل على تكوين مجموعة كبيرة ومتنوِّعة من التركيبات المعقَّدة باتحاده مع غيره من العناصر، وأن الكائنات الحية تتكوَّن إلى حد كبير من مثل هذه المُركَّبات الكربونية المعقَّدة. وباتت كيمياء تلك المركَّبات الكربونية تُعرف باسم الكيمياء العضوية، واعتُبرت شيئًا مختلفًا عن كيمياء المركَّبات «غير العضوية» المعتادة، مثل الماء، وارتبطت بمفهوم المذهب الحيوي. وكان هناك اعتقاد بأن الكائنات الحية هي وحدها القادرة على إنتاج المركَّبات العضوية، وذلك بفضل القوة الحيوية.

وفي عام ١٧٧٣ نجح الكيميائي الفرنسي هيلير رويل في فصل بلورات مادةٍ ما لم تكن معروفةً من قبل من بَول حيوانات مختلفة، والبشر أيضًا. وصارت تلك البلورات تُعرَف باسم اليوريا، وكانت شيئًا أقرب إلى لغز؛ لأنه حتى في ذلك الحين كان واضحًا أنها مركَّب بسيط نسبيًّا (صيغته الحديثة هي H2N-CO-NH2). ولم تبدُ ذات تركيب معقَّد بالقدر الكافي الذي يتطلَّب تأثير القوة الحيوية لإنتاجها. ولكن لم يكُن الأمر كذلك كما تبيَّن بعد ذلك.

ففي عام ١٨٢٨ كان الكيميائي الألماني فريدريش فولر يسعى إلى إنتاج سيانات الأمونيوم عن طريق تفاعل حمض السيانيك مع الأمونيا. غير أن ناتج تجربته لم يكُن سيانات الأمونيوم. وأظهر له التحليل الدقيق أن المادة الناتجة كانت اليوريا؛ إذ كانت مطابِقة تمامًا للمادة المستخلصة من البول. وقد عبَّر عن دهشته في مقدمة البحث الذي كتبه لوصف الاكتشاف في عام ١٨٢٨ قائلًا:

كشف هذا البحث عن نتيجة غير متوقَّعة؛ فعند اتحاد حمض السيانيك بالأمونيا تتكوَّن اليوريا. والحقيقة الغريبة جدًّا المستخلصة من هذه النتيجة أنه يمكن إنتاج البنية الاصطناعية (في المختبر) لمركب عضوي، يُسمَّى «مادةً حيوانية»، من مركَّبات غير عضوية.

واستخدم لهجةً أقل رسميةً في الرسالة التي كتبها في ذلك العام لزميله جيكوب برزيليوس، ليخبره بأنه [أي فولر]:

تمكَّن من إنتاج اليوريا دون الحاجة إلى أي كُلية أو أي كائن حي، سواء أكان بشرًا أم كلبًا. فسيانات الأمونيوم هي يوريا … فهي لا تختلف كيميائيًّا عن اليوريا الموجودة في البول، وقد نجحتُ في إنتاجها بمفردي.

لعل هذه كانت بمثابة ضربة قاضية لفكرة القوة الحيوية. ولكن أحد الأسباب التي حالت دون حدوث التأثير الفوري الذي قد نتوقَّعه عند الفهم العميق للأمر، يتبيَّن في الاقتباس المأخوذ من تلك الرسالة. فقد أظهرت الاختبارات التي أجراها فولر أن اليوريا وسيانات الأمونيوم متطابقتان كيمائيًّا. فجُزَيء سيانات الأمونيوم يحتوي بالفعل على الذرات نفسها الموجودة في جُزَيء اليوريا، ولكن بترتيب هندسي مختلف. وتُعرف هذه الجزيئات التوائم غير المتطابقة الآن باسم الأيزومرات، وكان انشغال فولر بمتابعة اكتشاف الأيزومرات يفوق اهتمامه بالانخراط في الجدل الدائر حول المذهب الحيوي. بالإضافة إلى أن اليوريا تُعَد مادةً بسيطةً نسبيًّا، وكان من الممكن أن يذهب بعض مؤيدي فكرة وجود نوع خاص من كيمياء الحياة (وهو ما حدث بالفعل) إلى صعوبة اعتبار اليوريا جزيئًا عضويًّا من الأساس. فقد كان هناك الكثير من الجزيئات العضوية الأخرى الأكثر تعقيدًا، ولم يكُن تخليقها ممكنًا.

كانت الوسيلة الوحيدة لإسدال الستار نهائيًّا على المذهب الحيوي هي تصنيع المزيد والمزيد من هذه الجزيئات العضوية المعقَّدة، باستخدام الجزيئات غير العضوية البسيطة، وهي عملية تُعرف باسم «التخليق الكامل». كان اكتشاف فولر مصادفةً سعيدةً وضربة حظ. ولكن في عام ١٨٤٥ أقدم عالِم كيميائي ألماني آخر، وهو أدولف كولبي، على تصنيع المركَّبات العضوية من مواد غير عضوية. فأخذ على عاتقه مهمَّة تحويل ثاني كبريتيد الكربون، وهو مركَّب غير عضوي يمكن إنتاجه بسهولة من العناصر المكوِّنة له، إلى حمض الأسيتيك، أو الخل، وهو مركَّب عضوي يُنتَج طبيعيًّا عن طريق التخمُّر. كان نجاح كولبي هو ثاني تجربة تخليق كامل لمركب عضوي من مركبات أولية غير عضوية، دون تدخُّل أي عمليات بيولوجية. ولكن في ظل وجود مثالَين فقط، يظل هناك الكثير من الجزيئات العضوية التي يتعيَّن فحصها.

في خمسينيات القرن التاسع عشر شرع العالِم الباريسي مارسيلان بيرتيلو، وهو معارض شبه إنجيلي للمذهب الحيوي، في استخدام التخليق الكامل لتصنيع جميع الجزيئات العضوية المعروفة آنذاك. كان مقتنعًا بأن جميع العمليات الكيميائية تستند إلى فعل قوًى فيزيائية يمكن دراستها وقياسها مثل القوى التي تتضمَّنها العمليات الميكانيكية. وكان برنامجه الخاص بالتخليق الكامل لجميع المواد العضوية نابعًا على نحو منطقي من هذه القناعة؛ كان حلمًا مستحيلًا، لكنه فعل ما يكفي ليُثبت أنه على حق.

figure
مارسيلان بيرتيلو. «ساينس فوتو لايبراري».
أعدَّ بيرتيلو نهجًا تدرُّجيًّا. فبدأ بمركبات بسيطة تحتوي على الكربون والهيدروجين (الهيدروكربونات، مثل الميثان)، وحوَّلها إلى كحولات (تحتوي على مجموعة OH، وهو بالأساس جُزَيء ماء فقد إحدى ذرتَي الهيدروجين، فأصبح بإمكانه الارتباط بذرات أخرى)، ثم حوَّلها إلى إسترات (وفيها تُستبدل مجموعة اﻟ OH ليحل محلها مجموعة «ألكوكسي» أكثر تعقيدًا)، ثم حوَّلها إلى أحماض عضوية (تحتوي على مجموعات أشد تعقيدًا بكثير) وهلم جرًّا. وقد حقَّق بيرتيلو عدة نجاحات. فاستطاع تخليق حمض الفورميك (وهو المادة الكيميائية التي يستخدمها النمل في اللدغ) باستخدام النهج التدرُّجي الموضَّح للتو، وكذلك الأسيتيلين (وكان هو من أطلق عليه هذا الاسم) عن طريق تنشيط قوس كهربي بين أقطاب الكربون في جو من الهيدروجين، والبنزين عن طريق تسخين الأسيتيلين في أنبوب زجاجي.

كان تصنيع البنزين خطوةً حاسمة. يتألَّف كل جُزَيء بنزين من ست ذرات كربون متصلة في شكل حلقة. يوجد البنزين بصورة طبيعية في النفط الخام، وهو بقايا الكائنات الحية، وتتميَّز تلك الجزيئات الحلقية، التي تُعَد عناصر أساسية ضمن مجموعة ضخمة ومتنوِّعة من المركَّبات، بأهمية خاصة في كيمياء الحياة. ويُعرف فرع الكيمياء الذي يتضمَّن تفاعلات مثل هذه الجزيئات الحلقية الآن باسم كيمياء العطريات أو الأروماتية.

كان برنامج بيرتيلو المذهل للتخليق الكامل برنامجًا طموحًا للغاية لدرجة يتعذَّر معها على شخص واحد إكماله بمفرده، إلا أنه أسَّس شيئًا يُعد الآن عمودًا من أعمدة العلم وركائزه. فقد أوضح أن من الممكن تصنيع مواد عضوية من أربعة عناصر موجودة في جميع الكائنات الحية، ألَا وهي: الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين. هذه العناصر بالغة الأهمية، وفي كثير من الأحيان (بل دائمًا!) تجتمع معًا في المواد العضوية، حتى إنها يُشار إليها مجتمعةً باسم CHON. نشر بيرتيلو كتابه الرائع عن تخليق المواد الكيميائية العضوية تحت عنوان «الكيمياء العضوية القائمة على التخليق»، في عام ١٨٦٠. وبدا ذلك المسمار الأخير في نعش المذهب الحيوي. ولكن كان من الصعب استيعاب فكرة أن الكائنات الحية، بما فيها نحن البشر، ليست سوى مجموعات من المركَّبات الكربونية التي تعمل بفعل قوًى فيزيائية مثل القوى التي تتضمَّنها العمليات الميكانيكية — إذ تتنافى تمامًا مع «المنطق السليم» — حتى إنه في نهاية القرن التاسع عشر، كانت الفكرة القائلة بوجود شيء مميَّز بشأن كيمياء الحياة، وأن ثمة «قوةً حيويةً» تدخل فيما نسمِّيه بالعمليات الحيوية، لا تزال محل نقاش. وكان العالم الجليل لويس باستير داعمًا لتلك الفكرة. وجاء الدحض النهائي لهذه الفكرة في عام ١٨٩٧، بفضل أعمال العالِم الألماني إدوارد بوخنر.

كان التخمُّر أحد آخر الألغاز المحيِّرة التي أعطت أنصار المذهب الحيوي حجةً للجدال. فالتخمُّر يُحوِّل الأطعمة مثل السكر إلى مركَّبات أبسط مثل الكحول وثاني أكسيد الكربون، وينتج عنه طاقة تمد الخلايا الحية بالطاقة. ولكن هل كان يتضمَّن دائمًا خلايا حية؟ تصدَّى بوخنر لهذا التساؤل بإنتاجه للكحول، الذي يتضمَّن الخميرة، أحد الكائنات الحية. إن الخميرة ضرورية لهذه العملية، ولكن بوخنر أراد اختبار ما إذا كان هذا بسبب أن خلايا الخميرة تنبض بالحياة، أم لاحتوائها على مادة كيميائية (محفز) تحفِّز تحوُّل السكر إلى كحول وثاني أكسيد الكربون عن طريق تفاعلات غير عضوية.

بدأ بوخنر بالخلايا الحية للخميرة، ثم عرَّضها لسلسلة من عوامل الهلاك التي أدَّت إلى قتلها واختزالها إلى عناصرها الكيميائية المكوِّنة الأساسية. وبعدها خلط خلايا الخميرة الجافة مع رمل الكوارتز وصخور مفتَّتة ناعمة، ثم طحنها بواسطة مدقة وهاون. أصبح هذا الخليط رطبًا عندما انفجرت خلايا الخميرة وأطلقت محتوياتها. وبعدها عُصِر الخليط الرطب لاستخلاص «عصارة ضغط» اسُتخدِمت في التجارب.

عندما خُلِط محلول السكر مع عصارة الخميرة الناتجة للتو عن الضغط، نتجت فقاعات من الغاز، وفي النهاية تكوَّنت رغوة غطَّت السائل. وأظهرت الاختبارات الكيميائية أن نسب ثاني أكسيد الكربون والكحول الناتجة كانت مماثلةً للنسب ذاتها الناتجة عن التخمُّر باستخدام الخميرة الحية. ولكن المستخلص لم يحتوِ على خلايا خميرة حية.

بمتابعة هذه التجربة، اكتشف بوخنر أن المادة الكيميائية الأساسية المشاركة هي إنزيم أُطلق عليه إنزيم الزيماز. يُصنَّع الزيماز داخل خلايا الخميرة، ومن هذا المنطلق يشارك عنصر حيوي في عملية التخمُّر، ولكن النقطة الأساسية هي أن الزيماز ذاته يُعد مادةً كيميائيةً غير حية، والتخمُّر يحدث سواء كانت الخميرة حيةً أم ميتة. فالإنزيمات تلعب دورًا بالغ الأهمية في الكثير من العمليات البيولوجية، ولكن بات الآن ممكنًا تخليق الإنزيمات كيميائيًّا دون تدخُّل علم الأحياء. وقد كتب بوخنر عن ذلك لاحقًا قائلًا:

يتكشَّف الفارق بين الإنزيمات والكائنات الدقيقة بوضوح عندما يُعبَّر عن الأخيرة بصفتها المنتجة للأولى، التي لا بد أن ننظر إليها بصفتها مواد كيميائية معقَّدة، ولكنها غير حية.

لا شك في أن الزيماز يُعد الآن واحدًا من الإنزيمات التي يمكن تخليقها دون تدخُّل من علم الأحياء. ولكن تظل النقطة الأساسية التي تستحق تكرارها هي أن العملية الكيميائية مستمرة سواء كانت الخميرة حيةً أم ميتة. ففي يناير عام ١٨٩٧ أرسل بوخنر بحثه العلمي المهم «عن التخمُّر الكحولي بدون استخدام خلايا الخميرة» إلى دورية الجمعية الكيميائية الألمانية «بيرشت دير دويتشين شيمشين جيزيلشافت».

حصل بوخنر على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٠٧ «عن أبحاثه في مجال الكيمياء الحيوية، واكتشافه للتخمُّر غير الخلوي». وهذا تاريخ مناسب كغيره من التواريخ، يصلح اختياره تاريخًا لموت المذهب الحيوي. ولكن خلَّف ذلك سؤالًا آخر. في ظل عدم وجود قوة حيوية، كيف نشأت الحياة إذن؟

فكَّر تشارلز داروين مليًّا في هذا اللغز، وافترض أن الحياة ربما تكون بدأت في «بركة صغيرة دافئة» على الأرض، تحتوي على المكوِّنات الكيميائية الملائمة للحياة. ولكنه أدرك أن ذلك لا يمكن أن يحدث اليوم. فقد كتب إلى جوزيف هوكر في عام ١٨٧١ يقول:

كثيرًا ما يُقال إن جميع الظروف التي تهيَّأت لإنتاج أول كائن حي حاضرة الآن، وكان من الممكن أن تكون حاضرةً في أي وقت آخر. ولكن لو (ويا له من افتراض خطير!) تصوَّرنا أن بداخل بركة صغيرة دافئة، تحوي جميع أنواع أملاح الأمونيا والأملاح الفوسفورية، وفي وجود الضوء، والحرارة، والكهرباء، والكربون، تكوَّن أحد المركَّبات البروتينية كيميائيًّا، وكان جاهزًا للمرور بتغيُّرات أكثر تعقيدًا في وقتنا هذا؛ لكان مصير مثل هذه المادة التبدُّد أو الامتصاص على الفور، وهو ما لم يكُن ليحدث قبل تكوُّن الكائنات الحية.

بعد نصف قرن من كتابة داروين لتلك الكلمات، وضع ألكسندر أوبارين — عالِم الكيمياء الحيوية الروسي الذي وُلد في عام ١٨٩٤، وتخرَّج في جامعة موسكو الحكومية في عام ١٩١٧، عام الثورة الروسية — هذا النوع من التكهُّنات على أسس علمية سليمة. وكان أول طرح فعلي لأفكاره في عام ١٩٢٢، في أحد اجتماعات الجمعية النباتية الروسية، وهي الأفكار التي حوَّلها إلى كتاب بعنوان «أصل الحياة»، المنشور في عام ١٩٢٤. وكان ما حفَّز هذا التفكير الاكتشاف الأخير (بفضل التحليل الطيفي؛ فما من عمود من أعمدة العلم يقوم وحده!) الذي أوضح أن الغلاف الجوي لكوكب المشتري والكواكب العملاقة الأخرى في نظامنا الشمسي يحتوي على كمية كبيرة من الغازات مثل الميثان، وهو ما تصوَّره داروين (من بين آخرين) باعتباره المادة الأولية للحياة. ويُعد الغلاف الجوي للأرض اليوم غنيًّا بالأكسجين الشديد التفاعل. وهو أحد نواتج الحياة، ولكن لو لم يتجدَّد باستمرار، لاستُنفد في حرائق الغابات، وتعرية الصخور، وغيرها من العمليات. افترض أوبارين أنه لكي تبدأ الحياة في إحدى البرك الصغيرة الدافئة، عندما كانت الأرض حديثة النشأة، فإن ذلك يُحتِّم أن يكون غلافها الجوي مماثلًا للغلاف الجوي لتلك الكواكب العملاقة. ومثل هذا الغلاف الجوي «الاختزالي» ربما احتوى على الميثان والأمونيا وبخار الماء والهيدروجين، وربما أدَّى إلى تكوُّن الجزيئات العضوية تدريجيًّا، كما حدث في تجارب بيرتيلو. ولكنه لم يحتوِ على الأكسجين، الذي كان ليتفاعل مع المركَّبات الأولية للحياة ويُدمِّرها.

لُخصت حجة أوبارين في بضع خطوات، وهي:
  • لا يوجد فارق جوهري بين الكائنات الحية والمادة الخالية من الحياة. فتعقيدات الحياة تطوَّرت حتمًا في أثناء عملية تطوُّر المادة.

  • حظي كوكب الأرض في مهده بغلاف جوي شديد الاختزال، احتوى على الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء، التي كانت بمثابة المواد الخام لتطوُّر الحياة.

  • كلما زاد حجم الجزيئات وتعقيدها، زاد سلوكها تعقيدًا أيضًا، وتتحدَّد التفاعلات بين الجزيئات عن طريق شكل الجزيئات وطريقة توافقها معًا.

  • حتى في هذه المرحلة المبكرة كان نشوء بُنًى جديدة محكومًا بالمنافسة، بصراع من أجل البقاء «تتغذَّى» فيه بُنًى معقدة على جزيئات أبسط، وبالانتقاء الطبيعي الدارويني.

  • الكائنات الحية نُظم مفتوحة، تستقبل الطاقة والمواد الخام من الخارج؛ لذا فهي ليست مُقيَّدةً بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية.

والنقطة الأخيرة هنا من النقاط المهمَّة التي عادةً ما تُغفل. يُعرف القانون الثاني للديناميكا الحرارية بأنه قانون الطبيعة الذي يخبرنا بأن الأشياء تبلى، وأن مقدار الفوضى في العالم (الذي يُقاس بكم يسمَّى الإنتروبيا أو القصور الحراري) في ازدياد دائمًا. والمثال النموذجي على ذلك هو كأس الشراب الذي يسقط من فوق الطاولة ويتحطَّم عند ارتطامه بالأرض. يكون الزجاج المحطَّم أكثر فوضى من وعاء الشرب الأصلي، وهذا يعني زيادة الإنتروبيا. ولا ترى أبدًا شظايا زجاج المحطَّم على الأرض تعيد ترتيب نفسها تلقائيًّا لتكوين وعاء للشرب، فيما يسمَّى إنتروبيا سلبية. ولكن يبدو أن الحياة تتحايل على هذا القانون. فبطريقة ما تخلق الحياة نظامًا من الفوضى، عاكسةً بذلك اتجاه تدفُّق الإنتروبيا. لكن لا يمكنها القيام بذلك إلا على أساس موضعي. فمثلما يتطلَّب صنع كوب الشراب مُدخلًا من الطاقة، يتطلَّب تكوُّن الكائنات الحية والحفاظ على الحياة مُدخلًا من الطاقة. وبالنسبة إلى المخلوقات الحيوانية أمثالنا، تأتي هذه الطاقة من غذائنا؛ وهو ما يعني أنها في النهاية تأتي من النباتات؛ لأننا حتى لو كنا نأكل اللحوم، فإن اللحوم مصدرها الحيوانات التي تغذَّت على النباتات. أمَّا بالنسبة إلى النباتات، تأتي الطاقة في النهاية من أشعة الشمس. إن الأرض النابضة بالحياة أشبه بفقاعة من تدفُّق الإنتروبيا العكسي؛ إذ تتغذَّى كلها على تيار الطاقة المتدفِّق من الشمس. وتُعوَّض هذه الطاقة على نحو كافٍ تمامًا بالزيادة الضخمة في الإنتروبيا المرتبطة بالعمليات التي تحافظ على سطوع الشمس.

كان الطرح الخاص الذي عرضه أوبارين ينص على أنه بمساعدة الطاقة المنبعثة من ضوء الشمس أو مصدر خارجي آخر ما، مثل البرق، داخل هذا الغلاف الجوي الاختزالي الذي تخيَّله، استطاعت الإنتروبيا أن «تسير بالعكس» لتكوين جزيئات معقَّدة تحتوي على الكربون؛ أي الجزيئات العضوية. ويمكن أن تنمو مثل هذه الجزيئات على هيئة صفائح وقطرات متناهية الصغر أو حتى فقاعات صغيرة جوفاء، وهي الأشياء التي ربما تطوَّرت إلى خلايا. لم تحظَ جهود أوبارين بالاهتمام الكافي خارج حدود وطنه في ذلك الوقت، ولكن الباحث البريطاني جيه بي إس هولدين توصَّل بصورة مستقلة إلى الفكرة ذاتها في عام ١٩٢٩، وكأنما أراد أن يُثبت أن الوقت كان مواتيًا لها بالفعل. وكان هولدين (الذي، كما رأينا سابقًا، كان يتمتَّع بموهبة في ابتكار طرفات علمية لا تُنسى) هو مَن فكَّر في اسم جذَّاب لفكرة «البركة الصغيرة الدافئة» الافتراضية التي حدث فيها كل هذا، فأسماها الحساء البدائي. كانت الخطوة التالية هي محاولة إنتاج، أو إعادة إنتاج، الظروف التي كانت موجودةً في الحساء البدائي في المختبر. ولكن على الرغم من أن تلك التجارب كانت ناجحةً إلى حد ما، فقد أثارت تساؤلات جديدة، وطغت عليها مفاجأة أخرى، والتي أصبحت في حد ذاتها أحد أعمدة العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤