العمود الرابع: مجرة درب التبانة مستودع المكوِّنات الأولية للحياة

بعد مُضي عَقدَين من الزمان على فرضية أوبارين، القائلة إن الحياة ربما نشأت في جو اختزالي على كوكب الأرض في بداية نشأته، ألقى هارولد يوري، أستاذ الكيمياء بجامعة شيكاغو، محاضرةً على طلابه حول ما أشار إليه باسم «فرضية أوبارين-هولدين». وكان من بين طلابه طالب حديث التخرُّج يُدعى ستانلي ميلر، كان لديه من الفضول ما دفعه للسؤال عن إمكانية نيل درجة الدكتوراه بالعمل على هذه الفكرة من خلال إنشاء تجربة لاختبار مدى صحتها؛ وذلك بعمل نموذج مُصغَّر ﻟ «بركة صغيرة دافئة» بداخل أوعية زجاجية مختبرية محكمة، تحوي مزيجًا من المواد التي أشار إليها كل من أوبارين وهولدين.

وافق يوري على الإشراف على التجربة، واشتُهرت النتائج التي توصَّلا إليها باسم تجربة ميلر-يوري.

كان محور التجرِبة دورقًا زجاجيًّا، سعة ٥ لترات، يحتوي على خليط من الميثان والأمونيا والماء وبخار الماء والهيدروجين. كان إمداد بخار الماء مستمرًّا دون انقطاع، وذلك بتوصيل دورق آخر من الماء المغلي سعة نصف لتر، بالدورق الأساسي عن طريق أنابيب، وكان البخار يمر عبر الدورق الأساسي ثم يتكثَّف، مع استمرار تصاعد الغازات الساخنة عبر غرفة للتبريد، وهي أنبوب منحنٍ على شكل حرف U، لتعود من جديد إلى دورق الغليان لإكمال دورتها. تُوفِّر انحناءة هذا الأنبوب حاجزًا يمكن احتجاز السائل فيه، ثم صرفه عبر صنبور. ولتوفير إمداد من الطاقة محاكيًا لحركة فعل البرق، كانت هناك شرارات كهربائية تومض عبر الخليط في الدورق الأساسي.
figure
ستانلي ميلر. «ساينس فوتو لايبراري».

تضمَّن النموذج الأصلي للتجربة تصريف السائل المحتجز في الأنبوب المنحني وتحليله مرةً أسبوعيًّا. ولكن لم تستغرق التجربة أكثر من أسبوع واحد لإثبات نجاح مذهل لها، وجاءت نتائجها جديرةً بنيل درجة الدكتوراه عن استحقاق. ففي أقل من يوم تغيَّر لون السائل الموجود بالأنبوب المنحني إلى اللون الوردي. وعند تصريف السائل الناتج عن الأسبوع الأول وتحليله، وجد ميلر أن أكثر من عشرةٍ بالمائة من الكربون في خليط الغازات الأصلي المحتجَز داخل الدورق الذي سعته ٥ لترات، قد تحوَّل إلى مركبات عضوية. وكانت الأحماض الأمينية أهم هذه المركبات، وهي جزيئات عضوية معقَّدة تُعَد في حد ذاتها العناصر المكوِّنة للبروتينات، التي تُعَد البنى الأساسية للحياة. ولا يوجد سوى عشرين حمضًا أمينيًّا يتحد معًا بطرق مختلفة لتكوين جميع البروتينات التي توجد في جسمك. ونجحت تجربة ميلر-يوري في إنتاج ثلاثة عشر بروتينًا منها، خلال أسبوع واحد فقط. ونُشرت النتائج في دورية «ساينس» في عام ١٩٥٣. واعتُقِد أنهما على بعد خطوة واحدة فقط من تخليق الحياة ذاتها، وكرَّس ميلر مسيرته العلمية كاملة (إذ تُوفِّي عام ٢٠٠٧) لصقل تجربته وتطويرها، على مدار فترات أطول وأطول، أملًا في قطع هذه الخطوة الواحدة الناقصة. ولم يتزعزع عن موقفه عندما أعلن الجيولوجيون أن نشأة الأرض ربما لم تبدأ بغلاف جوي اختزالي قط. وأفضل دليل على ذلك أن الغلاف الجوي الأولي لكوكبنا كان يتألَّف من خليط الغازات ذاته المنبعث من البراكين اليوم، وأبرزها ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين وثاني أكسيد الكبريت. واكتفى ميلر بتعديل أجهزته لتلائم هذا الخليط من المواد، وكرَّر المحاولة، ونجح مرةً أخرى في إنتاج مجموعة متنوِّعة من الجزيئات العضوية المعقَّدة من مواد أولية بسيطة. ويكفيه أنه قد أثبت أن تكوُّن جزيئات معقَّدة مثل الأحماض الأمينية من مركبات بسيطة يُعَد أمرًا سهلًا بل هو حتمي، شريطة وجود إمداد من الطاقة. ولكن المفارقة أنه لم يتكبَّد عناء محاولة تفسير كيفية وصول مثل هذه الجزيئات إلى الأرض. أمَّا المفاجأة الكبرى التي ظهرت من المشاهدات المرصودة بدايةً من أواخر القرن العشرين وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين، والتي زعزعت فهمنا لنشأة الحياة على الأرض، فهي احتمالية أن تكون كيمياء البرك الصغيرة الدافئة التي كانت موجودةً على الأرض في بداية نشأتها، قد «بدأت» بمركَّبات تشبه الأحماض الأمينية.

لقد قطعنا شوطًا طويلًا بعد العمل الرائد الذي أنجزه علماء الكيمياء الحيوية في القرن التاسع عشر. وإذا رغب أحد ورثتهم اليوم في تصنيع الجزيئات الأساسية للحياة والبروتينات والحمضَين النوويَّين الشهيرَين المتمثلَين في الحمض النووي (دي إن إيه) والحمض النووي الريبي (آر إن إيه)، فلن يُكلِّف نفسه عناء البدء من خليط الغازات الذي كان يحتمل وجوده في الغلاف الجوي الاختزالي، أو حتى من خليط الغازات المنبعثة من البراكين اليوم.١ أمَّا المواد الأولية الأكثر تعقيدًا وإثارةً للاهتمام مثل الفورمالدهيد والميثانول، فهي متاحة لدى مُورِّدي الكيماويات، ويمكن العثور عليها فوق رفوف أي من مختبرات الكيمياء الحيوية المجهَّزة جيدًا. ولا شك في أن سبب توفُّرها بسهولة يُعزى إلى أن أحدهم أخذ على عاتقه عناء تصنيعها عن طريق التخليق الكامل، على نطاق صناعي. والمفاجأة المذهلة هي أن الكون فعل الأمر ذاته، على نطاق أوسع بكثير، ولعدد كبير من المركَّبات الأولية للحياة.
بدأت القصة في ثلاثينيات القرن الماضي بعدما عُثر على أبسط المركَّبات الجزيئية المكوَّنة من الكربون والهيدروجين (CH)، والكربون والنيتروجين (CN)، في سحب من الغاز والغبار في الفضاء (السُّدُم) باستخدام التحليل الطيفي. لكنها لم تُثِر أي اهتمام إلا في ستينيات القرن الماضي، عندما سمحت التقنيات الحديثة بتوسيع نطاق الأطوال الموجية التي يمكن فحصها بهذه الطريقة. فالجزيئات الصغيرة، مثل أول جزيئَين في الفضاء جرى التعرُّف عليهما، تُنتج خطوطًا في نطاق الجزء المرئي من الطيف الضوئي. أمَّا الجزيئات الكبرى فتُنتج سمات متكافئةً في الطيف عند أطوال موجية أكبر، في نطاق الأشعة تحت الحمراء والموجات اللاسلكية من الطيف. لذا كان لا بد من انتظار ظهور التقنية المناسبة للتعرُّف عليها، وتجلَّت هذه التقنية في هيئة تلسكوبات لرصد الأشعة تحت الحمراء والتلسكوبات اللاسلكية أو الراديوية، لصياغة التعريفات الدقيقة لها. وحتى في ذلك الحين، استغرق علماء الفلك وقتًا حتى أدركوا ماهية ما يرونه؛ إذ لم يتوقَّع أحد العثور على جزيئات معقَّدة في الفضاء. وفجأةً ظهرت نقطة مضيئة جعلتهم يدركون الأمر، وبدءوا في البحث بدأب عن جزيئات في الفضاء، بحثًا عن أنواع أكبر وأكثر تعقيدًا، في سباق للعثور على الجزيء الذي يحوي أكبر عدد من الذرات المرتبطة معًا.
كان الجزيء الثالث الذي عُثر عليه في الفضاء هو الجزيء المسمَّى بجذر الهيدروكسيل (OH)، وجرى التعرُّف عليه في عام ١٩٦٣. غير أن جميع الأنظار اتجهت إلى الاكتشاف التالي الذي أعُلن عنه في عام ١٩٦٨. وكان هذا الجزيء هو جزيء الأمونيا رباعي الذرات (NH3). وكانت تلك الدلالة الأولى على إمكانية اتحاد أكثر من ذرتَين معًا في ظروف الفضاء بين النجمي لتكوين جزيئات. وكان الماء (H2O) من بين الجزيئات الثلاثية الذرات الأولى التي جرى التعرُّف عليها، ولكن جاءت الإثارة الكبرى باكتشاف الفورمالدهيد (H2CO)، أول مركب عضوي يُعثر عليه في الفضاء. وجرى التعرُّف على بضع مئات من الجزيئات بين النجمية، من بينها اليوريا٢ والكحول الإيثيلي. كان اكتشاف الكحول الإيثيلي أمرًا مثيرًا للاهتمام بصورة خاصة، ليس لأنه أعطى كتَّاب المقالات في الصحف الشهيرة فرصةً للإشارة إلى وجود سحب من «الفودكا في الفضاء» فحسب، وإنما لأن كل جزيء يتألَّف من تسع ذرات (CH3CH2OH). يوجد بضع جزيئات جرى التعرُّف إليها بصورة حاسمة ودقيقة، يتألَّف كلٌّ منها من عشر ذرات أو أكثر، ولكن يظل الجلايسين (H2NH2CCOOH) أحد الجزيئات المثيرة للاهتمام بشكل خاص. فالجلايسين هو حمض أميني، ويُعَد إحدى اللبنات الأساسية للبروتينات. وما استطاع ميلر فعله في دورق سعته ٥ لترات داخل مختبره، يمكن للكون فعله في سحب غازية هائلة في الفضاء.
ثمة اكتشاف آخر مهم لجزيء مُكوَّن من اثنتَي عشرة ذرة، يُسمَّى سيانيد الآيزوبروبيل ((CH3)2CHCN)، الذي جرى التعرُّف عليه في عام ٢٠١٤. وهذا مهم لأن الرمز (CH3)2 يعني وجود وحدتَين CH3 منفصلتَين تتفرَّعان من ذرة الكربون ذاتها، وهذه البنية مشابهة لبنية العديد من الجزيئات المعقدة التي ساهمت في تشكيل الحياة على كوكب الأرض، ويشمل ذلك بعض الأحماض الأمينية. وبعد مرور عامَين، وتحديدًا في عام ٢٠١٦، رصد علماء الفلك جزيء أكسيد البروبيلين (CH3CHCH2O) المكوَّن من عشر ذرات، في سحابة من الغاز والغبار تسمَّى القوس بي-٢ (Sagittarius B2). والسمة المثيرة للاهتمام في هذا الجزيء هي امتلاكه خاصيةً تُدعى الكيرالية أو عدم التناظر المرآتي، وهذا بالأساس يعني الانطباقية. ويوجد بصورة طبيعية في هيئة جزيئات تدور جهة اليسار وأخرى تدور جهة اليمين، ولكن عُثر على نوع واحد فقط في عام ٢٠١٦. تتميَّز الجزيئات اللولبية بخاصية الكيرالية أو عدم التناظر؛ إذ بإمكانها الالتفاف إمَّا يسارًا وإمَّا يمينًا. وتنقسم الحياة على الأرض بدقة إلى كلا النوعَين من الكيرالية. فالأحماض الأمينية تكاد تدور بأكملها جهة اليسار، بينما يدور لولبا الحمض الريبي والحمض النووي جهة اليمين. وأكسيد البروبيلين المرصود في السحب مثل القوس بي-٢، سيُحدِّد كيرالية هذه السحب من خلال تأثير الضوء٣ المنبعث من النجوم، الذي يسمح بدمغ نوع واحد فقط من الانطباقية على الجزيئات داخل سحابة واحدة من الغاز والغبار، على الرغم من أن المشاهدات ليست تفصيليةً بالدرجة الكافية لتحديد أي جهة ستغلب في هذه الحالة. ونظرًا إلى أن النجوم والكواكب تتشكَّل من مثل هذه السحب، فإن المعنى الضمني هو أن الانطباقية قد دُمغت بالفعل في مكوِّنات الحياة قبل حتى أن تصل إلى سطح الكوكب. وعليه، ستكون جميع الأنظمة الكوكبية التي تتكوَّن من السحابة نفسها، لها خاصية الانطباقية ذاتها. ولكن كيف تتشكَّل هذه الجزيئات بالضبط في الفضاء، وكيف يمكنها الوصول إلى سطح كوكب ما؟

لعل ذكر «الغبار» عند الحديث عن السحب بين النجمية يُثير في ذهنك صورةً غير صائبة تمامًا. تُوضِّح الدراسات التي أُجريت على الإشعاع الكهرومغناطيسي المنبعث من هذه السحب عبر نطاق واسع من الأطوال الموجية، أن الغبار يتكوَّن من جسيمات دقيقة، تشبه الجسيمات المنبعثة من دخان السجائر. وتتألَّف تلك الجسيمات من مواد مثل الكربون، وأكاسيد السيليكون، ويُغطيها جليد مكوَّن من الأمونيا والميثان المتجمِّدَين، بالإضافة إلى الجليد المائي المتعارف عليه. فإذا تصادف اصطدام ذرتَين أو جزيئَين صغيرَين، أو جزيء كبير وآخر صغير في الفضاء، فأغلب الظن أنهما سيرتدَّان أو ينشطران عند اصطدام بعضهما ببعض. لكن الأسطح الجليدية لحبيبات الغبار تُوفِّر مواضع يمكن للذرات والجزيئات الالتصاق بها. وعندما تلتصق المواد البسيطة بالجليد، يكون أمامها فرصة للاتحاد معًا لتكوين مواد أكثر تعقيدًا تُفلت من الجليد فيما بعد، وهو ما قد يحدث عندما تُشارك الحبيبات نفسها في اصطدامات، أو نتيجةً لتأثير الأشعة الكونية، أو بفعل الجسيمات السريعة الحركة المقذوفة خلال النشاط النجمي. اختُبرت هذه الأفكار داخل المختبر بتبريد الجسيمات الجليدية المماثلة لتلك الموجودة في الفضاء، حتى سالب ٢٦٣ درجة مئوية لمحاكاة برودة الفضاء، وغمرت في الأشعة فوق البنفسجية لمحاكاة الطاقة التي تُوفِّرها النجوم. وتحدث التفاعلات الكيميائية على أسطح الحبيبات بالطريقة التي وضَّحتها بالضبط.

لا تحدث هذه العملية بسرعة كبيرة. فتكوُّن جزيئات معقَّدة مثل الجلايسين أو سيانيد الأيزوبروبيل يستغرق وقتًا طويلًا. لكن كان هناك متسع من الوقت لذلك. فعمر الكون يبلغ نحو ١٣٫٨ مليار سنة، وعمر مجرتنا درب التبانة أقل من ذلك بقليل. حتى عمر المجموعة الشمسية والأرض ذاتها يبلغ نحو ٤٫٥ مليارات سنة. وأوضحت بقايا الأحفوريات أن أشكال الحياة الوحيدة الخلية وُجدت على الأرض منذ ٣٫٨ مليارات سنة على الأقل، والأمر المحيِّر هو الكيفية التي أتاحت لمواد مثل ثاني أكسيد الكربون، والماء، وثاني أكسيد الكبريت، إنتاج أنماط حياة مماثلة في وقت قصير كهذا، من العدم. لكن ما هو محيِّر أيضًا الكيفية التي أتاحت لمثل هذه المواد الأولية، بالإضافة إلى الميثان والأمونيا، إنتاج مركَّبات مثل الجلايسين أو سيانيد الأيزوبروبيل في غضون عشرة مليارات سنة أو أكثر؛ أي أكثر من ضعف العمر الحالي للأرض.

كم تبلغ كمية المواد العضوية المعقَّدة التي قد توجد في الفضاء؟ تحتوي مجرتنا درب التبانة على مئات الملايين من النجوم التي تشبه شمسنا بصورة أو بأخرى، وتشير مجموعة متنوِّعة من عمليات الرصد الفلكية إلى أن كتلة جميع الغاز والغبار الموجودَين بين النجوم تبلغ نحو ١٠ بالمائة من كتلة جميع النجوم. وهذا يعني ١٠ ملايين ضعف كتلة الشمس على الأقل. ويمكننا إدراك ما يحدث عندما تتجمَّع مثل تلك السحب المكوَّنة من الغاز والغبار معًا عن طريق الجاذبية لتكوين نجوم وكواكب جديدة.

ثمة نظام يُعرف باسم «آي آر إس ٤٦»، يوجد به قرص ضخم من المواد مغطًّى بالغبار ويُحيط بنجم حديث النشأة. وهذا يشبه سحابة المواد التي تكوَّنت منها الأرض والكواكب الأخرى حول الشمس في بداية نشأتها حسبما يُعتقد، ويمكن دراستها تفصيليًّا نظرًا إلى قربها النسبي منَّا؛ إذ تبعد عنا مسافة ٣٧٥ سنةً ضوئيةً فقط. يحتوي القرص على تركيزات عالية من سيانيد الهيدروجين والأسيتيلين. وعند استخدام هذَين المركبَين، بالإضافة إلى الماء، في التجارب المختبرية التي تحاكي ظروف الفضاء، فإنها تتفاعل لتنتج الأحماض الأمينية. وفي عام ٢٠١٩ أعلن علماء وكالة ناسا أنه بتحليل البيانات الواردة من مسبار كاسيني الفضائي، اتضح لهم وجود وحدات بناء للحياة في فُوَّهات نشطة تقذف المياه من المحيطات المغطاة بالجليد في إنسيلادوس، أحد أقمار كوكب زحل. تستمد هذه الوحدات طاقتها من مصادر مائية حرارية تقع في عمق الجليد. تنبعث المادة من باطن القمر بقوة عبر فُوَّهات مائية حرارية، وتمتزج مع ماء المحيط الضخم المغطَّى بالجليد على سطح القمر، قبل إطلاقه في الفضاء عبر الينابيع الحارة الضخمة المتفجِّرة عبر الجليد على هيئة بخار ماء وحبيبات جليدية. تتكثَّف الجزيئات فوق حبيبات الجليد، وكشفت أجهزة الرصد الموجودة على متن مسبار كاسيني أنها مركَّبات محمَّلة بالنيتروجين والأكسجين، شبيهة بتلك التي تظهر في الأقراص المغطاة بالغبار الموجودة حول النجوم الحديثة النشأة. وهذا يوافق ما أثبته ستانلي ميلر خلال مسيرته المهنية الطويلة، من أن تكوُّن جزيئات معقَّدة مثل الأحماض الأمينية من مركَّبات بسيطة يُعد أمرًا سهلًا، بل هو حتمي، شرط وجود إمداد من الطاقة.

وباعتبارها الوحدات البنائية للبروتينات، تُشكِّل الأحماض الأمينية نصف قصة نشأة الحياة. أمَّا النصف الآخر من القصة فيتمثَّل في الحمض النووي والحمض النووي الريبي. ولكن لم يُكشف بعدُ عن وجودهما في الفضاء. بيد أنه كُشف مجدَّدًا عن وجود وحداتها البنائية.

والمكوِّن الأساسي لكلٍّ من الحمضَين النوويَّين هو سكر يُسمَّى بالريبوز. يتكوَّن كل جزيء من جزيئات الريبوز حول حلقة خماسية الذرات، مكوَّنة من أربع ذرات كربون، وذرة أكسجين واحدة، يمكنها الاتحاد مع مواد أخرى خارج الحلقة. ترتبط كل ذرة من ذرات الكربون الثلاث في سكر الريبوز بذرة هيدروجين، ومجموعة هيدروكسيل (OH) خارج الحلقة. ولكن في سكر الريبوز منقوص الأكسجين، ترتبط إحدى ذرات الكربون الثلاث بذرتَي هيدروجين فقط، فتُنتقص ذرة أكسجين من الجزيء بأكمله. فسكر الريبوز منقوص الأكسجين هو ريبوز ينقصه ذرة أكسجين واحدة، ومن هنا جاءت تسميته.٤
يحتوي القوس بي-٢ على الوحدات البنائية الأساسية للأحماض النووية بين مخزونه من المركَّبات الكيميائية. وتُعَد جزيئات سكر الجليكو ألدهيد (HOCH2-CHO) من بين الجزيئات الموجودة في السحابة، ومن المعروف أنها تتفاعل بشدة مع مركبات الكربون الأخرى لتكوين الريبوز. لعلها مبالغة بعض الشيء أن نقول إننا عثرنا على الوحدات البنائية لكلٍّ من الحمض النووي والحمض النووي الريبي في الفضاء، لكننا بالتأكيد وجدنا الوحدات البنائية المكوِّنة لوحداتهما البنائية، وفي تطوُّر هام أُعلن عنه في عام ٢٠١٩، أعلن فريق بقيادة ياشوهيرو أوبا أنهم نجحوا في تصنيع مكوِّنات الحمض النووي في تجربة مختبرية صُممت لمحاكاة الظروف الموجودة في السحب بين النجمية. وكما صرَّح جيم لوفلوك مبتكر نظرية جايا: «يبدو الأمر كما لو أن مجرتنا كانت مستودعًا عملاقًا يحوي قطع الغيار اللازمة للحياة.» ولكن حتى لو كانت قطع الغيار اللازمة للحياة موجودةً بوفرة في الفضاء، وخاصةً في حلقات الغبار الموجودة حول النجم «آي آر إس ٤٦»، فكيف وصلت هذه الوحدات البنائية إلى الأرض عندما كان كوكبنا لا يزال حديث النشأة؟

إن الجليد الذي يُغطِّي حبيبات الغبار في الفضاء، ويُوفِّر ملاذًا يمكن للجزيئات العضوية أن تنمو فيه، يُعَد أيضًا دليلًا على الطريقة التي يمكن أن تتشكَّل بها الكواكب مثل كوكب الأرض. فعندما يتشكَّل نجم نتيجة انهيار سحابة ضخمة من الغاز والغبار، حينما تبدأ الجاذبية بجذب المادة معًا يتخلَّف بعض الغبار في هيئة حلقة، مثل تلك المحيطة بالنجم «آي آر إس ٤٦». مثل هذا الانهيار لا يكون متماثلًا تمامًا؛ لأن كل شيء يدور بطريقة أو بأخرى؛ لذلك يستقر الغبار على هيئة حلقة تدور حول النجم الأم. فلو كان مكوَّنًا من غبار فقط لظل على هذا الحال على الأرجح. ولكن نظرًا إلى أن الحبيبات مغطاة بالجليد، فإنها تكون لزجةً وتميل إلى الالتصاق بعضها ببعض عند الاصطدام، ممَّا يؤدِّي إلى تكوين كتل أكبر وأكبر حتى تصبح كبيرةً بما يكفي لجذب حبيبات أخرى إليها. بعد ذلك يمكن أن تتجمَّع الكتل معًا لتكوين قطع صخرية تصطدم وتندمج معًا بدورها، وتشكِّل قطعًا صخريةً أكبر، وتزداد حتى تصبح كواكب. أمَّا المراحل الأخيرة من هذه العملية فهي عنيفة للغاية، وفيها يُحتمل اصطدام الكويكبات الكبيرة كالمريخ بعضها ببعض لتكوين كواكب كاملة في شكل كرات من الصخور المنصهرة. وبحلول ذلك الوقت تكون جميع المواد العضوية الموجودة في الحبيبات الأصلية التي كوَّنت الكوكب — لنُسمِّه الأرض — قد دُمرت بفعل الحرارة. ولكن حتى بعد تكوُّن الأرض كانت لا تزال هناك كتل ضخمة من المواد الصخرية، والكثير منها يحوي كميات كبيرةً من الجليد، من نوع أو آخر، ومواد يُغطِّيها الغبار حول الشمس حديثة النشأة.

تحوَّلت الكتل الجليدية إلى مذنبات، وتسبَّبت جاذبية كوكب المشتري في قذف كلٍّ من المذنبات والكتل الصخرية التي تحتوي على القليل من الجليد، أو لا تحتوي على أي جليد على الإطلاق، إلى مدارات إهليجية سحبتها إلى الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية، حيث الأرض الحديثة النشأة، التي كانت جدباء وتفتقر إلى غلاف جوي، في طور التصلُّب والبرودة. ونتج عن ذلك عدد هائل من التصادمات على سطح الأرض، كانت بالغة الأثر للحد الذي جعل علماء الفلك يُشيرون إليها باسم «القصف الشديد المتأخِّر». ومن بين أمور أخرى كان القصف الشديد المتأخِّر هو المسئول عن المظهر المحطَّم الذي يبدو عليه سطح القمر، الذي كان يدور بالفعل حول الأرض حينذاك. ويكشف تحليل نمط الفُوَّهات القمرية وتأريخ صخور القمر عن معلومات حول القصف الشديد المتأخِّر، الذي استمرَّ لبضع مئات من ملايين السنين، حتى نفد معظم الحطام الموجود في المجموعة الشمسية الداخلية المتبقي من تكوين الكواكب. وقد انتهى قبل أقل من ٤ مليارات سنة. وفي غضون أقل من ٢٠٠ مليون سنة أخرى نشأت على الأرض الحياة القائمة على البروتين والحمض النووي، وذلك بفضل أمطار لطيفة محمَّلة بمواد متساقطة من الفضاء، واستمرَّت في التساقط على كوكبنا في أعقاب القصف الشديد المتأخِّر.

جلبت المذنبات كلًّا من الماء والكائنات الحية، أو على الأقل أسلاف الكائنات الحية، إلى الأرض. وتخبرنا نماذج المحاكاة الحاسوبية لهذه الأحداث أنه في أثناء القصف المذنَّبي أطلق نحو عشرة أضعاف كمية المياه الموجودة في المحيطات اليوم، وألف ضعف حجم الغاز الموجود في الغلاف الجوي في يومنا هذا. وساهم ذلك في تبريد الكوكب، بينما تسرَّبت بعض المواد المتطايرة إلى الفضاء، مثل الماء وثاني أكسيد الكربون والميثان. ولكن نظرًا إلى أن سطح الأرض قد تضرَّر بفعل التصادمات، في عملية يُشار إليها بيانيًّا باسم «حرث الاصطدام»؛ فقد امتزجت بعض المواد مع المادة الأصلية للسطح لتُشكِّل الصخور الغنية بالمواد المتطايرة التي تُعَد من المحتويات النمطية للقشرة الأرضية اليوم. وفور تشكُّل الغلاف الجوي والمحيطات، باتت الأرض مستعدةً لاحتضان الحياة. وسرعان ما بُذِرت فيها مكوِّنات الحياة.

بالإضافة إلى المذنبات التي اصطدمت بعنف بالأرض حديثة النشأة، كان هناك العديد من الأجسام المماثلة الأخرى التي اجتازت الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية، وتبخَّرت تدريجيًّا بفعل حرارة الشمس. وتلك هي العملية التي تمنح المذنبات أذيالها المميِّزة لها اليوم، على الرغم من وجود مذنَّبات أخرى لها أذيال أكثر تميُّزًا، عندما كانت الأرض والمجموعة الشمسية لا تزالان حديثتَي النشأة. وبعد مُضي ٤ مليارات سنة كانت أغلب المذنَّبات الموجودة داخل المجموعة الشمسية قد تبخَّرت منذ فترة طويلة. ولكن هذا هو سبب وجودنا هنا على الأرض. فذيل المذنب هو عبارة عن تيار من الغاز والغبار يتسرَّب من النواة الجليدية في أثناء تبخُّر المذنب. يُترك ذلك الغبار في مسار حول مدار المذنب، وحتى يومنا هذا غالبًا ما تشهد الأرض مثل هذا التدفُّق من غبار المذنَّبات، وهو ما ينتج عنه زخات الشهب التي تكون في هيئة جسيمات دقيقة بحجم حبيبات الرمل تقريبًا، تحترق في الغلاف الجوي. ولكن هناك أيضًا جسيمات ذات بنية أكثر انفتاحًا، مثل ندف الثلج التي تهبط عبر الغلاف الجوي للأرض وتستقر على سطح كوكب الأرض. وتحمل معها المزيج ذاته من المواد العضوية التي تُرَى (باستخدام التحليل الطيفي) في أذيال المذنبات، وتربط السحب العملاقة التي تتكوَّن منها أنظمة الكواكب. وقد جرى جمع عينات من هذه المواد باستخدام طائرات تُحلِّق على ارتفاعات عالية، ومناطيد تصل إلى طبقة الستراتوسفير. يُوضِّح مقدار العينات المُجمَّعة أن هذه العملية حتى في يومنا هذا تنقل إلى سطح الأرض نحو ٣٠٠ طن من المواد العضوية — جزيئات متعدِّدة الذرات تحتوي على الكربون — كل عام.

وكما أشار داروين لا يوجد احتمال لتطوُّر هذه المادة إلى كائن حي اليوم. فبادئ ذي بدء، يُدمَّر الكثير منها من خلال تفاعلات مع الأكسجين في الغلاف الجوي، ويدخل المتبقي منها إلى السلسلة الغذائية للكائنات الحية. لكن لم يكُن هناك وجود للأكسجين، ولا الكائنات الحية، حينما أصبحت الأرض باردةً وتشكَّل لها محيط وغلاف جوي. إذن ما مقدار المادة المذنَّبية التي تسبَّبت في بدء ظهور الحياة؟

يستمد علماء الفلك فكرةً تقريبيةً من أمور مثل دراسة الفُوَّهات الموجودة على سطح القمر، وتحليلات مدارات المذنبات في الوقت الحالي، ونماذج المحاكاة الحاسوبية لديناميكيات المجموعة الشمسية حديثة النشأة. وتُشير تقديراتهم إلى أنه على مدار نحو ٣٠٠ ألف سنة، بدءًا من نهاية القصف الشديد المتأخِّر، كانت كمية المواد العضوية التي تساقطت على الأرض مماثلةً للقدر الموجود داخل جميع الكائنات الحية على الأرض في العصر الحاضر. وبدايةً من وقت انتهاء القصف الشديد المتأخِّر، وحتى الوقت الذي تأكَّدنا فيه من وجود حياة على الأرض؛ أي نحو ٢٠٠ مليون سنة، لو أمكن الحفاظ على جميع المواد العضوية التي سقطت وانتشرت بالتساوي على سطح الكوكب، لتكوَّنت طبقة تحتوي على ٢٠ جرامًا من المواد العضوية فوق كل سنتيمتر مربع من سطح الأرض، وربما اشتملت على الأحماض الأمينية وسكر الريبوز. وهذا يُعادل محتويات عبوة سعة ٢٥٠ جرامًا من الزبْد القابل للدهن مفرودةً على كل رقعة مساحتها ٣٫٥ × ٣٫٥ سنتيمتر مربع من سطح الأرض. لا عجب أن الحياة قد بدأت بهذه السرعة، وفور ظهور أول شكل للحياة على سطح الأرض، لا بد أنه قد توافرت لها الكثير من الأشياء لتتغذَّى عليها على مدار الألفيات الأولى.

أصبح ذلك الآن عمودًا من أعمدة العلم. لقد بُذِرت الأرض في بداية نشأتها بالمواد الخام للحياة من المخزون الكوني الذي أشار إليه لوفلوك. ولكن ثمة فكرة أكثر مدعاةً للتأمُّل، ربما تكون اليوم في مكان ما بين المرحلتَين الأولى والثانية من تصنيف هولدين. لا يوجد سبب للشك في وجود الأحماض الأمينية و(ربما) الريبوز في السحب بين النجمية. هل من الممكن أن تكون الأجسام قد انتقلت إلى مرحلة أخرى أبعد لإنتاج البروتينات والأحماض النووية داخل المذنبات؟ الفكرة ليست مجنونةً مثلما قد يتبادر إلى ذهنك؛ لأن المحفِّز الذي يتسبَّب في انهيار سحابة من الغاز والغبار لتكوين النجوم والكواكب غالبًا ما يكون من المستعرات العظمى، ما يعني أنه انفجار نجمي. وينتج عن ذلك عناصر مشعة، وفي السحابة يمكن للكتل الجليدية المكوَّنة من المواد الممتزجة بالعناصر المشعة أن تصبح دافئةً بما يكفي لإذابة الماء الكامن بها، من خلال الحرارة الناتجة عن التحلُّل الإشعاعي. فهل من الممكن أن تكون برك داروين الصغيرة الدافئة قد وُجدت في هذه الكتل الجليدية، حتى قبل أن تتشكَّل الأرض؟ يمكنك أن تُقرِّر بنفسك ما إذا كان هذا التخمين (١) هراءً لا قيمة له؛ أو (٢) وجهة نظر مثيرةً للاهتمام، ولكن لا أساس لها من الصحة. ولكن إن صح ذلك فهذا يعني أنه على الأقل في جوارنا الكوني القريب، ستعتمد الحياة في الكواكب الأخرى على النوع نفسه من البروتينات والأحماض النووية الذي نعتمد عليه.

ولكن حتى من دون الذهاب إلى هذا الحد يمكننا التيقُّن من أن أي كواكب شبيهة بالأرض ستحوي سلائف حياة مماثلة لتلك التي نعلم بوجودها في السحب بين النجمية. من الصعب علينا إدراك سبب فشل ظهور الحياة في ظل هذه الظروف؛ لأننا لا نعرف بالضبط كيف تحدث خطوة الانتقال من غير الحي إلى الحي، لكن الحقيقة أنها قد حدثت بسرعة كبيرة على الأرض، تُشير إلى أنها ليست بالخطوة الصعبة. وهذا دليل قوي على أن جوردانو برونو كان مُحقًّا، فلعل هناك بالفعل وفرةً من الكواكب الأخرى مثل كوكبنا، يحوي كلٌّ منها أشكالًا للحياة، وتتكوَّن من المادة ذاتها التي نتكوَّن منها.

وهو ما يثير تساؤلًا آخر. كيف اخترقت الذرات المكوِّنة للجزيئات العضوية — مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين — سحب الغاز والغبار الموجودة في الفضاء؟ تُقدِّم انفجارات المستعرات العظمى جزءًا من الإجابة عن هذا التساؤل. لكن قبل أن تتمكَّن تلك الانفجارات من أداء دورها، كان لا بد من حدوث تفاعلات نووية معقَّدة داخل النجوم، وتتوقَّف تلك التفاعلات على عمود آخر من أعمدة العلم، في مصادفة مدهشة تكاد تتنافى مع العقل.

هوامش

(١) بعد أن انتهيت من كتابة هذا الجزء في خريف عام ٢٠١٩، اندهشت حين أعلن باحثون من جامعة لودفيج ماكسيميليان في ميونخ بألمانيا، عن نتائج تجارب مختبرية أجريت مؤخَّرًا، ثبت فيها تكوُّن جزيئات عضوية معقَّدة من مكوِّنات مثل الماء والنيتروجين. البعض يهوى الشقاء بلا طائل.
(٢) رُصدت في عام ٢٠١٤، وتأكَّد إنتاجها في السحب بين النجمية، دون الحاجة إلى استخدام كُلًى سواء لإنسان أو حيوان.
(٣) للعقليات المنشغلة بالأمور التقنية ضوء مستقطب استقطابًا دائريًّا.
(٤) سأستفيض في تناول تركيب الحمض النووي والحمض النووي الريبي في معرض مناقشتي للعمود السادس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤