العمود الخامس: مصادفة الكربون

بمزيج من التحليل الطيفي وفهم لفيزياء المكوِّنات الداخلية للنجوم، تبيَّن لنا أن نجمًا بحجم الشمس مثلًا يتكوَّن بالكامل تقريبًا من الهيدروجين والهيليوم، مع نسبة ضئيلة من عناصر أثقل (انظر العمود الثاني). وفي قلب النجم لا تكون هذه العناصر على هيئة غازات، كما من شأنها أن تكون على كوكب الأرض في العصر الحالي. فقد انتُزِعت الإلكترونات من أنويتها التي تنضغط معًا عند الوصول إلى كثافات هائلة، مع غياب المساحة الفارغة التي تشكِّل المادة الذرية المعتادة (العمود الأول). ومن خلال عمليات الرصد لسُحُب الغاز في الفضاء يتضح لنا أن تكوينها متشابه، على الرغم من وجود العناصر في حالتها الذرية المألوفة، مع الغبار الذي يمثِّل أهميةً بالغةً للحياة كما نعرفها، والذي يمثِّل مجرَّد جزء ضئيل من النسبة الإجمالية للمواد الموجودة في مجرة مثل مجرة درب التبانة. وربما توجد مواد أخرى تساهم في إجمالي كتلة الكون تُسمَّى المادة المظلمة والطاقة المظلمة، ولكن هذا خارج نطاق موضوع هذا الكتاب. ما يهمنا هنا هو نوعية المادة التي نتكوَّن منها، العناصر الكيميائية التي تعلمناها في المدرسة، التي يُشير إليها علماء الفيزياء بالمادة الباريونية. من أين جاءت هذه المادة؟

ثمة كم هائل من الأدلة على أن الكون كما نعرفه الآن نشأ من حالة ساخنة جدًّا وشديدة الكثافة، تُعرف باسم الانفجار العظيم، الذي وقع قبل ١٣٫٨ مليار عام مضى. جزء من هذه الأدلة يعود إلى مشاهدات تفيد بأن الكون يتمدد اليوم؛ ومن ثم فلا بد أنه كان أكثر انضغاطًا في الماضي، بينما يأتي جزء آخر من دراسات أُجريت على الضوضاء الراديوية التي خلَّفتها كرة النار البدائية (أو ما يُسمَّى بإشعاع الخلفية الكوني الميكروي)، وجزء ثالث يعود إلى فهمنا لقوانين الفيزياء. نعرف من أساسيات علم الفيزياء أن المادة الباريونية الأولى الناتجة من الطاقة المنبعثة من الانفجار العظيم، وفقًا لمعادلة أينشتاين الشهيرة، تمثَّلت في عنصر الهيدروجين، الذي يُعَد أبسط العناصر وأخفها. ونعرف أيضًا من هذه المعادلات أنه عندما تمدَّد الكون وفقد الحرارة، تحوَّل نحو ٢٥ بالمائة من ذلك الهيدروجين إلى هليوم من خلال تفاعلات الاندماج النووي، بينما كان الكون الحديث النشأة لا يزال ساخنًا. ولكن بعد مرور نحو ثلاث دقائق، انخفضت درجة حرارة كرة النار التي وُلد الكون بداخلها إلى حد تعذَّر معه حدوث المزيد من التفاعلات النووية، تاركةً سحبًا هائلةً تتكوَّن من مزيج من الهيدروجين والهيليوم، المادة الخام للنجوم والمجرات الأولى، والتي تحرَّكت بعيدًا بعضها عن بعض في الكون المتمدِّد. ولا يتطلَّب الأمر قفزةً فكريةً هائلةً لإدراك أن العناصر الأخرى لا بد أنها قد تكوَّنت في وقت لاحق داخل النجوم. ولكن كيف حدث هذا بالضبط؟

لكي نضع الأمور في نصابها الصحيح، وندرك الكمية الكبيرة (أو الضئيلة!) للمواد التي نتحدَّث عنها، يمكننا أن نلقي نظرةً على تركيب المجموعة الشمسية، التي تُمثِّل ما نتوقَّع العثور عليه في الأنظمة الكوكبية التي تدور حول النجوم الأخرى. كما رأينا في موضع سابق من هذا الكتاب، تتكوَّن الشمس، من حيث الكتلة، من ٧١ بالمائة من عنصر الهيدروجين، و٢٧ بالمائة من عنصر الهيليوم، وأقل من ٢ بالمائة من باقي العناصر الأخرى مجتمعة. أمَّا من حيث العدد الذري يُشكِّل الهيدروجين ٩١٫٢ بالمائة من الشمس، والهيليوم ٨٫٧ بالمائة، أمَّا باقي العناصر الأخرى فتُكوِّن ٠٫١ بالمائة فقط. ولكن عندما كانت الشمس حديثة النشأة، تناثرت الكثير من المواد الخفيفة بعيدًا عن القرص الغباري الذي تشكَّلت بداخله الكواكب بفعل حرارة النجم الحديث النشأة. وتكوَّنت الكواكب بما تبقَّى من عناصر، وكذلك نحن أنفسنا. بالنظر إلى المجموعة الشمسية ككل، ومن حيث الكتلة، يُسهم الهيدروجين بنسبة ٧٠٫١٣ بالمائة، والهيليوم بنسبة ٢٧٫٨٧ بالمائة، والأكسجين — العنصر الأكثر شيوعًا من حيث الكتلة — بنسبة ٠٫٩١ بالمائة؛ نظرًا إلى أن بعض العناصر الخفيفة قد فُقدت. وعلى الرغم من أهمية الهيدروجين في كيمياء الحياة (تذكَّر العناصر الأربعة الموجودة في جميع الكائنات الحية: الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين)، فلا يوجد أي غموض حول منشئه؛ ولذا يمكننا أن نُنحيه جانبًا ونلقي نظرةً على نسبة العناصر الثقيلة نسبيًّا من تركيب المجموعة الشمسية التي تبلغ ٢ بالمائة؛ ونظرًا إلى أن كمياتها ضئيلة جدًّا فمن المنطقي أن نتحدَّث من منطلق عدد الذرات، لا من منطلق الكتلة.

لنأخذ العناصر العشرة الأولى فقط، ولكن دون أن نحاول إعطاء أرقام دقيقة لكميات الهيدروجين والهيليوم (أول عنصرَين)؛ ففي مقابل كل ٧٠ ذرة أكسجين نجد ٤٠ ذرةً من الكربون، وتسع ذرات من النيتروجين، وخمس ذرات من السيليكون، وأربع ذرات من كل من الماغنسيوم والنيون، وثلاث ذرات من الحديد، وذرتَين من الكبريت. يوجد خمسة عناصر فقط (وهي الألومنيوم، والأرجون، والكالسيوم، وسبائك النيكل والحديد، والصوديوم) التي تتراوح وفرتها بين ١٠ و٥٠ بالمائة من وفرة الكبريت. وجميع العناصر الأثقل من ذلك أكثر ندرةً بكثير. ففي مقابل كل ١٠ ملايين ذرة كبريت، على سبيل المثال، يوجد ثلاث ذرات ذهب فقط، وهذا أحد الأسباب التي تجعل الذهب عنصرًا قيمًا، وهذا يخبرنا بحقيقة عميقة عن الكون سوف أتناولها بعد قليل.

نجد أول مفتاح لحل لغز كيفية تشكيل العناصر داخل النجوم في قائمة العناصر العشرة الأولى — أو على الأقل العناصر الأثقل من الهيليوم الموجودة في هذه القائمة. فنواة ذرة الهيليوم (على وجه التحديد ذرة نظير الهيليوم-٤) تناظر جسيم ألفا، الذي يتكوَّن من بروتونَين ونيوترونَين. وتتكوَّن نواة ذرة الكربون من ستة بروتونات وستة نيوترونات، كأنها ثلاثة جسيمات ألفا ملتصقة بعضها ببعض، وهو ما يُعطيها اسم نظير الكربون-١٢. وإضافة جسيم ألفا آخر يعطينا الأكسجين. ولكلٍّ من النيتروجين والسيليكون والماغنيسيوم والنيون والحديد نواة تحتوي على أعداد صحيحة من جسيمات ألفا. فإذا أمكن إضافة جسيمات ألفا إلى النَّوَى بداخل النجوم، فستتكوَّن هذه السلسلة بالضبط من العناصر. ويمكن إنتاج العناصر الأكثر ندرةً من خلال تفاعلات نووية تتم من حين لآخر تشتمل على جسيمات شاردة مثل تفاعل الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات مع النَّوَى الأكثر شيوعًا. ويمكن لتكوين العناصر الأثقل أن يحدث؛ لأن توازن الطاقة ينطوي على تفضيل النَّوَى الأثقل (الأكثر كتلة) على النَّوَى الأخف، كما هو الحال مع تحويل الهيدروجين إلى هيليوم، وصولًا إلى عنصر الحديد. فعلى سبيل المثال، نواة نظير الكربون-١٢ أقل كتلةً بقليل من ثلاثة جسيمات ألفا، وإذا اجتمعت ثلاثة جسيمات ألفا (بأي وسيلة كانت) في نواة ذرة كربون-١٢ واحدة، تتحرَّر الكتلة «المفقودة» على هيئة طاقة. بالمثل، ومن حيث إجمالي الطاقة، تُعَد نواة الأكسجين ذات ترتيب فعَّال أكثر من نواة كربون ذات جسيم ألفا مستقل، وهكذا وصولًا إلى عنصر الحديد. حتى العناصر الأثقل تُعَد لغزًا قائمًا بذاته؛ لأن نوَيها عبارة عن مجموعات أقل كفاءةً من الكتلة والطاقة؛ لذا تتطلَّب مدخلًا من الطاقة ليدفع النَّوَى لتنضغط بعضها دخل البعض وتنتج عناصر مثل الذهب. ولكن الأولويات تأتي أولًا. ففي أربعينيات القرن الماضي، عندما تناول عالِم الفيزياء الفلكية الرائد فريد هويل المعضلة التي صارت تُعرف باسم تفاعلات الانصهار النجمي، بدأ بلغز اندماج كل شيء لتكوين عنصر الحديد داخل النجوم.

ينتج عن الاندماج النووي انطلاق الطاقة حين ترتبط النَّوَى الأخف معًا لتكوين نوًى أثقل، وصولًا إلى نواة عنصر الحديد. ولكن جميع النَّوَى بها شحنة كهربائية موجبة، ويحدث بينها تنافر بسبب القوى الكهربائية. ولا يمكن أن تندمج إلا إذا انضغطت معًا بإحكام شديد لدرجة أن القوى النووية تفوق القوة الكهربائية التي تُحاول التفريق بين النَّوَى. وهذا يعني أنها لا بد أن تتحرَّك بسرعة بالغة عندما تصطدم بعضها ببعض، وسرعتها ترتبط بدرجة الحرارة. وبحلول منتصف أربعينيات القرن العشرين كوَّن الفيزيائيون فكرةً جيدةً عن درجات الحرارة اللازمة لمختلِف تفاعلات الاندماج النووي، ولكن كانت ثمة معضلة كبيرة فيما يتعلَّق بالخطوات الأولى في عملية تكوين النَّوَى من خلال إضافة جسيمات ألفا.

لعلك لاحظت أنني لم أذكر أي نواة تتكوَّن من جسيمَي ألفا. فالعنصر المكافئ لهذا يُطلَق عليه نظير بريليوم-٨، ولكن هذا العنصر لا يوجد أبدًا في الطبيعة. ونوى نظير بريليوم-٨ غير مستقرة، وإذا تم تخليقها صناعيًّا فإنها تتفكَّك في الحال. ولذا اقترح عدد من علماء الفيزياء الفلكية أن السبيل إلى التغلُّب على الفجوة بين نظير الهيليوم-٤ ونظير الكربون-١٢ هو اتحاد ثلاثة جسيمات ألفا معًا في آنٍ واحد داخل النجم، لتندمج وتُكوِّن نواةً أُحاديةً لنظير الكربون-١٢ بدون تكوُّن نظير بريليوم-٨ على طول الطريق. ولكن مثل هذا التصادم الثلاثي من شأنه أن يتضمَّن الكثير من الطاقة الحركية التي ستكون أشبه بتحطُّم قطار من كونها اندماجًا سلسًا لجسيمات ألفا. إذن كيف يمكن أن تسير مثل هذه العملية بسلاسة؟

figure
فريد هويل. «من مجموعة صور بارينجتون براون، حقوق الملكية الفكرية لكلية جنفيل آند كايوس/ساينس فوتو لايبراري.»
بدأت نظرية هويل بإدراكه عدم وجود حاجة تدعو إلى تصادم ثلاثة جسيمات ألفا في آنٍ واحد فعليًّا. وعلى الرغم من أن عمر نظير بريليوم-٨ قصير — إذ تستمر كل نواة لمدة ١٠−١٩ ثوانٍ فقط — ففي ظل الظروف الموجودة في قلب النجوم يوجد عدد كبير جدًّا من جسيمات ألفا التي تُنتجها التصادمات باستمرار. وبعضها يوجد دومًا في مكان ما، مثلما توجد المياه دومًا في الحوض إثر فتح الصنبور وتسرُّب المياه عبر فتحة الحوض. وفي نجم تبلغ درجة حرارته المركزية نحو ١٠٠ مليون درجة مئوية، ستتحوَّل نواة واحدة تقريبًا من بين كل ١٠ مليارات نواة إلى نظير بريليوم-٨. لذا يوجد دومًا عدد كبير من نوى عنصر البريليوم التي تمثِّل «أهدافًا» لجسيمات ألفا؛ أي فرصًا لتكوين نوى نظير الكربون-١٢. ولكن حتى هذا الاحتمال لم يبدُ واعدًا؛ لأنه لم يستطِع تكوين القدر الكافي من الكربون لتفسير الكمية التي نراها في الكون ما لم يكُن هناك عامل آخر يلعب دورًا.

في عام ١٩٥٣ أدرك هويل ماهية هذا العامل. إن جميع النَّوَى يمكنها أن توجد في حالات مختلفة من الطاقة يُطلق عليها طاقات الرنين. والتشبيه المعتاد لهذا الأمر هو النقر على وتر من أوتار الجيتار. فلكل وتر نغمة أساسية، ولكن يمكن عزف نغمات توافقية مختلفة لتلك النغمة. كذلك النواة لها مستوى طاقة أساسي (الحالة الأرضية)، ولكن إذا تمَّ تزويدها بطاقة إضافية، يكون بإمكانها القفز إلى حالة «استثارة»، مثل كرة تصعد خطوةً لأعلى على درجات سلم. ومثل الكرة وهي تتدحرج لأسفل على السلم، سرعان ما تفقد النَّوَى المستثارة تلك الطاقة الإضافية (ربما على هيئة أشعة جاما) وتستقر مرةً أخرى عند الحالة الأرضية.

قدَّر هويل أنه في ظل الظروف الموجودة داخل النجم، ومع تساوي عوامل أخرى، فإن من شأن تصادم جسيم ألفا بنواة بريليوم قصيرة العمر أن يُسفر عن تفكُّك النواة بكل بساطة. ولكنه استنتج أنه إذا كانت طاقة الجسيمات الواردة مناسبةً تمامًا، فإن من شأنها أن تدفع النَّوَى المدمجة برفق إلى حالة الاستثارة الخاصة بنظير الكربون-١٢، مثل كرة وُضعت برفق على درجة عالية من درج، ومن عندها يمكن أن تُطلق طاقة وتهبط إلى الحالة الأرضية لنظير الكربون-١٢. تمثَّلت العقبة في أن هذه الحيلة لا تنجح إلا إذا وجدت حالة الاستثارة لنوى نظير الكربون-١٢ عند مستوًى دقيق جدًّا من الطاقة، تحديدًا أعلى من المستوى الأولي بمقدار ٧٫٦٥ مليون إلكترون فولت، بوحدات القياس التي يستخدمها علماء الفيزياء. فإذا كان مستوى الطاقة أعلى من ذلك ولو بنسبة ٥ بالمائة، فلن تؤتي الحيلة ثمارها. ولم يكن أحد يعرف إذا كانت هذه حالة الاستثارة لنظير الكربون-١٢ موجودةً من الأساس أم لا.

لم يأخذ أحد فكرة هويل على محمل الجد. غير أنه رأى حجته دامغةً لا لبس فيها. فعنصر الكربون موجود في الكون. ولا شك أن جزءًا من تكويننا يدخل فيه عنصر الكربون. لا بد أن يكون موجودًا في مكان ما، وأين يمكن أن يكون إلا داخل النجوم؟ في ذلك الوقت كان هويل — الذي كان مقر عمله بجامعة كمبريدج بإنجلترا — يزور معهد كاليفورنيا للتقنية، واستغل الفرصة ليطلب من عالِم الفيزياء التجريبية ويليام فاولر أن يجري تجربةً ليختبر فكرته؛ بحثًا عن الرنين المتوقَّع لنظير الكربون-١٢. والواقع أنه قد فعل أكثر ممَّا هو مطلوب. لقد أرغم فاولر على النزول على رغبته. أخبرني فاولر أنه كان يظن هويل مختلًّا، ولكنه في النهاية وافق على تكليف فريق صغير بإجراء التجربة لإسكاته. وبغض النظر عن الدافع في حد ذاته، أُجريت التجربة. وقد استغرقت ثلاثة أشهر، وأثبتت أن هويل كان محقًّا. فهناك بالفعل رنين كربون في الموضع المناسب تمامًا لتفسير كيفية حدوث تفاعل «ألفا الثلاثي». وتفاجأ الجميع من النتيجة باستثناء هويل.

كان هذا أحد انتصارات العلم، بل لعله المثال الأبرز على طرح النظرية لفرضية ما، ثم إثبات صحتها من خلال تجربة معملية. كان عملًا يستحق جائزة نوبل بجدارة، إلا أن هويل لم يحصل عليها قط، في حين حصل عليها فاولر عن البحث الذي طوَّره كلاهما بالتعاون مع زميلَين آخرَين من هذه الانطلاقة.

في أثناء زيارته التالية لمعهد كاليفورنيا للتقنية، تعرَّف هويل إلى فريق يتكوَّن من الزوجَين البريطانيَّين جيفري ومارجريت بوربيدج، اللذَين كانا يقيمان بصفة مؤقتة في كاليفورنيا (ثم في النهاية انتقلا للعيش هناك بصفة دائمة)، وكانا يحاولان فهم أهمية الوفرة الدقيقة للعناصر المتنوِّعة في النجوم، كما اتضح من خلال التحليل الطيفي. اقتنع فاولر بالمشاركة في هذا العمل كذلك، وتعاون مع الفريق لمعرفة كيف يمكن لمصدر ثابت للنيوترونات داخل النجوم أن يُحوِّل النوى الناتجة من تفاعلات ألفا إلى عناصر أخرى بالنسب المرصودة فعليًّا. في البداية تابع هويل العمل عن بعد، ولكن في عام ١٩٥٦ اجتمع الأربعة في كاليفورنيا، حيث أوضحوا كل شيء في ورقة بحثية علمية ضخمة نُشرت في عدد أكتوبر من دورية «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس» عام ١٩٥٧. وتظهر أسماء مؤلِّفي هذه التحفة البحثية حسب الترتيب الأبجدي: بوربيدج وبوربيدج وفاولر وهويل، وحتى يومنا هذا يُشار إلى الفريق الرباعي الذي قام بهذا العمل بالحروف الأولى من أسمائهم بنفس طريقة كتابة الصيغ الكيميائية: B2FH.١ ولكن كان الجميع يعرف أن هويل هو مصدر الإلهام الذي وجَّه هذا العمل، الجميع باستثناء مُؤسَّسة نوبل، التي في النهاية منحت فاولر وحده الجائزة في عام ١٩٨٣؛ تقديرًا لهذا الاكتشاف المذهل. شعر فاولر بالإحراج، ولكنه قَبِل الجائزة. وعندما تُوفِّي فاولر أشار جيفري بوربيدج إلى هذا القرار في نعيه لصديقه العزيز قائلًا إن هذه الجائزة «أحدثت بعض التوتُّر وسط الفريق الرباعي، إذ كنا جميعًا ندرك أن هذا العمل هو نتاج جهد جماعي، وأن العمل الأصلي يعود إلى فريد هويل.» غير أن هذا البحث يُعَد أحد أعمدة العلم، بغض النظر عمن ذهب إليه التقدير. ولولا هذه المصادفة بين رنين الكربون وكمية الطاقة التي يحملها جسيم ألفا الذي يتحرَّك سريعًا داخل النجم، لَمَا كان للكربون وجود، ولا للعناصر الأثقل، ولا للجزيئات المعقَّدة في السحب الغازية التي تتكوَّن منها النجوم، ولا لكواكب مثل الأرض، ولا أي شكل من أشكال الحياة مثلنا في هذا الكون.

فسَّر هذا العمل بالأساس كيف نشأت جميع العناصر داخل النجوم، وصولًا إلى نظير الحديد-٥٦ ونظير النيكل-٥٦ (يحتوي الحديد-٥٦ على ٢٦ بروتونًا و٣٠ نيوترونًا في كل نواة؛ أمَّا النيكل-٥٦ فيحتوي على ٢٨ بروتونًا و٢٨ نيوترونًا في كل نواة؛ أي أربعة عشر جسيم ألفا مندمجًا معًا). وحتى إنتاج العناصر الأثقل ينطوي على بعض من أعنف الحوادث الفلكية التي يشهدها الكون اليوم، حين تنفجر نجوم بأكملها فيما يُعرف بالمستعرات العظمى. وقد شارك فاولر وهويل (وذكرتهما هنا بالترتيب الأبجدي) أيضًا في تطوير هذا الفهم للتخليق النووي النجمي. ولكن تطوُّر هذا الفهم منذ ذلك الحين إلى دراسات موسعة لأحداث فلكية أعنف بكثير.

تشمل ظاهرة المستعر الأعظم نجومًا أضخم بكثير من شمس مجرتنا. بالنسبة إلى النجوم ذات الكتل الأكبر من كتلة شمس مجرتنا بمقدارٍ يتراوح من ضِعف إلى أربعة أضعاف، ينكمش النجم قليلًا، وتزداد سخونته في المنتصف، و«يحترق» الهيليوم ليتحوَّل إلى مزيج من الكربون والأكسجين، وذلك بعد تحوُّل الهيدروجين إلى هيليوم في لُبه. ولكنه يتوقَّف عند هذا الحد. ففي المراحل اللاحقة من عمره، يُطلق النجم الكثيرَ من المواد، من بينها الكربون والأكسجين، في الفضاء، ثم يهدأ ويستقر في صورة قزم أبيض؛ أي جمرة باردة ذات كتلة قريبة من كتلة الشمس اليوم، ولكن ليست أكبر من كتلة الأرض. أمَّا النجوم الأضخم كتلةً من ذلك، فتكون حيواتها أكثر إثارةً وروعة. وللكتلة الإضافية أهمية؛ نظرًا إلى ضرورة توافر المزيد من الضغط الداخلي حتى تصير الأجزاء الداخلية من النجم ساخنةً بالدرجة الكافية لحدوث المراحل التالية من الاحتراق النووي. ويتحوَّل الكربون إلى نيون وصوديوم وماغنيسيوم؛ وذلك من خلال العمليات التي درسها الفريق الرباعي عند درجة حرارة تصل إلى نحو ٤٠٠ مليون درجة مئوية؛ بينما ينتج عن احتراق الأكسجين عند درجة حرارة تصل إلى نحو ألف مليون درجة مئوية، سيليكون وكبريت وغير ذلك من العناصر الأخرى. ويتحوَّل نظير السيليكون-٢٨ (وهو فعليًّا عبارة عن سبعة جسيمات ألفا ملتصقة معًا) الناتج بهذه الطريقة في النهاية إلى حديد ونيكل. ولكن عند كل مرحلة من مراحل هذه العملية تتخلَّف رواسب، ومن ثم يحتوي النجم الضخم في نهاية حياته على لب من الهيدروجين، يُحيط به غلاف من الهيليوم، تحيط به أغلفة متتالية ومتداخلة من العناصر الأخرى كطبقات قشرة البصل.

عندما تفنى جميع مصادر الطاقة النووية، ينهار النجم. ولكن ينتج عن هذا طاقة وضع الجاذبية، ممَّا يُولِّد قدرًا كبيرًا جدًّا من الحرارة، لدرجة أن النجم ينفجر كمستعر أعظم. يتجه جزء من هذا الانفجار نحو الداخل، ضاغطًا لب النجم ومُحوِّلًا إياه إلى نجم نيوتروني (بكتلة كبيرة تماثل كتلة شمس مجرتنا مضغوطة في كرة قطرها حوالي ٢٠ كيلومترًا)، أو حتى إلى ثقب أسود. ولكن جزءًا كبيرًا من الانفجار يتجه نحو الخارج. ويوفِّر الطاقة التي تنتج العناصر الأثقل من الحديد في الجزء الخارجي من النجم، كما يعمل على توزيع هذه العناصر، أمَّا العناصر الأخرى فتتكوَّن أثناء دورة حياة النجم بالخارج عبر الفضاء؛ لتُشكِّل المادة الخام للنجوم والكواكب الجديدة، وتُشكِّل البشر على واحد من تلك الكواكب على الأقل.

اتضح كل هذا بحلول أواخر ستينيات القرن العشرين، على الرغم من أن الكثير من التفاصيل تمَّ استكمالها على مدى العقود التالية. ولكن كانت ثمة معضلة مزعجة. فعلى الرغم من أن آثار العناصر الثقيلة جدًّا مثل الذهب المرصودة في هذا الكون هي آثار محدودة، فإن الحسابات الدائمة التطوُّر ونماذج المحاكاة الحاسوبية أشارت إلى أن انفجار المستعر الأعظم لا يمكنه أن يُنتج نسبةً كافيةً منها لتفسير هذه الشواهد. فمن خلال مقارنة نسبة انفجارات المستعرات العظمى المرصودة بالنسب المرصودة لعناصر مثل الذهب والبلاتين واليورانيوم الموجودة في الكون، وجد العلماء أنه بهذه الطريقة لا يمكن تفسير وجود إلا نصف هذا العدد من العناصر الثقيلة جدًّا فقط. كان ثمة شيء آخر ضروري لتكوين الباقي، وبدون معرفة ماهية هذا الشيء بالضبط، أطلق عليه علماء الفلك اسم مستعر ماكرو. استكمالًا لقصة أصل العناصر، وتأكيدًا على دقة تلك الحسابات التي يعود تاريخها إلى نظرية هويل، رُصدت انفجارات مستعرات الماكرو أخيرًا في عام ٢٠١٧، ولكن ليس من خلال ضوئها (في البداية).

في ١٤ سبتمبر عام ٢٠١٥ فتح علماء الفضاء نافذةً جديدةً على الكون. فلأول مرة رصدوا موجات الجاذبية — وهي عبارة عن تموُّجات في الفضاء — من خلال حدث فلكي عنيف وقع في مكان ما بعيد عبر الفضاء. كان ذلك الحدث الفلكي هو اندماج بين ثقبَين أسودَين. كان اكتشاف موجات الجاذبية متوقَّعًا قبل فترة طويلة؛ إذ كانت فرضية تكهَّنت بها نظرية النسبية العامة لأينشتاين، ولطالما سُعي إليها. ولكنها عندما تصل إلى الأرض تكون دقيقةً على نحو لا يُصدَّق، ويصعب رصدها للغاية. كانت «التلسكوبات» المستخدمة في الرصد مصممةً لتكون عبارةً عن أنابيب مفرغة بطول ٤ كيلومترات، مزودة بمرايا تعكس ضوء الليزر ذهابًا وإيابًا على طول الأنابيب، وتتم موازنتها بدقة بالغة، وتخضع لمراقبة دقيقة جدًّا، حتى إنها كانت عندما تتحرَّك عبر مسافة أقل من قطر الذرة، كان يمكن قياس الذبذبة.٢ تتنبَّأ نظرية أينشتاين بدقة بنوعية الذبذبة التي تُنتجها الموجات من أشياء مثل اندماج الثقوب السوداء، وكان هذا النوع من الذبذبة هو بالضبط ما تمَّ رصده في سبتمبر عام ٢٠١٥. ومنذ ذلك الحين رصدت أجهزة رصد موجات الجاذبية حول العالم (إذ يوجد اثنان في الولايات المتحدة وواحد في كلٍّ من أوروبا والهند) عدة «أحداث فلكية» أخرى، كما يحب أن يُطلِق عليها علماء الفلك، خاصةً بموجات الجاذبية، وثمة حدث فلكي على وجه الخصوص وثيق الصلة بقصتي.
في السابع عشر من أغسطس عام ٢٠١٧ رصدت أجهزة كشف موجات الجاذبية نمطًا مختلفًا قليلًا من التموُّجات، استمرَّت لمدة ١٠٠ ثانية فقط، وجاءت متوافقةً مع التكهُّنات الخاصة بالنمط الذي قد ينشأ عند تصادم نجمَين نيوترونيَّين. كان هذا أمرًا مثيرًا بصفة خاصة؛ لأنه على عكس اندماج ثقبَين أسودَين كان من المتوقَّع أن ينتج عن تصادم نجم نيوتروني انفجار للضوء وغيره من الإشعاعات، مثل أشعة جاما. وقد كانت اندماجات النجوم النيوترونية، في الواقع، تعتبر صورةً محتملةً من الانفجارات الافتراضية لمستعرات الماكرو التي قد ينتج عنها عناصر ثقيلة، وقدَّر علماء الفلك إلى أي مدًى قد تكون هذه الحوادث الفلكية شائعة، بناءً على عدد النجوم الموجودة في مجرات أشبه بمجرتنا.٣ أشارت المشاهدات تقريبيًّا إلى الاتجاه الذي جاءت منه موجات الجاذبية، وفي غضون ساعات من الرصد، وجَّه علماء الفلك تلسكوباتهم في ذلك الاتجاه. وعثروا على جرم ساطع قصير العمر في مجرة قريبة تُدعى مجرة «إن جي سي ٤٩٩٣»، تبعد عنَّا ١٣٠ مليون سنة ضوئية تقريبًا. كان هذا الجرم مستعرًا ماكرويًا. وأظهر التحليل الطيفي أن هذا المستعر الماكروي أنتج بالفعل الكثير من العناصر الثقيلة؛ مثل اليورانيوم والذهب والبلاتين. فاشتمل هذا المستعر على ٢٠٠ ضعف كتلة الأرض على هيئة ذهب، و٥٠٠ ضعف كتلة الأرض على هيئة بلاتين. وعندما ضُربت الكمية المرصودة في هذا الانفجار في التردُّد المحسوب لاندماجات النجوم النيوترونية، كانت النتيجة أن مثل هذه الانفجارات يمكن أن ينتج عنها النصف «المفقود» من العناصر الثقيلة. وهذا يعني، من جملة أمور أخرى، أنك إذا كان لديك خاتم زواج أو أي حُلِي أخرى مصنوعة من الذهب أو البلاتين، فيمكنك أن تتيقن أن الكثير من ذرات هذه الحلية قد تكوَّنت أثناء تصادم نجمَين نيوترونيَّين، وانتشرت في الفضاء أثناء انفجار ضخم، غُرست في السحابة التي تكوَّنت منها الشمس والأرض.

إذن عرفنا كيف تكوَّنت العناصر داخل النجوم، وعرفنا أن تلك العناصر تجمَّعت في جزيئات عضوية بالفضاء، وعرفنا أن هذه الجزيئات المعقَّدة نزلت إلى سطح الأرض برفق بمجرَّد تكوُّنها، حيث صارت المكوِّنات الرئيسة للحياة. ولكن كيف تتعاون تلك المكوِّنات لتكوِّن كائنات حيةً مثلنا؟ والإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى عمود مذهل آخر من أعمدة العلم.

هوامش

(١) تُنطق «B تربيع FH».
(٢) للاطلاع على المزيد من التفاصيل قم بزيارة الموقع الإلكتروني التالي: https://www.amazon.co.uk/Discovering-Gravitational-Waves-Kindle-Single-ebook/dp/B071FFJT74.
(٣) نظرًا إلى أن النجوم النيترونية شديدة الكثافة، تكون هذه التصادمات فعَّالة للغاية في تكوين عناصر ثقيلة، غير أنها لا ينتج عنها إلا حوالي عُشر الضوء الذي تُنتجه المستعرات العظمى؛ ولذا يكون العثور عليها أكثر صعوبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤