حين ذابت الدولة

هذه المدينة من قبلُ رأيتها، بالضبط من أربعة عشر عامًا مضت، ولقد رأيتها كما لم أرَ، ولا أعتقد أني سأرى، مدينة في حالة كحالتها، مدينة بلا دولة وبلا حكومة، فجأةً كما حدث في سحب المُرشدين عقب تأميم قناة السويس، انسحب كل «الكادر» العامل في الحكومة، حتى موظفو الباسبورتات، إلى درجة أن — لأول مرة في حياتي أيضًا — أدخل بلدًا ما دون أي إجراءات جمركية، أو أحد يُلقي على جواز سفري نظرة، أو حتى يختمه أني «دخلت».

سِرت أيامها وسِرنا فيها. مدينة بلا بوليس، بلا حتى بوليس مرور، بلا قانون تستطيع أن تصعد و«تمتلك» فعلًا أي شقة خالية تلقاها، أو تفتح أي عربة واقفة بلا سائق وتصبح لك. مدينة بالضبط حدث فيها، ليس فقط «الانهيار الدستوري» المشهور، ولكن الانهيار الكامل للدولة والأجهزة، إلى درجة أننا في أحيان كنا نطلب القاهرة في التليفون ونظل نتكلم ونُملي بالساعات دون مُقابل؛ إذ لا أحد هناك يُحاسبك أو يأخذ المُقابل.

وصحيحٌ أنه وضع في جوانب كثيرة منه مُمتع؛ فأن تحيا بلا دولة ولا قانون ولا حكومة ولا نظام، قد يكون فسحةً جميلة بالنسبة لمُواطن تعوَّد الخضوع الصارم للأوامر، ولكن لا يكون كذلك بالنسبة لك أنت إذا كنت غريبًا، تجوب شوارع مدينة أنت فيها كما قال الشاعر القديم:

ولكنَّ الفتى العربي فيها
غريبُ الوجه واليد واللسانِ

ولكنها فعلًا، برغم كل شيء، كانت أيامًا مُمتعة، خاصة بالنسبة لنا نحن الكُتاب والصحفيين القادمين من بلاد العالم أجمع، نشهد ميلاد تلك الدولة العربية الجديدة التي حصلت على استقلالها بعد واحدة من أعنف الثورات التي قامت في العالم وأكثرها ضحايا، ومواجهة مباشرة مع واحد من أبشع أنواع الاستعمار في العالم؛ الاستعمار الفرنسي الاستيطاني.

أنا إذن أتحدَّث عن الجزائر التي أكتب لكم منها هذه الكلمات، ولكن الذكريات تتلاحق حتى لتكاد تُغطي على الحاضر، تخلَّى النظام الفرنسي فجأةً عن التزاماته قِبل الجزائر، ورحل الموظفون والفنيون مرةً واحدة تاركين المدينة والبلاد كلها تنعى من طالبوا باستقلالها، وشعبها الذي تمرَّد وثار، حتى ذوق «نقل السلطة بطريقةٍ معقولة» لم يحدث. والمُضحِك أنه بعد الميلاد العسر، لم تُولَد دولةٌ واحدة جديدة، وإنما وُلدت، في وقتٍ واحد، دولتان، وجاء الطفل توءمًا؛ أحدهما في مدينة الجزائر، والآخر في تلمسان في أقصى الغرب قريبًا من الحدود المراكشية.

وبدأنا نشهد فصلًا آخر من المأساة؛ أن توجد حكومتان في دولةٍ واحدة لا أحد يعرف لأيهما تكون الغلبة في النهاية، وكان علينا نحن الذين جئنا «إخوة من المشرق العربي» وعيونًا وتليفزيونات وصحفيين من أنحاء العالم، كان علينا أن نرقُب بذهولٍ هذه المعركة القائمة بين حكومتَين كلٌّ منهما تدَّعي الشرعية لنفسها، نُسجل ما يدور في مدينة الجزائر حيث حكومة بن خدة، ونجري إلى أقصى الغرب في تلمسان، على مسافة ألف كيلو أو تزيد، لنُسجل زحف حكومة بن بيلا القادمة من الغرب، وكان المشوار يُكلفنا الكثير، فيدفع كلٌّ منا أكثر من ستين جنيهًا إسترلينيًّا في المرة الواحدة مشاركة في عربة تاكسي، إلى درجة أننا وجدنا أنه من الأرخص لنا جميعًا أن نُساهم ونشتري عربة، لا بد أنها كانت تحديدًا لأحد الفرنسيين الذين فرُّوا مذعورين أمام هذا الانتصار «العربي» في «الأندلس الجديدة».

ويبدو أننا لم نكن وحدنا الذين نلهث أمام «الأخبار»، كان هناك قومٌ آخرون يلهثون وراء «المستقبل»، ويُحيرهم مثلنا على أي جواد يُراهنون، فكنَّا نرى وجوهًا بعينها في الجزائر تُعامل حكومة بن خدة على أنها هي التي ستنتصر وتحكم، ونذهب عبر الألف كيلومتر إلى حكومة تلمسان لنجد هذه الوجوه نفسها تُعامل الحكومة الأخرى وكأنها الشرعية، وفعلًا من يدري؟ ربما تكون هي التي في النهاية ستنتصر، ولكن إذا كانت المُغامرة أو الرهان الخاطئ سيُكلفنا نحن بعض النقود الزائدة، فإن المُراهنة الخاطئة قد تُكلف أصحاب هذه الوجوه أعناقهم، أو على الأقل حريتهم الزمن الطويل، وما أكثرَ من خسروا هنا وربحوا هناك، وما أكثرَ من راهن على الجواد الخاطئ، وما أكثرَ من خسر حتى ولو قد راهن على الجواد الرابح.

المهم أنه في تلك الأثناء بدأت المطامح في الحكم تظهر، وفُوجِئنا ذات ليلة ونحن في فندق الأليتيه — نفس الفندق الذي أكتب لكم منه هذه الكلمات — بحكومةٍ ثالثة تنشأ. كانت الجزائر أيامها تقريبًا بلا جيش؛ إذ كان جيش التحرير الوطني لا تزال معظم قُواته على الحدود الشرقية، ولكن بما أن ولاية من الولايات الخمس في الجزائر لها جيش تحريرها الصغير الخاص، فقد فُوجِئنا ذات ليلة بانقضاض مجموعة من الضباط الشبان وقوات جيش الولاية الثالثة — القريبة من الجزائر العاصمة — تزحف وتحتلُّ المدينة. وبالطبع لم تكن كافية لاحتلال كل مدينة الجزائر، فاكتفت باحتلال أهم مكان في المدينة، وهو فندق الأليتيه الذي كانت تعقد فيه حكومة بن خدة مؤتمراتها الصحفية، والذي كانت «تُدير» منه دفة الأمور في الجزائر إن كانت هناك دفة للأمور في ذلك الوقت.

كان في الفندق أيامها أكثر من مائتَي صحفي أجنبي عربي، وأذكُر من بينهم على وجه التحديد صديقي الخبيث مستر «ويب»، مُراسل وكالة أسوشيتد برس في ذلك الوقت. كان بجسده المُمتلئ ولحيته الصغيرة المنمَّقة يُوحي لك بالثقة تمامًا، وكنا كثيرًا ما نتداول الآراء والتخمينات والتحليلات حول الموقف. وحين حدث هذا الهجوم التتري من قوات «الولاية الثالثة»، وقفت مع أصحاب مهنة البحث عن المتاعب خارج باب الفندق، نتساءل في حيرة عن معنى ما يجري في الداخل من احتلال، ولم نكُن نعرف حتى من هم هؤلاء الضباط، ولا إلى أي جناح ينتمون، فجأةً وجدناهم هكذا مجموعة تحمل المترليوزات والأسلحة الأوتوماتيكية، وتنقضُّ علينا وتُخرجنا من الفندق مذعورين.

وسوَس لي الخبيث المستر «ويب» أنني الوحيد الذي أستطيع أن أكشف سرَّ هذا الاحتلال الغامض، باعتباري الكاتب العربي الوحيد الذي كان موجودًا في ذلك الوقت. وفعلًا كان الأمر كذلك، وتلفتُّ أبحث عن الصديق حمدي فؤاد مُراسل الأهرام، أو فوميل لبيب مُراسل دار الهلال، ولكني لم أجدهما، ولم أستطع أن أعرف أين كانا في ذلك الوقت.

المهم.

تقدَّمت ودخلت بهْوَ الفندق. كان هناك ضابطٌ شابٌّ لا أعرف رتبته جالسًا على الكنبة الرئيسية في البهو، ومدفعه الأوتوماتيكي فوق ركبته، وقلت: سلام عليكم. قلتُها باللغة العربية الفصحى، فإذا بوجهٍ يبشُّ لي ويُجيبني بلغةٍ عربية سليمة: سلام ورحمة الله وبركاته. نجحتُ في نصف مهمتي إذن، ودعاني للجلوس، فجلست وأنا أرمق الزملاء الصحفيين من أنحاء العالم مُتجمعين عند الباب الخارجي للفندق، يتطلعون بشغفٍ شديد إلى ما أقوم به، وكأنني أصنع أمامهم معجزة. قال لي الضابط الشاب: أنت من القاهرة؟ قلتُ: نعم. قال: لقد عشتُ في القاهرة فترة، وأعرف حي الحسين، وسكنت في الدقي. قلتُ في سرِّي: الحمد لله. وأخذت وأخذنا نُعدد معًا أسماء الأحياء في القاهرة وذكرياته عنها. وقد بدَت سعادةٌ جميلة تزحف إلى ملامحه الشابة، وكأن القاهرة تحمل أسعد وأجمل الذكريات لهذا المُناضل في جيش التحرير.

وهنا عنَّ لي أن الأوان قد آن لأدخل في الموضوع، فسألته: هل ممكنٌ أن تقول لي من أنتم؟ ولماذا تحتلُّون الفندق؟ هل هذه حكومةٌ جديدة أم ماذا؟

ووجدته ينظر إليَّ بدهشةٍ شديدة، وبدأ وجهه يشحب، وبحدَّةٍ قليلة سألني: لماذا تسأل؟

قلت: لأن عملي أن أسأل.

قال: وهل أنت من هؤلاء؟ هل تريد أن تستدرجني؟

وأشار إلى الصحفيين الذين كانوا مُتلاصقين تمامًا يملئون الباب الواسع، ولا يريدون أن تفوتهم من المشهد بادرة.

قلتُ: طبعًا أنا منهم، وقد قلت لك هذا، وإلا فماذا تظن أني أفعل هنا؟

وهنا تلاحقت الأحداث بسرعةٍ تشلُّ العقل؛ إذ وجدته قد انتفض واقفًا فوق الكنبة فجأة، وقد احتضن مدفعه وصوَّبه إلى قلبي مباشرة، ولم يكُن هذا هو الذي أرعبني، المُرعِب الأكثر أني سمعتُ بأذني «تتك» الأمان يفكه بإصبعه؛ إذن الخطوة التالية أن يُطلِق النار.

غريبٌ تصرُّف الإنسان أمام لحظات الخطر. لا أعرف لماذا صوَّبت ركن عيني إلى حيث الباب و«الزملاء» المُتجمعون، فوجدتهم جميعًا قد أطلقوا سيقانهم للريح، والباب فارغ لا أحد عنده، وفوهة المدفع بينها وبين قلبي سنتيمتراتٌ قليلة، والطلقة قادمة لا محالة.

قلتُ له فجأة وبكل ما أملك من رعبٍ شجاع، أو بالأصح رعب قد جمَّدني حتى الخوف: اسمع، لا تُطلِق النار على أعزل مثلي، أنا كما تعرف من مصر، أنا لست عدوًّا ولا فرنسيًّا، وإذا قتلتني فحتمًا ستدفع حياتك ثمنًا لهذا العمل.

لم يكن ما يُرعبني هو فوهة المدفع، إنما كان الرعب هو الشحوب الشديد الذي كان يعتري وجهه وملاحه، وبحاسَّة الكاتب فأنا كنت أدرك أنه شحوب ما قبل القتل مباشرة، وفقط بدأت أتنفَّس حين بدأ شحوب وجهه يقِل، وقال لي: اخرج حالًا.

قلت: أما هذا فسأفعله.

واستدرت وبالكاد حملتني ساقاي إلى الباب، وأنا لا أكاد أُصدق، حتى حين خرجت، والليل، والشارع الخالي، والصحفيون الواقفون عند آخر الشارع تلمع وجوههم في الظلام المُضيء، ما إن رأوَني حتى بدءوا يتقدَّمون خطواتٍ قليلةً جدًّا إلى الأمام، ثم توقَّفوا إلى أن وصلت، واندفع المستر ويب يفتح فمه، فرفعت يدي إلى وجهه وكأني سألطمه، وقلت له: قتلتني قاتلك الله. وانتهت الليلة.

ولكن قصة الجزائر لم تنتهِ، وأبدًا لن تنتهي.

•••

والآن، ومن فندق الأليتيه، والصباح باكر، وعلى نفس الكنبة التي شهدت المعركة، تعمَّدت أن أجلس وأخطَّ هذه الكلمات، فصحيحٌ أنا في نفس المكان، ولكن في جزائر أخرى جديدة تمامًا، وُلدت وشبَّت وترعرعت وتتكلم الآن العربية بتطرُّفٍ جزائري حادٍّ كالعادة؛ فعملية التعريب قد مسحت تمامًا اللغة الفرنسية من كل مكان ومن أي مكان في الجزائر، ولا توجد سوى العربية، الجزائر الجديدة العربية، وتحية من مدينةٍ أصبح الفتى العربي فيها ليس غريب الوجه واليد واللسان، وإنما أصبح صاحبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤