الباب الأول

وصف مصر القديمة والكلام على النيل

(١) النيل

يخرج النيل من عيون وراء خط الاستواء في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ثم يذهب مستمدًّا بالمياه الجارية من البحيرات الكبيرة بأفريقية الوسطى، ويأخذ نحو الشمال مارًّا بسهول فسيحة وفدافد واسعة تتخللها غابات ومستنقعات، ويمده بحر الغزال من جهة اليسار بما يزيد من مياه الحوض الذي يمتد بغير انتظام بين دارفور والكونجو.

ومن جهة اليمين يجيئه نهر سوبات والنيل الأزرق ونهر تقزى بالمياه التي تنحدر من جبال الحبشة، ثم لا يلبث أن يمر بالهضبة الكلسية (الجيرية) التي في الصحراء، ويمر في أخدود متعرج بتلك الهضبة، ثم يأخذ مجراه بتثنٍّ وانعطاف، فيقاطعه خمسة من الجنادل، ثم يسير الهوينا غير مستمد بعد بشيء من المياه، إلى أن ينصب في البحر الأبيض المتوسط. ومصر هي القسم الشمالي من هذا الوادي فيما بين شلال أسوان والبحر المالح، وما زالت معتبرة كذلك في كل عصر.

(٢) النيل في مصر

قالوا إن مصر هبة من هبات النيل١ وهي من ابتداء أسوان إلى ما يجاور مدينة طيبة (ثيبة)، محصورة حصرًا ضيقًا بين جبلين قد يتقاربان تقربًا كليًّا في بعض المواضع، كما هو عند جبل السلسلة، حتى لا يكون لواديها أثر سوى مجرى النهر، يحف به من الجانبين صخور شامخة من الجلمود، وعرضها فيما بين طيبة والقاهرة خمسة عشر كيلومترًا بعد التعديل المتوسط، وينقسم النيل فيها إلى فرعين يذهب كل منهما بحذاء سلسلة من السلسلتين الجبليتين الحافتين بهذا الوادي، فالفرع الغربي أشبه شيء بترعة غير منتظمة، تنتابه أسماء مختلفة في مجراه من ضواحي دندرة إلى البحر المالح، وكثير من أجزائه تجف مياهه مدة شهور كثيرة من السنة، ولا يشبه في سيره النهيرات حقيقة إلا فيما بين أسيوط والفيوم (وهو المعروف ببحر يوسف) ومع ذلك فلا يتيسر للسفائن أن تسير فيه إلا أيام الفيضان وتوارد المياه٢ أما النيل الشرقي وهو النيل الحقيقي فالأحرى به أن لا يدعَى نهرًا؛ بل بحيرة ذات تعاريج مشحونة بالجزائر الصغيرة، وهو يجري بقوة وانتظام فيما بين سواحل سوداء مقطوعة قطعًا عموديًّا في أراضٍ خصبة؛ مكونة من طمي النيل. والناظر إلى البر لا يقع نظره إلا على غابات صغيرة من النخيل أو أيكات من شجر الأقاقيا٣ والجميز ومزارع القمح والشعير، أو غيطان من الفول والبرسيم، أو كثبان من الرمال يستثيرها أقل ريح، أو منازل مجتمعة متجاورة أو قرية علاها الغبار، أو أخرى صغيرة ألبسها ظليل النخيل رواء وبهاء.
وفيما وراء القاهرة يأخذ الجبلان في الابتعاد عن بعضهما، فتذهب جبال لوبيا إلى أن تنقطع عند البحر المتوسط غربي الإسكندرية، وتذهب سلسلة جبال العرب نحو الشرق إلى أن تكون على مقربة من البحر الأحمر، وهناك منقطعها، وكانت المسافة الفاصلة بين هذين الجبلين فيما سلف من الزمان خليجًا من البحر المالح يصب النيل فيه قريبًا من المكان القائمة عليه الأهرام، في هذه الأيام، وهي الآن سهل فسيح، مثلث الشكل، تكوَّن من الطمي وتقوَّت به تربته، وانفسح وفي شماله كثبان متقاطرة وبطائح متوالية، وكانت ترويه في الأحقاب الخالية ثلاثة فروع كبيرة وهي الفرع البيليوزي٤ في الشرق والفرع السبنيطي٥ في الوسط والفرع الكانوبي٦ في الغرب، وقد زال الفرع الأول منذ أجيال طوال وكانت هذه الفروع الثلاثة مرتبطة ببعضها بجملة من الترع الطبيعية أو الصناعية بعضها يصب في البحر مباشرة فتزيد عدد الأشاتيم أي فروع النيل؛ فتجعلها سبعة أو أربعة عشر أشتومًا بحسب اختلاف الأوقات.

(٣) فيضان النيل

تهطل الأمطار الغزيرة في شهر فبراير من كل عام في البقعة التي فيها البحيرات الكبيرة، فيكون من ذلك ازدياد النيل وفيضانه ويمتد هذا الفيضان بسرعة من الجنوب إلى الشمال وينتشر في الوادي كله في بضعة شهور، وتصل مياه الفيضان إلى مدينة الخرطوم في أواخر شهر أبريل، ويظهر أثرها بما يرد إليها من مياه النيل الأزرق، ثم تسير الهوينا فيما بين أراضي النوبة حتى تصل مصر في أواخر شهر يونيو ويظهر أثرها في أسوان يوم ثمانية منه، وفي القاهرة يوم سبعة عشر منه، وبعد ذلك بيومين تعم أراضي الدلتا بأكملها.

وقبل ذلك بخمسين يومًا تهب على مصر ريح الخماسين، وتتوالى عليها من جهة الغرب من غير انقطاع، فتلفحها بنارها وسمومها؛ حتى إن كثيرًا من جهات القطر تكون كأنها قطعة من البادية متصلة بهذه الديار، ومتى طلعت عليها الشمس علاها الغبار وثار فوقها وهي جرداء قحلاء. فأينما رمى الإنسان بطرفه رأى الأرض على مدى البصر مشققة تشقيقًا متقاطعًا، ثم ترتفع في الجو طبقة من الغبار الأزرق فتحيط بالأشجار وتعدمها البهجة والحياة. وأما النيل فيقل اتساعه إلى نصف عرضه المعتاد، وتهبط مياهه حتى تكون نصف عشر ما كانت عليه في شهر أكتوبر، ثم لا يلبث أن يعود زاخرًا حتى يركب الجسور. وفي نحو منتصف شهر يوليو يخشَى من تجاوزه لها وطغيانه عليها؛ فتقطع السدود المانعة له فتنساب مياهه إلى أرض المزارع، وتعمها في بضعة أيام حتى تضرب من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي؛ فيصبح الوادي وهو لجة من الماء العكر يجري بين امتدادين من الرمال والصخور، تطفو عليها القرى والروابي وتلوح للرائي كأنها قمم خضراء ونقط سوداء، وتخترق اللجة جسور تجمع بين القرى فتقسمها إلى مربعات غير منتظمة. ويكون منتهى الزيادة في بلاد النوبة في آخر شهر أغسطس، وفي القاهرة والدلتا بعد ذلك بشهر واحد. ثم يقف الفيضان فلا يزيد النهر ولا ينقص نحو ثمانية أيام متواليات، وبعد ذلك تأخذ المياه في التناقص والهبوط بسرعة حتى إذا ما حل شهر ديسمبر عاد النيل إلى مجراه فلا يتعداه.

(٤) نباتات مصر وحيواناتها

لا جرم أن القطر الذي تهاجمه المياه في كل عام لا يكون فيه كثير من الأشجار، على أن الجميز وأصناف الأقاقيا والسَّلمَ والأثل تنبت بها وتعيش فيها، ومن أشجار بساتينها التين والمشمش واللبخ٧ والسنط الحساس (المستحية) والكرم. وأما نخل الدوم فينبت في الصعيد من غير فلاحة تقريبًا وأرضها، موافقة كل الموافقة لإنبات النخيل، فحيثما وجه الإنسان ناظره أبصر أشجاره، صنوانًا وغير صنوان، في أفواه المجاري وحوالَي القرى، وعلى امتداد السواحل مصفوفًا إلى جانب بعضه بنظام يحاكي نظام العمدان، ومغروسًا باتساق واعتدال بحيث تتكون منه غابات غير كثيفة، وكلها في غاية البهجة والجمال. وقد يزرعون حول النخيل أشجارًا أخرى فيختلف بها المنظر اختلافًا يشرح الصدر وترتاح له النفس. وأما النباتات المائية فهي كثيرة في الدلتا تنمو في بحيرات الساحل نموًّا عجيبًا، وتشتبك أغصانها؛ حتى إنها كانت في كثير من الأوقات ملجأ للمغضوب عليهم المهدور دمهم، والأمراء المنهزمين يأمنون فيه من كيد العدو ومباغتة الغريم.

وقد اشتهر من هذه النباتات نوعان هما؛ البردي والبشنين بما كان لهما من الشأن والأهمية في تاريخ مصر المقدس والملوكي. فكان البردي علامة رمزية على الدلتا واتخذوه ورقًا للكتابة في قديم الزمان، وأما البشنين فجعلوه عنوانًا لإقليم طيبة (الصعيد). وكان القدماء يطلقون اسم البشنين على ثلاثة أنواع من النبات ما بين زرقاء وبيضاء وحمراء، من غير تفرقة في الإطلاق، وقد كاد البردي يكون معدومًا، وأما البشنين فهو نادر الوجود. وكان سكان وادي النيل يتناولون كلًّا من النباتين غذاء مسلوقًا أو مشويًّا أو مطحونًا ومتخذًا خبزًا، وكان هذا الغذاء خاصًّا بالفقراء والمساكين، وكان القوم يؤثرون عليه ما تخرجه الأرض من غير كبير عناء ولا شديد عمل؛ كالترمس والفول والحمص والبامية والعدس والقمح خصوصًا، وغير ذلك من أنواع الحبوب؛ مثل الشعير والأذرة والأذرة العويجة. وكثير من الحيوانات المستخدمة المعروفة عندنا الآن كانت مجهولة في مصر الأولى؛ فإن الفَرس لم يدخلها إلا في حدود القرن العاشر قبل الميلاد، والجمل في أيام البطالسة، أما الثور والضأن والعنز والخنزير فقد وجدت صورها ورسومها على أقدم الآثار، وكذلك كثير من أنواع الكلاب الأهلية المستخدمة، والغزلان المستأنسة، وأما الأوز والبط فكان كثيرًا فيها، ولكن الدجاج لم يظهر له أثر بها وبقي نادرًا مدة طويلة من الزمان. وفيها شيء كثير من الأسماك منها ماهو كبير جدًّا، وأغلبها صالح للأكل. وأما الحيوانات المضرة المؤذية فهي قليلة، وكانت الآساد وبعض وحوش من فصيلة السنور؛ كالفهد والغيلس والبَبَر، وكثير من أصناف الضباع، وبنات آوى، والذئاب، تختلف إلى أطراف الصحراء. وكثير من العقارب والثعابين السامة مثل الحية القرناء، والثعبان الناشر تدب في المزارع والمساكن. أما فرس البحر فقد غادر بطائح الدلتا في أواخر القرن السادس عشر بعد الميلاد، وقد بقي التمساح في مكانه إلى أيامنا هذه حتى جاءت البواخر فطردته إلى ما وراء الشلال الأول.

(٥) الإله النيل وعبادته

النيل هو مدار النظام في أرض مصر، وكل ما فيها من نبات تخرجه أرضها وحيوان يدب عليها وطيور تعلو في جوها، وقد أدرك المصريون هذه المزايا كما ينبغي، وعلموا أنه أُس الحياة في بلادهم، فألَّهوه وسمُّوه «حابي ومعناه النيل السعيد». وكانوا يترنمون على الدوام بمديحه وذكر نعمه وفضائله (شكل ١-١) فكانوا يقولون:
fig2
شكل ١-١: الإله النيل (نقلًا عن التمثال المحفوظ في المتحف البريطاني).
النيل هو موجد القمح، ومخرج الشعير
من الأرض، وسبب الابتهاج والسرور في
المعابد والهياكل، فإذا تفرغت أصابعه عن
العمل، أو ألمَّ به ألم نزلت البلواء والبأساء
بالأقوام؛ لأن الآلهة في السماء متى حل
بها الصغار والهوان هلك الإنسان، ونفق
الحيوان، وصُبَّ العذاب على الأرض كلها
بمن فيها من كبير وصغير، ولكن متى أقبل
النيل تغيرت جميع هذه الأحوال أمام
الإنسان؛ فإنه بمجرد ما يبدو للعيان بعد أن يخلقه خنوم إله الشلال
ترى الأرض وقد أخذت زخرفها وازيَّنت، وجميع البطون، وقد
فرحت واستبشرت، وجميع القدود وقد استولى عليها الطرب
والسرور، فاهتزت وترنحت، وجميع الثنايا وقد ابتسمت لما قضمت
فترى الترح قد زال، وحل محله الفرح في كل حال، فدُم أيها النيل
في عز ويمن وإقبال، وأحيي الأقوام بالأنعام، والأنعام بالحدائق
والرياض، ألا فدُم يا نيل في عز ويمن وإقبال، هيا بنا.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    يخرج النيل من البقعة التي بها البحيرات الإفريقية الكبرى، ويستمد في سيره بمياه الحبشة الواردة إليه بواسطة النيل الأزرق، ونهر تفزي ثم يجري بها في خلال النوبة ومصر الحقيقية حتى يصب في البحر الأبيض المتوسط.

  • (٢)

    ومصر هبة من هبات النيل وتمتد من شلال أسوان إلى البحر المالح، وليست في بدئها إلا واديًا ضيقًا جدًّا، يبلغ متوسط عرضه ١٥ كيلومترًا. وفيما وراء القاهرة يكون هذا الوادي مثل سهل فسيح أو دلتا يتفرع فيها النيل فروعًا كثيرة وترعًا ثانوية، قبل أن ينصب في البحر من الفروع الثلاثة الأصلية التي لم يبقَ منها سوى اثنين في هذا الزمان؛ وهما فرع رشيد وفرع دمياط.

  • (٣)

    يفيض النيل في كل عام وتصل الزيادة إلى أرض مصر في أوائل شهر يونيو، ثم تغمر الوادي بأكمله إلى أن يحل شهر أكتوبر، وفي أوائل ديسمبر تكون قد بلغت نهاية الكمال.

  • (٤)

    إن تعاقب الفيضان في أوقات معينة يجعل الحيوانات والأشجار غير متوفرة في مصر بكثرة، تشبه ما هو حاصل في بلاد أوروبا وغيرها. وليس في هذا الوادي إلا قليل من الأشجار الكبيرة؛ مثل أصناف الأقاقيا والجميز وغابات من النخيل، وفيها كثير من النباتات المائية مثل البردي والبشنين. وأغلب الحيوانات الأهلية كانت معروفة فيها من قديم الزمان، ولكن الفَرس لم يدخلها إلا في حدود القرن المتمم للعشرين، قبل التاريخ المسيحي. وقد تلاشى منها كثير من الحيوانات الكاسرة والوحوش الضارية؛ مثل الأسد وفرس البحر، ولم يبقَ من التمساح إلا عدد قليل.

  • (٥)

    وكان المصريون يعتبرون النيل إلهًا من آلهتهم، ويحتفلون له بمواسم عظيمة؛ تمجيدًا لشأنه وتعظيمًا لقدره.

١  هو قول هيرودوت المؤرخ اليوناني المشهور.
٢  تقسيم النيل بهذه الكيفية هو بحسب تفرعه في الأزمان القديمة لا في عهدنا هذا. فتنبه!
٣  هذا هو اللفظ الوارد في الكتب العربية القديمة ومترجم عن لفظة Acacia اليونانية، وهي تدل على الشجرة التي يُستخرج منها الصمغ العربي مثل السنط وغيره، ثم توسع النباتيون في هذا الاسم فصار يطلق على أجناس نباتات كثيرة من فصائل مختلفة بحيث بلغ عدد أجناس الأقاقيا ٤٢٠ أكثرها لا تعرف طريقة استعماله.
٤  نسبة إلى بيلوز التي هي الطينة بقرب الفرما.
٥  نسبة لمدينة قديمة سبتيطة، كائنة بالقرب من تفرعه الآن.
٦  نسبة لمدينة كانوب القديمة وهي مدينة صقع كان بها دير التوبة، ومعبد تحتمي فيه الأرقاء، وكان يحج إليه أغلب الناس ثم عُرفت بسد أبي قير.
٧  هو شجر كان يوجد بمصر قديمًا وله ثمر بقدر اللوزة يؤكل، ولكنه انقطع الآن من مصر بالمرة. واللبخ المعروف اليوم ليس منه في شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤