الباب الرابع عشر

الآثار والفنون الصناعية

(١) لماذا استعمل الكلدانيون الآجر خصوصًا

إن بلاد كلديا مكونة من طمي الأنهار؛ ولذلك فليس بها أحجار جيرية كثيفة متماسكة، ولا رخام ولا صوان ولا حجر البركان ولا شيء من الأحجار الصلبة التي استفاد منها المصريون أيما استفادة؛ ولذلك آل الأمر بالمهندسين من الكلدانيين إلى أن يأخذوا من الأرض نفسها المواد التي يبتنون منها العمائر والآثار فاستعملوا اللبن نيئًا أو مطبوخًا أو مطليًّا بالمينا وآجرهم عريض جدًّا ويكتبون في العادة على أحد وجوهه السطحية اسم الملك الذي صُنعت في أيامه.

(٢) أقدم الآثار في كلديا

إن أقدم الآثار توجد في كلديا السفلى في خرائب أوروك، ولارسام، وايريدو، وأورو، ولاجاش، وهي هياكل وقصور شادها ملوك كانوا معاصرين للفراعنة الذين أقاموا الأهرام في مصر، وكلها قائمة على أساس من اللبن النيئ، وقد يبلغ طول ارتفاع الأساس عشرين مترًا بحيث يتكون منه شبه تل صناعي، يكون البناء عليه في مأمن من مياه الفيضان، وكان الوصول إلى السطح بواسطة مزلقان خفيف يمكن للخيول أو العربات أن تسير عليه، والسلالم كأنها منقورة في هذا الأساس، وأما القصر نفسه فكان أشبه شيء بكتلة مربعة أو مستطيلة وله جدران عالية عارية ليس فيها من النوافذ والفتحات سوى باب واحد أو أكثر، وكانت هذه الأبواب محلَّاة بفرض طويلة منشورية الشكل، وداخل القصور يضل فيه الإنسان لكثرة الفناءات الواسعة والحجرات الصغيرة ذات الحيطان السميكة التي يزيد طولها على عرضها، وتعلوها القباب ينفذ إليها النور من كوة صغيرة في أعلاها وكانت عادتهم أن يضعوا في أحد الأركان البرج الهرمي (زجُّورات) وهو العنصر الذي تتميز به العمارات الكلدانية، وكانت الزجورات لها سبع طبقات لكل طبقة لون خاص وإله معين، وكانت الآلهة السبعة التي للطبقات السبع هي الشمس والقمر والسيارات الخمسة، وهذه الطبقات هي عبارة عن سبعة مكعبات بعضها فوق بعض وفوق أعلاها في الغالب هيكل صغير يعبد فيه الإله الوطني.

fig21
شكل ١٤-١: تصوير مركب من حجارة محلاة بالمينا، وقد وجده الباحثون في أطلال خرزاباد وهو من مصنوعات القرن الثامن ق.م.
أما الزخارف الداخلية فكانت على جانب عظيم من البساطة، فالحيطان مطلية بطبقة من ملاط مركب من كلس ورخام أو شيد١ ممزوج بالجير بحيث لا يظهر الآجر تحتها أو عليها رسوم هندسية أو صور آدمية وحيوانية، وقد يستعيضون عن هذا الطلاء السريع العطب بآخر أبقى يتخذونه من الآجر الذي عليه المينا البيضاء أو السوداء أو الصفراء أو الحمراء، وكان في اختلاط الألوان زينة مقبولة تسر الناظرين، وتصبر على الدهر. فإن أقدم هذا الآجر وأبعده عهدًا هو كأقربه عصرًا وأحدثه وجودًا؛ بحيث لا تزال فيه ألوان زاهية باهية ورونق شائق رائق يأخذ بمجامع القلوب، ويقضي بالعجب العجاب (شكل ١٤-١).

(٣) آثار آشور

قد كمل الآشوريون ما سنَّه الكلدانيون في فن العمارة والبناء ولم يعدِّلوا فيه شيئًا يُذكر، والآجر هو المادة الأولى في بناياتهم، ولكن الحجارة الكلسية التي وجدوها بكثرة في جبال كردستان مكنَّتهم في كثير من الأحيان من طلاء عمائرهم بطلاء من الحجر، وكانوا يضعون في قاعدة التراب المركوم مداميك من الدبش الصغير بعناية وترتيب محكم، وفي الداخل كانوا يؤثرون استعمال صحائف رقيقة لتبليط الغرف أو لطلاء الجدران، وأن ترتيب المعابد والقصور بوجه العموم على الكيفية التي عرفناها في الآشور؛ كلخ، ونينوي، ودورشاروكين (خرزاباد)، هو نفس الترتيب المتبع في المعابد والقصور الكلدانية؛ أي إنك ترى فناءات واسعة وغرفًا ودهاليز مبنية بالعقد يجيئها الضياء من أعلاها وأبراجًا ذات طبقات بعضها فوق بعض. أما الزخرفة في الداخل والخارج فالظاهر أنها كانت متوفرة أكثر بكثير مما في كلديا، فكان على الأبواب أنوار لها رءوس بشرية وتماثيل بالغة في الفخامة والضخامة تمثل البطل جيلجاميس، الذي افترس الأسد وفتك به. وأسفل الحيطان في بعض الأحيان يكون مزدانًا بسطوح مربعة وفتحات الأبواب محلاة بسطور من الآجر المموه بالمينا، وهذه السطور ترافق قنطرة الفتحات التي تعلوها صور ورموز دينية، وقد وجد على مدخل باب الحريم في أحد قصور خرزاباد نخلتان من البرونز المذهَّب، وأما النوافذ (الشبابيك) القليلة التي كانت في بعض الأدوار العليا من البرج فكانت مزدانة بأعمدة صغيرة لها تيجان تحاكي الطرز الأيوني في بلاد الأغارقة، ولها درابزينات من الخشب المشغول، وفي قاعات الاستقبال كانت الحيطان مطلية إلى منتصفها بنقوش بارزة؛ تمثل مواقع الملك المؤسس للقصر ومصايده وطرائده.

(٤) النقش الكلداني

إن المصنوعات التي تركها لنا نقاشو الكلدانيين تقل كثيرًا عما أبقاه نقاشو المصريين، وأن أغلب التماثيل الكلدانية التي عثرنا عليها إلى هذا العهد وُجدت في لاجاش وهي محفوظة بمتحف اللوفر، وكلها من حجر الديوريت الأزرق أو الأسود، وقد ضاعت رءوسها ولكنه يوجد في المتحف المذكور نحو ستة رءوس منفصلة، قد ضاعت أجسادها، ولهذه التماثيل هيئة ثقيلة، وشكل جاف (شكل ١٤-٢)، وذلك لعِرَض الذقن، وتربعها وكبر الخدود وغلظها، وسُمك الشفاه، وتفلطح الأنف، ونجل الأعين، تعلوها حواجب كثيفة مقرونة.
fig22
شكل ١٤-٢: رأس تمثال من لاجاش وهو بمتحف اللوفر.
fig23
شكل ١٤-٣: تمثال بلا رأس من جوديا محفوظ بمتحف اللوفر.
أما الأجسام فبعضها على هيئة الواقف، وبعضها على هيئة الجالس على دكة أو على كرسي، لا سناد له من جهة الظهر (شكل ١٤-٣)، والملبوس عبارة عن شال طويل يشتمل به صاحبه فيمر من تحت الذراع الأيمن إلى فوق الكتف الأيسر، ثم يرخى باتساع خفيف لحد كعب التمثال، وتثنيات القماش مبينة بالاختصار بكيفية متفق عليها، أما التماثيل العارية فهي مشكلة بثقل وجفاء، ولكنها تدهش الناظر إليها بما فيها من الصحة الحقيقية، والاهتمام بإظهار جميع التفصيلات، وقد فاز الصانع بإظهار كل ما في الجسد مع صلابة الحجر وصلادته، حتى إنه أظهر انحناء الأظافر، وتثنيات الجلد، على أن النسبة التي في الجسم البشري ليست على الدوام مرعية محفوظة في كل تمثال، فإن الأكتاف والخصور هي أعرض مما ينبغي بالنسبة لارتفاع الجذع، وطول السيقان، وفيما خلا هذا الفرق، فإن تماثيل لاجاش هي صور حقيقية صادقة، ترينا الأشخاص المقصودة كأنها هي بالتمام، وكلها تمثل لنا الملك جوديا، والملوك الذين من عائلته كل واحد بهيئته الشخصية، ولا ريب عندي في أن الاهتمام في كلديا بتمثيل الصورة الحقيقية هو مرتبط كما في مصر بأمور دينية، فكما أن التمثال المصري هو عماد تستند عليه الروح، وجسد يضع فيه المصور جزءًا من قرين الشخص الممثَّل، فكذلك كان حال التمثال عند الكلدان، ولكي تكون هذه الصورة التي للقرين واقعة تحت المقاساة والمعاناة كان اللازم جعل الجسد الذي من حجر يحاكي الجسد البشري تمام المحاكاة؛ بحيث يكون كأنه هو إياه.

(٥) النقش الآشوري

ليس النقش الآشوري عبارة عن استمرار وتكميل للنقش الكلداني، فإن التماثيل الآشورية قليلة؛ لأن الرخام وحجر الكلس، وحجر الجبس الذي استعمله الآشوريون في تماثيلهم لم يقوَ على مقاومة الدهر مثل ديوريت الكلدانيين، وأشهر تماثيلهم هو تمثال آشور نازرهابال (شكل ١٤-٤)، وهو مصنوع صناعة علمية ثابتة، ورأسه واضح، ومنقوش نقشًا محكمًا، يكاد ينطق أمام الرائي؛ بحيث لا نرى مثله في نقوش الكلدانيين، ولكنه لسوء الحظ قد تراكمت عليه غدائر الشعر المجعد في الرأس والذقن، أما الجسم فطويل متناسب تناسبًا محكمًا، وفي ملامحه العظمة مع ما هو ملتف به من القباء والشال المخمل اللذين يتدثر بهما الجسد من الرقبة إلى القدم، ولا شك أن الصانع كان ذا مهارة وحذق؛ حتى توصل إلى اجتناب الدمامة وقبح المنظر مع مثل هذا الملبس، وأما النقوش البارزة فهي كثيرة بخلاف التماثيل، وهي مصنوعة بصناعة تشم منها رائحة الحرية والشمم، وقد تتصل بوسائط بسيطة، وعمل غير كامل إلى إحداث أعمال جليلة، ومنظورها مختصر جدًّا، وليس التناسب بين الأشياء مراعى فيها، أو بعبارة أولى وأخرى هي محسوبة مقدرة بحسب أهمية الأشياء الممثلة في الهيئة المراد تصويرها، فإن الرجال على الدوام بالغون في الطول مبلغ الأشجار، وترى المشاة يهجمون على قلاع وحصون أصغر منهم في القامة والارتفاع، ومع هذه العيوب فإن من نظر إلى النقوش البارزة الآشورية رأى فيها الحركة والحياة، فإنك ترى صورًا تتضارب ويقتل بعضها بعضًا، وترى فيها الصيد حقيقة، وأغلب الأحوال المصورة فيها مركبة تركيبًا لطيفًا؛ بحيث يتيسر لأحد الصناع في أيامنا هذه أن يمثلها مع إصلاح قليل على الكيفية المصطلح عليها في هذا الزمان، ويجعل منها رسومًا حديثة عصرية، وفضلًا عن ذلك فهي تمتاز بموافقتها للحقيقة حتى في الجزئيات التي لا طائل تحتها، وبكونها تمثل لنا الحياة الآشورية بالتفصيل، فهي آثار نفيسة للمؤرخ، كما أنها مصنوعات فنية ذات قيمة حقيقية.
fig24
شكل ١٤-٤: تمثال آشورنازرهابال بالمتحف البريطاني.

(٦) الفنون الصناعية

عندنا قليل من آثار الفنون الثانوية مثل صناعة الزجاج والنقش على الخشب والوشي والتدبيج والخزف، وكان الآشوريون ولا سيما الكلدانيون بارعين في تطريز منسوجاتهم بأشكال وصور مشابهة لما نراه الآن على حيطان قصورهم، ولكن الدهر قد ذهب بهذه النقوش التي كانوا يسمونها نقوشًا «من شغل الإبرة» وكان اليونانيون والرومانيون يعجبون بها إعجابًا كثيرًا فائق الحد.

وقد بقيت لنا بقايا كثيرة من صناعتهم في المعادن، وكثير من هذه البقايا تشهد بجزيل مهارتهم، ومنتهى براعتهم، فإن سَنَجات موازينهم التي من البرونز وعلى هيئة أسد مصنوعة صناعة علمية وافية، وخصوصًا الرأس فإنه مشابه للحقيقة تمام المشابهة (شكل ١٤-٥)، وتماثيل الآلهة والتمائم، والسنادات البرونزية التي تزدان بها الكراسي، والأسِرَّة هي من أحاسن صناعة النقش الدقيق المتقن على المعادن، وكانت أبواب قصر شلمناصر في بالوات من الخشب مزخرفة بقطع من البرونز، ارتفاعها ٢٦ سنتيمترًا مشغولة بالمطارق، وممثِّلة لغزوات الملك، وأحسن قسم منها محفوظ اليوم في المتحف البريطاني، وفيها نفس الأغراض التي تُرى على أحجار الكلس، أعني وقائع حربية، ومحاصرة بعض المدائن، ومطاردة العدو في بلاد ذات غابات وجبال، ثم عبور الأنهار. نعم، إن المقادير مصغرة جدًّا، ولكن الصناعة واحدة تدل على تمام المهارة في طرق المعادن.
fig25
شكل ١٤-٥: أسد من البرونز بمتحف اللوفر.

وهذا الإتقان يشاهَد أيضًا في الأشياء القليلة المصنوعة من سن الفيل، التي لم تعبث بها يد الضياع وخصوصًا في الأسطوانات العديدة أو الأختام التي من حجر صلب من أنواع مختلفة وهي توجد بكثرة في خرائب المدائن أما النقش الصناعي؛ أي النقش الدقيق فكان بالغًا في الإتقان مبلغ النقش في الأشياء الجسيمة، بل كانت صناعة الآشوريين والكلدانيين ذات مقام جليل في العالم القديم يحاكي ما كان لصناعة المصريين.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    لما كانت كلديا مكونة من طمي الأنهار فلذلك ليس فيها شيء من أحجار البناء، وهذا ما حمل أهلها على استعمال اللبن النيئ أو المطبوخ في مبانيهم.

  • (٢)

    أن أقدم الآثار في كلديا السفلى؛ أي في مدينة أورو، ولارسام، وأوروك، ولاجاش، هي عبارة عن معابد وقصور مشيدة على أساس من اللبن النيئ، ويتوصل إليها بسطوح مائلة أو سلالم عرضية ويشرف عليها في العادة برج هرمي ذو أدوار يسمونه زجُّورات، وهذا البرج الهرمي هو أهم ما تتميز به العمارة الكلدانية فكانت هذه القصور والمعابد مزخرفة في الداخل والخارج برسوم على بلاط، أو بطوب مطلي بالمينا.

  • (٣)

    العمارة الآشورية هي نفس العمارة الكلدانية، وكانت قصور نينوي وغيرها، من عواصم آشور مطلية في الغالب ببلاط طويل من الأحجار المنقوشة أو المرسومة.

  • (٤)

    وقد بقي لنا قليل من آثار النقش الكلداني القديم وأقدمها وأجملها، قد عثر عليه الموسيو دوسارزك في خرائب تللو وهي محفوظة في متحف اللوفر؛ وهي عبارة عن تماثيل جوديا وملوك لاجاش الذين من عائلته.

  • (٥)

    أما النقش الآشوري فإنما هو تتميم وتكميل للنقش الكلداني، وليس لدينا إلا قليل من التماثيل أحسنها تمثال آشورنازرهابال، والنقوش البارزة كثيرة، وهي تصور الحركة والحياة أحسن تصوير وعلى أكمل منوال.

  • (٦)

    ولم يبقَ شيء من التطريز والتدبيج عند الكلدانيين، وهما مشهوران جدًّا عند السلف، وإن فن طرق المعادن هو الذي نقدر أن نحكم عليه حكمًا صادقًا من دون جميع الفنون الثانوية، وذلك بواسطة الأسد الجميل المحفوظ في اللوفر، والنقوش البارزة على بعض قطع البرنز الصادرة من بالوغات.

١  الشِّيد بالكسر هو ما يطلى به الحائط من الجص ونحوه، ويقابله في الفرنساوية كلمة Stuc.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤