الباب الثالث

الكلام على منف والدولة القديمة

(١) العائلة الرابعة وذكر الملك خيوبس وخفرن وميقرينوس والكلام على احتلال المصريين شبه جزيرة الطور

الظاهر أن أغلب ملوك العائلة الرابعة (المنفية) كان لهم حزم ودراية في التدبير، وقد رزقهم الله السعادة في إدارة شئون البلاد؛ نخص بالذكر منهم الملك خيوبس، والملك خفرن، والملك ميقرينوس، على أنهم لم يوجهوا همتهم واجتهادهم إلى الاشتغال بما هو خارج عن الديار المصرية، بل حصروا أعمالهم فيها. ولما كانت مصر تحف بها البوادي وتحدق بها الصحاري من كل جهة، فليس لها في الحقيقة من جيران. نعم إن اللوبيين القاطنين بالواحات الواقعة غربي النيل والأعراب الذين كانوا يحومون ويتموَّرون١ على قلة عددهم وسوء عددهم في الجهة الشرقية فيما بين النيل والبحر الأحمر كانوا قد يضايقون القطر؛ ولكنهم لم يكونوا بالقوم الذين يخشى بأسهم أو يرهب جانبهم؛ فلذلك كان حسبُ ملوك مصر أن يغزوهم من حين إلى حين؛ لإلقاء الرعب في روعهم ومنعهم عن العدوان، وحفظ الوادي من غاراتهم.

على أن الفراعنة الأقدمين صمموا على الخروج من ديارهم إلى نقطة واحدة أسسوا فيها مستعمرة باقية مستمرة، وهي شبه جزيرة الطور؛ لأنها كانت تحتوي في بعض وديانها المواجهة لمصر على معادن يكثر فيها النحاس والفيروزج، وما لبثت هذه الجهة أن توطنت فيها العمال واشتغلوا باستخراج هذه المعادن مدة أجيال طوال، وقد أقاموا في مواضع مختلفة جسورًا لحبس مياه الأمطار، فكانت منها بحيرات صغيرة أمكن بواسطتها فلاحة بعض الأراضي وتربية قليل من الماشية، وكان البرابرة من أهل الجيزة ينازعون أولئك المستعمرين في امتلاك هذه الواحات الصناعية، وبعد سنفرو قد صد هجماتهم كثير من الفراعنة، ولكن لم يقُم بفكر أحد من هؤلاء الملوك أن يتمم غزوته ويستقصي نصرته. ولم يكن بين كور آسيا الممتدة خلف الصحراء التي نشأت منها فيما بعد بلاد فلسطين ويهوذا وبين الديار المصرية؛ إلا علاقات تجارية، وكانت القوافل تتردد بانتظام فيما بين أفريقيا وآسيا، وأما الجيوش فلم تسلك هذه الدروب.

(٢) الأهرام الكبرى

كان الأمن والسكينة ضاربين أطنابهما في داخل البلاد المصرية، ويظهر لنا من الأوراق المكتوبة في ذلك العصر أن الفلاحة كانت في غاية الفلاح، وأن الصناعة ارتقت في معاريج النجاح، وهناك مئات من القبور تفصح بلسان الحال عن الدرجة السامية التي بلغها فن العمارة والنقش في ذاك الزمان.

وكان الملوك في ذلك العصر كلفين ببناء القبور العظيمة لأنفسهم مدة حياتهم على شكل هرمي قاعدته رباعية، وقد وقف الباحثون في هذا الزمان على أطلال نحو ستين هرمًا، تتقاطر وراء بعضها في مصر الوسطى من أرباض القاهرة حتى مدخل الفيوم. وأشهرها هي المعروفة بالأهرام الكبرى، وهي قائمة على سفح سلسلة جبال لوبيا إلى الغرب قريبًا من المدينة المستحدثة المعروفة بالجيزة (شكل ٣-١).
fig4
شكل ٣-١: الأهرام الكبرى بالجيزة.
وفي كل واحد من هذه الأهرام حجرة واحدة أو أكثر لدفن الموتى، يدخل إليها الإنسان من دهاليز منحدرة منحوتة في نفس البناء وكانوا متى وضعوا موميا٢ الملك أقفلوا الحجرات بصخور من الصوان، ثم يردمون الجزء من دهليز الدخول القريب من الخارج ردمًا تامًّا، وبعد ذلك يطلُون جميع سطوح الهرم بطبقة كلسية جميلة بهيجة فيختفي الباب، ولا يبقى له أثر يدل عليه. وارتفاع الهرم الأكبر المعروف عند قدماء المصريين بما معناه «الباهي» هو في أيامنا هذه ١٣٧ مترًا، وكان فيما غبر من الأيام مقبرة للملك خيوبس ولكنه لم يبقَ فيه الآن سوى خابية التابوت من الرخام الأبيض. والهرم القائم بجانبه هو لخفرن، وأما الهرم الأصغر فبانيه ميقرينوس.
وقد دارت على ألسنة العوام منذ الأحقاب الخوالي جملة أساطير وخرافات بشأن هذه الآثار الثلاثة، فيقال: إن «خيوبس بدأ بإقفال الهياكل، وتحريم القربان، ثم ألزم جميع المصريين بالعمل له، فكانوا يؤخذون للسخرة في كل ثلاثة شهور مائة ألف رجل منهم، وأن مدة شقائهم وبلائهم في بناء الهرم كانت ثلاثين عامًا منها عشر سنين في تمهيد أرضيته، وبناء حجراته التي تحت الأرض، وبناء الجسر (الموصل إليه من شاطئ النيل المعد لنقل الأحجار التي بُني منها هذا الهرم)، والعشرون عامًا الأخرى قضوها في بناء الهرم ذاته. وأن الهرم عليه نقوش تنبئ بمقدار ما صرف في شراء الفجل والبصل والثوم لأجل غذاء الشغالة». وقد بقي هذا الظلم والاستبداد على عهد خفرن، ولم ينقطع أثره إلا بتولي ميقرينوس «فإنه أعاد فتح الهياكل، وأباح للناس أن ينطلقوا إلى شئونهم، ويتفرغوا لأمورهم الدينية، وحكم بالعدل أكثر من جميع الملوك الآخرين.» ولعمري إن هذا من باب الأقاصيص الملفقة؛ ترويحًا لنفوس السائحين، فإن خيوبس وخفرن هما من أعظم وأكبر ملوك مصر (شكل ٣-٢).
fig5
شكل ٣-٢: تمثال خفرن كما هو بمتحف الجيزة.

(٣) الملوك المنفيون الأخيرون من العائلة الخامسة والسادسة وذكر افتتاح بلاد النوبة

الظاهر أن العائلة الخامسة «المنفية» لا تختلف عن العائلة الرابعة في شيء، فإنها تشبهها في توفر أسباب الثروة واليسار وتوطد دعائم الأمان والنظام والولوع بالترف في العمائر، ولكنها مع ذلك كانت مبدأ لسقوط الدولة المصرية وانحطاطها.

وكان مؤسسو الحكومة الملوكية في مصر لم يخلعوا أمراء الولايات (الكور)، بل كان هؤلاء يتعاقبون عليها بطريق الميراث وجعلهم الملوك إخاذيين٣ تابعين لهم، وأبقوا لهم حقوق الإمارة على شرط أن يدفعوا لهم إتاوة معينة، ويمدوهم بالجند في الخدمة العسكرية، وكانت هذه الولاية الأخاذية ما زالت يانعة زاهرة في مدة الأجيال السابقة، فكان للكثير من العشائر التي يتألف منها هؤلاء الأمراء أملاك واسعة وأقطاع فسيحة؛ بحيث إنها في زمن الفتن كان يخشى على العائلة الحاكمة من أن تكون لها خصمًا عنيدًا يجب الاحتفاظ منه، ولا نعلم كيف أن إحدى هذه العشائر وأصلها من جزيرة «أسوان»٤ استبدَّت على العائلة المنفية وتناولت دونها الأحكام، ولكنها تعاطت شئون التدبير ومهام الملك؛ بما أوجب لها المهابة والفخار والمعزة والاقتدار (وهي العائلة السادسة). وأقدم الملوك المصريين الفاتحين الذي وقفنا على حروبه هو الملك الثاني من هذه العائلة المعروف باسم بيبي، فإنه انتصر في وقائعه مع الأقوام المستوطنين شرقي الدلتا وغربيها، وحطم ما كان لهم من أشجار التين، وقطع كرومهم، وأحرق قمحهم، وسبى نساءهم وأولادهم، ثم أخضع كور النوبة وهي ما يلي الشلال الأول جنوبًا، وأدخل أهاليها في سلك الجيوش المصرية.
وبعد ذلك بقرن ونصف عاد الأمر والسلطان إلى العائلات المنفية (العائلة السابعة والثامنة) ولكن لم يقبِل الدهر على فراعنتها إقباله الأول، فلم ترجع لهم أيام العز القديم، وكانت الولايات الإخاذية التي في مصر الوسطى هي الأكثر شوكة واقتدارًا في هذا العصر، فجاء أسياد هيراكليوبوليس٥ وهم أصحاب الفيوم فقبلوا دولة الفراعنة الشرعية، ولبسوا التاج، واستأثروا بالملك، ومن ذلك العهد لم تخرج من منف عائلة تولت الأحكام في مصر.

(٤) العائلات الخارجة من هيراكليوبوليس وجلوس العائلات الطيبية على سرير الملك

إن السيطرة التي حصلت عليها مدينة هيراكليوبوليس لم تبقَ لها إلا قليلًا من الزمن (حكمت فيه العائلتان التاسعة والعاشرة) فقد ظهر لها في الجنوب أخصام ذوو بأس شديد، ولم تكن مدينة طيبة إلى ذلك العهد نالت من الظهور ما يجعل لها حديثًا في التاريخ ولم تنَل الأهمية ورفعة الشأن إلا بعد سقوط المنفيين وخروج الأمر من يدهم. وكانت في أول الأمر تابعة لهيراكليوبوليس ولكنها ما لبثت أن جاهرتها بالعصيان، وأشهرت عليها الحرب العوان، وجالد أمراؤها فراعنة العائلة العاشرة، وفازوا بالظفر والانتصار حتى استبدوا عليهم وانتزعوا الملك من أيديهم (في حدود سنة ٣٢٠٠ق.م).

واعلم أن تولي العائلة العاشرة الطيبية انتهت به تلك الحركة التي ابتدأت في الوجود عقب سقوط العائلة الخامسة، فقد كانت الحياة السياسية في القُطر حالة بأكملها بمصر الوسطى في مبدأ الأمر، ثم انتقلت منها قليلًا قليلًا حتى كأنها صعدت النهر ووقفت في متوسط مجراه برهة من الزمان، ثم بارحت هذا المكان فأخذت مدينة طيبة الرياسة والتصدر بعد مدينة منف، وبقيت على ذلك أكثر من عشرين قرنًا بالتمام.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    لم تتوجه همة ملوك العائلة الرابعة وهم؛ خيوبس وخفرن وميقرينوس، ولم يمدوا يد اجتهادهم إلى ما هو خارج عن الديار المصرية، ولم يخرجوا من مصر إلا لاحتلال شبه جزيرة الطور؛ حيث أنشئوا فيها مستعمرات وطيدة الدعائم خصصوها لاستخراج المعادن.

  • (٢)

    وفي داخل القطر كانت السكينة تامة والأمنية عامة، وكان الفراعنة يتفننون بكل ما في وسعهم في تشييد قبورهم؛ وهي أهرام متقاطرة وراء بعضها فيما بين الفيوم والقاهرة على حافة صحراء لوبيا. وأشهر هذه الأهرام هي التي بجوار الجيزة؛ بنى الملك خيوبس أكبرها، والملك خفرن أوسطها، والملك ميقرينوس أصغرها. وقد دار على ألسنة العامة من الأهالي فيما بعد أنها من صنيع ملوك قست قلوبهم، وكانوا من الزنادقة الملاحدة.

  • (٣)

    لما قامت العائلة الخامسة أخذت منف في السقوط عما كان لها من السيطرة، وازدادت أهمية الولاة الإخاذين في مصر الوسطى ثم جلست على سرير الملك عائلة أصلها من جزيرة أسوان، وهي العائلة السادسة، وابتدأ أحد ملوكها وهو بيبي الأول في افتتاح النوبة، وظهر على الأمم المتوطنة في شرقي الدلتا وغربيها، وبعده بقليل عاد المجد والعز إلى مدينة منف (في أيام العائلتين السابعة والثامنة) ثم ما لبثت أن فقدت هذه السيطرة إلى أبد الآبدين.

  • (٤)

    وجاءت عائلتان من مدينة هيراكليوبوليس (وهما التاسعة والعاشرة) وجلستا على سرير الملك، فتمهدت طريقة الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسطى، ثم دبت الحياة السياسية في مصر الجنوبية، واستقرت فيها إدارة البلاد؛ إذ قام ملوك العائلة الحادية عشرة وبعد طول الجلاد استولوا على جميع ما في القطر من البلاد، واتخذوا مدينة طيبة عاصمة لهم، وكان ذلك في حدود سنة ٣٢٠٠ق.م.

١  أي يجيئون ويذهبون.
٢  الجثة المحنطة المحفوظة من الفساد. وأصل المعنى دواء، وهي كلمة يونانية معناها حافظ الأجسام.
٣  الإخاذة أرض يحوزها الرجل لنفسه، وقد اخترناها للتعبير عما هو معروف بالحكومة الالتزامية؛ لأن اللفظة أعرق في العربية وأوفى بالمرام.
٤  وتسمى أيضًا جزيرة البربا، وجزيرة الذهب لكثرة التبر النقي في رمالها، ويوجد بها مقياس النيل المشهور وهي المعروفة عند الفرنج باسم جزيرة الفنتين؛ ELéphantine أي جزيرة الفيل لأن قدماء المصريين كانوا يسمونها «آب» أي الفيل وكانت سوقًا لمبيع سن الفيل، وكانوا يعتقدون أن النيل ينزل من السماء ويتولد في وسط صخور الجنادل والشلالات الكائنة بين هذه الجزيرة وبين جزيرة أخرى تعرف عند اليونان والإفرنج باسم جزيرة فيلة Philœ وذكرت في كتب العرب المعتبرة باسم جزيرة بلاق، وبها الهيكل المشهور المعروف بقصر أنس الوجود. فتنبه للفرق بين الجزيرتين واحتفظ على اسميهما عند العرب.
٥  هو القسم المتمم للعشرين من أقسام الصعيد في الزمن القديم، وهذا هو اسمه اليوناني وقاعدته خينتسو؛ أي إهناس المدينة (بمديرية بني سويف)؛ ولذلك تسمى هذه العائلات بالإهناسية. وقد اصطلح المؤلف في الغالب على وضع أسماء الأشخاص والأماكن بحسب المتعارف في اللغة اليونانية، فتنبه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤