الباب السادس

في الديانة المصرية

(١) الآلهة الأصليون في مصر

كانت الأمة المصرية تعتبر في الأحقاب الخالية أشد الأمم تمسكًا بدينها، وهذا هو الواقع، فإن من نظر إلى آثارها يكاد يتوهم أن أرض مصر إنما كانت تسكنها الآلهة على الخصوص، وما كان فيها من بني الإنسان سوى من يقوم بحاجات العبادات؛ إذ كان لكل إمارة في أول الأمر إله أكبر خاص بها لا يتعدى سلطانه حدودها، وكان الحال كذلك حينما انقسم القطر إلى كور كبيرة؛ بحيث إن مصر كانت للآلهة ولايات التزامية أخاذية، كما كانت كذلك للأمراء من بني آدم.

وكانت الآلهة في بعض الأحيان عبارة عن النيل مثل الإله أسيريس؛ في قسم مندسيوس، والإله خنوم الخاص بالشلالات، وتارة عبارة عن الأرض السوداء الخصبة مثل الإلهة أيسيس المعبودة في بوتو، ومثل الإله بتاح أو فُتاح المعبود في منف، وتارة عبارة عن السماء مثل حارويرس. وكان أخص الآلهة عندهم الشمس مثل رع في هيليوبوليس، أو أنحوري في سبنيطوس، وفي ثنيس. وكان لبعض هذه الآلهة صورة إنسان مثل بتاح، وأزيريس، وآمون، والبعض الآخر على شكل حيوان مثل الكبش، والتيس، والأسد، والثور أبيس أو منيفيس، أو على هيئة ابن آوي مثل أنوبيس، أو الباشق مثل حوروس. واعلم أن الاعتياد على تصوير الآلهة بهاتين الصورتين جر المصريين إلى تمثيلها يهيئات مركبة تختلط فيها أشكال الإنسان بصور الحيوان فصاروا يصورون حوروس على هيئة إنسان له رأس باشق، وأنوبيس على هيئة إنسان له رأس ابن آوي، وهاتور على هيئة امرأة لها رأس بقرة. وللآلهة الأصليين عندهم حشم كثير وحاشية وافرة من الآلهة الثانوية تكون حولها بمثابة أمة تحاكي في العدد أمة الأنام.

وكل هذه الكائنات كان لها جسم أشد لطافة من جسمنا؛ فكان غير مرئي، ولكنه كان شبيهًا بجسدنا من حيث إمكان الوصول إليه، وإصابته بالجراح بل، وإعدامه الحياة. وكانت الآلهة تأكل وتشرب وتكتسي، وأحسن ما يتزلف به إليها وينال به رضوانها أن يقدم لها الإنسان ما يلزم لحياتها. وكانت عبادتها في الحقيقة عبارة عن جملة أفعال وهيئات؛ متى قام بها الإنسان أوصل إلى الآلهة في دنيانا هذه كل ما تحتاجه لحفظ حياتها، وسد رمقها، فكانوا يقدمون لها القرابين والضحايا من الحيوانات والطيور واللحم والخبز والنبيذ والمشروبات والفطير والفاكهة اللازمة لطعامها، وكانوا يعينون في صلاتهم أثناء تقدمة القربان الإله الذي يقصدون إتحافه بهذه الطيبات، ويذكرون النعم والعناية التي يطلبونها منه نظير القربان.

(٢) التأليه التُّساعي على مذهب هليوبوليس وذكر خلق الدنيا

كان الآلهة الأخاذيون يشبهون الأمراء الأخاذيين في مصاهرة بعضهم بعضًا، ويراعون مع بعضهم حقوق الجوار، وكانوا يتناولون في أغلب الأحيان اختصاصات بعضهم، فيتحد الواحد بالآخر ويصيران فردًا واحدًا؛ مثال ذلك آلهة السماء مثل حارويرس، قد حل في رع إله الشمس وتمثل فيه، كما أن آلهة الشمس مثل رع وأنحوري وغيرهما قد امتزجت ببعضها؛ حتى صارت شخصًا واحدًا عبدته مصر كلها، ولكن فريقًا آخر من الآلهة وقعت بينهم الشحناء حتى استحكم النفور والبغضاء؛ مثل أوسيرس وتيفون واجتهد كل واحد في إبادة صاحبه. وقد وجد العالم وبقي موجودًا يتمازج الائتلاف والاختلاف بين هؤلاء الآلهة. وقد زعم الكهنة أمناء الدين جملة مزاعم في وظيفة كل منها عند أحداث العالم.

والقول الذي مالت إليه الأهالي، ورجحته على المذاهب الأخرى من قبل مينيس، هو الذي قال به كهنة هيليوبوليس، وفحواه؛ أن العالم أحدثه تسعة من الآلهة بين ذكور وإناث اتحدوا على هذا الصنيع، وكان لكل منها قسط من العمل، فكان الكون في أول الأمر عبارة عن لجة من المياه يحيط بها الظلام، وكانت الشمس مختفية في وسطها، ثم ظهرت الشمس فخرجت الأرض والسماء من الماء مختلطتين ببعضهما، وممتدة إحداهما على الأخرى، وعلى هذا كان رع — أي الشمس — هو الإله الأول، وقد صدرت منه إشارة فتولد عنها زوج من الآلهة، وهما: شو، وتفنويت، فدخل شو فيما بين الأرض والسماء وفتق رتقهما، ثم رفع السماء على ذراعيه وأبقاها معلقة في الفراغ (شكل ٦-١)، وبذلك ظهر زوج ثانٍ من الآلهة وهما: سِيبُو أي الأرض، ونُوِيت أي السماء.
fig11
شكل ٦-١: شو واقفًا بين سيبو أي الأرض ونويت أي السماء بحسب رسم على نعش في طيبة.

وكانت الدنيا التي أوجدها هؤلاء الآلهة الخمسة أشبه بصندوقة رباعية الشكل يكتنفها الماء الأول، وأرضيتها هي الأرض وغطاؤها السماء وجدرانها الجبال الشامخة، التي تتكئ عليها السماء كما يتكئ سقف المنزل على جدرانه؛ فتمنع السماء عن السقوط على الأرض. ويجري نهر عظيم على طول هذه الجدران تحت السقف السماوي بقليل، وهذا النهر يجري مترائيًا للأبصار في جهة الجنوب، ثم يسيل فيما بين الجبال أو ينساب في مجرى طويل تحت الأرض، ويسبح فيه على الدوام زورق فيه الشمس، ويخرج هذا الزورق في كل صباح من المشرق من مجرى النهر الذي تحت الأرض، ثم ينحدر إلى الجنوب، وترسل الشمس الأنوار إلى مصر، ثم تدخل كل مساء في الجبل من جهة الغرب. والاثنتا عشرة ساعة التي تمضيها الشمس في اختراقه هي ساعات الليل الاثنتا عشرة، ثم تولد من الأرض والسماء إلهان وإلهتان تكوَّن منهما زوجان، فأنما تكوين العالم؛ وأولها هو مركب من أوسيرس وأيسس جاءا بالحضارة والمدنية في الدنيا كما سبق لنا القول به. وثانيهما وهو مركب من تيفون ونفتيس أتيا بالشر والموت.

(٣) رجحان الشمس على بقية الآلهة

قد أقرت جميع الهياكل والأماكن المعدة للديانة في مصر بالآلهة التسعة المذكورة مع تعديل قليل؛ فإنهم حفظوا الآلهة الثمانية ولكنهم أبدلوا رع رأس الآلهة بالإله المحلي؛ مثال ذلك أنهم في منف وضعوا بدله بتاح، وفي طيبة استعاضوه بآمون، وفي الشلالات بخنوم، ولكن لم يؤدِّهم هذا إلى إسقاط اعتبار الشمس، وجحود ما كان لها من الشأن الأكبر في خلق الدنيا؛ بل إنهم جعلوا الآلهة التسعة الرئيسية متحدة بالشمس حالة فيها متمثلة بها، مهما كانت خاصيتها في أول الأمر، فصار بتاح وآمون وخنوم شموسًا وصارت الشمس هي الإله المعتبر في جميع الأديان الأخاذية بالديار المصرية، وبهذا لم يبقَ إلا شيء قليل للاعتراف والمناداة بأن الشمس هي الإله الوحيد، أو أنه ليس هناك إلا إله واحد هو الشمس، وأن جميع الآلهة الأخرى ليسوا إلا أسماء لها، ولكن المصريين لم يفعلوا ذلك، ولم يقولوا به؛ لأن كل فريق كان يؤثر البقاء على ما هو عليه وإعلاء شأن الإله الذي كان خاصًّا به، فلم يزل أهل كل كورة على القول والاعتقاد بامتياز إلههم عما جاوره من الآلهة الأخرى وعلوه عليها في مكانته واقتداره، ولم ينتشر بينهم الاعتقاد بوحدانية الإله انتشارًا كثيرًا على فرض أنه وجد عندهم.

بل قد اتفق في كثير من الأحوال أن تصاريف السياسة قضت بجعل السيادة والمتبوعية لبعض الآلهة على البعض الآخر؛ مثال ذلك أن طيبة لما وصلت من ابتداء العائلة الثانية عشرة إلى درجة عظيمة من الشوكة والاقتدار نهضت بمعبودها آمون؛ فرفعت مكانته وأحلته محل الإحلال والإكبار وأصبح آمون ملكًا حقيقيًّا على جميع الآلهة طول ما بقي الزمان مقبلًا على طيبة، ولم يكُن له السلطان على الآلهة الأجنبية فقط؛ بل كان له الأمر والنهي أيضًا على الآلهة الوطنية المحلية، ومع أن بتاح وحارويرس وخنوم كانوا في نظر المتعبدين لهم نظراء آمون وأقرانه، ولكنهم كانوا في الحقيقة أتباعًا له كما كان أمراء الكور التي هم معبودون فيها، تابعين للفراعنة الحاكمين في طيبة، ولكن هذه السيادة زالت بزوال العائلة المتممة للعشرين، كما تلاشت شوكة طيبة وذهبت معزتها فرجع الآلهة الأخاذيون إلى ما كانوا عليه من الانفصال والاستقلال. ولم يتيسر بعد ذلك لإحدى المدائن أن تنال من العظمة والمجد ما يتيح لها إلزام بقية القطر بالخضوع لملوكها مدة مستطيلة من الزمان؛ بحيث يترتب عليها زوال حرية الآلهة وحياتهم كما حصل ذلك من الإله آمون؛ بل استمر الشرك وتعدد الآلهة ببلاد مصر إلى ما بعد ظهور المسيحية. ولم تنمحِ آثار الآلهة كلها وتتقوض دعائم الشرك بأسرها إلا ببزوغ أنوار الدين الإسلامي في القرن السابع من التاريخ المسيحي.

(٤) الكلام على أوسيرس وما ستلاقيه النفس البشرية في الدار الآخرة

ومع ذلك فقد فاز أحد الآلهة بجعل جميع المصريين يعترفون به بدون أن يغار منه الآلهة الآخرون، أو أن يقلل من سلطانهم؛ ألا وهو إله الأموات. وفي أول الأمر كان إله الأموات في كل ناحية هو إله الأحياء فيها، ولكنه ينتقل من الحياة إلى الوفاة. ففي الكور التي كان فيها إله الأحياء هو الشمس الحي (رع، وأنحوري، وحوروس) كان إله الأموات هو الشمس الميت، فلما نكب المقدس تيفون بالمقدس أوسيرس، وأعدمه الحياة صار أوسيرس هذا إله الأموات في كورته، ثم آل به الأمر شيئًا فشيئًا إلى أن صار إله الأموات في بلاد مصر كلها، والذي تناقلته الألسنة، وتبادلته الأفواه عن هذا الإله، أنه بعد أن قاتله قطَّعه إربًا إربًا، جاءت زوجته أيسيس، وجمعت أعضاءه، ثم حنطتها بمساعدة الإلهين توت وأنوبيس، وكانت هذه أول جثة حُفظت بالتحنيط (المومياء الأولى) (شكل ٦-٢)، وقد تلا عليها حورس صلوات، وعمل أعمالًا ردتها إلى الحياة، ولكنها ليست بالحياة التي تمكنها من المعيشة فيما بين الناس، ثم أعطى أوسيرس في بطائح الدلتا أولًا، وفي القسم الشمالي من السماء ثانيًا أملاكًا (هي غيطان الفول) يعيش فيها مثل المعيشة التي على وجه الأرض، ولكنها فوق كل خطر وضرر.
fig12
شكل ٦-٢: مومياء أوسيرس بحسب تمثال صغير من البرونز في متحف الجيزة.

وكان الذين يتحنطون تحنط هذا الإله ويُحتفل بهم كما احتفل به؛ يُدعون خادمي حوروس، ثم يقبلون لمقاسمته في هذه السعادة وهذا النعيم بعد اختبارات متنوعة وامتحانات متعددة، وبعد الدينونة التي يزن فيها الإله توت قلوبهم بقسطاس الحق، ومن نظر إلى الأقوال التي يلقيها الأموات في وقت الدينونة رأى فيها أجمل خلاصة لتهذيب الأخلاق عند المصريين، فإن الميت يقول «إني لم أعذِّب الأرملة، ولم أكذب أمام القضاة، ولم أعرف الخيانة، ولم أدنس الأشياء المقدسة، ولم أسعَ في ضرر العبد عند مولاه، ولم أجِع أحدًا، وما أبكيت أحدًا، ولم أقتل النفس قط، ولم أسرق ميرة الموتى ولا عصائبهم، ولم أغتصب اللبن من أفواه الرضعاء، فأنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.» وبعد هذا التنصل (الإقرار السلبي) يقبل الميت للتمتع بالنعيم في الفردوس، ثم يأخذ بالاشتغال في الفلاحة ويحصد فيها كثيرًا من القمح الفائق العظيم.

وفي أثناء ذلك يذوق فيها أنواع اللذاذات ويتنعم بصنوف الصفاء؛ مثل الولائم والرقص والغناء ولعب الدامة، ويقرأ ما ينتعش به البال وينشرح له الفؤاد، ثم يتريض بالنزهة على الماء ويتناول الطعام تحت الأشجار الباسقة، ويستنشق النسيم العليل الذي يهب من الشمال، أو يركب في زورق الشمس ويطوف معها حول الأرض في الليل والنهار، ثم إن أوسيرس يفني آلهة الأموات كلها فتحل فيه.

وقد انتهى أمره بعد سقوط الدولة المصرية أن صار إلهًا دوليًّا معروفًا عند جميع الأمم والملل، وانتشرت عبادته في جميع أنحاء المملكة الرومانية، وكان معبده في جزيرة بلاق (المعروفة عند الإفرنج باسم فيلة بالقرب من أسوان) آخر هيكل لاذت به الديانة الوثنية، وهي على وشك السقوط والزوال، ولم تُقفل أبواب هذا الهيكل إلا على يد الإمبراطور يوستنيانوس في أواسط القرن السادس للميلاد.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    كان المصريون أشد الأمم تمسكًا بدينهم، وكان لهم آلهة كثيرة بعدد ما في بلادهم من الكور، وكانت هذه الآلهة عبارة عن النيل «مثل أوسيريس وخنوم» والأرض «مثل إيسس وبتاح» والسماء «مثل حار ويريس» والشمس «مثل رع وأنحوري». وكانت لها أشكال آدمية أو حيوانية ولها حشم وأتباع من عدة آلهة ثانويين، وكانت تشبه بني الإنسان في احتياجاتها وأميالها وقبائحها، وكانت عبادتها عبارة عن قرابين وضحايا يقصد بها إنالتها كل ما تحتاجه في معيشتها من مأكل ومشرب وغير ذلك من لوازمها، وكانت هذه الآلهة تتصاهر وترتب على توافقها وتباغضها مع بعضها بعضًا حدوث هذا العالم وبقاؤه، ومن مقتضى مذهب هيليوبوليس أن خلق الدنيا كان على يد ثمانية من هؤلاء الآلهة؛ تحت رئاسة رع تومو الذي هو الشمس.

  • (٢)

    وقد أقرت جميع الكور على هذا المذهب التُّساعي مع استبدال تومو بالإله المعبود في كل كورة منها؛ أي بآمون في طيبة، وبتاح في منف مثلًا. وهذا ما حمل علماء الديانة على اعتبار جميع الآلهة الأصلية بمثابة أشكال تشكل بها تومو، الذي هو الشمس، أو أسماء مختلفة أُطلقت للدلالة عليه، وقد كانت سيادة طيبة على القطر المصري سببًا في سيادة آمون على بقية الآلهة الآخرين.

  • (٣)

    أما الإله الوحيد الذي اعترف به جميع المصريين فكان أوسيريس إله الأموات، وكان المؤمنون يحضرون يوم الدينونة أمام محكمته ثم يبررون أنفسهم ويزكونها بالتنصل، وبعد ذلك يقبلون في غيطان الفول، حيث يعيشون عيشة تشابه عيشتهم على وجه الأرض مشابهة كبيرة. وفي القرون الأولى التي أعقبت ظهور الديانة المسيحية كان أوسيريس شبه إله دولي انتشرت عبادته في جميع أنحاء المملكة الرومانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤