مناقشة عامة لمشكلة العلو

ننتقل الآن إلى المناقشة المنهجية لفكرة العلو أو (الترانسندنس). وسنهتدي في هذا بالتعريف الذي قدمناه على الصفحات السابقة؛ العلو هو العلو فوق كل شيء على الإطلاق. ومهمتنا الآن هي الانتقال من الفَهم المنطقي والصوري لهذا التعريف إلى الفهم الفلسفي له؛ من مفهوم العلو إلى فكر العلو. ولا يمكن أن يتم هذا فجأةً أو دفعة واحدة، بل لا بد أن يتم بالتدريج خطوةً خطوة، ومستوًى بعد مستوى، وإن كانت المعرفة الحقيقية به تتكشف فجأة لمن يصل إليها، ولكن لا يتحتم أن يكون هذا التكشف مبهرًا ولا مثيرًا، بل قد يحدث ألا يفطن الإنسان إلى أنه قد «فهم» إلا بعد ذلك بوقت طويل. بيد أن هذا الفهم يحتاج في كل الأحوال إلى التمرس والصبر، لا من الفكر وحده، بل من الإنسان بأكمله.

(١) مناقشة حول مصطلح الترانسندنس (العلو)

نبدأ بالشرح اللغوي لكلمة الترانسندنس وما يقابلها بالألمانية، وليس هذا من قبيل التزيد ولا التحذلق؛ لأننا سنتبين بعد قليل أن هذا الشرح سيُفضي بنا إلى الموضوع نفسه، وسيكشف لنا عن جوانبه المختلفة ومصاعبه العديدة.

الترانسندنس اليوم تصور فلسفي يحيط به الغموض إلى حد كبير، ولا يتجلى الاختفاء العام للترانسندنس من الوجدان الحديث في كثرة استعمال الكلمة والشغف بترديدها، حتى لَتوشِكُ على أقلام الكثيرين أن تكون تتويجًا لشروحهم ومباحثهم الفلسفية والأديبة. ولكنه يتجلى بوجه خاص في إهمال الكُتَّاب أن يحددوها تحديدًا واضحًا، وهو الأمر الذي تفرضه أهمية الموضوع وخطره، وعدم تفرقتهم في معظم الأحيان تفرقةً كافية بين المعاني اللغوية المختلفة التي توحي بها الكلمة، التي قد تبلغ في اختلافها حدًّا كبيرًا. ويسري هذا أيضًا على قواعد بناء الكلمة نفسها.

تأتي كلمة الترانسندنس من الاسم اللاتيني الذي تكوَّن في لغة العصور الوسطى، وهو ترانسندنتيا،١ ويأتي هذا الاسم من الفعل transcendere المركَّب من حرف الجر trans والفعل scandere، والمهم أن نعلم أن حرف الجر والفعل لم يوضعا إلى جانب بعضها البعض بفعل الصدفة أو الاتفاق، وإنما يكملان بعضهما من حيث المعنى ويؤلفان وحدةً داخلية متكاملة.
والمعنى الأساسي من trans هو وراء، فوق، ما بعد، فيما وراء «تُقابل في الفرنسية: tres»، والفعل scandere معناه يصعد. وهكذا يكون المعنى الحرفي للترانسندنتيا transcendentia هو الصعود.٢
وجدير بالذكر أن النصوص الفلسفية في اللغة الألمانية في العصر الوسيط تترجِم كلمة transcendere بوجه عام بكلمة übergan (الصعود/الارتفاع/العلو). ويتضح هذا في ترجمة ألمانية وسيطة «للمجموعة اللاهوتية»٣ للقديس توما الأكويني.
كذلك يستخدم الميستر إكهارت المتصوف الألماني الكبير كلمة übergan بمعنى الفعل اللاتيني transcendere (يصعد/يعلو)، فهو يقول مثلًا في بداية عظة بعنوان مَن يسمعني:٤ «ثلاثة أمور تمنعنا من سماع الكلمة الأبدية؛ الأول هو «طبيعتنا» الجسدية، والثاني هو التنوع، والثالث هو الزمانية. ولو استطاع الإنسان أن يصعد (أو يتجاوز أو يعلو) فوق هذه الأمور الثلاثة، لأمكنه أن يسكن في الأبدية، ويقيم في الروح والوحدة والحكمة واليباب، وهناك يستمع إلى الكلمة الأبدية.»
والفعل übergan في الألمانية الوسيطة يترجَم في الألمانية الحديثة في معظم الأحيان — مثله في ذلك مثل كلمة transcendere اللاتينية — بالفعل überschreiten (يتخطى)، ولكننا نفضل أن نترجمها بالفعل übersteigen (يعلو/يصعد) الذي يعبر عن المعاني الفلسفية الكامنة في الفعل اللاتيني بصورة أكمل وأشدَّ تحديدًا، ولكن علينا أن نزيد الأمر وضوحًا:
يحتوي حرف الجر trans على ثلاثة معانٍ: ضمن إلى ما وراء. فكل صعود هو صعود من شيء إلى آخر؛ أي: ما يقع تحت ما نصعد إليه أو ما يقع قبله. وهو يحتوي كذلك على معنى: فوق، وهذا هو المعنى المكاني لهذه الكلمة. أضف إلى هذا أن فوق تعني أيضًا: أعلى؛ بحيث يكون ثمة شيء آخر أعمق منها أو تحتها؛ على نحو ما نقول مثلًا: إن السحابة تمر فوق الجبل. وعلينا أيضًا أن نذكر أن كلمة فوق (ûber الألمانية) قريبة أشدَّ القرب من كلمة فوق (هيبر Hyper) اليونانية وسوبر Super اللاتينية. كما أن الكلمة الألمانية تُستخدم بمعنى «وراء ما بعد fenseit»، وهو معنًى كامن في الكلمة اللاتينية trans، على نحو ما نقول مثلًا: إن هذا الأمر يرتفع عن مستواي. وأخيرًا فإن trans أو uber تنطوي على معنى المقارنة، حين نعبر عن الصعود إلى مجال أسمى، على نحو ما نتحدث مثلًا عن تخطي حد أو تجاوزه.
ونلاحظ على الفعل اللاتيني scandere (يصعد) أنه يعبر عن حركة من أسفل إلى أعلى، وهي حركة متضمنة إلى حدٍّ ما في الحرف uber (فوق)، وإن لم يكن ذلك ضرورة لازمة. بل إن هذا الحرف الأخير يعبر في معظم الأحيان عن حركة تسير في اتجاه عمودي أو رأسي، على نحو ما نجد هذا في المثال السابق الذكر: السحابة تمر فوق الجبل.
وقد كان فعل الصعود Steigen يعني في الأصل السيرَ أو الانتقال من مكان إلى آخر، ولكنه يدل كذلك من أقدم العصور على الحركة التي تتم من أسفل إلى أعلى، ومن الأعماق إلى الأعالي، كما تُحدِّثنا بذلك المعاجم اللغوية، فالمرء يصعد (Steigt) فوق الجبل، ولكنه قد يدل كذلك على حركة عكسية تتم من أعلى إلى أسفل، ومن الأعالي إلى الأعماق؛ حين يسير المرء steigt مرةً أخرى من الجبل إلى الوادي. ولكن المعنى الغالب على الكلمة هو الصعود إلى أعلى؛ فالطائر يصعد في الهواء، والبالون يرتفع، والعبارتان تستخدمان نفس الكلمة فتدل دائمًا على الصعود إلى أعلى، بل إن استعمالها بالمعنى المجازي يدل كذلك دائمًا على الحركة الصاعدة؛ كأن نقول مثلًا: المزاج يرتفع، أو الأسعار ترتفع؛ بحيث يكون العكس على الدوام هو النزول والهبوط.

ننتهي من هذه التأملات اللغوية البسيطة — وما كانت التأملات اللغوية لِتقفَ أبدًا عند حدود اللغة — إلى بعض الحقائق التي نرجو أن تساعدنا على تحديد فكرة الترانسندنس، وتَهدينا في نفس الوقت إلى المعاني الفلسفية التي تنطوي عليها.

يدل الترانسندنس (العلو) في حقيقته على حركة رأسية لا أفقية. ونريد هنا أن نتفق على تسمية الحركة الرأسية باسم الحركة المتعالية (الترانسندنتالية) الأساسية. إنها هي الحركة الأساسية؛ أي: حركة كل كائن متناهٍ، وكل ما هو متناهٍ على الإجمال يعلو فوق ذاته أو يسعى إلى العلو فوقها؛ إذ ليس في وُسع كائن متناهٍ أن يكتفي بنفسه. ولهذا فهي الحركة الأساسية للفلسفة والتفلسف، وإننا لنلمس هذا أو نقتنع به ونراه في أجلى صورة عند أفلاطون الذي يصف الفلسفة بأنها طريق صاعد،٥ والذي تتميز محاوراته الرئيسية — وبالأخص ما كتبه منها في المرحلة الوسطى من تطوره الفكري — تميزًا واضحًا لا مزيد عليه في الوضوح بحركة صاعدة تزداد على الدوام صعودًا.

والحركة الرأسية تشير إلى بُعد المكان والعمق، وهذا وحده يكشف عن العلاقة المتميزة بين العلو والمكان، وهي علاقة ستتضح أهميتها في الفصول الآتية، عندما نتبين أن فكرة العلو (الترانسندنس) تسترشد بالصور المكانية لا بالصور الزمانية. أما الحركة الأفقية فهي — على العكس من الرأسية — حركة مسطحة بطبيعتها. صحيح أنها تغطي البعد أو «تمسحه»، ولكنها لا تستطيع أبدًا أن تتجاوزه. وبهذا المعنى يكون كل تقابل وتضاد حركةً في الاتجاه الأفقي؛ لأن كل ما هو «ضد»، أو «عكس» إنما يفترض مستوًى مشتركًا يمكن أن يتم فيه التقابل واللقاء. ومهما تبلُغ حدة التضاد أو تعظُم درجته، فإن الأضداد تفترض مع ذلك نوعًا من التساوي أو الاتفاق في شيء مشترك. أما إذا علوتُ فوق شيء فإنني لا أعلو فوقه هو وحده، بل أعلو كذلك فوق ضده.

غير أن العلو يزيد من ناحية أخرى على أن يكون مجرد ارتفاع وصعود، فإن الحرف Trans في اللاتينية أو über في الألمانية؛ ينطوي قبل كل شيء على معنى فوق وما وراء؛ بحيث تدل هنا على عالم أو مجال آخر أو مجال أبعد فيما وراءه.
والعلو يزيد كذلك عن أن يكون مجرد تجاوز أو تخطٍّ لحد فاصل بين منطقتين متساويتين أو متشابهتين،٦ لأن العلو ليس فحسب «انتقالًا إلى» بل هو «صعود نحو»؛ أي: إن الذي نصعد إليه لا بد أن يكون من طبيعة مختلفة ومن مستوًى أرفع من الذي نصعد أو نعلو منه؛ وإن كان هذا الأخير يعتمد على ذلك، ويقوم في أساسه عليه، وهذا هو ما نفهمه من عبارة إكهارت السابقة التي تقوم فيها الجسدية والتنوع والزمانية على الروح والوحدة والأبدية.
والواقع أن التفرقة بين الكلمة اللاتينية التي تدل على العالي (Transcendent) والكلمة التي تدل على الانتقال أو السير (Transeunt)؛ ليست من قبيل التحذلق أو التعسف اللغوي في الْتماس الفروق بين المصطلحات؛ فبين الكلمتين فروق لا يصح أن نتسرع بطمسها أو التغافل عنها. وماذا عسى أن يكون الفكر إن لم يكن هو رؤية الفروق وتعلُّم التمييز بين الاختلافات؟! فكثيرًا ما يتحدث البعض عن الانتقال من الذات إلى الموضوع حديثَهم عن علو من أحدهما إلى الآخر، مع أن الأمر هنا لا يتعلق في الواقع بالعلو بقدر ما يتعلق بالانتقال؛ لأن الموضوع ليس أعلى في طبيعته من الذات، وإنما هو مشابه له إذا كان الموضوع نفسه ذاتًا أخرى، وقد يكون أدنى منه إذا كان موضوعًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. والاستثناء الوحيد من هذا هو التجربة الدينية؛ فإن ما يميزها على وجه حاسم هو أن «المجرب» لا يمكن بحال أن يصبح موضوعًا «للمجرب». ويستحيل أن تكون التجربة الدينية الحقة تجربة موضوعية، كما يستحيل أن تكون ذاتية؛ إذ إنها تتجاوز الطرفين معًا.
وتطمس الفروق الأساسية أيضًا عند المقابلة بين الترانسندنس (العلو) والإماننس٧ (الكُمون أو المحايثة)، وهي مقابلة تجري الآن مجرى التقليد. إن المعنى الحرفي «للإماننس» هو «الكمون» أو «السكن» أو «البقاء في»؛ ومن ثم يكون المقابل الصحيح للإماننت٨ هو «الانتقال»٩ لا العالي.١٠ هكذا يصوغ سبينوزا — وفقًا للاستعمال اللغوي في العصر الوسيط — القاعدة الثامنة عشرة المشهورة في الجزء الأول من كتابه الأخلاق على هذا النحو: «الله هو العلة الكامنة لا العلة العالية (المتجاوزة) للأشياء جميعًا.»١١ وبهذا لا يكون المقابل الدقيق «للكُمون» هو «الانتقال»، بل العلو والتجاوز١٢ والمفارقة. ويبدو أن هذا التقابل بين «الإماننس» و«الترانسندنس» — الذي شغف به كيركجارد مثلًا، وأصبح اليوم تقليدًا مألوفًا — قد جاء على يد كانط أو شاع على الأقل في الفلسفة الحديثة بفضله. فالإماننت immanent عنده هو الذي يبقى في حدود التجربة الممكنة، أما الترانسندنت transcendent فهو على الضد الذي «يحلق» فوقها، كما تشهد الكلمة التي استخدمها.

وهنا نجد كانط، كما نجده في حالات أخرى عديدة، لا يقتصر على نقل المفاهيم التقليدية إلى مستوًى آخر يتفق مع فلسفة الترانسندنتالية (أو الشارطية)، وإنما يزيد على ذلك بتفسيرها تفسيرًا جديدًا يحولها عن معانيها الأصلية. ولسنا نريد بهذا أن نلوم كانط أو نؤاخذه على فعله؛ إذ كيف كان يمكنه أن يصوغ الجديد الذي يريد قوله والتفكير فيه إلا في الألفاظ والمصطلحات التي وصلت إليه من التراث؟ فلو أنه ابتدع ألفاظًا ومصطلحات جديدة كلَّ الجِدَّة، لزاد الأمر سوءًا. والذين حاولوا هذه المحاولة في تاريخ الفلسفة لم يُكتب البقاء لكلماتهم الجديدة إلا في أحوال نادرة شديدة الندرة، ولعلنا أن نجد في تعدد المعاني التي تنشأ عن هذا، وفي تأرجح معاني المفاهيم واختلاف مستوياتها، شيئًا لا يمكن فصله عن اللغة الفلسفية في العصور المتأخرة. صحيح أننا نتفوق على القدماء بتجربة فكرية أكبر وتمرُّس فكري أشد، ولكن علينا أن نتقبل ما يترتب على هذا من تعقيد المفاهيم تعقيدًا مربكًا جاء نتيجةَ التطور التاريخي. ولعل تناهي الفكر واللغة ومحدوديتها ألا تظهر أوضح ولا أجلى من ظهورها عند تتبُّعنا لتاريخ المصطلحات الفلسفية الأساسية. وليس مرجع الارتباك هنا أن الفلاسفة أناس عاجزون عن التفكير الدقيق أو التعبير الواضح، وإنما هو ارتباك أساسي يرجع إلى اللغة نفسها ويعود إلى أصلها؛ لأن اللغة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان؛ ومن ثم تجعله إنسانًا بحق، ولكنها كذلك هي علامة تناهيه وقصور قدرته. وينبغي عند الحديث عن مفهوم الترانسندنس أن نلتفت إلى ما يلي: إن الترانسندنس (العلو) من الناحية الصورية أو الشكلية علاقة بين طرفين؛ بين ما يعلو وما يُعلى إليه أو يُعلى فيه. وهي علاقة لا يمكن عكسها: ماذا كان «أ» عاليًا بالنسبة إلى «ب»، فإن العكس لا يصح ولا يجوز، ومعنى هذا أن علاقة العلو (الترانسندنس) ذات جانبين مختلفين أشدَّ الاختلاف؛ أولهما علاقة ما يعلو أو ما يُعلى منه بالعالي، وثانيهما علاقة العالي بما يعلو أو يُعلى منه. وكلاهما مختلف عن الآخر اختلافَ علاقة الإنسان مثلًا بالله عن علاقة الله بالإنسان.

ونحن عندما نتكلم عن العلو ينصرف تفكيرنا قبل كل شيء إلى العلاقة الأولى؛ أي: تلك التي تتجه نحو العالي. وهذا أمر طبيعي؛ لأن تفكيرنا يسير بوجه عام من الأقل إلى الأكثر، ومن الأصغر إلى الأكبر، ومن المتناهي إلى اللامتناهي. ومع ذلك فينبغي ألا ننسى تلك التفرقة الأوسطية المشهورة التي تقول: إن «الأول» بالقياس إلينا لا يحتم أن يكون هو الأول بالقياس إلى الموضوع نفسه. وسوف نتبين صدق هذه التفرقة فيما بعد. فكلما أخذنا فكرة العلو مأخذ الجِد؛ أي: كلما فكرنا في «العلو» تفكيرًا عاليًا حقًّا، ارتفع شأن الجانب الثاني من العلاقة السابقة، وازدادت أهميته لدينا، وأعني به علاقة العالي بمن يعلو أو من يُعلى منه. وإذا فكرنا في العالي من حيث علوُّه بصورة مطلقة خالصة، فمن الواضح في هذه الحالة أن العلاقة لا يمكن أن تتم إلا إذ كانت قد دُعمت وأُسست من قبلُ مِن جانب العالي نفسه. وإذن فالتدعيم أو التأسيس يأتي دائمًا من جانبه؛ أي: إن العلاقة الأولية هي علاقة العالي بمن يُعلى منه أو يعلى فوقه. فالأصل في حركة العلو ومبدؤها لا يمكن أن يقوم دائمًا في العالي وحده.

وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى ازدواج أساسي تنطوي عليه كلمة العلو، ويمكن إذا لم نفطن إليه أن يؤدي خلال مناقشتنا لمشكلة العلو إلى ألوان عجيبة من الغموض وسوء الفهم؛ فالعلو لا يعني من الناحية اللغوية والنحوية عمليةَ العلو فحسب، وإنما يعني كذلك العاليَ نفسه الذي نعلو إليه. وإذن فنحن نستطيع أن نستخدم الكلمة بالمعنى نفسه الذي نقصده عندما نطلق على امرئ ما لقبَ صاحب السمو؛ إذ لا نريد به السمو وحده، وإنما نريد به كذلك الشخص الساميَ نفسه. وهذا الازدواج موجود في كثير من الأسماء المشابهة؛ فكلمة الصعود١٣ في الألمانية تدل على عملية الصعود كما تدل على الطريق أو المرتفع الصاعد؛ كما نعبر عن ذلك مثلًا في قولنا: «الشارع أو الطريق الصاعد». ونحن لا نستخدم اليوم كلمة الصعود إلا على المعنى الأخير.
وواضح أن هناك فرقًا ضخمًا بين استخدام العلو (الترانسندنس) بالمعنى الأول أو الثاني؛ فياسبرز مثلًا يستخدم الكلمة بالمعنى الثاني، فلا يدل بها على عملية العلو بل على العالي؛ إنه يقول مثلًا في كتابه «مدخل إلى الفلسفة»:١٤ إننا، بوصفنا وجودًا، متعلقون بالله — أو الترانسندنس — أما معظم الكتابات الفلسفية المعاصرة — كما نرى مثلًا عند هيدجر١٥ — فتستخدم الكلمة بالمعنى الأول. بيد أن الأمر في هذه المعاني المتعددة التي تلازم معظم المصادر؛ ليس مجرد نزوة أو تعسف في التعبير، وإنما يرجع إلى ازدواج كامن في شكل اللغة التي نتحدث ونفكر بها، ولا يمكن التخلص منه بإيثار أحد المعنيين على الآخر.

مهما يكن من أمر فسوف نستخدم كلمة الترانسندنس، أو العلو، كما فعلنا حتى الآن بمعناها اللفظي الذي تدل عليه، أي: بمعنى الصعود، دون أن نتقيد به وحده. فقد تضطرنا الحال إلى استعمال الكلمة بمعناها الثاني، فنقصد بها حينئذٍ ذلك الذي نبلغه عندما نعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق. وإذا لم يتضح المعنى الذي نقصده من السياق، فسوف نشير إليه إشارةً خاصة؛ بحيث لا يمكن أن يلتبس الأمر على القارئ.

والعلو (الترانسندنس) بالمعنى الثاني يتفق مع المقصود في معظم الأحيان من كلمة العالي (الترانسندنت)، ومع ذلك فيبدو أن من الأفضل بوجه عام — على الرغم من ازدواجية الكلمة — أن نتحدث عن العلو بدلًا من الحديث عن العالي؛ لأن الصيغة الأخيرة كثيرًا ما توقِع القارئ في تصورات شديدة التبسيط، كأن يتصور مثلًا أن العالي «شيء» أو «موضوع» أو «ذات» ما، له خاصية الارتفاع والعلو. فالحقيقة أنه ليست هناك موضوعات عالية (ترانسندنتية)، وإن سلمنا بأن هناك أمورًا لا تحلُم بها حكمتنا البشرية، كما تقول العبارة المشهورة في هاملت، ولا يمكن أن توجد مثل هذه الموضوعات المتعالية؛ لأن هذا التعبير الأخير يتناقض تناقضَ التعبير الكانطي المشهور عن الشيء في ذاته. ولعل من أعظم مآثر كانط أنه بيَّن هذا في شروحه البارعة الدقيقة التي بسطها في «نقد العقل الخالص»، وإن تكن هذه الحقيقة قد عُرفت قبله. ذلك أن التجربة الصوفية الحقة قد عرفت دائمًا أن العالي — سواء سمته الله أو الواحد — لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون موضوعًا أو شيئًا ولا شبيهًا بموضوع أو شيء. وكانط «العقلاني» لا يناقض التصوف، وإنما يؤكد تجربته الأساسية.

أضف إلى هذا كله أن تعبير «العالي الترانسندنت» يساعد العقل في ميله الفطري إلى «موضعة» أو «شيء» ما يستحيل أن يكون موضوعًا أو شيئًا؛ في حين أن التعبير الآخر (العلو/الترانسندنس) لا يفعل هذا أو يفعله بقدر أقل. هذا إلى أن صيغة اسم الفاعل (العالي) تسمح للكلمة بالدلالة على محمولات أوسع وأكبر.

بقيت كلمةٌ تُقال عن الصفة «ترانسندنتالي» المشتقة من اللاتينية الحديثة؛ فبينما نجد الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط تستخدمها في معظم الأحيان بمعنى الترانسندنت أو العالي؛ إذا بنا نجد كانط يفرق تفرقةً واضحة بين الترانسندنت (العالي) والترانسندنتالي (الشارطي)؛ وذلك لكي يبرز الجانب الجديد الحاسم في موقعه الميتافيزيقي. إنه يؤكد في «نقد العقل الخالص» أن الترانسندنتالي (الشارطي) والترانسندنت (العالي) ليسا شيئًا واحدًا١٦ فالترانسندنتالي (الشارطي)، كما هو معروف، هو ذلك الذي يجعل التجربة ممكنة من الناحية القبلية؛ أي: هو الشرط الأول لقيامها، أما الترانسندنت (العالي) فهو الذي يتجاوزها ويتخطى حدودها. ولا يزال تأثير كانط واضحًا في استخدام كلمة ترانسندنتالي إلى اليوم عند معظم الكتَّاب بمعنى الأسلوب الفلسفي الذي يتناول الشروط القبلية للمعرفة. على أن كانط لا يتمسك دائمًا بتلك التفرقة التي أقامها بين المصطلحين، كما أن الفلسفة المعاصرة تستخدم أحيانًا كلمة ترانسندنتالي بمعنى ترانسندنت (عالٍ/أو متعالٍ). خذ مثلًا لودفيج فتجنشتين عندما يقول في رسالته المنطقية الفلسفية: إن الأخلاق ليست ترانسندنتالية.١٧ فمن الواضح أنه لا يقصد بهذا أن الأخلاق هي أحد الشروط القبلية للمعرفة، وإنما يريد أن يقول إنها تعلو على العالم. يؤكد هذا قوله قبل العبارة السابقة مباشرةً: «إذا كانت هناك قيمة، ذات قيمة، فلا بد أن تكون هذه القيمة «خارج العالم».» وهذا يصدق بطبيعة الحال على الأخلاق التي يرى فتجنشتين أنه لا يمكن التعبير عنها؛ لأن العبارات أو القضايا لا يمكنها، على حد قوله، أن تعبر عن شيء أعلى أو شيء أسمى.١٨

وسوف نستخدم كلمة ترانسندنتالي (عالٍ/متعالٍ) في هذا الكتاب بالمعنى العام الذي يفيد ما يتعلق بالترانسندنس أو العلو ويتصل بماهيته. أما كلمة الترانسندنس (العلو) فسوف نستخدمها بالمعنى الذي حددناه من قبل؛ أي: بمعنى العلو فوق كل شيء على الإطلاق.

ملحق: فكرة المطلق

ونعرض الآن باختصار لفكرة أو لمفهوم يظهر كثيرًا في سياق الكلام عن العلو، وهو مفهوم المطلق. وكلمة المطلق١٩ — مثلها مثل الترانسندنت — كلمة جاءتنا من اللاتينية، وتدل في حقيقتها ولفظها على ما هو مطلق أو حر، خالص من كل علاقة بغيره. المطلق بهذا المعنى لا يتوقف وجوده على شيء آخر، وقد ثبت هذا المعنى أيضًا فأصبحت الكلمة تدل على «المطلق» واللامحدود. والمطلق من كل علاقة تربطه بغيره يقوم في ذاته ويكون تامًّا في ذاته. وهكذا يصبح معنى كلمة المطلق هو: التام، المكتفي بنفسه، الكامل. والكلمة اللاتينية الأخيرة تدل عليها في بعض الأحيان كلمة Perfectus؛ أي: ذلك الذي تم من كل ناحية؛ ومن ثم فقد بلغ أَوْج كماله. ونجد هذا التعبير عند شيشرون حين يقول مثلًا: «كامل ومطلق Perfectus atque absolutus.» أما استخدام كلمة المطلق (absolutum) للدلالة على الله، فيبدو أنه لم يظهر لأول مرة إلا عند الفيلسوف واللاهوتي الألماني نيقولاوس الكوزاني (١٤٠١–١٤٦٤م) في كتابه عن العلم بالجهل (١٤٤٠م)؛٢٠ حيث يستخدمها بمعنى الضد من المحدود.٢١
ويصبح التعبير اسمًا عند فلاسفة المثالية الألمانية التأملية؛ مثل شيلنج وهيجل بوجه خاص عندما يقول مثلًا: «في الفلسفة يوصف أسمى «الموجودات» بأنه هو المطلق.»٢٢ وحين يتحدث أحد اليوم عن المطلق، فإنه يوشِك دائمًا أن يعتمد في حديثه عنه على المثالية الألمانية التأملية التي تدعو نفسها المثاليةَ المطلقة. ومع ذلك فإن فكرة المطلق كما تستخدمها المثالية الألمانية فكرة تُثير حولها طائفة من الشكوك الضخمة، وهذه هي النقطة التي يمكن أن يوجه منها النقد الحقيقي، حتى يتبين أن بلوغ هذه «الفكرة» — والفكرة في مذهب هيجل هي صورة المطلق — لا يمكن أن يؤدي إلى العلو المأمول ولا أن يحققه. وجدير بالذكر أن هذا هو أساس النقد الذي يوجهه كيركجارد إلى هيجل.

بقي علينا أن نلتفت إلى نقطة أخرى يمكن أن تفيدنا فيما نحن الآن بصدده من تمهيد الأرض للتفكير الفلسفي في مشكلة العلو. فالمطلق — أو المنطلق المتحرر من كل العلائق — هو في الحقيقة تعبير سالب، وإن كنا لا نفطن إلى هذا في كل الأحوال؛ شأنه في ذلك شأن كلمات مثل اللامحدود، واللامشروط، والمجرد من كل العلاقات، والذي لا يتوقف على غيره؛ إلى غير ذلك من كلمات تفيد معنى المطلق في اللغات المختلفة. هذا إلى أن الكلمة قد تترجم أحيانًا بمعنى الكامل أو التام.

وتجاور التعبير السالب والموجب في مفهوم المطلق ليس أمرًا عرَضيًّا أو قليل الشأن، وإنما يشير في الواقع إلى نوع من التذبذب والتأرجح الملحوظ بين فهم المطلق من خلال العلو أو عدم فهمه من خلاله؛ لأنني إذا فكرت في المطلق بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة على أنه عالٍ (ترانسندنت) فلا يمكن أن أصفه في هذه الحالة وصفًا إيجابيًّا؛ لأن كل وصف إيجابي يُحدد ويُعين، بينما العلو بالمعنى الذي بسطناه في الصفحات السابقة يعلو فوق كل معين ومحدود. والانتقال الخفي غير الملحوظ من الوصف السلبي إلى الوصف الإيجابي للعالي هو إحدى العلامات المميزة لما سميناه باختفاء العلو أو تلاشيه، نقول من الوصف السلبي إلى الإيجابي، لا العكس؛ لأن الانتقال من الوصف الإيجابي إلى السلبي أمر مشروع في الفكر الذي يقوم بالعلو، لا بل إنه يميزه عن غيره. إننا نبدأ على طريق العلو Via eminentiae لنبلغ منه بالتصعيد إلى طريق السلب Via negationis.
والمثل التقليدي الذي يمكن أن نضربه للإشارة إلى هذا الانتقال الخفي من الوصف السالب إلى الموجب؛ هو التحول الذي طرأ على مفهوم الله فيما يعرف بالدليل الأنطولوجي (الوجود)، عندما تجدَّد في الفلسفة الحديثة على يدَي ديكارت. فبينما نجد القديس أنسيلم الكانتربري (١٠٣٣–١١٠٩م) في حديثه المشهور عن وجود الله (أو البروسلوجيون) يصف الله بأنه هو ذلك الذي لا يمكن التفكير فيما هو أكبر منه،٢٣ وبهذا يفكر في تعالي الله عن طريق السلب تفكيرًا ديالكتيكيًّا أو جدليًّا لا غبار عليه. نجد ديكارت الذي حاول في تأمله الخامس أن يتناول هذه الفكرة تناولًا جديدًا على أرض الفلسفة الحديثة، نجده يصف الله بأنه هو الموجود الذي بلغ أسمى درجةٍ من الكمال،٢٤ وبهذا يفقد الله صفة العلو، وهو أمر لا يمكن تقدير مداه، فقد جعل الفلسفة المثالية الألمانية — على سبيل المثال — تتصور المطلق تصورًا إيجابيًّا؛ بحيث يصفه هيجل في هذه العبارة بأنه هو الروح: «المطلق هو الروح، هذا هو أسمى تعريف للمطلق.»٢٥
وجدير بالذكر أن التذبذب والتردد فيما يتعلق بعلو المطلق أو تعاليه؛ أمر يمكن تتبُّعه إلى فكرة أفلاطون عن الخير، وهي من الناحية الفلسفية الخالصة أصل فكرة المطلق. فإذا نظرنا إلى الموضع الذي سبقت الإشارة إليه من الجمهورية٢٦ — والذي أخذته الأفلاطونية الجديدة وزادت فيه — وجدنا أفلاطون يُنطِق سقراط بهذا القول عن الخير: إنه ليس وجودًا، ولكنه يفوق الوجود قوةً وجلالًا.٢٧
ومهما يكن تفسيرنا لهذه الملاحظة الموجزة في سياق المحاورة — ويزيد من أن جلوكون مُحدِّث سقراط يتهكم عليها — فمن الممكن أن نستخلص من كلماتها البسيطة الواضحة أنها تعبِّر عن شيء قريب من علو الخير، وأنها تعبِّر عنه فيما يبدو لأول مرة في تاريخ الفكر الغربي؛ ومن هنا يجيء التأثير الخطير لهذين السطرين الصغيرين، بل إن اصطلاح الترانسندنس (العلو) قد تمت صياغته فيهما صياغةً أولية، أو هو على الأقل قريب من مضمونه ومعناه. ويزداد هذا المعنى دقةً وتحديدًا إذا تأملنا ما يقوله أفلاطون في العبارة التالية مباشرة: إن الخير وراء الوجود،٢٨ وهي تفترض أن إنكار الوجود أو سلبه عن الخير، كما ورد في العبارة السابقة لها؛ لا يُفهم منه معنى النقص، بل الأولى أن يُفهم على معنى المزيد من القوة. وكلمة «إبيكاينا Epekeina» تفيد ما وراء، ما بعد، ما فوق، وتساوي تمامًا كلمة ترانس trans اللاتينية.
ولكن أفلاطون لا يكتفي بقوله: إن الخير وراء الوجود، بل يؤكد هذا المعنى عن الخير، ويَزيده قوةً باستخدام كلمة «يفوق»٢٩ التي يختم بها عبارته، وبهذا يصعد من اﻟ «ما وراء» (إبيكاينا) باستعمال حرف الجر فوق (هيبر).٣٠
وإذا كان علوُّ الخير قد تم التعبير عنه في هذا الموضوع بأدق تعبير وأصفاه، فإن أفلاطون يعود فيصف الخير في موضع آخر بأنه «أنصع الموجودات ضوءًا»؛٣١ أي: إنه لا يزال يصفه بأنه موجود، ثم يضيف في موضع ثانٍ أن مثال الخير هو «أرفع موضوعات المعرفة» (أو أعظم موضوع التعلم)؛٣٢ أي: إنه يعود فيتحدث عن الخير بوصفه مثالًا. وإذا كان الخير مثالًا أو «أيدوس»؛٣٣ أي: إذا كان ذا شكل، ولا يمكن أن نفكر فيه بوصفه متعاليًا أو عاليًا فوق كل شيء؛ لأن المتعالي والعالي فوق كل شيء لا يمكن أن يكون «أيدوس» ولا شكلًا، وهذا هو ما سيحاول أفلوطين بكل جهده أن يبينه فيما بعد. يؤيد هذا أن طريقة معرفة الخير تختلف بعضَ الاختلاف عن طريقة معرفة سائر المُثل، ولكنها لا تختلف عنها من حيث النوع، ويتضح هذا من أسطورة الكهف المعروفة٣٤ ومن تفسير أفلاطون الذي ألحقه بها مباشرة.

بيد أن رؤية العلو وتجربته تجربةٌ باطنة لا بد أن تختلف اختلافًا أساسيًّا عن كل رؤية لما هو ذو شكل، بل لا بد أن تختلف عن كل إدراك يتم في نطاق هذا العالم، وهذا هو الذي سيتولى أفلوطين بعد ذلك توضيحَه وبيانه بمختلف السبل.

وهكذا نرى أفلاطون يصف الخير (الأجاثون) مرةً بأنه متعالٍ، ومرةً أخرى بأنه غير ذلك. ثم يلزم الصمت فلا يتحدث بعد ذلك عن مثال الخير؛ سواء في الجمهورية أو فيما جاء بعدها من محاورات. ولعل السبب في هذا أن يكون راجعًا إلى تردده فيما يتعلق بمسألة العلو بوجه عام.

ولسنا هنا بصدد الكلام عن أسباب هذا التردد وهذا التذبذب الذي نجده عند أفلاطون، ولكننا نلاحظ فحسب أن نفس التردد والتذبذب الذي بدأ لديه قد ساد التفكيرَ الفلسفي التقليدي في الغرب وتغلغل فيه. ولعل التصوف أن يكون هو الاستثناء العظيم الوحيد لهذه القاعدة، حيث نجده يفكر في علو الخير تفكيرًا نقيًّا يشبه تفكيره في الواحد.

وأخيرًا ينبغي أن نلتفت إلى الفرق بين فكرتَي العالي (ترانسندنت) والمطلق؛ فالمطلق — بصفته الضد المقابل للنسبي — يعني إنكار كل علاقة. والمطلق بالمعنى الدقيق للكلمة هو الذي لا تربطه بغيره علاقة. ومن حقنا أن نسأل إن كان من الممكن التفكيرُ في شيء كهذا؛ لأن كل تفكير هو في صميمه تفكير في شكل علاقات. فإذا فكرت في المطلق على وجه من الوجوه، فلا بد أن يوجد على أقل تقدير في علاقة بي أنا المفكر. أما العالي (الترانسندنت) فيراد به دائمًا علاقةٌ ما؛ لأنه مهما ارتفع العلو، فإن من يعلو يظل باستمرار على علاقة تربطه بما يعلو فوقه. وهذا هو الذي يجعلنا نقول إن فكرتَي المطلق والعالي غير متكافئتين على الإطلاق من هذه الناحية. بل إن التعبير الدقيق ينتهي بنا إلى القول بأن المطلق لا يمكن أن يكون عاليًا، وأن العالي لا يمكن أن يكون مطلقًا.

(٢) الحدود التقليدية الضيقة لمفهوم العلو (الترانسندنس)

تدل كلمة الترانسندنس من الناحية اللغوية والصورية على العلو، ويتحدد مضمون هذا المفهوم تحديدًا أدقَّ تبعًا لما يبدأ منه العلو وما ينتهي إليه. وكلا الأمرين يمكن أن يكون على أشكال مختلفة شديدة الاختلاف، كما أن التراث الفلسفي يقدم لنا عددًا كبيرًا من المفاهيم والتصورات عن العلو أو الترانسندنس.

يتميز الفكر الفلسفي بأنه لا يتوقف أبدًا عند حد معين، بل يمضي على الدوام إلى أقصى الحدود ثم يتجاوز ما وصل إليه. إنه لا يشغل نفسه بالعلو (الترانسندنس) كشيء عارض أو ثانوي؛ كأن يكون موضوعًا شائقًا طريفًا أو فكرة تأملية عسيرة، بل إن طبيعته نفسها تتحدد به.

غير أن التفكير الفلسفي الذي ينزِع بطبيعته إلى اللامحدود؛ لا يستطيع أن يقف عند علو جزئي، بل لا بد له لكي يحافظ على صميم ذاته أن ينزع كذلك إلى المزيد من العلو، بل من العلو فوق العلو، ولكن أقصى علو ممكن هو ذلك الذي يعلو فوق كل شيء على الإطلاق؛ ومِن ثم يكون التصور أو المفهوم الفلسفي الحقُّ للعلو (الترانسندنس)؛ هو ذلك الذي بدأنا منه هنا؛ أي: العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق.

علينا الآن أن نوضح أن هذا المفهوم هو أوسع مفاهيم العلو وأكثرها شمولًا، ونود أن نحقق هذا عن طريق التمييز بينه وبين عدد من أهم وأشهر المفاهيم التقليدية التي عرَفها تاريخ الفلسفة عن العلو؛ أي: إن علينا بعبارة أخرى أن نبين المحتوى التأملي للصيغة التي وضعناها؛ وذلك بتحرير مفهوم العلو، أولًا وقبل كل شيء، من الصور التقليدية التي ضيقته وقلبت معناه وما زالت تسيطر على تفكيرنا عنه سيطرة بالغة، والْتماسِ وسيلة لتخليصه من الجمود الذي لحقه والتجمُّدِ الذي التصق به في التراث الفلسفي.

على أن المفارقة الكامنة في طبيعة الموضوع من وجهة النظر الطبيعية؛ تؤدي بأصحاب الفهم العام إلى الإحساس بأن مفهوم العلو يفرغ من معناه ويزداد فراغًا كلما امتلأ بمضمون تأملي؛ ولكن هذا الإحساس لا ينبغي أن يَزيغ أبصارنا أو يَحيد بنا عن الطريق؛ فما هو في الحقيقة إلا الدليل على أننا نسير على الطريق الصحيح.

(٢-١) المفهوم الميتافيزيقي للترانسندنس (العلو)

وأول المفاهيم التقليدية التي نريد أن نلقي عليها الضوء؛ هو المفهوم الذي يفهم العلو (الترانسندنس) بوصفه العلو على التجربة أو تجاوُزَها والتفوق عليها، ولنتفق في هذا السياق على وصفه بالمفهوم الميتافيزيقي؛ إنه هو المفهوم الكلاسيكي عن الترانسندنس، وهو الذي يخطر لأول وهلة على بال كل مثقف ثقافةً فلسفية كلما سمع أحدًا يتكلم عن الترانسندنس. والمفهوم من التجربة هنا — وسنعود إلى تحديد هذه الكلمة بعد قليل — هو التجربة الحسية، وهذا هو المعنى نفسه الذي تشير إليه كلمة الميتافيزيقا؛ من أنها العلم بما يتخطى التجربة الحسية ويتجاوزها. والسابقة «ميتا» في كلمة ميتافيزيقا تقابلها السابقة «ترانس» في كلمة «ترانسندنس» كما تفهم «الفيزيس» أو الطبيعة بمعنى التجربة الحسية أو العالم الحسي، وبهذا المعنى أيضًا يعرِّف «كانط» الميتافيزيقا تعريفًا هامًّا؛ فيقول إنها «العلم الذي يتقدم من المعرفة بالمحسوس إلى المعرفة بما فوق المحسوس عن طريق العقل.»٣٥ بهذا المفهوم يكون الترانسندنتي (المتعالي أو العالي) مساويًا لما فوق المحسوس؛ بيد أن المفهوم الذي نقدمه هنا عن العلو (الترانسندنس) يتطلب العلوَّ فوق كل شيء على وجه الإطلاق؛ أي: أنه لا يكتفي بالعلو فوق المحسوس، بل يتجاوزه كذلك إلى العلو على ما فوق المحسوس. وهكذا يتبين لنا من النظرة الخارجية الصِّرفة أن المفهوم الميتافيزيقي عن الترانسندنس مفهوم ضيق إلى أبعد حد؛ فهو يتضمن العلو فوق مجال جزئي فحسب. صحيح أنه مجال متميز تقوم علية كل علاقة بالعالم، ولكنه مجال جزئي كما سبق القول؛ ولهذا لا يتضمن العلو فوق الكل على وجه الإطلاق. ويهمنا، على أي حال، أن نلاحظ أن هذا المفهوم الذي قدَّمه كانط عن الميتافيزيقا — ولا يزال إلى اليوم — غالبٌ على الوعي الفلسفي العام. يهمنا أن نلاحظ أنه ليس مفهومًا محدودًا بظروفه التاريخية فحسب؛ إذ إنه يرجع إلى الميتافيزيقا الخاصة كما عرفتها مدرسة فولف العقلانية، بل إنه يفهم الميتافيزيقا نفسها من الناحية الموضوعية البحتة فهمًا ضيقًا شديد الضيق.

والأمر الحاسم في كل مفهوم للميتافيزيقا هو طريقة فَهْمنا «للميتا» وتفكيرنا فيها. وحتى لو أكدنا المقطع الأخير من كلمة الميتافيزيقا، فسوف تظل «النبرة الباطنة» تؤكد الجزء الأول من الكلمة. ويمكننا أن نتتبع مفهوم كانط للميتافيزيقا مارِّين بفولف ومدرسته؛ حتى نصل إلى أرسطو وأفلاطون، إلى أن نبلغ في نهاية المطاف أصلَ التفكير الغربي والتفلسف الغربي بوجه عام. وعلى امتداد هذا الطريق الطويل الذي حددته الاتجاهات المتعددة والتأثيرات المتراكمة المتشابكة على نحو معقد بالغ التعقيد، نجد أن المفهوم لم يتلقَّ معناه النوعي المحدد الذي لا نزاع فيه إلا في الفكر الأفلاطوني الحديث، وسواء أكان الفضل في نشأة كلمة الميتافيزيقا للصدفة المشهورة التي جعلت «الميتا» مميِّزةً من ناحية المضمون لكتب أرسطو، التي جاءت في الترتيب بعد كتبه عن الطبيعة، أم أن المسألة لم تكن على هذه الصورة المسرفة في الخيال؛ فإن «الميتا» في كلمة الميتافيزيقا لم تُفهم لأول مرة بمعناها الحقيقي الدقيق — أي: بمعنى فوق/وراء؛ الذي تفيده السابقة اللاتينية «ترانس» — إلا عند المدرسة الأفلاطونية المحدَثة. والواقع أن هذا لم يأتِ بمحض الصدفة، بل يرجع إلى أن العلو والترانسندنس في تفكير هذه المدرسة — وفي تفكير أفلوطين بوجه خاص — قد أصبح لأول مرة وبصورة واضحة صريحة هو الواجب الأساسي المُلقى على عاتق الإنسان وفي ضميره؛ مما جعله يتغلغل في الحياة الباطنة إلى حدٍّ لا يمكن تصوره ولا تسنى لأحد بعدهم أن يدانوه فيه. على أنه إذا كان الجزء الحاسم من كلمة الميتافيزيقا هو جزؤها الأول، فإن جزءها الثاني ليس مجرد زيادة لفظية متصلة به، بل إن التصورَين معًا يؤثران على بعضها ويكوِّنان وحدة داخلية.

إذا كنا في السطور السابقة قد أخذنا على المفهوم الميتافيزيقي التقليدي أنه لا يعلو إلا على الجانب الفيزيائي أو الحسي؛ أي: يقتصر على مجال جزئي دون العلو على الكل، فإن الأمر في هذا النقد لا ينصرف إلى حجم العلو أو الترانسندنس من جهة المظهر أو الكم، بل إن ما نقصده من ذلك هو أن ما يُعلى فوقه يحدد كذلك طريقة العلو وأسلوبه. كما أن التوسع في الحجم يدل كذلك على تصاعد في ماهية العلو. إن مجال ما يُعلى به أو فوقه وحجمه يحددان نوع عملية العلو وأسلوبها. وأيًّا ما كان فَهمنا للميتافيزيقا، فإن العلو يحددها ويعيِّن صورتها الباطنة. والأمر كذلك مع الفلسفة؛ لأن الفلسفة من حيث هي كذلك ميتافيزيقية. وهي إذا خلت من الميتافيزيقا لم تعُدْ فلسفةً بل نظريةً في العلم، أو مبحثًا في الأسس التي يقوم عليها، أو حكمةً تَهدي الحياة، أو شيئًا آخر غير ذلك. ولما كانت الفلسفة — بحسب ماهيتها وأصلها التاريخي — شيئًا يونانيًّا غربيًّا محددًا، فكذلك الشأن مع الميتافيزيقا، ولكن هذا لا يصدُق بنفس الدرجة على مفهوم العلو، وبخاصة إذ أخذناه بمعناه الواسع الرحب كما ينبغي لنا أن نفعل في هذا المقام.

ذكرنا الآن اسم أفلوطين وقلنا إنه هو المفكر الذي بلغ عنده العلوُّ غايةَ السمو والارتقاء. ويوصف أفلوطين فضلًا عن هذا بأنه متصوف، بل إنه لَيعدُّ، إلى جانب «الميستر إكهارت»، أعظمَ المتصوفين الذين ظهروا في الغرب، وإذا جاز القول بأن كل فلسفة تنطوي على جانب صوفي؛ لأن الميتافيزيقا موجودة في كل فلسفة، كما أن المطلق يدخل في كل ميتافيزيقا؛ فلا يجوز مع ذلك بنفس الطريقة أن نقول بالعكس؛ لأن التصوف غير مقصور على الغرب وحده، بل هو موجود كذلك في الشرق، ولعل حظَّه منه أن يكون أكبر من حظ الغرب، وهو موجود هناك كما قلت، على الرغم من أن بعض الفرق البوذية تُنكر الميتافيزيقا والفلسفة إنكارًا صريحًا. والجدير بالذكر أن أفلوطين — وهو أول متصوف غربي عظيم — كان يونانيَّ اللسان، ولكن جنسيته غير معروفة، ويحتمِل أن يكون قد وُلد في مصر. إننا نلمس عنده شيئًا غريبًا على الروح اليونانية الكلاسيكية، شيئًا مختلفًا عنها كلَّ الاختلاف. وهو لا يزال إلى اليوم غريبًا على معظم المثقفين؛ على الرغم من حركه البعث التي أخذت تدب في الدراسات الأفلوطينية في السنوات الأخيرة.

ومفهوم الترانسندنس (العلو) كما نفهمه في هذا الكتاب، ونحاول أن ننميه ونتابع تطوره؛ أشمل وأوسع من مفهوم الميتافيزيقا من الناحيتين التاريخية والموضوعية. صحيح أن الميتافيزيقا — بحسب مقاصدها وصميم ماهيتها — مطبوعة بطابع العلو، ولكن لا يلزم عن هذا بحال من الأحوال أن يكون كل علو ميتافيزيقا. والانتباه إلى هذه الملاحظة ليس بالشيء التافه أو قليل الأهمية، لقد أصبحت الميتافيزيقا اليوم، وبخاصة من خلال النقد القاطع العميق الذي وجَّهه كانط إليها في «نقد العقل الخالص»؛ أصبحت في صميمها شيئًا يحتمِل السؤال ويدعو إلى إعادة النظر؛ بالمعنى المزدوج لهاتين الكلمتين الأخيرتين. والحقيقة أن الأثر التاريخي الحاسم للنقد الذي وجَّهه «كانط» للميتافيزيقا التقليدية، وأعطاه كل قوته؛ لا يرجع إلى انتقاده الميتافيزيقا من خارجها أو القطع ببطلانها وعدم جدواها — فهذا شيء تكرر حدوثُه قبل كانط، كما أن أعداء الميتافيزيقا قد وُجدوا منذ أن وُجدت الميتافيزيقا نفسُها — وإنما يرجع إلى أن النقد الذي وجَّهه كانط للميتافيزيقا هو نفسه ميتافيزيقيٌّ؛ ولهذا استطاع كانط أن يصف نقده للعقل الخالص بأنه «ميتافيزيقا الميتافيزيقا».٣٦

وإذا كان مفهومنا للعلو في هذا المجال سيُلزمنا بتوجيه النقد للميتافيزيقا، فلا بد من القول بأن هذا النقد يختلف اختلافًا أساسيًّا عن النقد الذي وجَّهه كانط إلى الميتافيزيقا التقليدية، وأصبح كذلك منذ عهد نيتشه نقدًا تقليديًّا. على أن نقدنا للميتافيزيقا سيكون كذلك من داخلها — وقد أوضح كانط في تحليلاته للمعرفة البشرية المتناهية بما لا يقبل الشكَّ أن العالي (الترانسندنت) لا يمكن أبدًا أن يُعرف معرفةً موضوعية؛ لأنه لا يمكن أن يكون موضوعًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وقد أصبح هذا اليوم من قَبيل الحقائق الفلسفية التي يكاد أن يعرفها كلُّ إنسان. غير أنه إذا كانت الميتافيزيقا التقليدية لا تزال «تُموضِع» العالي والمطلق و«تُشيُّئُهما»، مخالِفةً في ذلك المعقول، وإذا كان الفَهم الطبيعي العام لا يزال يفعل هذا حتى اليوم، وسيظل يفعله ما بقي؛ فإن السبب في هذا — ولعل هذا ألا يكون من قبيل الحقائق الشائعة — لا يرجع في الواقع إلى زيادة في الترانسندنس (العلو) بقدر ما يرجع إلى نقص شديد فيه. وإذا كانت الميتافيزيقا المدرسية والتقليدية تطمح إلى تجاوز كل ما هو فيزيقي أو حسي، فإن إخفاقها في هذا السبيل يرجع إلى أنها لا تأخذ هذا التجاوز مأخذًا جادًّا؛ إذ الواقع أنها لا تبلغ من ذلك شيئًا أكثر من المظهر؛ لأن علوَّها نفسَه لا يخرج عن كونه مجرد مظهر. ويتضح القصور في العلو الذي تقوم به من الناحية الشكلية — كما لاحظنا هذا من قبل — في أنها تقصُر ما يراد العلو فوقه على ما هو فيزيقي. ولا ينبغي مع ذلك أن نتصور أن الميتافيزيقا التقليدية عاجزة عن تحقيق العلو أو التجاوز؛ لأنها لا تتجاوز إلا ما هو فيزيقي، بل ينبغي علينا أن نفكر في المسألة من أساسها، فنقول: إن الميتافيزيقا التقليدية لا تعلو إلا على ما هو فيزيقي؛ لأنها لا تتصور «الميتا» أو «ما بعد» — وهي التي تحدد ماهيتها — تصورًا كافيًا، ولا تفكر فيها تفكيرًا كافيًا؛ ولهذا فإن الميتافيزيقا تظل «ميتافيزيقا»؛ أي: إنها تظل مقيَّدة «بالفيزيقا»، كما تحدد علاقتها بها وتوجه انتقاداتها إليها منذ البداية على أساس المقارنة بكل ما هو فيزيقي، وبكل العلاقات التي تربط الأشياء الفيزيقية بعضها ببعض.

هكذا يتضح لنا في الميتافيزيقا المدرسية ما وصفناه في هذا المجال باختفاء العلو أو تلاشيه. وإذا كنا نوجه النقد للميتافيزيقا من خلال تصورنا للعلو أو الترانسندنس، فليس هدفنا من هذا هو هدمها ولا التغلب عليها أو تجاوزها،٣٧ ولا الرجوعَ إلى تاريخ سابق عليها، بل إن الهدف من محاولتنا هو تصعيدها والمضيُّ بجانب العلو فيها إلى غايته النهائية الحاسمة. ونقدنا للميتافيزيقا التقليدية يتلخص في أنها ليست ميتافيزيقية بما يكفي، وأنها لا تحقق نزعاتها الأصيلة إلى العلو تحقيقًا كافيًا، بل إنها لَتخطئها ولا تبلغ من علوها المزعوم إلا شيئًا فيزيقيًّا أو شبيهًا به؛ أي: لا تبلغ من ذلك سوى تأليفات فكرية مصطنعة. إن هذه الملاحظات لا تطمع أبدًا في تناول مشكلة الميتافيزيقا تناولًا كافيًا أو شبه كافٍ، فهذا أمر مستحيل، وإنما الغرض منها أن تحدد لنا المجال الذي تتحرك فيه تأملاتُنا وأفكارنا عن العلو. ونحن أبعدُ ما نكون عن أن نأخذ مشكلة الميتافيزيقا مأخذًا هينًا، فالواقع أنها هي مشكلة الفكر الغربي، ووجودنا العقلي وقدرنا الروحي ينعكسان على مرآتها. ولقد اشتبك المفكرون الغربيون الكبار في حوار دائم معها، منذ بداية هذا الفكر حتى نيتشه وعصرنا الحاضر. وإن أفضل ما في هذا الفكر وأعمقه ليرتبط ارتباطًا وثيقًا بالميتافيزيقا، كما ترتبط بها أسوأ الأخطاء التي وقع فيها وأشدها خطرًا وبلاءً، وكلا الأمرين متصل أوثقَ اتصال.

ما الدروس التي نستفيدها من هذه التأملات فيما يتعلق بمفهومنا عن العلو أو الترانسندنس؟ إذا كنا نريد أن نعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق، فلا يجوز لنا أن نكتفي بالعلو فوق الأشياء وحدها؛ سواء كانت هذه الأشياء موجودة في عالم الواقع أو كانت قائمة في مخيلتنا، بل ينبغي علينا أن نحقق العلو فوق كل الموضوعات على وجه الإطلاق. ولكن هل يمكننا أن نقوم بهذا؟ أليس تفكيرنا وإحساسنا مرتبطَين بالضرورة بكل ما هو شيئيٌّ وموضوعي؟

وإذا تيسر لنا أن نتحرر منها، ألَا يفضي بنا ذلك إلى الفراغ المطلق؟

نود قبل التعرض لهذه الأسئلة أن نبدأ بتناول بعض التصورات والمفاهيم التقليدية عن العلو. وسوف يتبين لنا أن الشكوك التي أبديناها الآن لن تختفي بل سيزداد عددها وتشتد حِدَّتُها.

(٢-٢) المفهوم اللاهوتي الترانسندنس (العلو)

يفهم الترانسندنس (العلو) في كثير من الأحيان بمعنى تجاوز العالم أو كل ما يمتُّ للعالم بسبب. ويشبه في هذه الحالة أن يكون كالتفوق على العالم أو العلاء عليه؛ بحيث ينظر للعالي في معظم الأحيان بوصفه مجال الألوهية أو الله نفسه. بل إن هذا المعنى الأخير يخطر على بال الغالبية العظمى عندما تفكر في كلمة الترانسندنس؛ وذلك مثل ياسبرز الذي يستخدم الترانسندنس والله بمعنًى واحد على التبادل؛ جريًا على الاستخدام السائد للكلمة بمدلولها العام، وسوف نصف هذا المفهوم بأنه مفهوم لاهوتي. ومن الواضح لدى القارئ بغير شك أنه قريب جدًّا من المفهوم الميتافيزيقي، بل لعله أن يكون في كثير من الأحيان صورة مبسَّطةً منه؛ لأن الميتافيزيقا الخاصة٣٨ بمفهومها التقليدي تنطوي على اللاهوت.٣٩ أضف إلى هذا أننا نجد عند أرسطو، الذي ترجع إليه كلُّ هذه التحديدات في نهاية المطاف، أن الموجود الأسمى٤٠ أو الإلهي٤١ هو الموضوع الذي يحتل مكان الصدارة من الميتافيزيقا، وهكذا يكون النقد الذي وجهناه للمفهوم الميتافيزيقي عن العلو متضمنًا لنقدنا للمفهوم اللاهوتي.
ولكن من الواضح أن هذه التأملات الشكلية لا تفي الموضوع حقه، ولا تحقق لنا الشعور بالرضا والارتياح. أضف إلى هذا أن فكرة الله ذاتُ جذور عميقة مغروسة في صميم كياننا على امتداد التراث العقلي والروحي الطويل. ويلاحظ ياسبرز في محاضراته التي أُذيعت بالراديو ونُشرت تحت عنوان «المدخل إلى الفلسفة» أن «فلاسفة عصرنا يحلو لهم فيما يبدو أن يتجنبوا السؤال عن وجود الله.»٤٢ ولما كانت محاضرات ياسبرز قد أُذيعت على الناس واشتراها — كما تدل أرقام الطبعات — أكثرُ من ثمانين ألف إنسان، وقرأها على أرجح تقديرٍ أكثرُ من هذا العدد، فإننا نريد أن نقف قليلًا عند المشكلة لكيلا تَحِقَّ علينا تهمة الإهمال التي وجَّهها ياسبرز إلى الفلاسفة المعاصرين.
فرَّق باسكال في «التذكار»٤٣ بين إله الكتاب المقدس وإله الفلاسفة والعلماء: «إله إبراهيم، إله إسحق، إله يعقوب، لا إلهُ الفلاسفة والعلماء.» إله الفلاسفة ذلك هو إله الميتافيزيقا التقليدية التي كان ديكارت قد أقامها على أسس جديدة، فهذا الأخير يفهم الله بوصفه الوجود الحائز على أقصى كمال ممكن، ويحاول أن يثبت وجود هذا الكائن الأكمل ببراهينَ وحُجَج عديدة، إنه هنا يتصور الله منذ البداية بوصفه موجودًا. ووصْفُه له بأنه هو الكائن أو الموجود الأكمل وصْف جدير بالملاحظة؛ لأنه يعني في الحقيقة أنه هو الكائن الذي اكتملت صنعته من كل ناحية. والفارق بين الله وبين سائر الموجودات — على الأقل من هذا الجانب — هو فارق من حيث الدرجة لا من حيث النوع. وليس بنا حاجة لإطالة الوقوف عند هذا الإله بعد ما وجَّهناه من انتقادات للميتافيزيقا التقليدية؛ إذ إنه لن يخرج عن كونه مجرد تأليف عقلي أو تركيب فكري. ولكن ما شأن «إله إبراهيم، إله إسحق، إله يعقوب»؟ لقد جاءت كلمات باسكال هذه في سياق تجربة اتخذت طابع الكشف الديني، وحاولت القطعة البشرية التي سماها «التذكار» أن تثبتها في الذاكرة، وقد جاءت كلمة «نار»٤٤ (وهي مكتوبة بحروف كبيرة) قبل هذه الكلمات مباشرة.

هل يمكن العلو أيضًا فوق هذا الإله الذي يتحدث عنه باسكال؟ لا بد أن تكون الإجابة بنعم، فمهما يكن تأويل التجربة التي مر بها باسكال، فإننا نعلو فوق الشيء في اللحظة نفسها التي ننطق فيها باسمه، ربما نتردد قليلًا ونسأل: أليست هذه كلها محض تأملات شكلية؟ ولكن أيًّا كان تصورنا لفكرة الله، أليس أهم ما يوصف به أنه هو ذلك الذي يستحيل العلو فوقه؟ ولكنني إذا أخذت فكرة استحالة العلو مأخذًا جادًّا، فيتحتم عليَّ أن أتخلى عن كل تسمية؛ أي: يتحتم عليَّ أيضًا أن أتخلى عن إطلاق صفة «الله» عليه. بهذا تكون عبارةٌ كهذه: «الله هو الذي يستحيل العلو فوقه» — لو فكرنا فيها تفكيرًا دقيقًا — عبارةً سخيفة لا معنَى لها.

ومع ذلك يبدو تعبير «العلو فوق الله» تعبيرًا غريبًا مسرفًا في الغرابة والتطرف. ونود الآن أن نزيد الأمر وضوحًا؛ فنورد كلمات قليلة مقتبسة من عظاتِ واحدٍ من مفكري العصر الوسيط لم يكن إلهه على التحقيق هو إله الفلاسفة، ولا كان هو إله علماء اللاهوت وفقهائه؛ ذلك هو الميستر إكهارت، إنه لَيجسُرُ صراحةً في عظة بعنوان «طوبى للمساكين بالروح»٤٥ على الجهر بهذا القول: «إن وجودي الحقيقي فوق الله.» هنا نجد حديثًا واضحًا لا مواربة فيه عن علو لا يقصُر حتى عن العلو فوق الله، بل إن الواعظ لَيزعمُ أن وجوده الحق أو «الماهوي» فوق وجود الله. غير أن هذا القول يوحي في الواقع بالتهور والغرور؛ ولذلك فليس عجيبًا أن تسرع الكنيسة بتوجيه الاتهام إلى الميستر إكهارت الذي «أراد أن يعرف أكثر مما يجب»، كما يقول القرار الذي أصدره البابا يوحنا الثاني والعشرون في يوم الأحد المقدس، الموافق ٢٧ مارس سنة ١٣٢٩م. ولكن هل أراد ذلك حقًّا؟ أليس هذا الذي يتحدث عنه الواعظ شيئًا يتحتم العلم به؟
إن إكهارت لا يفترض في خطبه ومواعظه — التي لم يتوجه بها إلى العلماء والفقهاء — أية معرفة مدرسية بالفلسفة أو اللاهوت، وإنما يفترض شيئًا آخر لا غنَى عنه لفهمها، وليس من قبيل الصدفة أن يقول صراحةً في بداية هذه العظة الجسور العسيرة: «… أقول لكم باسم الحقيقة الأبدية: إن لم تكونوا كفئًا لهذه الحقيقة التي نريد أن نتحدث عنها، فلن تستطيعوا أن تفهموني.» إن الشرط الذي يفترضه لفَهم هذه العظات ليس شرطًا عقليًّا، وإنما هو، إن جاز هذا التعبير، شرط وجودي، ليس معرفة، بل وجود. بيد أن إكهارت يضيف إلى الموضع السابق إضافةً لا بد من الانتباه إليها: «… إن وجودي الحقيقي فوق الله، هذا إذا اعتبرنا الله مبدأ المخلوقات.» أي: إذا نظرنا إلى الله نظره دنيوية؛ أي: نظرةً غير أصيلة. وهدف إكهارت من هذه العظة ومن معظم العظات الأخرى هو تجاوز القصور الكامن في تصور الله تصورًا شيئيًّا؛ أي: الانتقال من إله هو «موضوع التفكير» إلى إله «حقيقي»،٤٦ على نحو ما تعبر عن ذلك لغة إكهارت. ولا يمكنني أن أبلغ هذا إله إلا إذا تمكنت من العلو فوق كل الموضوعات؛ بما في ذلك موضوعات الفكر؛ لأنه — كما يقول إكهارت في الموضع المذكور — «يقع في منزلة أسمى بكثير من تفكير البشر ومن كل المخلوقات.»
وقد وُفق إكهارت في عظة بعنوان «مَن الذي يسمعني»٤٧ إلى التعبير عن هذا كله في هذه الصيغة الكاملة: «إن أقصى ما يمكن أن يتخلى عنه الإنسانُ وأقربَه إليه هو أن يتخلى عن الله من أجل الله.»٤٨ وهو يعبر عن الفكرة نفسها في عظته «طوبى للمساكين بالروح» بهذه الكلمات الجريئة: «من أجل هذا أضْرَع إلى الله أن يعفيني من الله.» ثم يكرر في ختام هذه العظة ما بدأها به فيقول: «وطالما بقي الإنسان غير كفء لهذه الحقيقة، فلن يفهم هذا القول.» كما يقول قبل هذه العبارة مباشرة: «مَن لم يفهم هذا القول فلا يشغل به قلبه.» وينبغي أن نلاحظ ذكره للقلب، فالواعظ لا يقول مثلًا: إنه لا ينبغي على السامع أن يصرف غايةَ جهده لما تبسطه الموعظة عن طريقٍ آخر غير طريق الفكر. ولكن لماذا ينبغي على الإنسان، إذا استعصى عليه الفهم، ألا يشغل قلبه بما يقول؟ يقول باسكال في الشذرة المعروفة من كتابه «الأفكار» تحت رقم ٢٧٨: «إن القلب هو الذي يشعر بالله، لا العقل؛ هذا هو الإيمان: أن يُحس الله في القلب لا في العقل.»

إن القلب عند باسكال هو أداة الإدراك المباشر، ومثل هذا النص الذي أوردناه يشهد بأنه كان متصوفًا.

ولكن ما معنى العبارة التي أوردناها من قبلُ عند الكلام عن إكهارت؛ إذ نصح مَن لا يفهم أفكاره التأملية بألا يشغل بها قلبه؟ معناها أنه ينصحه بألا يشغل نفسه بها حتى لا تؤثر أدنى تأثير على تجربته المباشرة بالله؛ لأنها تجربة تتجاوز بطبيعتها كل إدراك عقلي أو ذهني.

ما الشأن إذن مع مشكلة الله؟

إننا حين ننطق بكلمة «الله» ونأخذها مأخذًا جادًّا، فإنما نفعل ذلك بقصد الإشارة إلى كائن يعلو بطبيعته وماهيته على وجودنا، أو بقصد التنويه بأن مثل هذا الكائن الذي يعلو علينا قد يلمسنا وأثَّر علينا كما نفعل ذلك أخيرًا لكي نثبت هذه التجارب ونحافظ عليها، ولكن الذي يعلو علينا علوًّا مطلقًا لا يمكن بطبيعته أن يقبل التعبير عنه أو النطق به، فإن نحن حاولنا أن نعبر عنه ونأخذ هذا التعبير أخذًا مباشرًا، زيَّفنا قصدنا أو تجربتنا؛ لهذا يصح أن نقول مع الميستر إكهارت: إن علينا أن نتخلى عن الله من أجل الله، أو نتركه حبًّا فيه.

إن اللاهوت المسيحي يتصور الله باعتباره خالق العالم الذي أبدعه من العدم، فإذا أنكر وجود الله — وهذا شيء يختلف كلَّ الاختلاف عن ترك الله من أجل الله — فلا يبقى من شيء يعلو على العالم إلا العدم. بهذا نصل إلى المفهوم العلمي للعلو، وهو ما سنتحدث عنه فيما بعد بالتفصيل.

(٢-٣) المفهوم الذاتي للعلو (الترانسندنس)

ويُفهم العلو بمعنى تجاوز الوعي؛ بحيث يتم الانتقال من الأنا أو الذات إلى الموضوع أو الشيء الذي يقع خارجهما.

ويوصف هذا المفهوم في أغلب الكتابات الفلسفية بأنه مفهوم متعلق بنظرية المعرفة. على أن المهم في هذا الشأن هو ألا يغيب عن بالنا أن الحديث عن نظرية المعرفة يصبح أمرًا متعذِّرًا إذا لم نتحرك في إطار تفسير فلسفي محدد الوجود في مجموعه، وهذا التفسير ليس مجرد «نظرية»، وإنما ينبع من موقف ميتافيزيقي، وإذا أُريدَ لهذا الموقف الميتافيزيقي أن يكون قادرًا على بناء الواقع، فلن يكون موقفًا متعسفًا أو متهالكًا على غير أساس، بل سيكون، في صميمه وبحسب ماهيته، موقفًا لا يمكن تعليله، ولا يُستطاع تبعًا لذلك أن يُقام عليه الدليل كما يُقام مثلًا على قضية من قضايا العلوم المنصبة على دراسة الواقع؛ ولهذا يُستحسن أن نتحدث عن ميتافيزيقا المعرفة بدلًا من الحديث عن «نظرية» المعرفة.

والموقف الميتافيزيقي الذي ينبني عليه التفكير الحديث كله في المعرفة — كما يسبقه ويفترضه — هو تفسير العارف بوصفه ذاتًا، والمعروفِ بوصفه موضوعًا.

ولهذا نود أن نطلق على مفهوم العلو الذي نجده في ميتافيزيقا المعرفة هذه اسمَ المفهوم الذاتي.

ولكن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن يكون معناه الانتقال من ذات إلى موضوعٍ خارجها؛ فالذي يعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يعلو فوق الذات وحدها، بل يعلو كذلك فوق الموضوع أيًّا كان نوعه، كما يعلو فوق الموضوعات في مجموعها، أيًّا كان التصور لهذا المجموع.

لقد قدمنا على الصفحات السابقة مبدأً منهجيًّا فحواه أن حجم العلو ونوعه متطابقان تطابقًا أساسيًّا. والواقع أن العلو فوق الذات لا يتحقق في العلو الذاتي؛ لأن الموضوع الذي أصل إليه عن طريق هذا العلو؛ يظل منطويًا على الذات باعتبار أنها هي التي تجعل الموضوع ممكنًا؛ أي: إن الذات في مثل هذا العلو لا يُعلى فوقها علوًّا كاملًا ولا تُترك تمامًا. إن مفهومَي الذات والموضوع في ميتافيزيقا المعرفة الحديثة — التي أسسها ديكارت — مفهومان متطابقان أو متناظران؛ فما من موضوع بغير ذات، وما من ذات بغير موضوع؛ ولهذا يمكننا أن نصف مفهوم العلو هذا بأنه مفهوم موضوعي بمثل ما وصفناه بأنه مفهوم ذاتي. ونحن نفضِّل الوصف الأخير لأنه يُعبر في رأينا عن الجانب الميتافيزيقي المهم في هذا التفسير؛ كما يعبر في نفس الوقت عن الظروف التاريخية التي نشأ فيها. وهذا الجانب الهام الذي نقصده هو تحوُّل الجوهر إلى ذات وما صحِبه من تحول الأنا المفكرة، ثم ما ترتب عليه من تحول الإنسان إلى ذات.

وقد اخترنا هذا الوصف لسبب آخر، فقد يتوسع البعض أحيانًا في وصف ذلك الذي يشمل علاقة الذات بالموضوع ويؤسسها بأنه الذات، وربما وصفوه كذلك بالذات المطلقة. بهذا المعنى الواسع تتشعب الذات إلى الذات بمعناها الضيق والموضوع. وفي هذا السياق يتحدثون أيضًا عن «انشطار الذات والموضوع»، ويفهمون العلو في هذه الحالة بمعنى العلاء إلى الذات المطلقة والتغلب على هذا الانشطار الأساسي أو قهره. ولكن علينا الآن أن نبين أن هذا المفهوم الذاتي للعلو بمعناه الواسع لا يفي بمطلبنا من العلو، كما أنه يؤدي بسهولة إلى تصورات مبسَّطة غايةَ التبسيط عنه. إن ما حاول المتصوفون الكبار عبر آلاف السنين أن يعبروا عنه ويتحكموا فيه بالفكر — ونقصد به «الاتحاد الصوفي» —٤٩ سيصبح عندئذٍ شيئًا بسيطًا يسهُل على كل إنسان أن يفهمه، وسيبدو كأنه خلا من «الأسرار» أو من «السر» الذي كان يغلفه؛ إذ سيتحقق، في اللحظه المباشرة، رفعُ الانشطار الذي كان موجودًا بين الذات والموضوع، وسيكون هذا تجربة تحمل معها الخلاص والتحرر، وتشُدُّ أزْر الإنسان على نحو عجيب. وكما نستريح في أثناء النوم من متاعب النهار وآلامه، سيكون كذلك في مقدورنا — إذا تصوفنا وقمنا بما يلزم من رياضات روحية وبدنية — أن نُبطل انشطار الذات والموضوع ولو إلى حين، وأن نستريح من العالم كله ونُريح.

ومع ذلك، فإني حين أُبطل انشطار الذات والموضوع أو أرفعه — على فرض أن هذا ممكن — فإني لا أحقق العلو فوق الموضوع، بل أتَّحد به وأذوب فيه.

وإذن فإن رفع الانشطار القائم بين الذات والموضوع أو إبطاله وإلغاءه لا يؤدي إلى العلو بمعناه الصوفي الحق. فالصوفي لا يطلب الاتحاد بالعالم، بل يريد الاتحاد بالواحد الأصيل الذي يسمو على العالم ولا يتصل به بسبب، ولا يتم هذا، فيما يعلمنا الميستر إكهارت وأفلوطين — وهما عمدة التصوف الغربي — عن طريق التلاشي في العالم والامِّحاء فيه، بل عن طريق التخلي عنه والزهد فيه. ويكفي أن نفكر في وصية أفلوطين الصوفية التي يختتم بها الفقرة الثالثة من تاسوعته الخامسة، فبينما نجد الأفكار التي يسوقها في هذه التاسوعة العميقة الصعبة عن الوعي بالنفس أفكارًا بالغة التعقيد والتدقيق؛ نجد الوصية العملية التي ينصح بها بالغة الإيجاز كما ينبغي لها أن تكون. إنها تتألف من كلمتين اثنتين: «اترك كل شيء.»٥٠ إنه لا يذكر شيئًا عن الاتحاد بالكل، بل يتحدث عن ترك الكل. وهذا نفسه هو جوهر التجمع٥١ عند «الميستر إكهارت»، وهو الحال الصوفي الأساسي لديه، ويقصد به على حد تعبيره أن يترك الإنسان نفسه ويترك معها كل شيء. وإذن فالعلو في التصوف له معنًى مختلف تمامَ الاختلاف عن رفع الانشطار القائم بين الذات والموضوع.
ولعل الأهم من ذلك كله أن نبين أن وصف علاقة معقدة ودقيقة، كعلاقة الذات بالموضوع، بكلمة شديدة الغلظة كالانشطار — التي تتردد كثيرًا في لغة علم النفس — أمرٌ لا يناسب التفكير الفلسفي الصائب. إن أعظم ما أنجزه «كانط» وفلاسفة المثالية الألمانية الذين جاءوا بعده؛ هو أنهم أوضحوا أن الذات والموضوع والعلاقة القائمة بينهما لا يمكن أن تفسَّر عن طريق المماثلة بينهما وبين أي شيء من الأشياء الموجودة في العالم، ولا بينهما وبين العلاقات القائمة بين الأشياء. أضف إلى هذا أن مثل هذا التعبير يفترض مني سلفًا أن أَشغَل موضعًا من المطلق بحيث يمكنني أن أُطلَّ منه على العلاقة بين الذات والموضوع، وقد كان من أعظم إنجازات المثالية النقدية والمثالية التأملية، فضلًا عما سبق، أنها عرفت أن ذلك شيء مستحيل، «فالشيء في ذاته»، و«الواقع المطلق» و«الذات المطلقة»، تظل بالقياس إلينا أمورًا لا سبيل إلى معرفتها. إن النظرة الموهومة التي نُطل بها من المطلق لا يمكن أن تكون رؤية موضوعية؛ لأن الموضوعية لا توجد إلا في داخل العلاقة القائمة بين الذات والموضوع، كما أنها ستكون بالنسبة إلينا شيئًا لا يمكن فَهمه أو تصوره على الإطلاق؛ هذا إذا فُرض أن الحديث في هذا المجال عن الخارج٥٢ له أي معنًى. ليس الذات والموضوع تحديدات منعزلة يضعها أيُّ موجود في ذاته، بل إنهما لا يكتسبان معناهما إلا في إطار التأمل الترانسندنتالي (الشارطي)، ونحن نفهم كلمة الترانسندنتالي بالمعنى الذي قصده كانط منها؛ أي: بمعنى الشرط القبلي لإمكان قيام الموضوعات بوجه عام. ولو أنني «شيَّأت» الذات والموضوع، أو أخذتهما مأخذ الموضوعات الموجودة في العالم، لوقعت بذلك في المزلق الفكري الذي وقعت فيه الميتافيزيقا المدرسية التقليدية، وهي التي أراد ذلك التفكير الترانسندنتالي أن يتجاوزها ويتغلب عليها.

(٢-٤) المفهوم الأنطولوجي للعلو

يُفهم العلو في الفلسفة الوجودية وفلسفة الوجود المعاصرتين في أغلب الأحيان بمعنى العلو فوق الموجود في اتجاه الوجود. ونود أن نطلق على هذا المفهوم اسم المفهوم الأنطولوجي. ولكننا إذا فهِمنا العلو بمعنى العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق، فلن نستطيع أن نكتفي بالمفهوم الأنطولوجي أو نقف عنده.

إنه لن يفي بالمطلب الذي قصدناه في هذا الكتاب من العلو، وسيكون شأنه في هذا شأنَ المفاهيم التي سبقته، فنحن إن أخذنا العلو فوق كل شيء مأخذ الجد، فسيتحتم علينا أن نعلو كذلك فوق الوجود، إننا سنكون ملزَمين بالعلو أيضًا فوق الأنطولوجيا.

علينا أن نقف وقفة قصيرة عند الدلالة التي يضفيها الفكر الفلسفي المعاصر على الأنطولوجيا؛ هنا نجد أننا نقف عند نقطة تتفرق عندها الطرق وتتشعَّب المسالك. إن كلمة «الوجود» هي إحدى الكلمات الرئيسية في الفلسفة الغربية القديمة، بل لعلها أن تكون هي كلمتها الرئيسية؛ ولهذا كانت واحدة من أغنى كلماتها من ناحية المضمون، كما كانت كذلك من أشدها إثارةً للخلاف؛ بحيث تعرضت على مدى تاريخ هذه الفلسفة لتحولات عديدة وتأويلات لا حصر لها. وقد وضعت فلسفة الوجود المعاصرة مشكلة السؤال عن الوجود في صورة جديدة، وتطورت بها عندما رجعت إلى الفلسفة اليونانية القديمة وأهابت بها بشكل صريح.

ومنذ أن جعل بارمنيدز الإيلي من كلمة الوجود الكلمةَ الأساسية للفكر الفلسفي — وقد وردت في قصيدته الفلسفية المعروفة على هذه الصورة: أئون٥٣ — جاء أفلاطون من بعده فنادى في محاورتَيه المتأخرتين ثياتيتوس٥٤ والسفسطائي٥٥ بالجهاد في سبيل الوجود، وصعِد من هذا الجهاد فجعله «معركة أو نضالًا مع العملاق»، ثم خلَفه أرسطو فوصف في كتابه «ما بعد الطبيعة» السؤال عن الوجود بأنه «ذلك السؤال الذي سُئل منذ القِدم ولا يزال يُسأل اليوم وسيسأله الناس على الدوام.» وأنه هو السؤال الأساسي الذي يضعه الفكر البشري.٥٦

ولكن هل هو حقًّا كذلك؟

من الواضح من الناحية الشكلية البحتة أن تصور الوجود مفترَض على الدوام في كل قول أو فكر، فأيًّا كان الموضوع الذي أفكر فيه، فلا بد أن أفكر فيه على أي نحو من الأنحاء بوصفه موجودًا. وهذا ما بيَّنه «أول مفكر في الوجود»، ونقصد به بارمنيدز الإيلي. إن في إمكاني، عندما أفكر في شيءٍ ما، أن أجرده من كل شيء، إلا من شيء واحد لا يمكنني أن أجرده منه؛ وهو وجوده. وقد نستطيع أن نوضح هذا من ناحية اللغة، فنقول: إن كل قضية ننطق بها تكون بوجه عام على هذه الصورة: أ هي ب؛ أي: إن هناك نوعًا من فَهم الوجود يُفترض دائمًا في كل قضية، سواءٌ نطقت صراحةً بهذه الكلمة الصغيرة «يوجد» (أو يكون) أو فكرت فيها تفكيرًا ضمنيًّا.٥٧
هذه الحجج وأمثالها تبين بغير شك — على اختلاف حظها من العمق — أسبقية مفهوم الوجود على كلِّ ما عداه من مفاهيم. وطبيعي أننا يندُر أن نتذكر اليوم أن أمثال هذه الحجج يمكن أن تؤدي أيضًا إلى مفهوم الوحدة؛ لأنني عندما أفكر في أي شيء فلا بد أن أفكر فيه على نحو من الأنحاء بوصفه واحدًا؛ ومن ثَم فلا يمكنني عندما أفكر في شيء أن أجرده من وحدته، كما لا يمكنني أن أجرده من وجوده. وقد عرَفت الفلسفة اليونانية القديمة هذا؛ فنجد أرسطو مثلًا يقول في موضع مشهور من كتابه الميتافيزيقا إن الوجود والوحدة «نفس الشيء وماهية واحدة»؛ لأن «كلًّا منهما يترتب على الآخر».٥٨ ويتفق مع هذا تحديدُ الفلسفة الوسيطة للوحدة بأنها «ترانسندنتال» الوجود.٥٩
بيد أن الفلسفة الغربية في مجموعها قد تطورت عبر تاريخها الطويل كتفكير في الوجود لا كتفكير في الوحدة؛ ولهذا نجد اليوم أن الأنطولوجيا (علم الوجود) — لا الهينولوجيا٦٠ (علم الوحدة) — هي المبحث الرئيسي في الميتافيزيقا والفلسفة. لا شك أن الكلمة الأخيرة تُريبُنا وتفاجئنا، أما الكلمة الأولى فنراها عاديةً ومألوفة، ومع هذا فإن كلمة الأنطولوجيا أيضًا كلمة مصنوعة، لم تتكون لأول مرة إلا في القرن السابع عشر. وإذا كانت اليوم لا تُدهشنا ولا تبدو غريبةً على أسماعنا، فمرجع ذلك أساسًا إلى التعود اللغوي؛ فهذا التعود اللغوي يُغري في نفس الوقت بالتعود الفكري. ومعنى هذا أنه يغري بالكسل الفكري والعقلي؛ إذ إن التفكير الفلسفي لا يمكن أبدًا أن يصبح عادة؛ لأن عنصره الأصيل هو غير المعتاد وغير المألوف . هكذا أصبحت الكلمة بالنسبة إلينا اليوم لا تمثل شيئًا غريبًا، بل إننا نسلِّم بوجه عام بأن الأنطولوجيا هي البحث الأساسي في الفلسفة؛ كذلك صارت كلمة «أنطولوجي»، في كثير من الأحيان، مجرد زخرف لغوي؛ فالتفكير «الأنطولوجي» لا يعني، في أغلب الأحيان، أكثر من التفكير الأساسي أو التفكير الماهوي أو الجوهري.
ولكن هل صحيح أن «الأون» (الوجود) هو المبدأ الأخير الذي يبلغه الفكر عندما يبلغ أقصى غايته؟ وهل يتحتم أن يكون الفكر «منطقيًّا» بالمعنى الذي نأخذ به الجزء الثاني من الكلمة؛ أعني: بمعنى الفكر الذي يتطور بنفس الطريقة التي يتطور بها «اللوجوس»؟٦١
يرى أرسطو أن الوجود (أون)٦٢ والوحدة (هين)٦٣ هما الشيء نفسه (تاوتون)،٦٤ دون أن يكون معنى هذا — كما يؤكد بصراحة في الموضع الذي أشرنا إليه — أنهما متطابقان بغير تمييز، كما يرى أن الوجود — الذي يبدأ به عبارته — له الأسبقية على الوحدة في هذه البنية الجوهرية التي يرتبط فيها الوجود والوحدة برباط وثيق. غير أن حجة أرسطو هذه لم تبقَ بغير تقنيد؛ فها نحن نجد أفلوطين نفسه — وهو يناقش كما يبدو من كلامه النصَّ السابق لأرسطو — يبين بشروحه الجدلية المفصلة أن «الأول» أو «الأسبق»، ليس هو الوجود، بل هو الوحدة: «ولكن الواحد هو الأول، أما العقل والمثل والوجود فليست هي الأولى في شيء.»٦٥ والحجة المعتادة التي تقول إن من الممكن التجريد من كل شيء إلا من الوجود؛ حُجة لا تنطبق على أفلوطين؛ لأن الواحد الأول الخالص من الوجود يسمو عنده على كل وجود … ولهذا كان التصور الأساسي في فكر أفلوطين وفلسفته هو الوحدة لا الوجود.

وليس أفلوطين هو أول من ذهب إلى هذا؛ فإن شمول الفكر الأفلاطوني يتجلى مرةً أخرى في كون القسم الجدلي الكبير من محاورة بارمنيدز التي تُعد بمثابة «ملخص» للجدل الأفلاطوني، وشرح كل المفاهيم التأملية الأولية — كالكل، والجزء، والحد، والشكل، والسكون، والحركة، والتساوي، والخلاف، والزمان، والوجود — شرحًا متجددًا على الدوام؛ هذا القسم الجدلي من المحاورة يستهدي بمفهوم الواحد لا بمفهوم الوجود.

ولكن هناك فلاسفةً آخرين جاءوا بعد أفلوطين، وانطلق تفكيرهم من مفهوم الواحد واهتدى به. نذكر منهم على سبيل المثال ليبنتز، الذي تُعد «المونادة»٦٦ مفهومَه الأساسي، والذي يكشف في هذا الميدان وفي غيره من الميادين عن أصالته الفلسفية المذهلة. بيد أننا لو نظرنا إلى الفلسفة في مجموعها، لوجدنا أن الاتجاه الغالب عليها هو الاتجاه الذي اتضح عند أرسطو، وأن «الوجود» قد ظل صراحة أو ضمنًا هو الموضوع الأساسي عند العدد الأكبر من المفكرين الغربيين. وينبغي علينا الآن أن نبين بصورة عامة أن هذا ليس أمرًا بديهيًّا على الإطلاق، بل هو مسألة تحتمِل النظر والتساؤل من جهات عديدة.

في العلو أو الترانسندنس الأنطولوجي يتم العلو فوق الموجود الفرد في اتجاه الوجود العام الشامل. وهذا الوجود نفسه لا يُعلى عليه، وإنما يصبح «أفقًا» يشمل كل شيء أو كل موجود، وطبيعي أن «الأفق» هنا مجرد تعبير مجازي. وعلى الرغم من أن كلمة «الوجود» نفسها كلمة بسيطة، فإن الغموض لا يكتنف ما نفهمه منها وحسب، بل يتعدى ذلك إلى الوظيفة اللغوية التي نستخدم بها هذه الكلمة، فهل تسمى شيئًا؟ هل تتحدث عن شيءٍ ما من حيث هو شيء؟ أم أنها تشير فحسب إلى شيء لا يمكن التعبير عنه؟ وما طبيعة هذا الشيء الذي تتحدث عنه أو تشير إليه؟ وما نوعه؟

لقد أكدت فلسفة الوجود المعاصرة ضرورة التمييز القاطع بين الوجود والموجود؛ فالموجودات شيء، وموجوديتها شيء آخر. ومن الواجب في رأيها أن ننتبه إلى هذا الفارق أو هذا الخلاف الأساسي عندما نعلو من الموجود إلى الوجود. وإذن فلا يجوز أن نتصور الوجود نفسه قياسًا على تصورنا لموجود أو شيء أو موضوع تكون صفته هي الوجود.

والواقع أن هذا هو أول خلطٍ وارتباك يقع فيه الفكر الطبيعي عندما يبحث عن أصل جميع الأشياء ومبدئها، فيضع هذا المبدأ منذ البداية في موضع الشيء، وعندما يُسأل عن مبدأ جميع الموجودات فيتصور هذا المبدأ منذ البداية على أنه موجود. أجَل، إن الفكر الفلسفي الحق يبدأ بالانتباه إلى هذا الفارق الأساسي، ولكن التراث الفلسفي التقليدي يبدو أنه وقع كذلك في هذا الخطأ، عندما وصف مبدأ جميع الأشياء بأنه هو الماء أو الهواء أو النار — كما فعلت الفلسفة اليونانية مثلًا في بداية عهدها — أو عندما وصفه بأنه مادة أو روح؛ على نحو ما نرى من بعض المفاهيم الشائعة في عصرنا. ففي كل هذه الحالات نجد المبدأ أو الأصل كما نجد الوجود «يُشَيَّأ» و«يُمَوْضع»، كما نجد ثمة موجودًا أو شيئًا ذا كيان مادي مستمَد من عالم الأشياء المألوف يُتصور؛ بدلًا من التفكير في الوجود نفسه مجردًا من كل شيء أو موضوع؛ ولهذا فإن كل هذه الإجابات لا ترضينا منذ البداية، ولا تلزمنا أيضًا في نهاية الأمر.

ولكن يبقى علينا أن نسأل إن كان طاليس الملطي قد وقع في مثل هذا الخطأ الفكري الأوَّلي الذي أشرنا إليه؛ أعني: إن كان قد تصور ذلك الذي يتقدم على جميع الأشياء الفردية كما يتصور الشيء. لقد لاحظنا من قبل أن الماء الذي يقول به طاليس يختلف تمام الاختلاف عن العنصر الكيميائي الذي نعبر عنه اليوم بهذه الصيغة يد ٢ أ؛ كما يتعين علينا أن نرى إن كان المتأخرون — ابتداءً من أرسطو — قد افتقروا إلى المسلَّمات الجوهرية التي اعتمد عليها هؤلاء المفكرون الأوائل في تفلسفهم؛ بحيث استندوا في دراستهم لهم وحديثهم عنهم على تصورات ومسلمات لا تناسبهم ولا تنطبق عليهم.

مهما يكن الأمر فإن الفلسفة المتأخرة لا تنظر إلى الماء ولا الهواء ولا النار بوصفها مبدأَ كل الأشياء، بل تعتبِر أن الوجود هو المبدأ والأصل، إنها تحاول بهذا أن تميز تمييزًا حادًّا بين الأشياء وبين مبدأ الأشياء؛ كما يتضح هذا من الناحية اللغوية الصرفة عندما تعبر اللغة الألمانية عن كلمة المبدأ باستخدام المصدر الأسمى،٦٧ ومع هذا كله فنحن لا نستطيع أن نقنع بهذه الآراء؛ لأنني إذا علوت فوق كل شيء على وجه الإطلاق، فلا يمكنني أن أصل إلى شيء كائن أو موجود — إن الوجود، أيًّا كان تصورنا له أو تفسيرنا فيه، يوجد أو يكون٦٨ — بل إنه لَيكون كذلك بالمعنى الحقيقي المتميز عندما أصفه بأنه هو الذي يعطي الوجود. «أما ما يوجد — أو يكون — قبل كل الأشياء، فهو الوجود — أو الكينونة —» صحيح أن كلمة «يوجد» أو «يكون» الأولى في هذه العبارة الأساسية المهمة التي قالها هيدجر؛٦٩ موضوعةٌ بين علامات التقويس، ومعنى هذا أن الوجود لا يوجد بنفس الطريقة التي توجد بها الأشياء أو الموجودات. غير أنه مع ذلك «يوجد» أو «يكون»، أما العلو (أو الترانسندنس) الذي نقصده في هذا المجال فهو يتطلب العلو والتجاوز الفكري لكل «يوجد» و«يكون».

إن الهدف الذي نقصده من هذا الحديث يمكن توضيحه على النحو التالي: كل ما تمكن تسميته والتعبير عنه هو شيء متعيِّن وذو شكل. والعلو فوق كل ما يوجد أو يكون معناه العلو فوق كل متعين وذي شكل. يترتب على هذا أن ما أصل إليه من وراء هذا العلو لا يمكن أن يكون شيئًا يقبل التسمية والتعبير؛ ولهذا فإني لا أخطئه فحسب عندما «أُمَوضِعه» على أي نحو من الأنحاء، بل إني أكون قد أخطأته بمجرد تسميته؛ سواء أكان هذا الاسم هو «الوجود» أم «العالم». إن الفكر يعود في هذه الحالة فيعلو إلى شيء يمكن التفكير فيه؛ بدلًا من أن ينطلق إلى ما يعلو فوق كل موضوع للفكر، وما يستحيل تبعًا لذلك أن يقبل التفكير فيه أو التعبير عنه. هذا والانطلاق إلى ما يستعصي على التفكير لا يُعفي على الإطلاق من التفكير، ولا يعني بالضرورة أن نودع التفكير الوداعَ الأخير، وإنما يُلزم الفكر ببذل أقصى ما يقدر عليه من جهد؛ لأننا لا نستطيع أن ننطلق إلى ما يستعصي على التفكير، ولا نستطيع أن نصطدم به إلا عن طريق التفكير، لا؛ بل عن طريق البلوغ بالتفكير إلى أبعد مدًى يمكنه بلوغه؛ أي: من خلال التحقق المباشر الحي لحركة الفكر، ومن خلال هذا فحسب. هنا يتعذر على الفكر أن يتجه إلى شيء موضوعي أو يقف عنده ليتأمله؛ إذ يتحتم عليه أن يحقق نفسه ويواصل تحقيقها بأقصى إمكاناته، إذا أراد أن يظل على إخلاصه لقضيته. وإذا كان العلو فوق كل شيء على الإطلاق يؤدي إلى ما يستعصي على التفكير، فليس معنى هذا هو التوقف عن التفكير؛ بل معناه التصعيد فيه إلى آخر المدى. وليس من قبيل الصدفة أن يكون أعظم المتصوفين الغربيين، وهما أفلوطين وإكهارت، من أشد المفكرين تأججًا بالعاطفة، ومن أكثرِ الجدليين توهجًا بالانفعال.

كانت المهمة التي أخذنا أنفسنا بها هي انفتاح النظر على العلو عن طريق الفكر، وليس هذا بالأمر اليسير إذ أخذناه لذاته وفي ذاته، ولا هو بالأمر اليسير بوجه خاص في عصر بعيد كلَّ البعد عن العلو، مُعادٍ له كلَّ العداء؛ كالعصر الذي نحيا فيه. وقد حاولنا أثناء متابعتنا لهذه المهمة أن نحرر مفهوم العلو من حدوده وتحديداته التقليدية، وقد اخترنا لذلك بعض المفاهيم الأساسية التي تكونت عبر التراث الفلسفي، وهي التي وصفناها بالمفاهيم الميتافيزيقية واللاهوتية والذاتية والأنطولوجية. وقد يمكن بطبيعة الحال أن نقدم عددًا أكبر من المفاهيم، كما يمكن أن نفرِّع هذه المفاهيم نفسَها تفريعاتٍ أدق، ولكن هذا كله ليس من قصدنا، فالهدف واضح من الشروح التي قدمناها؛ وهو بيان قصور هذه المفاهيم وأمثالها وعجزها عن إقناعنا أو إرضائنا. إن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يتحقق في مفهوم واحد منها، ويتجلى هذا من الناحية الشكلية البحتة في كونها جميعًا تتحدث عن ذلك الذي يتم العلو إليه؛ كما لو كان شيئًا ما؛ وجودًا متجاوزًا للحس والمحسوس أو إلهًا أو جوهرًا أو ذاتًا أو الوجود. ويستوي بعد ذلك أن تختلف طريقتها في التفكير في هذا الذي تتحدث عنه أو تسميه؛ فتجعل منه شيئًا موضوعيًّا أو شخصيًّا، أو شيئًا غير موضوعي ولا شخصي، فهي في كل الأحوال تعُدُّه شيئًا يمكن تسميته والتعبير عنه. ولما كان حجم العلو أو مداه لا ينفصل عن نوعه، فيبقى علينا أن نسأل في نهاية الأمر إن لم يكن هذا الذي نعلو إليه على هذا النحو مجرد وجود من صنع العقل واختلاقه.٧٠

إن النزعة الحديثة التي تُلح على تأكيد هذا العالم أو هذه الدنيا، كما يتضح في ولع بعض الكتَّاب باستخدام صيغ وتعبيرات لا تخلو من اسم الإشارة «هذا» مثل «هذا العصر»، و«هذا العالم» و«هذه الحياة»؛ هذه النزعة تميل ميلًا واضحًا إلى التعرض للشبهة التي ذكرناها في نهاية الفقرة السابقة، ولكن علينا أن نتنبه إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك «هذا العالم» بغير «ذاك العالم»، ولا أن تكون هناك «حياة دنيا» بغير «حياة أخرى»، وأن «الدنيا» المزعومة ليست في أغلب الأحيان إلا «الأخرى» مقلوبة؛ إذ تُرفع «الدنيا» إلى مستوى «الأخرى»، ويُجعل منها شيءٌ مطلق، بغير أن يؤدي هذا بحال من الأحوال، كما يزعم البعض، إلى تجاوز الأخرى أو التغلب عليها تمامًا.

إذا كان النقد الذي نطبقه في هذا المجال يَفرض علينا، فيما يفرضه، أن نفكر في الميتافيزيقا واللاهوت والفلسفة الذاتية والأنطولوجيا تفكيرًا متعاليًا أو ترانسندنتاليًّا لا يعلو عليها جميعًا ويتجاوزها، فليس معنى هذا أبدًا أننا نُبطلها أو نُلغي مفاهيم العلو النسبية التي تنطوي عليها بضربة يد واحدة. إن تصرفًا كهذا بإزاء المجهود الفكري الضخم الذي يرتبط بهذه الأشكال المختلفة من التفلسف؛ لن يكون إلا تصرفًا طائشًا أحمق؛ فالواقع أن هذا النقد إذا أُحسن فَهمه، لن يؤدي فحسبُ إلى الحفاظ على ما أنجزه ذلك الفكر، بل إنه سيسلط عليه النور؛ لأن النور الحق هو وحده الذي يعلو على كل شيء، ويسبق كل شيء.

سنحافظ إذن على منجَزات هذه الفلسفة التقليدية، وكل ما نطلبه هو ألا نقف عندها أو نكتفي بها، فقد تبين لنا مما سبق، وبخاصة في كلامنا عن الميتافيزيقا، أن كل هذه المفاهيم التي سقناها عن العلو لا تكفي نفسها بنفسها، ولا تفي بالغرض الأصلي المقصود منها؛ وهو العلو بالفكر فوق الكل.

لقد أردنا من النقد الذي طبقناه ألا يكون نقدًا خارجيًّا، بل نقدًا داخليًّا، ولم نفعل هذا بدافع التعالم، وإنما اقتضت ذلك طبيعةُ الموضوع نفسه الذي نتناوله هنا بالبحث؛ من حيث إنه لا يمكن التعبير عنه إلا إذا عبرنا عما ليس من طبيعته؛ ولهذا كان الغرض الوحيد من النقد هو أن يؤدي بنا إلى العلو المنشود فوق كل شيء على وجه الإطلاق، كما كان هذا النقد جزءًا لا يتجزأ من الموضوع نفسه.

وعند هذا الموضع يتجدد الاعتراض الذي لمسناه من قبل لمسًا خفيفًا، ويزداد قوة؛ ألَا نحمِّلُ العلو (الترانسندنس) فوق ما يَحتمل بهذا النقد وبالتحديد الأساسي الذي يقوم عليه؟ فإلى أين يسوقنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق — حتى فوق الله والذات المطلقة والوجود — إلا إلى الفراغ الكامل والعدم الخالص؟ وماذا عسى أن يكون لمثل هذا العلو، إن لم يكن مجرد (يوتوبيا) محضة، من دلالة أو معنًى؟ ثم ماذا نكسب منه أو نجني من ورائه؟

يمكننا من الناحية الشكلية أن نردَّ بسهولة على الاعتراض الأول؛ فنقول: إن مَن يعلو فوق كل شيء على الإطلاق يعلو كذلك فوق الفراغ والعدم. ولن يكون هذا الرد مجرد تخلص جدلي، بل إنه سيشير من جديد إلى أننا نعود إلى التفكير في ذلك الذي علينا أن نعلو إليه والكلامِ عنه كما لو كان شيئًا؛ أي: إن الأمر يقتصر على نفي المتجاوز للمحسوس أو الله أو الوجود أو سائر ما عرفناه في المفاهيم التقليدية للعلو، دون ملء الفراغات التي نشأت عن ذلك بشيء جديد، وبهذا نظل محصورين في نطاق ذلك التفكير في العلو، وكذلك نفعل لو سألنا عن قيمته ومعناه.

وقد يمكننا من الناحية الجدلية أن نلاحظ في هذا الصدد ما يلي: إن «الكل» و«العدم» — سواءً أكانت نظرتنا إلى هاتين الكلمتين نظرةً سطحية أو عميقة، غامضة أو محددة — هما في الحقيقة مفهومان متضادان. ولكن العلو لا يمكن أن يؤدي بنا إلى الطرف المضاد لما نريد أن نعلو عليه؛ لأن الضد، كما لاحظنا، يقع على نفس مستوى الضد المقابل له؛ ولهذا فإن العلو فوق كل شيء على الإطلاق لا يمكن أن ينتهي إلى العدم، بل لا بد أن يتجاوز الكل والعدم جميعًا.

بيد أننا لم نتعود على مثل هذه التأملات الجدلية على الرغم من بساطتها ووضوحها، ومع أننا ندرك أنها سليمة من الناحية الصورية والمنطقية، فإنها لا تُفلح في إسكات الشكوك التي تثور في صدورنا. إن هناك شيئًا في أنفسنا يتحفز دائمًا للوقوف في وجه كل علو ومقاومته؛ وبخاصة إذا كان علوًّا شاملًا كالذي نطلبه في هذا السياق، ونحن لن نأخذ هذه المقاومة الباطنة مأخذًا سهلًا؛ لأنها تكشف في الحقيقة عما نريد أن نسميه هنا بالفهم المشترك أو العام. ولهذا الفهم العام مفهومُه عن العلو، وهو يتلخص في إنكاره والقول بأنه عدمٌ ولا شيء.

(٣) الفهم العام ومفهومه العدمي عن العلو

سنستخدم هنا تعبير الفهم العام أو المشترك بمعنًى أشملَ وأعم مما يُستخدم به عادةً في معظم الأحوال؛ بحيث نصف به كل موقت فكري يرفض العلو بوجه عام وينكره؛ أي: إننا لن نستخدم هذا الاصطلاح للكشف عن الأسلوب الشائع في التصور والحكم وتعريته، بل للدلالة به على موقف ميتافيزيقي. صحيح أن الشيء الذي يميز الفهم العام هو وقوفه موقفَ العداء من الميتافيزيقا؛ بيد أن كل عداء للميتافيزيقا يقوم هو نفسه على موقف ميتافيزيقي مسبق. ومن المألوف أن يكون هذا الموقف الميتافيزيقي الذي يخفى على الفهم العام نفسِه تفكيرًا ميتافيزيقيًّا تقليديًّا أصابه الذبول والضحالة والجمود.

إذا كنا نصف الفهم العام بأنه موقف عدائي من الميتافيزيقا، أو بمعنى أدقَّ بأنه إنكار للعلو، فإن هذا يدل على أننا لا نقلل من شأنه أو نأخذه مأخذًا هينًا أو نعُدُّه شيئًا تافهًا مبتذلًا، على الرغم من أن التفاهة والابتذال هما المجال الحقيقي الذي يدور فيه فكره «الفلسفي». إننا لَنعتقد على خلاف ذلك بالأهمية البالغة للفهم العام، ونحاول ما وَسِعَنا الجهد أن نتعمق ماهيته؛ أي: أن نفكر فيه من ناحية العلو. ومعنى هذا أننا لا ننظر إليه على أنه ظاهرة انحلال وتدهور عقلي، أو نتيجة إهمال أو خمول فكري، وكأن في الإمكان أن نتغلب عليه بمزيد من الدقة والحدَّة في التفكير. لقد قلنا إن الفهم العام ينكر العلو ولا يكتفي بنفيه، وفي كل إنكار وجهٌ من الفاعلية، ولكن الفاعلية الإنسانية الخالصة التي تنبع من نفسها فحسب شيءٌ لا وجود له، ففي كل ما يفعله الإنسان شيء يرتفع دائمًا فوق هذا الفعل ويعلو عليه، وإذ كان الفهم العامُّ يسُدُّ أذنيه ويوصِد أبوابه دون هذه الفكرة الأساسية، فإن ذلك يرجع إلى طبيعته وماهيته؛ إذ يعتقد أنه قادر على القيام بكل شيء من ذاته وبالاعتماد على ذاته وحدها.

إن تداول تعبير «الفهم العام» وشيوعَه يتضمن وجوده بصورة دائمة في كل تفكير، وليس التفلسف بمعناه الأوسع إلا التغلب على الفهم العام الكامن فينا. والواقع أن التغلب التام على الفهم العام والتخلص النهائي منه أمر مستحيل؛ إذ إنه يظل دائمًا على نشاطه، ويستيقظ فينا من جديد بمجرد أن يتراخى التفكير الفلسفي الحق.

وجدير بالملاحظة أننا لا نستخدم كلمة «عام» أو مشترك في هذا المجال بمعنًى تقويمي، بل للتمييز والوصف؛ فالعام أو المشترك بحسب معناه الأصلي هو الذي «ينتمي لعدد كبير من الناس أو ينسُب إليهم طريقة متساوية»، ثم هو كذلك أمر يتعلق بالجميع على نحو متساوٍ. بيد أن العلو لا يمكن أبدًا أن يكون شيئًا مشتركًا أو يصبح شيئًا عامًّا، بل الأحرى أن يقال عنه إنه يُعزل ويُفرد. وليس في إمكان أحد أن يقوم بالعلو بالاشتراك مع غيره، بل لا بد لكل إنسان هنا أن يتولى وحده كل شيء. إن الإنسان الذي يعلو إنسان وحيد، وهل يمكن لمن يعلو فوق كل شيء على الإطلاق أن يكون مع أي شيء أو مع أي إنسان؟ إن الفهم العام على العكس من ذلك هو الشيء المشترك بين الجميع بغير خلاف، فهو لا يتعلق بالفردية ولا بالشخصية، بل إنه بطبيعته وماهيته عدوُّ كل خصوصية وتفرُّد.

إذا كان من المستحيل أن يصبح العلو شيئًا عامًّا مشتركًا، فليس معنى هذا، كما قد يتبادر إلى الأذهان، أن الذين يتفردون عن طريقه يمثلون كثرة منعزلةً انعزالَ الذرات عن بعضها البعض. فالحق أنهم متحدون اتحادًا يزيد في أصالته وقوته — أي: اتحادًا مطلقًا — عما يمكن أن يحدث نتيجة أي نوع آخر من أنواع الاتحاد؛ لأن هذا الأخير سيظل في نهاية الأمر اتحادًا نسبيًّا.

وهذه هي بعض الخصائص الرئيسية التي تُميز الفهم العام بمعناه المقصود في هذا السياق.

(٣-١) الفهم العام والكمون (الإمانتس)

من طبيعة الفهم العام أن يميل إلى الانغلاق وسد الأبواب في وجه كل علو، ومن ماهيته كذلك أن ينكمش على ذاته ويتحجر في ذاته، فالفهم العام يعُد كل ما يقع خارجه عدمًا، ولكنه ليس العدم الذي نقصده في لغة الفلسفة، وإنما هو العدم بمعناه المبتذل الميت. أما العقل الذي لا يعادي العلو، فمن طبيعته الارتفاع وتجاوز الذات والانفتاح. الفهم العام يعُد كل ما يقع خارجه لا شيء، ولما كان في نظر نفسه هو كل شيء، فإن هذه المقولة تصدُق عليه: الكل كل، والعدم عدم. سنصف هذه المقولة بأنها هي المقولة الأساسية في ميتافيزيقا الفهم العام. إنها المقولة التي يؤكد بها نفسه بصورة ميتافيزيقية في وجه كل ميتافيزيقا، ويحاول بها أن يحصِّن نفسه من كل علو.

ولما كان كل شيء في نظر الفهم العام هو كل شيء، وكان العدم في رأيه هو العدم، فإن «المصادرة» الميتافيزيقية التي يسلِّم بها هي «الكمون»؛٧١ أي: البقاء في ذاته، وعدم الخروج عن حدود ذاته، أو الارتفاع فوقها وتجاوزها. وإذا كان الفهم العام يطالب دائمًا بالمزيد — وأين اليوم مَن لا يسعى إلى المزيد: المزيد من العلم، والمزيد من القوة، والمزيد من الملك؟! — فإن هذا الطلب الملحَّ لا يصدر عن رغبة في التفوق والعلاء على الذات؛ لأن العلاء فوق الذات لا يقدِر عليه بحق إلا مَن يستولي عليه «العالي»، ويمتلك عليه كلَّ كيانه. أما الفهم العام فيرى أنه ليس هناك شيء يمكن أن يعلو عليه، وإذا كنا نلمس لديه الشوق المستمر نحو المزيد، فإنما يتفق هذا الشوق مع رغبته في احتواء كل شيء وإخضاعه لإرادته؛ لكي يتحاشى بذلك كل خطر يهدد طموحه للشمول، وليس ثمة شيء في نظره — طبقًا لمقولته الميتافيزيقية الأساسية — يمكن أن يتأبَّى عليه أو يستعصي على الإحاطة به والسيطرة عليه.

إن الفهم العام لا يعرف غير المقارنة وأفعل التفضيل، ولكنه لا يعلم شيئًا عن «ما وراء» أو هو لا يفهم من «الماوراء» إلا المزيد والتصعيد الكمي. إن الكم هو مجاله الحقيقي الذي يتحرك فيه، وهو لا يعرف عن اللامتناهي إلا أنه ما لا نهاية له؛ ولهذا فهو يُقدِّر كل شيء ويَقيس كل شيء بمقياس العدد. ومع أنه يسعى في كل مجال إلى كل ما هو لامحدود، فإنه مع ذلك لا يعرف شيئًا عن العظمة بالمعنى الذي حددناه من قبل ووصفاه بأنه من أهم الخصائص المميِّزة للعلو. وهو يحاول أن يشد هذه المنظمة حيثما وجدها إلى عالَمه الصغير؛ لأن كل شيء في نظره صغير، وينبغي أن يظل صغيرًا حتى يتسنى للجميع أن يشاركوا فيه.

(٣-٢) الفهم العام والبقاء

من طبيعة الفهم العام وماهيته أن تكون إرادته محض نشاط وعناد؛ فالفهم العام لا يتخلى فحسب عن العلو، بل يسد أبوابه في وجهه ويغلق نفسه دونه. إن إنكاره للعلو إنكار فعال، ولا بد أن يكون كذلك لأنه لا يستطيع أن يؤكد نفسه إلا بهذه الطريقة، ولأن إرادة تأكيد الذات هي إرادته الحقيقية؛ ولهذا فإن جهوده منذ القدم لا تقف عند ترك الفلسفة والتباعد عنها، بل تتعدى ذلك إلى كراهيتها والحقد عليها؛ لأنها تزعج طمأنينته الزائفة وتُقلق أمنه الكاذب، وحيثما اصطدم بالفلسفة وجدناه يسارع بالهجوم عليها.

والفلسفة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها في وجه هذه الهجمات التي تأتيها من جانب الفهم العام، فليس مجالها هو «الضد» بل «الماوراء». وحيثما حاولت الدفاع عن نفسها فقدت ماهيتها الحقة؛ ولهذا وقف الشامتون والساخرون من الفلسفة دائمًا في جانب الفهم العام.

(٣-٣) الفهم العامة والموضوعية

غير أن فاعليته هذه لا تنبثق من فعل بالمعنى الحقيقي للكلمة — إذ إن الجمود والخمول من أهم خصائص الفهم العام — بل تأتي من التهرب من الالتزام الذي يحققه العلو. إن الفهم العام يتريث ويتلبث، ويجمُد ويتحجر، ويصمُد ويُصر، وهو لهذا بلا تاريخ، وبقاؤه غير تاريخي. على حين أن العقل هو الذي يتغير باستمرار ويتحول بغير انقطاع؛ ولهذا فإن الميتافيزيقا المنهارة التي فقدت كل قدرة حقيقية على صنع التاريخ؛ لا تزال قادرةً على البقاء بصورها وأشكالها الظاهرة إلى ما شاء الله في الفهم العام.

لا يعترف الفهم العام إلا بكل ما هو شيء وموضوع؛ كل ما لا يستطيع أن يُمسكه ويقبض عليه؛ فهو في نظره غير واقعي، وهو لهذا يطالب بأن يقوم كل شيء على «التجربة» أو يُرد إليها. وكل ما لا يحمل بطاقة الشيء والموضوع يُعد في رأيه مجردَ مظهر وهمي لا يلزم أحدًا من الناحية النظرية، ولا يُجدي نفعًا من الناحية العملية. ومن ثم كانت حجته الأساسية في إنكار العلو هي: أن كل ارتفاع فوق المحسوس أو تجاوز لما له شكل لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفراغ والعدم.

ويعبر أفلوطين عن هذه الحجة في رسالته عن «الخير والواحد» بقوله: «ولكن بقدر ما تتغلغل النفس فيما لا شكل له — وهو الذي تجد نفسها عاجزة عجزًا تامًّا عن إدراكه؛ لأنها لا تتحدد به ولا تُطبع بخاتمه — بقدر ما تنزلق عنه ويملؤها الخوف من أن ترتد عنه فارغة اليدين. من أجل هذا ينالها التعب من مثل هذه الأمور، فتهبط عن طيب خاطر؛ إذ تجد أنها تُفلت منها جميعًا في كل مرة، حتى تصل إلى ما يدرَك بالحس وتستريح على أرض ثابتة، مثلما يتعب البصر من رؤية الأشياء الصغيرة ويميل إلى الاستقرار على الأشياء الكبيرة.»

إن هذه السطور تقدم لنا صورة ملموسة رائعة للصعوبة المجردة التي يلاقيها الفكر عندما يحاول الارتفاع فوق كل ما له شكل. ومعظم شروح أفلوطين في هذه الرسالة وغيرها ينصبُّ على التغلب على المقاومة الباطنة؛ التي تجعلنا بالطبيعة أو تجعل الفهم العام فينا يعارض هذا الارتفاع ويقف في طريقه. ولا بد في هذا الموضع من التعرض باختصار لمشكلة التجربة وعلاقتها بالعلو.

ملحق: العلو والتجربة

لو أخذنا كلمة التجربة بالمعنى السائد في اللغة العادية واللغة الفلسفية على السواء — أي: بالمعنى الذي يدل على المعرفة القائمة على أساس الإدراك الحسي — لاتضح لنا أنه يستحيل أن توجد ثمة تجربةٌ بالعلو والعالي؛ لا داخلية ولا خارجية؛ لأن من يعلو فوق كل شيء على الإطلاق، لا يعلو فحسب فوق كل ما هو طبيعي (فيزيائي)، وإنما يعلو كذلك فوق كل ما هو نفسي؛ ولهذا السبب بعينه يتعذر على علم النفس والتحليل النفسي أن ينفُذا إلى حقيقة العلو أو يجدا مدخلًا إليه. وحيثما تصور التحليل النفسي أنه يملك الوسائل التي تمكِّنه من العلو، لم يزد الأمر في الحقيقة على أن يكون نوعًا من إذابة الحدود والخلط بين المفاهيم والتصورات. والمفهوم الذي قدمناه عن التجربة — وسوف نسميه هنا المفهوم الضيق للتجربة — هو المفهوم نفسه الذي نجده عند كانط. إنه يحدد تصوره للتجربة في كتابه الأساسي «نقد العقل الخالص» بقوله: «التجربة معرفة بالموضوعات عن طريق الإدراكات الحسية.»٧٢ وعلينا أن ننتبه إلى «المعرفة بالموضوعات» في هذا التحديد الكانطي. فالتجربة في رأي كانط تنصب بحسب ماهيتها على الموضوعات، ولا تقوم للموضوعية في رأيه قائمةٌ إلا بتطبيق صور الفهم أو أشكاله؛ أي: بتطبيق المقولات على المعطى الحسي؛ بحيث تضع الذات في عملية الوعي الترانسندنتالي، كما يسميها كانط، الأشياءَ أمامها بوصفها موضوعات. وهكذا لا تقتصر التجربة عند كانط على التجربة الحسية، كما زعم أصحاب النزعة الحسية مثل لوك، وإنما هي — على حسب تعبير كانت في التمهيدات (البروليجومينا) — «نتاج الحواس والفهم»؛ ومن ثم فليست التجربة كذلك مجرد تقبُّل أو تلقٍّ، بل هي تلقٍّ وتلقائية في وقت واحد. ومفهوم كانط للتجربة ينطوي بالضرورة على الأنا الترانسندنتالية بوصفها الشرط الأعلى لكل موضوعية وكل وحدة بين الموضوعات؛ ولهذا كان كانط منطقيًّا تمامًا مع نفسه عندما انتهى إلى استبعاد كل تجربة متعالية ونفي إمكان قيامها. إن العالي لا يمكن أن يكون موضوعًا؛ لأن الموضوعية لا توجد إلا بالإضافة إلى «أنا» أو ذات، ولا توجد في نفس الوقت إلا في مواجهة أنا أو ذات؛ على حين أن هذه الذات بوجه خاص يتم العلو فوقها أثناء العلو إلى ما يقع خارجها وفوقها.
لقد بيَّن كانط أوضح بيان وأجلاه أن العالي يُفلت من التفكير الذي يتم من خلال المفاهيم والمقولات، ولكن كانط فَهِم التفكير منذ البداية فهمًا عقلانيًّا، وفسَّره تفسيرًا عقلانيًّا؛ أعني بوصفه فهمًا وعقلًا.٧٣ والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو ما إذا كان الفهم والعقل، كما تصورهما كانط — أي: كمَلَكتَي المفاهيم والأفكار على الترتيب — هما الشكلان الوحيدان للفكر. إننا لا نستطيع التسليم ببداهةِ هذا التفسير العقلاني الذي يقوم عند كانط على الميتافيزيقا والمنطق التقليديَّين، ولا نستطيع القول بأنه واضح أو بيِّن بذاته.

إذا كان كانط ينفي إمكان قيام تجربة العلو وإمكان المعرفة بالعالي، فإنه مصيب في هذا الموقف الذي ينطلق فيه من الفروض والمقدمات التي وضعها لفلسفته؛ ولكن علينا أن نتذكر أن مفهومه عن العالي شأنه في هذا شأنُ مفهومه عن التجربة والفكر؛ كلها مفاهيمُ ضيقة قاصرة، تقوم على أساس موقف ميتافيزيقي حددته ظروف تاريخية، ولم يضعه كانط نفسه موضع السؤال، ولا كان في مقدوره أن يفعل؛ ذلك أن كل فلسفة تبدأ بوضع ميتافيزيقي أساسي. صحيح أن هذا الوضع ليس تعسفيًّا ولا خاضعًا للهوى الشخصي، ولكنه، كوضع للأساس، لا يقبل هو نفسُه تأسيسًا أو تبريرًا. و«الوضع» الذي نقصده لا يجوز أن يُفهم على معنى الصنعة البشرية — فالفلسفة لا تُصنع على الإطلاق — بل على معنى التأسيس الميتافيزيقي.

إن مفهوم العالي (الترانسندنت) عند كانط مفهوم ضيق؛ لأنه فَهِم العلو بالمعنى الذي فهمتْه الميتافيزيقا المدرسية التقليدية عند فولف وأصحابه، فرأى أنه هو الأفكار العقلية الثلاث: الله، والحرية، وخلود النفس … ومفهومه عن الفكر مفهوم ضيق؛ لأنه يفهم الفكر على أنه هو «الأنا أفكر» للفهم والعقل، ومفهومه عن التجربة مفهوم ضيق؛ لأنه متعلق تعلقًا تامًّا بالمعطى الحسي.

ولا يمكن على أساس الفروض والمقدمات السابقة أن تكون هناك تجربة بالعلو؛ لأن تجربة شيء ما سيكون معناها أن أحتويه في نفسي وحواسي وفهمي. ولكنا لو أخذنا التجربة، كما نحاول أن نفعل في هذا الحديث، على نحو مخالف للمعنى الديكارتي الحديث الضيق المحدود — إذ إن مفهوم كانط عن التجربة يرجع في نهاية الأمر إلى الموقف الميتافيزيقي الأساسي لديكارت — لو فعلنا هذا وفهمناها (أي التجربة) بالمعنى الواسع الذي تدل عليه الكلمة في أصلها اللغوي، لأمكننا القول بأنه ليست هناك تجربة بالعلو فحسب، بل إن هذه التجربة لَتفوقُ في قوتها وعمقها ودقتها أية تجربة دنيوية وحسية، هذا إن كان هناك سبيل لمقارنتها بها على الإطلاق.

المقصود بالتجربة والتجريب بمعناهما الأصلي في اللغة الالمانية هو الحركة التي تتم عن طريق السفر، ثم تطوَّر المعنى فأصبح يدل على التجول والترحال، كما أصبح في الاستخدام المجازي يُستعمل دلالةً على استطلاع المعلومات والأنباء عن طريق التجول والسفر؛ على نحو ما نصف شخصًا بأنه محنك أو مجرِّب بمعنى أن الأسفار قد علَّمته وصَقَلته، وما يجربه الإنسان يؤثر عليه ويصيبه. ولو أخذنا التجربة بهذا المعنى الواسع الذي يتميز في نفس الوقت بالدقة والتحديد، الشديد لتبين لنا أن الإنسان لا يجرِّب بالحواس وحدها. فأية حقيقة رياضية على سبيل المثال هي شيء يؤثر على الإنسان أو «يصيبه».٧٤ فإذا عرفنا أن أضلاع المثلث الثلاثة تلتقي دائمًا في نقطة معينة، أصابنا من ذلك شيء ما، ولو تتبعنا البرهان الرياضي على هذه القضية، لوجدنا أنه شيء هائل مذهل (وليس من قبيل الصدفة أن يكون أفلاطون قد اشترط الاشتغال بالرياضة أساسًا للاشتغال بالفلسفة)؛ لأننا سنصطدم عندئذٍ بشيء نصنعه نحن ولا يصنعه أي إنسان آخر، بل ولم يصنعه «إله».

إننا نصطدم بشيء لا نقوى على تغييره أو تبديله في قليل ولا كثير، ويفوق قدرتنا ويتجاوزها تجاوزًا تامًّا، شيء لم يُصنع ولا يقبل الصنع على الإطلاق، مهما أخذنا الكلمة بمعناها الرحب أو بمعناها الضيق. إننا نصطدم بما لم يُصنع. وهذا الذي يفوق قدرتنا ويعلو على كياننا هو الشيء الهائل المذهل، وعالم القوانين والعلاقات الرياضية بأسره عالم مذهل، ولا يرجع هذا إلى ثرائه العظيم وغناه بأمور عجيبة وظواهر مدهشة، بقدر ما يرجع إلى أننا نصادف فيه شيئًا أو يصيبنا منه شيء لم يُصنع. ولكن قوانين الفكر الخالدة التي يعبر عنها المنطق تصيب أنفسنا أيضًا وتؤثر عليها. وإذن فنحن لا نجرب — بالمعنى الواسع الحي لهذه الكلمة — بحواسنا فحسب، وإنما نجرب كذلك بفكرنا، بل إن الإنسان بقدر ما يفكر تفكيرًا حقيقيًّا — والمعروف أن هذا شيء نادر جدًّا في حياتنا — ولا يكتفي بممارسة النشاط الذهني بطريقة آلية وخارجية، وهو الأمر الطبيعي السائد بين الناس؛ بقدر ما يقوم بتجاربَ تفوق في دقتها ونفاذها كلَّ تجاربه المبنية على الإدراك الحسي، ويزداد حظه من النفاذ والعمق بمقدار ما يزداد تفكيره نقاءً وقوة؛ أي: بقدر ما يزداد تجريدًا. ذلك أن الفكر وما يصيب الإنسان أثناء التفكير أقرب إلينا وأشدُّ التصاقًا بحياتنا الباطنة؛ ومن ثم فهو أدق من الإدراك الحسي ومحتوياته. الواقع أن هذا كله معروف، ولكن يبدو ألا ضير من التذكير به في هذا المجال. بيد أن الفكر وما ينطوي عليه من التقنين ليس هو الشيء الوحيد الذي يصيبنا ويؤثر فينا إلى جانب الإدراك الحسي. إننا نجرب أنفسنا كذلك، لا من حيث ارتباطًا بطبيعتنا الجسدية والعقلية والنفسية المتفردة فحسب، ولا من حيث اختلافنا من ناحية الجنس؛ كأن يكون الواحد منا رجلًا أو امرأة، بل كذلك من حيث إننا لم نصنع أنفسنا ولا نملك القدرة على صنعها. وهذه التجربة التي تتصل بتجربة الأنا اتصالًا جوهريًّا هي بدورها تجربة أقوى وأعمق من كل تجربة حسية وفكرية. وقد رأى ديكارت أن خبرة الأنا المفكرة بذاتها تبلغ من القوة مبلغًا جعله يعتقد أن في إمكانه أن يجعلها الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة بأكملها، والهدف الحقيقي من تأملاته العظيمة هو أن يبين بوضوح أن اليقين الكامن في تجربة الأنا يفوق كل ما عداه من ضروب اليقين؛ بما في ذلك اليقين الرياضي نفسه. وإذن فالتجربة لا تقتصر على ما تدركه عن طريق الحواس؛ فنحن نقوم في مجال التفكير والخبرة الذاتية، كما بينا من قبل، بتجاربَ تفوق في حدتها وعمقها ونفاذها كل التجارب الحسية. ولكن إذا كان العالي، بوصفه ذلك الذي لا يُصنع، يدخل كذلك في هذه التجارب — لأن من الواضح أن أية تجربة لا بد أن يصحبها أو يدخل فيها نوع من العلو — فليست هذه التجارب مع ذلك بتجارب العلو الذي نسعى إليه، ولا هي بالتجارب المتعالية الحقة. ربما كان الغرض الوحيد من هذه التأملات هو زعزعة التحيز الطبيعي الذي يسيطر على الفهم العام، ويصور له أن التجربة مقصورة على التجربة الحسية. إن تجربة العلو بمعناه الدقيق الشامل لا بد أن تكون مختلفة تمامَ الاختلاف عن كل تجربة حسية، بل عن كل تجربة فكرية موضوعية؛ سواء تمت هذه التجربة الفكرية في مجال الرياضة أو في إطار المقولات، وسواء كانت تجربة منطقية أو أنطولوجية؛ لأن العالي نفسه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون موضوعيًّا ولا أن يكون موضوعًا. إن خلاف الذات–والموضوع، وهو الخلاف الذي يميز كل تجربة طبيعية ودنيوية، لا يمكن تطبيقه على تجربة العلو، بل إن تجربة الوعي المرتكزة على نفسها تتحدد كذلك من خلال هذا الخلاف أو هذا الفارق الأساسي الدنيوي. صحيح أن الذات والموضوع يلتقيان في تجربة الذات أو خبرة الأنا بنفسها، ويصبحان شيئًا واحدًا. وصحيح أن هذه التجربة تفوق في تلقائيتها ويقينها كلَّ ما عداها من تجارب طبيعية — كما أوضح ديكارت بصورة رائعة في تأملاته — ولكن يبقى مع ذلك أن الذات تجرب نفسها فيها كما تجرب موضوعًا، كما أنني أُصبح بالنسبة لنفسي موضوعيًّا على نحو من الأنحاء، وإن لم يبلغ بي الأمر أن أصير شبيهًا بشيء من الأشياء الموجودة في العالم الخارجي.

ومع ذلك، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يصبح العالي موضوعيًّا. إن حضوره من نوع آخر مختلف عن الحضور الموضوعي؛ فهو موجود هناك، ولكنه ليس موجودًا بحيث أناله أو أضعه في قبضتي. أضف إلى هذا أن العالي لا يمكن التفكير فيه كما لو كان شيئًا ما؛ لأنني إذا فكرت في شيء بوصفه شيئًا ما — وكل تفكير طبيعي من خلال المقولات هو من هذا النوع — فإنني بذلك أُدخله أو أُدرجه في تفكيري؛ على حين أن العالي هو الذي يتجاوز كل تفكير ويسمو عليه، فلا يمكن للفكر أن يجربه عن طريق التفكير فيه؛ لأن كل ما يملكه الفكر هو أن يصطدم به؛ بحيث يعجِز عن النَّفاذ إليه والتغلغل فيه، ويرد إلى نفسه بواسطة ذلك الذي اصطدم به، وبحيث إن ما يجربه الفكر في لحظة الاصطدام هذه يستعصي على التفكير فيه أو التعبير عنه. وإذن فإن الفكر المتعلق بالعلو مختلف تمامَ الاختلاف عن الفكر الطبيعي المعتاد الذي يتم وَفقًا لمقاييس الذهن؛ لأن هذا الفكر الأخير يفكر في موضوعه بوصفه شيئًا ما، ويستطيع أن يركز على ما يريد التفكير فيه، وأن يتريث عنده ليتأمله ويتدبره. أما ذلك الفكر فلا يمكنه أن يتصور موضوعه ولا أن يمسك به. إنه لا يستطيع أن يصل إليه إلا من خلال حركة تؤدي به حقًّا إلى نوع من «الاحتكاك» يفوق كل إدراك موضوعي، ويسمو عليه سموًّا لا حدَّ له، ولكن هذا «الاحتكاك» ولا يكون إلا شيئًا خاطفًا كالبرق الذي يلمع في الأفق لحظة واحدة. إن الملموس يردُّ على الفور من يلمسه ويُلقي به بعيدًا عنه. ولا يملك هذا أن «يتلبث» عند «موضوعه» إلا إذا كرر حركة الفكر من جديد. صحيح أن الموضوع قد يُفلت مني أيضًا عندما أفكر من خلال المقولات؛ وذلك حين أعجِز عن التركيز عليه تركيزًا كافيًا، وهذا شيء يتكرر على نحو أو آخرَ باستمرار. ولكن الأمر في حالتي هذه يختلف عن ذلك؛ فكلما اتجهت بكل تفكيري نحو «الموضوع»، وكلما أصبته أو خُيِّل إليَّ أنني أدركته، أُلقيتُ بعيدًا عنه ورُددت إلى الخلف.

إذا كنا نحاول من وراء هذه الملاحظات أن نشير إلى اختلاف تجربة العلو عن التجربة الموضوعية اختلافًا تامًّا، فإن واجبنا الأساسي هو أن نبين قصور هذه الحُجج وأمثالها. إننا نقف بذلك، إن صح هذا التعبير، على أرض التجربة الطبيعية بالعالم، ونرتكز على الفهم العام، محاولين الكشفَ عن تجربة العلو. ولكن هذا أمر لا سبيل إلى تحقيقه بغير تحفظات عديدة، بل إنه، إذا شئنا الدقة التامة، شيء متناقض أشدَّ التناقض. صحيح أننا أشرنا خلال هذا الشرح كله إلى عدم موضوعية العالي، ولكننا مع ذلك قد تكلمنا عنه كما نتكلم عن شيء يتصف بصفات الموضوع. ونحن نفعل هذا عندما نتكلم عن «العالي» أو نذكر اسمه، كما أن الاستعارات والصور التي استخدمناها في حديثنا عنه، مثل الإصابة واللمس والارتداد عنه، كلها استعارات وصور مستمدة من عالم الأشياء والموضوعات. وقد كان الهدف من اللجوء إلى أسلوب الاستعارة والتصوير في الفكر والقول؛ أن نوجه انتباه القارئ إلى مغايرة تجربة العلو لكل تجربة سواها. ولم يكن هدفنا على الإطلاق أن نعبر عنها أو نحاول تفسيرها. إننا سنجد أنفسنا ملزمين هنا أيضًا بطرح «السلالم» التي أشرنا إليها من قبل وإلقائها بعيدًا. وهذا أمر تحتِّمه الضرورة حتى لا نقع بسهولة في أسْر التحليلات السيكولوجية الزائفة، فتجربة العلو بمعناها الدقيق تجربة لا يمكن إدراكها بوسائل علم النفس؛ لأنها ليست حدثًا من الأحداث التي تتم داخل العالم، كما أنها لا تدرَك بوسائل علم الوجود (الأنطولوجيا). ومرجع هذا إلى أن العالي ليس وجودًا (أون) ولا موجودًا.

لا سبيل إلى تجربة العلو إلا في لحظة أو لحظات خاطفة خلال حركة فكرية، وحينئذ لا يمكن للمجرب نفسه أن يقبل التفكير فيه؛ ومن ثم لا يمكن التعبير عنه؛ ولهذا يتعذر كذلك الاحتفاظ به أو إعادةُ تذكُّره، وليس من سبيل للإبقاء عليه وتعمقه إلا بتكرار حركة الفكر مرةً بعد مرة.

ونحن نقوم بالحركات الفكرية في غير هذا المجال، على نحو ما نفعل مثلًا في برهان رياضي يتألف من عدة خطوات فكرية، كالبرهان على صحة القضية التي تقول إن مجموع زوايا المثلث تساوي ١٨٠ درجة، فإذا قمت بخطوات البرهان كل على حِدة تيقنت من صحة القضية. مثل هذا اليقين يمكننا أيضًا أن نتذكره، فإذا أسأت الظن بذاكرتي، كان عليَّ أن أعيد البرهنة من جديد لكي أتأكد من يقين القضية. على أن اليقين في هذه الحالة لا يكون يقينًا مطلقًا إلا في اللحظة التي أقوم فيها بالبرهنة على صحة القضية؛ ولهذا يقول باسكال مثلًا إن الأدلة الميتافيزيقية على وجود الله أدلة عقيمة لا جدوى منها؛ لأنها — وهي التي يُنتظر منها اليقين المطلق — لا تُقنع، إن أفلحت في الإقناع، إلا في اللحظة التي نقوم فيها بتتبع خطوات الدليل والتثبت من صحته. فإذا انقضت ساعة من الزمن، خالجَنا الشكُّ والخوف من الوقوع في الخطأ والوهم.٧٥ ولهذا يرى باسكال أن من الواجب علينا أن نتثبت من الدليل باستمرار حتى يمكننا أن نحتفظ باليقين.
ولكن الحركة الفكرية المؤدية إلى العلو ليست في الواقع عملية عقلانية من هذا النوع؛ فالعمليات العقلانية التي تتم غالبًا في مجال الرياضة والعلوم النظرية تخدم أهدافًا معينة، ويمكن القيام بها وتَكرارها في كل وقت، ولكن حركة الفكر الذي يسعى إلى العلو تختلف عن ذلك. صحيح أنه يمكن بيان الخطوات التي تؤدي للوثوب في العلو؛ فمعظم كتابات أفلوطين والميستر إكهارت على سبيل المثال تصف هذه الخطوات وتبينها. وفي استطاعتنا أيضًا أن نحاول تحقيق هذه الخطوات عند قراءتنا لهما، غير أن التحقيق الأصيل للفكر العالي يحتاج إلى التحكم الباطن والهداية الباطنة، وإلا لَمَا خرج الأمر من ناحية عن القيام بحركة فكرية تتم من الخارج، أو حركة تتم بالفكر ومن خلال سلسلة من الأفكار، لا بحركة فكرية مختلفة عن ذلك تمام الاختلاف، ولكان من الممكن — إن حاولنا بمثل هذه الحركة أن نفتعل الاصطدام بالعالي ونَقسِره قسرًا — أن نصاب من جرَّاء ذلك بأضرار باطنية بالغة الأذى. هذه أمور لا تحتمل اللهو والمزاح، وقد نبه ديكارت إلى هذا بقوة في إحدى رسائله التي بعث بها إلى صديقته الفيلسوفة الأميرة إليزابيث في اليوم الثامن والعشرين من شهر يونيه سنه ١٦٤٣م؛ فقد قال لها في هذه الرسالة إن تأملاته التي حاول فيها أن يصل بالفكر إلى قرار الأشياء وأصلها الأخير؛ لا يصح أن يقوم بها الإنسان إلا مرةً واحده في حياته، فإن كرر المحاولة أصابه أذًى شديد.٧٦
إذا كنا نتحدث في هذا السياق عن التحكم الباطني أو الهداية الباطنة، فليس معنى هذا أننا نتحدث عن شيء غيبي أو «صوفي» بالمعنى الشائع المبتذل الذي يُغلف هذه الكلمة الأخيرة بالغوامض والأسرار، بل نحن نقصد به التشريع أو التسويغ الباطني الذي لا يستغني عنه أيُّ «فكر أصيل». يقول شيلنج: إن «الواقعة الخالصة» لدى «التفكير الأصيل» ليست هي «أنا أفكر»، وإنما هي: أن شيئًا يفكر في، أو أنه يفكر في،٧٧ فالتفكير الأصيل بهذا المعنى هو «تركه يفكر في».

وإذا كنا نتكلم هنا عن الهداية أو التوجه الباطني لحركة الفكر، فينبغي علينا قبل كل شيء أن ننبه إلى أن حركة الفكر لا يصح بحال من الأحوال أن تتم لتحقيق هدف أو غرض؛ لأنني إن حققتها لكي أصطدم بالعالي أو أحتكَّ به، فقد أخطأت العلو من بداية الأمر.

إن حركة الفكر المتعالي ينبغي أن يتم توجيهًا من الباطن، وهذا شيء يمكننا أن نستخلصه من الشرح الذي قدمناه في موضع سابق، فقد أكدنا هناك أن حركة الانتقال ممن يُعلى فوقه إلى العالي لا تتم إلا إذا سبقها تأسيس علاقة من العالي مع من يعلو فوقه.

وإذن فهناك تجربة بالعلو، ولكنها تجربة مختلفة من حيث الماهية عن كل تجربة موضوعية وكل تجربة عقلية، بل إنه لَيتحتم علينا إذا انطلقنا من مفهوم التجربة الذي طورناه في هذا الحديث، أن نذهب إلى القول بأن العلو وحده هو الذي يمكن تجربته تجربة حقيقيةً أصيلة؛ ذلك أن تجربة العلو تفوق في عمقها وشدتها كلَّ التجارب الدنيوية التي تتم داخل العالم، ولأننا نُصاب عند معاناتها في صميم ذاتنا إصابةً مباشرة. والواقع أن مفهوم التجربة العادية ينطوي على معنًى جانبي يدل على التجربة الذاتية أو الشخصية، فالتجريب يحمِل على الدوام في طياته تجربةَ الذات، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يجرب العلو — بالمعنى الدقيق للتجربة — إلا بنفسه وحدها. هنا لا يملك أحد — فما يتصل بهذا الأمر الحاسم الأخير — أن يساعد أحدًا أو يأخذ شيئًا من أحد. وبهذا المعنى يتحتم أن تكون الهداية أمرًا باطنيًّا خالصًا، ويترتب على هذا أننا لا يمكن أن نقوم بالعلو بالاشتراك مع الغير، بل لا بد أن نقوم به وحدنا. وتجربة العلو هي أعظم التجارب حظًّا من المباشرة، وهي في حضورها تسمو على التجربة الطبيعية للأنا سموًّا لا حد له. ويعبر الميستر إكهارت عن هذا المعنى بقوله: «… إن الله أقرب إلى النفس من قربها لنفسها.»٧٨ وهذه كلمات بسيطة غاية البساطة، وقد كان الناس في عصره يفهمونها بلا عناء، كما كان الرجل البسيط البعيد عن الثقافة لا يجد صعوبة في إدراك معناها، ولا يزال كذلك إلى يومنا الحاضر قادرًا على هذا. ولكن كلمتَي «الله» و«النفس» لا تكاد اليوم تخاطبنا أو تؤثر فينا كما كانت تخاطب إنسان العصر الوسيط الذي يتجه إليه إكهارت بمواعظه، ومع ذلك فينبغي أن نلاحظ أن هذا الأسلوب في القول لم يكن في نظر إكهارت هو الأسلوب الصحيح ولا الأصيل. حقًّا إنه يتكلم هنا عن «الله» و«النفس» ولكنه يعلم تمام العلم، ويكرر ذلك دائمًا في مواعظه، أن الله والنفس «بلا اسم».

يقول جوته: «إن كل ما يعبر عنه الإنسان تعبيرًا طبيعيًّا حرًّا هو في حقيقته علاقة بالحياة.» وعلاقة العلو هي أعمق وأصدق «علاقة بالحياة»، ومع أن العلو نفسه لا يعبر عنه، فلا بد أن يكون من الممكن الكلامُ عنه كلامًا طبيعيًّا حرًّا، والعظات الألمانية التي ألقاها الميستر إكهارت دليل حي على صدق هذا القول.

إن لهذه التجربة درجاتٍ مختلفة من الشدة والعمق، ومن الممكن تحقيق تجارب الآخرين بشكل من الأشكال دون أن نكون قد خبَرناها بأنفسنا. ولو لم يكن الأمر كذلك، لَمَا أمكننا على الإطلاق أن نفهم كلمات من النوع الذي ذكرناه في عبارة إكهارت السابقة. ومن ناحية أخرى فإن تجربة العلو تجربة نعانيها كاملةً أو لا نعانيها على الإطلاق، ولا بد أيضًا أن نقوم بها وحدنا وبأنفسنا، وكلا الأمرين لا تناقض فيه؛ إذ يستحيل في هذا أيضًا أن نسير في تفكيرنا على درب واحد.

إن هوان شأن العالم وكل ما يتصل به لَمِن أهم خصائص تجربة العلو الأصيلة. وأود في هذا الموضع من الحديث أن أسوق ثلاثة شواهدَ ترجع إلى أزمنة متباعدة:

يقول أفلوطين في رسالته أو تاسوعته السادسة (٧ و٣٤) عن نفس الإنسان الذي ارتفع فوق كل شيء: «هناك لن ترضى أن تقايض بذلك (أي بالواحد) أيَّ شيء (أيْ: شيء من أشياء العالم كما تقول ترجمة ريشارد هاردر) حتى ولو عُرضت عليها السماء كلها؛ لأنها تعلم أنه ما من شيء أفضل منه ولا من شيء يبْلغ مبْلغه من الخير الأسمى؛ ذلك أنها لن تقدر عندئذٍ على مزيد من الارتفاع، وكلُّ ما عداه، حتى ولو كان في الأعالي، سيكون في نظرها نوعًا من الهبوط والانحدار.»

ويقول الميستر إكهارت٧٩ في موعظة بعنوان «هكذا يتجلى»٨٠ في أثناء كلامه عن مبدأ٨١ النفس المتحد مع المبدأ الإلهي: «من نظر في أعماق هذا المبدأ ولو لحظةً واحدة، تساوى لديه ألفُ مارك٨٢ من الذهب الخالص ﺑ «هلر» واحد زائف.» ويكتب لودفيج فتجنشتين في «رسالته المنطقية الفلسفية» قائلًا: «إن رؤية العالم على ضوء الأزلية، هي رؤيته ككلٍّ محدود، والشعور بالعالم بوصفه كلًّا محدودًا هو الشعور الصوفي.»٨٣

وربما تكون عبارة فتجنشتين هذه، التي تتميز بالدقة التي لا مزيد عليها، أكثرَ برودةً واتزانًا من عبارتَي أفلوطين وإكهارت السابقتَين، ولكن هذا لا يمنع أن التجربة الأساسية التي يعبر عنها هي التجربة نفسها عندهما.

بيد أن تجربة العلو لا تقتصر على التصوف بمعناه المحدود المعروف، فنحن نستطيع في مجال الفلسفة أن نشير إلى الاندهاش الذي وصفه الإغريق بأنه أصل الفكر الفلسفي. ولسنا نقصد به ذلك التعجبَ الذي ينصبُّ على موضوع واحد منتزَع من مجموع الكل، بل نقصد به ذلك الاندهاش الذي يتحول فيه كل شيء مألوف وعادي — أي: يتحول المألوف والمعتاد نفسه إلى شيء غير مألوف ولا معتاد — بل إلى أغرب الأشياء جميعًا وأبعدها عن الألفة. مثل هذا الاندهاش يفترض فعل العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق.

ويمكننا أن نشير أيضًا في هذا السياق إلى القلق بمعناه الحقيقي؛ أي: القلق الذي لا ينصبُّ على موضوع أو شيء محدد، كما هو الحال في حالة الخوف، وإنما ينزلق فيه كل شيء محدد ويُفلت ويغوص وباسكال يتحدث عن هذا الانزلاق في شذرة مشهورة من شذرات الأفكار؛ حيث يقول: «إنه لَشيء مخيف أن يُحس الإنسان بأن ما يملكه ينزلق منه.»٨٤ والفكرة كلها تتألف من هذا السطر الواحد، مثل هذا الانزلاق لكل شيء على الإطلاق يفترض كذلك تجاوز كل شيء على الإطلاق أو الخروج من كل شيء على الإطلاق.
إن جميع هذه التجارب تدور حول الخروج من كل العلاقات الدنيوية،٨٥ وهي تحمل طابع الوجد (الإكستازة)،٨٦ على أن نفهم هذه الكلمة بمعناها الأصلي في اللغة اليونانية؛ وهو: الخروج من (وأفلوطين يستخدم الكلمة بهذا المعنى الأصلي، انظر مثلًا: التاسوعة السادسة ٩، ١١).

إن هذه التجارب جميعًا تنصبُّ كما قدمنا على الخروج من كل ما يمتُّ للعالم بصلة. ولكن هذا لا يعني التخلي التام عن كل ما هو من العالم بسبب، بل إن القائم بفعل الخروج يعود فيتصل بالعالم؛ أي: بما تخلى عنه على نحو إيجابي أو سلبي. وهذه العودة إلى الاتصال بما تخلينا عنه هي التي تميز تجربة العلو عن التجربة الصوفية الحقيقية، التي تدل على الخروج — اللحظي — الكامل. ولهذا لم نصف هذه التجارب بأنها تجاربُ وجدٍ (خروج من/ إكستازيس)، بل اكتفينا بالقول بأنها تحمل طابع الوجد، ويهمنا أن ننتبه إلى هذا الحد الفاصل انتباهًا دقيقًا. صحيح أن كل ميتافيزيقا تحتوي على تصوف، ولكن العكس ليس صحيحًا على الإطلاق.

قد نسأل أنفسنا الآن إن كانت التجارب التي نتحدث عنها الآن، ونقصد بها تجربة الشعور الصوفي بهوان شأن العالم، وتجربة الاندهاش والقلق؛ تتصل ببعضها البعض بحيث لا تظهر إحداها بغير ظهور الأخرى، أو إن كانت بالأحرى مجرد درجات مختلفة أو جوانب متعددة من تجربة واحدة بذاتها. ولكننا بمثل هذه التساؤلات والتأملات لا ننزلق فحسب إلى النظر إلى هذه التجارب نظرتَنا إلى التجارب الأخرى، التي تقع على نفس مستوى المعطيات الداخلة في نطاق العالم، بل إننا نهرب من الواجب الذي تُلقيه علينا مثلُ هذه التجارب وحدها، وأعني به مواجهة ذلك «الشيء» أو «الكيان الهائل» أو ذلك «الآخر» المختلف عن كل ما عداه، والذي نجربه أثناء معاناتنا. وهذا شيء يحتاج فيما يحتاج إلى أقصى حد من وضوح الفكر ونُصوعه.

بهذا نختم الملحق الذي أضفناه عن العلو والتجربة، ووضعناه — وهذا أمر ينبغي أن ننتبه إليه — انطلاقًا من أرض الفهم العام. إن الفهم العام يتصلب حول نفسه وينكر كل ما عداه؛ ولهذا لا يمكن أن نبارزه إلا على أرضه. هذا شيء محفوف بالخطر؛ لأن العلو يمكن عندئذٍ أن يتحول بسهولة وسرعة إلى شيء أو ما يشبه الشيء، كما تصبح تجربة العلو تجربةً بين تجاربَ أخرى؛ على حين أنها شيء فريد وتجربة متفوقة على كل ما عداها من التجارب. وهو كذلك شيء محفوف بالخطر؛ لأنه ربما صور لنا أن العلو يمكن في نهاية الأمر أن يُفهم. ثم إن النظر إليه من على أرض الفهم العام معناه أن ننظر إليه بحيث يكون الأفق الأخير هو المألوف الذي لا نزاع حوله، والمفهوم الذي لا يقبل المناقشة. على حين أن العلو معناه الاصطدام بما هو غير مألوف ولا مفهوم. وحيثما تم هذا، التزم به الإنسان على نحو لا يسمح بالتراجع مرة أخرى إلى المألوف والمفهوم. إن المرء هنا لا يمكنه أن يفهم أنه لا يمكنه أن يفهم؛ لأن هذا أيضًا سيكون معناه التراجع إلى ما يقبل الفهم.

(٣-٤) عدمية الفهم العام

يؤمن الفهم العام بأن الكل هو الكل والعدم هو العدم، ونود هنا أن نصف الموقف الفلسفي الذي يقوم على أساس هذه المقولة الميتافيزيقية بأنه موقف عدمي، كما نصف مفاهيم العلو المتطابقة معها بأنها مفاهيم عدمية. وسنستخدم اصطلاح «العدمية» من ناحية بمعنًى أوسع من المعنى الشائع اليوم، ومن ناحية أخرى بمعنًى أكثر تحديدًا؛ أي: إننا لن نستخدمه بمعناه السياسي الذي روَّجته رواية تورجنيف «الآباء والأبناء»، ولا بمعناه العلمي أو الأخلاقي الذي يدل على رفض جميع القيم والمعايير الخلقية. ولكننا سنفهم الكلمة هنا فهمًا فلسفيًّا؛ على نحو ما فعل نيتشه عندما تكلم عن العدمية. ونيتشه — الذي يرجع إليه الفضل في جعل هذه الكلمة من الكلمات الأساسية في الفكر الغربي — يفسر العدمية بأنها «تجريد القيم العليا من قيمتها.»٨٧ ولما كانت القيمة العليا أو المبدأ الذي تقوم عليه هذه القيمة في رأي نيتشه أيضًا هو الله، فإنه يفسر العدمية تفسيرًا لاهوتيًّا. والواقع أنه يتفق بذلك اتفاقًا تامًّا مع أقدم تراث لهذه الكلمة؛ إذ نجد القديس أوغسطين يسمي الذين لا يؤمنون بشيء «بالعدميين».٨٨ بيد أننا لن نفهم الكلمة هنا فهمًا لاهوتيًّا ولا ميتافيزيقيًّا، بل سنفهمها فهمًا متعاليًا (ترانسندنتاليًّا)، على ضوء العلو فوق كل شيء على الإطلاق.

والفهم العام لا ينكر هذا العلو ببساطة؛ فذلك شيء لا يقدر عليه أي فكر إنساني، إنه يعرف العالي أيضًا، ولكنه لا يعرفه إلا بوصفه عدمًا ولا شيء. وميتافيزيقا الفهم العام ميتافيزيقا عدمية؛ لأنه إذا كان الكل هو الكل، والعدم هو العدم، فلا مفر من الانتهاء إلى أن الكل في نهاية المطاف عدم، والعدم كل، وهي نتيجة يستخلصها الفهم العام أحيانًا بكل صراحة، عندما يثور على العلو ثورةً ميتافيزيقية، ولكنها في العادة تسري في كل ما يفعله ويفكر فيه ويقوم بتقييمه سريانَ الاكتئاب العميق واليأس المطلق، وإن كان لا يعترف بذلك اعترافًا صريحًا.

إن ميتافيزيقا الفهم العام ميتافيزيقا عدمية، ولهذا فهو مضطر، لكي يتمكن من تأكيد وجوده أمام نفسه، أن يغلق أبوابه في وجه ميتافيزيقاه ذاتها. وهو يفعل هذا بمنتهى البساطة والغلظة — كدأبه في الولع بكل ما هو غليظ وثابت وملموس — فينكر وجود الميتافيزيقا إنكارًا مطلقًا.

عرفنا المقولة العدمية الأساسية، التي تقوم عليها ميتافيزيقا الفهم العام المعادية بطبيعتها للميتافيزيقا، بهذه العبارة: الكل كل، والعدم عدم. وهي تبدو في ظاهرها عبارةً واضحة وضوحَ الشمس، فكيف يجوز لإنسان أن يخالجه الشك فيها؟ الواقع أن الفهم العام يحب كل ما هو بسيط وبعيد عن الفروق والتعقيدات، بل إنه لَيلوذُ بنفسه و«بالعقل السليم»؛ ليحتمي بهما من كل ما يتصف بالتعقيد والرهافة والدقة. إنه لا يؤمن إلا بقواعد «قبضة اليد»، ولا يقتصر في هذا على الحياة العملية وحدها.

بيد أننا لو نظرنا في القسم الثاني من العبارة مجرد نظرة شكلية، عامة لوجدنا لأول وهلة أننا نواجه صعوباتٍ شائكةً وتناقضات لا حل لها؛ لأنه إذا كان العدم عدمًا، فلن نستطيع أن ننسُب إليه وجودًا من أي نوع، ولن نستطيع بالتالي أن نقول عنه إنه عدم؛ ولهذا يبدو هذا المفهوم وكأنه يُلغي نفسه بنفسه. ولكن العدم من جهة أخرى لا يمكن إنكاره بغير وقوع في التناقض؛ لأنني إن قلت إن العدم لا وجود له، فلا بد، لكي يكون لهذه العبارة الأخيرة أيُّ معنًى، أن أفترض بشكل من الأشكال وجود الشيء الذي أضعه موضع السؤال (لأنني لا أستطيع أن أتكلم عما لا وجود له، ولا أستطيع أن أفكر فيه؛ ومن ثم فلا يمكنني أيضًا أن أقول أو أفكر في أنه لا وجود له).

وإذن فلا يمكن إثبات العدم ولا إنكارُه بغير وقوع في التناقض. وهذه معضلات عقلية٨٩ مشهورة ومتصلة بما يُعرف بمفهوم «العدم المطلق». وقد بينها أفلاطون في محاورة «السفسطائي»، وناقشها مناقشة ديالكتيكية (جدلية) بلغت الغاية في القوة والروعة.٩٠

ولكن وجود الإشارة إلى هذه المعضلات — القديمة قِدمَ الفلسفة نفسها — يُعد في رأي الفهم العام دليلًا على مرض العقل، بل إن التفكير في العدم يُعد في رأيه، وعلى طريقته في قلب المفاهيم الأساسية، علامةً على ما يسميه بالعدمية. وما الفائدة من الاهتمام بفكرة العدم وديالكتيكه؟ إن الواجب يفرض علينا، بوصفنا بشرًا يعيشون على هذه الأرض، أن ننصرف إلى ما هو موجود أمامنا، ونشغلَ أنفسنا بهذه الحياة وهذا العالم؛ فالاهتمام بما يقع وراءهما أو خارج حدودهما لا نتيجة له ولا جدوى منه، بل إن الأسوأ من هذا أنه يَصرفنا عن النهوض بالواجبات الملحة التي يلقيها هذا العالم على أكتافنا.

ولكن هناك حقيقة بسيطة (هي بدورها حقيقة جدلية) تُفلت من الفهم العام في غمرة إلحاحه على هذا؛ ألَا وهي أنني لا أستطيع أن أتكلم عن «هذا» أو أفكر فيه بدون أن أتكلم وأفكر في نفس الوقت، ولو بطريقة ضمنية صامتة، في «ذاك» من نوع ما؛ وأن كلمة «فقط» الضئيلة التي يردِّدها في شعاراته (عندما يقول مثلًا: هذا العالم فقط) إنما تتضمن العدم الذي ينكره. هذا العالم فقط؛ هكذا يقول دائمًا، ويمكننا أن نكمل قوله بهذه العبارة: ولا شيء سواه. صحيح أننا نستطيع من الناحية اللغوية البحتة أن نُسقط عبارة «ولا شيء سواه»، ولكن هذا لا يغير شيئًا من الناحية الفكرية؛ فليست «الواو» في هذا التعبير هي واو العطف، وإنما تقوم بوظيفة الشرح والتفسير. إن التفكير في «فقط» لا يمكن أن ينفصل هنا عن التفكير في «لا شيء»؛ فقولنا: «هذا العالم فقط» أو الاكتفاء بقولنا: «هذا العالم»؛ يساوي نفس قولنا: «هذا العالم ولا شيء سواه.» أو — إن شئنا صيغة أدق — «هذا العالم ولا شيء خارجه.» ومع أن عبارة «ولا شيء خارجه» لا ترتبط ببقية العبارة إلا برباط واهٍ، إلا أنه يتوقف عليها تحديدُ ما نقصده ﺑ «هذا» عند قولنا «هذا العالم ولا شيء خارجه.» إن طريقة تفكيري وإدراكي «للَّاشيء» بصورة ضحلة أو عميقة، غامضة أو دقيقة، يتوقف عليها طريقة تفكيري وإدراكي للعالم من حيث كونه هذا العالم. وإذا كان تجاوز العالم تجاوزًا ظاهريًّا؛ أي: إذا كانت «خارجه» في قولي: «ولا شيء خارجه» مجرد مظهر فحسب، كان «اللاشيء» وكان العالم بالمثل مجردَ مظهر فحسب. بل إنني لو أنكرت كل ما هو «خارج العالم»، لَمَا أمكنني بحال من الأحوال أن أتكلم عن العالم.

والفهم العام في معظم الأحيان لا يفكر بطبيعة الحال في اﻟ «و»، الواردة في هذه العبارات وأشباهها بطريقة تفسيرية، وإنما يعُدُّها واو عطف فحسب: هذا العالم والعدم أو اللاشيء الذي يقع وراءه وخارجه، والشيء نفسه ينطبق على مفهوم الكلية: كل الأشياء أو الكل والعدم الذي يقع خارجه ويحيط به. وهنا يمكنني القول بأنني قد لا أستطيع حقًّا أن أفكر في الكلية أو الكل المطلق بغير أن أتصوره بشكل من الأشكال محاطًا بالعدم؛ بيد أن هذه الإحاطة، أيًّا كان نوعها، لا يمكن تصورها على نحو مشابه لتصورنا للأشياء في المكان؛ ﻓ «كل» الأشياء على إطلاقه لا يمكن أن يوجد «في» العدم كما توجد الأجسام التي يتألف منها العالم في المكان أو الفضاء (ولا ننسى أن هذه الصورة الأخيرة ليست هي الصورة المناسبة.) لا يمكن تصور العدم وكأنه قشرة تقع على حافة العالم وتلتف حوله … إنه يحيط بكل شيء، ولكنه في نفس الوقت يتغلغل في كل شيء. ولا يجوز مرة أخرى أن نتصور هذا التغلغل تصورًا مكانيًّا، على نحو ما نتصور مادةً تسري في كل شيء أو تلوِّن كل شيء؛ لأننا سنظل قادرين على التفرقة بين المادة وما تلونه؛ على حين أن الكل لا يمكن فصله عن العدم. وبالمثل فإن ما أصل إليه — عندما أتجاوز الحياة عن طريق الفكر — ليس شيئًا مضافًا إلى فكرة الحياة من خارجها، بل هو شيء يسري فيها ويتغلغل في كيانها، ولكن الفهم العام يتصوره ذلك التصور، فيظن مثلًا أن الموت هو خاتمة الحياة التي ستأتي إن آجلًا أو عاجلًا «لتُنهي» بالنسبة إليه كل شيء. على حين أن الموت، لو فكرنا فيه تفكيرًا حقيقيًّا، ليس شيئًا بعيدًا أو قريبًا، بل ليس شيئًا يمكن أن ننظر إليه كما ننظر إلى أي موضوع، وإنما هو حضور دائم، سر محير يلوِّن الحياة في كل لحظة بلونه.

ولكن الفهم العام الكامن فينا يقاوم هذه الحجج الجدلية، ويغلق نفسه دونها، ويُصر على مقولته الغليظة الراسخة: الكل كل، والعدم عدم. وهو مضطر أن يفعل هذا إذا أراد أن يؤكد نفسه وضيق أفقه — وهو ما يريده عنادُه المتأصل فيه دائمًا وأبدًا.

إن الفهم العام يتصور العدم — إن حاول أن يتصوره — في صورة الفراغ الأجوف العقيم، وهذا الفراغ في نظره شيء مفزع مخيف. إنه يسلِّم بغير مناقشة بأن العدم لا يكون إلا عدمًا سلبيًّا. ولكن العدم هو المفهوم المضاد للكل؛ ومعنى هذا أن تفكيري في العدم تفكيرًا عميقًا أو ضحلًا يتوقف عليه كذلك عمقُ تفكيري في الكل أو ضحالتُه. أضف إلى هذا أن الفهم العام يتصور العدم بوصفه حدَّ الكل. وإذا انطلقنا من هذه التصورات وأمثالها، لزم أن يؤدي بنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق إلى العدم السيئ، وأن ينتهي العلو المنشود إلى «العدمية»، والعدمية وحدها.

بيد أننا قد أوضحنا على الصفحات السابقة تلك الحقيقةَ الجدلية البسيطة التي تقول إن العلو فوق شيء يتضمن بالضرورة العلوَّ فوق الضد المقابل له؛ فأنا حين أرتفع فوق الكل، فإنما أرتفع كذلك فوق العدم الذي يُعد ضدًّا له. ومثل هذا الارتفاع لا يمكن أن ينتهي بي إلى العدم، والأمر كذلك إذا تصورنا أن الوجود والعدم مفهومان متضادان؛ إذ لا بد أن يؤدي العلو فوق الوجود إلى العلو فوق العدم، وقُل الشيء نفسَه عن الحياة والموت؛ إذ يلزم أن يؤدي العلو فوق الحياة إلى العلو أيضًا فوق الموت.

غير أن هذه الاعتبارات الشكليةَ الجدلية لا تُقنع ولا تُرضي، وهذا حق؛ لأنها ستظل فارغةً حتى نتمكن من إدراك مفهومَي الكل والعدم إدراكًا تأمليًّا، ونملأهما بالمضمون الفلسفي.

وعلينا الآن أن نفعل هذا.

١  Transcendentia.
٢  بالألمانية يمكن ترجمتها بكلمات ثلاث هي Das übersteigen – Die übersteigung – Der übersteig، وكلها تفيد الصعود مع فروق وظلال طفيفة.
٣  وهي اﻟ Sunma Theologica، ويقول النص اللاتيني الأصلي: ما يعلو فوق الطبيعة quod transcendit naturam أما ترجمته للألمانية الوسيطة فتقول: daz da übergat die nature.
٤  qui audet me راجع أعمال الميستر إكهارت، نشرها وترجمها: يوسف كوينت، ١٩٥٨، ١٩٦٣–١، ١٩٣.
٥  إيبانودوس Epanodos επcνoδoς.
٦  أي: إن Transcendent لا تعني نفس ما تعنيه Transeunt التي لا تميز عنها في كثير من النصوص تمييزًا دقيقًا؛ كما رأينا في النص السابق المترجم إلى الألمانية الوسطى؛ إذ إن الأولى تزيد من مجرد العبور أو الانتقال إلى.
٧  Immanenz – Immanence.
٨  Immanent.
٩  Transeunt.
١٠  Transcendent.
١١  نص العبارة الأصلية:
deus est omnium rerum Causa immanens, nen vero Transiens.
١٢  تتفق مع هذا مقابلة الميستر إكهارت بين البقاء في أو الكمون innebleibe، وبين التجاوز أو العلو uzkomen – uzgan.
١٣  Steignog.
١٤  ياسبرز، مدخل إلى الفلسفة، ١٩٦٣م، ص٣٢.
١٥  قارن مثلًا كتاب هيدجر «ماهية السبب»، الطبعة الثالثة، ١٩٤٩م، ص١٧، وكتابه «مشكلة الوجود»، الطبعة الثانية، ١٩٥٩م، ص١٨.
١٦  كانط، نقد العقل الخالص، ب ٣٥٢ B 352.
١٧  فتجنشتين، الرسالة المنطقية الفلسفية ٦–٤٢١.
١٨  فتجنشتين، الرسالة المنطقية الفلسفية، ٦–٤١ و٦–٤٢ و٦–٤٢١.
١٩  Das Absolute-l’absolut ومن حسن الحظ أن الكلمة العربية تفيد نفس المعنى الأصلي، وهو الانطلاق من كل القيود والتحديدات.
٢٠  Docta ignorantia من أهم مؤلفات نيقولاوس الكوزاني، وقد يمكن ترجمة عنوانه «بالجهل العالم»؛ أي: الجهل الذي نصل إليه عن طرق المزيد من العلم؛ بحيث نصل في النهاية إلى العجز عن إدراك ماهية الله.
٢١  Contractum قارن هوفميستر؛ قاموس التصورات الفلسفية، الطبعة الثانية، ص٦ وما بعدها.
٢٢  المرجع نفسه والصفحة نفسها.
٢٣  نص عبارة أنسيلم: ld quo majus Cogitari non potest.
٢٤  Ens Summe Perfectum.
٢٥  هيجل، الأعمال الكاملة في عشرين مجلدًا، نشرة جلوكنر، ١٩٢٧م، المجلد العاشر، ص٣٥.
٢٦  ويحدَّد في الطبعات العلمية برقم ٥٠٩ ب 509 b من الباب السادس (ص ١٣٩–٢٤٠ من الترجمة العربية للدكتور فواد زكريا).
٢٧  هكذا تقول الترجمة العربية، وهي قريبة من المعنى، ومن الترجمة الحرفية: يفوق الوجود في الرتبة والقوة.
٢٨  حرفيًّا Epekeina Tes ousias (إبيكاينا تيس أوزياس).
٢٩  ύπερεxoντoς هي الكلمة التي يستخدمها أفلاطون من الفعل «هيبر خاين» jкερέxειν (أي: يفوق أو يسمو).
٣٠  هيبر Hyper.
٣١  ١٥٨ ح من الجمهورية حرفيًّا τoῡ ὄντoς τò oανστατoν.
أبهر ما في الوجود «نورا» كما تقول الترجمة العربية ص٢٥١ (٥١٨) الكتاب السابع.
٣٢  ٥٠٥ أ أرفع موضوع للمعرفة، ص٢٢٣.
٣٣  Eidos ذو شكل، وهي الأصل في كلمة idea مثال.
٣٤  أسطورة الكهف أو رمزه أو تشبيهه.
٣٥  كانط، الأعمال الكاملة، طبعة كاسيرر، المجلد الثامن، ص٢٣٨.
٣٦  وذلك في رسالة له إلى ماركو هيرتس.
٣٧  على نحو ما يعبِّر هيدجر مثلًا الذي يُعد تجاوز الميتافيزيقا جوهر تفكيره في الوجود.
٣٨  metaphysica specialis.
٣٩  Theologia.
٤٠  ὰκρστατoν ǒν (أكروتاتون أون).
٤١  sειoν (ثيون).
٤٢  كارل ياسبرز، مدخل إلى الفلسفة، ١٩٦٣م، صفحة ٢٩ وصفحة ٨٩–٩٠ من الترجمة العربية للدكتور محمد فتحي الشنيطي، مكتبة القاهرة الحديثة، ١٩٦٧م.
٤٣  Mémorial التذكار أو الذكرى؛ إشارة إلى ليلة شهيرة هي ليلة الإثنين ٢٣ نوفمبر سنة ١٦٥٢م التي عانى فيها باسكال بحريته الدينية أو الصوفية، وسجَّلها بين الفرح والدموع على ورقة صفراء كان يحملها دائمًا في قميصه وعُثِر عليها بعد موته.
٤٤  FEU.
٤٥  Beati pauperes spiritu، وتجدها ضمن كتاب جوزيف كوينت: نصوص من المتصوفة الألمان في العصر الوسيط، ١، ١٩٢٩م، ص٢٢ وما بعدها.
٤٦  جوزيف كوينت، المرجع السابق، ٥، ٢٠٥.
٤٧  Qui audet me.
٤٨  المرجع السابق و١ و١٩٦.
٤٩  unio mystica.
٥٠  Aϑελε πάντα (أثيلي بانتا).
٥١  Gelassenheit، وهي اصطلاح أساسي في لغة إكهارت، وتدل في معناها اللغوي العادي على حالة التوازن والهدوء والتجمع النفسي التي تترتب على التخلي عن كل شيء. وربما كانت الكلمة متصلة من قريب أو من بعيد بفعل lassen الذي يعني الترك والتخلي في اللغة العادية أيضًا.
٥٢  إشارة إلى استحالة النظر من المطلق إلى ما يقع خارجه.
٥٣  أي εσν بلغة بارمنيدز القديمة تمييزًا لها عن σν.
(أون) الشائعة في الكتابات الفلسفية المتأخرة.
٥٤  ثياتيتوس ١٧٩ د (179 d).
٥٥  السفسطائي ٢٤٦ أ (246 a).
٥٦  ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا) ١٠٢٨ ب.
٥٧  تلاحظ هنا وفي السطور التالية الإشارة إلى فعل الوجود أو الكينونة (is – est – ist) الذي يلازم كل قضية ننطق بها في اللغات الأوروبية، أما اللغة العربية فتستغني عنه في معظم الأحوال ليصبح فعلًا مضمرًا كما تقول مثلًا: «محمد شجاع.» ولا تقول: «محمد يكون شجاعًا.»
٥٨  الميتافيزيقا ١٠٠٣ ب.
٥٩  المعروف أن الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط قد حددت الخصائص الأساسية التي يتصف بها الموجود وتلزم عن ماهيته مباشرة، كما تصاحبه على الدوام بأنها ترانسندنتالات Transcendentals تعلو على كل المقولات والتصورات النوعية، وهم يذكرون منها في الغالب ستة؛ هي: الشيء، والموجود، والواحد، والحق (بالقياس إلى المعرفة)، والخير (بالقياس إلى الإرادة)، والمادة (للتفرقة بينه وبين غيره من الموجودات).
٦٠  من كلمة هين εν أي: واحد.
٦١  الإشارة هنا إلى الشطر الثاني الذي تتكون منه كلمة أنطولوجيا؛ أي: إلى «اللوجيا» (علم–معرفة) التي تأتي من اللوجوس (الكلمة، النطق، العقل).
٦٢  σν.
٦٣  εν.
٦٤  τηντoν.
٦٥  أفلوطين، التاسوعات ٦، ٩، ٢.
٦٦  فضَّلت الإبقاء على هذا المصطلح بدلًا من «الأحادة» أو «الكائن الروحي الفرد» أو «الجوهر الفرد» أو غيرها من الترجمات التي يختلف حظها من التوفيق أو الإخفاق، ومن الوضوح أو الغموض؛ تبعًا لفهمنا لمذهب ليبنتز في المونادولوجيا. راجع كتابي: المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي، ترجمة وتقديم وتعليق، القاهرة ١٩٧٤م، دار الثقافة للطباعة والنشر.
٦٧  يريد المؤلف كلمة الوجود أو الكينونة بالألمانية في حالة المصدر، وهي Sein.
٦٨  هنا يستخدم المؤلف فعل الكينونة is – ist يوجد أو يكون.
٦٩  هيدجر، نظرية أفلاطون عن الحقيقة، مع رسالة عن النزعة الإنسانية، ١٩٤٧م، ص٥٣.
٧٠  ens rationis.
٧١  الكمون (أو المحايثة) Immanence – Immanenz، وتأتي الكلمة من الفعل اللاتيني الذي يدل على البقاء في الداخل، وهذا هو المعنى الذي أخذه بها كانط؛ بمعنى البقاء في حدود التجربة الممكنة وعدم تخطيها إلى ما يكون وراءها أو فوقها أو شرطًا ومبدأً لها. وبهذا المعنى تكون أية فلسفة تقول بوحدة الوجود فلسفة كُمون أو مباطنة، كما تكون الفلسفات المثالية الذاتية بصورة أو أخرى فلسفات «كمون»؛ لأنها تردُّ عالم الموضوعات والواقع الخارجي إلى الذات أو الوعي، أو على الأقل تعطي الصدارة للذات والوعي ومضموناتهما. وقل مثل هذا بطبيعة الحال عن الفلسفات «الأنانية» التي تردُّ كل شيء إلى «الأنا» وأحوالها وتصوراتها مثل فلسفة ماكس شتيرنر. ومن الملاحظ أن القواميس الفلسفية تكاد تُجمِع على أن الإماننس عكس الترانسندنس. وقد فنَّد المؤلف هذا الرأي من قبل؛ إذ بيَّن أن مقابل الكامن (الإماننت immanent) هو المنتقل إلى transeunt-transiens، وهو نوع من المفارقة على كل حال، ولكنه لا يطابق التجاوز والعلو بالمعنى المطلق المقصود في هذا الكتاب. هذا وهناك فلسفة تُعرف بفلسفة الكمون، وقد قال بها فيلهم شوبه W. Schuppe (١٨٣٦–١٩١٣م) الذي أصدر سنة ١٨٩٧م كتابًا بهذا العنوان، ومجمل مذهبه أن الوجود هو مضمون الوعي أو الشعور، وأنه لا يمكن تصور وجود بغير وعي ولا موجودٍ بغير ذاتٍ تفكر فيه. وهي فلسفة تفرغت عن النزعة الوضعية.
٧٢  أعمال كانط، طبعة كاسيرر، ب ٢١٩.
٧٣  يشير المؤلف هنا إلى الاصطلاحين الأساسيَّين في فلسفة كانط النظرية؛ وهما الفهم Understanding – Verstand؛ وهو مَلكة المفاهيم أو التصورات. والعقل Reason – Vernunft؛ وهو ملكة الأفكار.
٧٤  تدور تأملات المؤلف في هذا الموضع على المعنى الاشتقاقي لكلمة erfahren (يجرب/يختبر) Widerfahren (يصيب الإنسان أو يحدث له بحيث يتأثر به ويعانيه)، وقد حاولت التعبير عن هذه المعاني التي يصعب نقلها إلى لغة أخرى، ولا أدري مدى نصيبي من التوفيق.
٧٥  راجع الأفكار، طبعة برونشفيج، الفكرة ٥٤٣.
٧٦  ديكارت، الأعمال الكاملة، طبعة آدم وتاتري، المجلد الثالث، صفحة ٩٢ وما بعدها.
٧٧  شيلنج، الأعمال الكاملة، طبعة ميونخ التذكارية، المجلد الخامس، ص٨٣. ويذكرني هذا القول بعبارة مشابهة قالها الشاعر العظيم رامبو، راجع الفصل الخاص به في كتابي ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر، القاهرة ١٩٧٢م.
٧٨  المؤلفات الألمانية، نشرها وترجمها يوسف كوينت، ١٩٥٨، ١٩٦٣م، الجزء الأول، ص١٦٢.
٧٩  المرجع السابق، الجزء الأول، ص٩٠.
٨٠  عنوانها الأصلي باللاتينية: In hoc apparuis، وهي عن عبارة من إنجيل يوحنا (٤ و٩) هكذا: تتجلى محبة الله لنا في أنه أرسل ابنه إلى العالم لكي نحيا به ومعه.
٨١  الكلمة الأصلية هي Grund، وهي كلمة عسيرة على الترجمة؛ فهي في الأصل الأرضية والأساس، وهي كذلك العمق، والقرار، والعلة، والمبدأ، والسبب. وهي على الجملة تجمع بين معاني العمق والبداية والنهاية والأصل.
٨٢  المارك هو العملة الألمانية المعروفة التي تقابل العشرة قروش المصرية أو الليرة اللبنانية. أما الهلر Heller، فهو عملة ألمانية ضئيلة القيمة.
٨٣  الرسالة المنطقية الفلسفية، ٦–٤٥.
٨٤  الأفكار، طبعة برونشفيج، الفكرة رقم ٢١٢.
٨٥  أي كل العلاقات الداخلة في إطار هذا العالم.
٨٦  الإكستازة Ekstasis، وقد اصطُلح على ترجمتها في اللغات المختلفة بالوجد أو الجذب أو العاطفة المشبوبة التي تتملك الإنسان حين يتملكه شيء أسمى أو أقوى منه، ولكن المعنى الأصلي أدق وهو الخروج من … أي: من العالم بكليته.
٨٧  راجع إرادة القوة، القطعة الثانية.
٨٨  nihilist.
٨٩  Aporien.
٩٠  السفسطاني، ٢٣٧ب إلى ٢٣٩ج.
وانظر الترجمة العربية، عن الأصل لليوناني، للأب فؤاد جرجي بربارة، من ص١١٩ إلى ص١٢٧ (الفصل الثالث، مشكلة الخطأ ومسألة اللاوجود) دمشق ١٩٦٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤