المبحث الجدلي في العلو

(١) العلو والجدل١

ليس من السهل أن نعبر تعبيرًا مباشرًا عن ماهية العلو نفسه وطبيعته، بل ليس من الممكن، إذا التزمنا الدقة في التفكير، أن نسأل عن ماهيته؛ ذلك أن كل سؤال عن «ما هو»، بل كل سؤال مباشر، يأخذ «المسئول عنه» منذ البداية مأخذَ شيء ما؛ على حين أن العلو لا يمكن أن يكون شيئًا أي شيء. فإن أنا سألت: ما العلو؟ فقد أخطأ سؤالي موضوعه.

غير أن هذا لا يستلزم بالضرورة أن نسكت عن الكلام عن العلو — إذ لو كان الأمر كذلك ما أمكننا أن نلقي هذه المحاضرة أو ندوِّنها في كتاب. فالواقع أننا نستطيع في هذا المجال أن نقدم عددًا كبيرًا من العبارات المحددة كلَّ التحديد … ومع هذا فلا ينبغي أن نتوقع من هذه العبارات أن تسلك في النهاية في نسق أو نظام معين. إن فكرة النسق أو النظام بمعناها الميتافيزيقي الدقيق مرتبطةٌ بالفكر الحديث، أي بالفلسفة منذ عهد ديكارت إلى هيجل ونيتشه، كما أنها مرتبطة بفكرة «الاكتمال» و«التمام» و«الانغلاق»، وهذا — على حد تعبير كانط — هو الذي «يجعل النظام ينمو من الداخل، ولكنه يجعله عاجزًا عن النمو من الخارج.»٢

ولكن العلو مرتبط، كما رأينا، بالانفتاح، فكيف يمكنه أن يوضع في إطار معرفة مغلقة أو يعبَّر عنه من خلالها؟

من المستحيل أن يكون هدف الفكر المتعالي هو الوصول إلى أي نظام معرفي والاندماج فيه، والأَولى به أن يكون هدفه هو التحطم على العلو؛ لكي يتخلص من معرفته المزعومة به أو المتصورة عنه. مثل هذا الفكر لا يعبر عن نفسه في صورة نسق مغلق من المفاهيم، وإنما يعبر عنها في صورة اندفاع باطني متجدد ينطلق به نحو ذلك الذي لا قِبل له بالتفكير فيه، أو ذلك الذي لا يقبل أن يكون موضوعًا للتفكير.

إن تجربتنا الوحيدة الممكنة بالعلو هي التجربة التي تُشعرنا بأن مفاهيمنا وتصوراتنا تتحطم عليه؛ لأننا نحس من هذا التحطم إحساسًا واضحًا لا لَبس فيه أننا نجرب ذلك الذي تتهشم أو تتحطم عليه كلُّ مفاهيمنا؛ بحيث نعجِز في هذه الحالة عن التفكير فيه أو التعبير عنه.

توصلت الفلسفة منذ عهدها الباكر — على يد هيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون — إلى نظرة أو رؤية عميقة فحواها أن الواقع الحق لا يمكن إدراكُه إدراكًا حسيًّا ولا تصوُّره في صورة عِيانية. وقد بقي علينا أن نمضي إلى أبعدَ من هذا، ونخطوَ الخطوة الأوسع التي حققها أفلوطين بفكره تحقيقًا فعليًّا صريحًا مع نهاية الفلسفة اليونانية وفي أوج اكتمالها، ونعني بهذه الخطوة أن نتبين بصورة واضحة أن الواقع الحق لا يقبل التفكير فيه، أو يأبى أن يكون موضوعًا للفكر الذي يقصُر دونه.

وقد استطاع كيركجارد في العصر الحديث أن يعبر تعبير فريدًا عن عدم إمكان التفكير في المطلق أو عدم قابليته للتفكير فيه؛ وذلك في الفصل الثالث العميق الذي نجده في كتابه «فتات فلسفي» تحت عنوان: «المفارقة المطلقة، نزوة ميتافيزيقية …» يقول كيركجارد: «ربما بدت هذه مفارقة، ولكن يجب ألا نسيء الظن بالمفارقة؛ لأنها هي عاطفة الفكرة، والمفكر الذي يخلو فكره من المفارقة كالعاشق الذي أَقفر قلبُه من العاطفة، إنه مجرد سيد عادي متوسط الحال، ولكن أقصى ما يمكن أن تبلُغَه طاقة العاطفة هو دائمًا أن تريد انهيارها؛ ولهذا كانت العاطفة القصوى التي يمكن أن يصل إليها الفَهم هي أن يريد الصدام أو الاصطدام،٣ على الرغم من أن هذا الصدام لا بد أن يكون فيه انهيارُه بصورة أو أخرى، تلك إذن هي المفارقة العظمى للفكر؛ أن يسعى إلى اكتشاف شيء لا يستطيع هو نفسُه أن يفكر فيه.»٤
ويضيف كيركجارد بعد هذا بقليل أن الناس بحكم العادة لا تكتشف هذا، ويضرب مثلًا لذلك بالمشي، فالعلماء الطبيعيون يقولون إن المشي ليس إلا سقوطًا أو تعثرًا مستمرًّا، ولكن الرجل المنظم المحترم الذي يذهب إلى مكتبه صباحًا ويعود إلى بيته ظهرًا؛ سيرى في أغلب الظن أن هذا ينطوي على مبالغة شديدة: «وكيف يخطر على باله أنه يسقط باستمرار، وهو الذي يمشي في خط مستقيم؟»٥
ينبغي أن نفهم القضية التي طرحناها الآن — وهي أن الواقع الحق أيضًا لا يقبل التفكير فيه أو يتأبى ويستعصي عليه — على وجهها الصحيح، ولا نعمِد إلى التبسيط المخلِّ بها. وعلينا أن ننبه في هذه القضية إلى هاتين الكلمتين اللتين نود أن نؤكدهما، وهما «الحق» وأيضًا «أن الموجود الفرد في خصوصيته التي لا يمكن الإخبار عنها — مثل هذه الشجرة أو هذه المائدة — يستعصي كذلك على التفكير؛ لأن العام هو قوام الفكر.»٦ وإذا شئنا الدقة فإنني لا أملك غير الإشارة إلى الفردي الخاص، ولكن هذه الشجرة أو هذه المائدة يمكن مشاهدتها أو رؤيتها رأيَ العين.٧ والشخص الذي أُلفتُه إليها بالإشارة يراها ببصره، ويدركها في نفس الوقت بما تتميز به من خصوصية لا يمكن التفكير فيها ولا التعبير عنها. وإذن فالموجود الخاص الفريد لا يمكن التفكير فيه، وإنما تمكن مشاهدته، وهو، من حيث إمكان مشاهدته، موجود واقعي، ولكنه ليس الواقع الحقيقي، أو — إن شئنا تعبيرًا أكثر تطرفًا — ليس هو الواقع، وإذا أردنا مزيدًا من التطرف أو الحدة في التعبير أمكننا أيضًا أن نقول ببساطة: إنه ليس هو أﻟ ؛٨
إن عدم إمكان رؤية الواقع الحقيقي رؤية عيانية أو إدراكِه إدراكًا حسيًّا؛ هو كما قلنا قضيةٌ توصلت إليها الفلسفة في عهودها المبكرة، وعن طريقها تعود الفلسفة إلى قوامها الحقيقي وعنصرها الأساسي، أعني إلى الفكر الخالص، ولكن الواقع الحقيقي في نظر الفلسفة القديمة٩ قابل للتفكير فيه وإدراكه بالفكر، وإن كان هذا لا يتيسر للإنسان، بوصفه كائنًا متناهيًا محدودًا، إلا بصورة تقريبية. والحقيقة أن الاقتناع بإمكان التفكير في الواقع يُعد مسلَّمةً واضحة وشرطًا بديهيًّا تقوم عليه كل البحوث الطبيعة والفيزيائية، وقد عرَفَت الفيزياء الحديثة منذ عهد طويل أنه ليس هناك ما يبرر القول بحتمية التعبير عما نسميه «الواقع» — كبناء الكون أو بناء الذرة — في صورة عيانية، وليس هناك أيضًا ما يحتِّم ضرورة تكوين تصوُّر له أو صنع نموذج عنه. كما أن كل شيء الآن يؤيد القول بأن الشكل الحقيقي للكون، وكذلك الشكل الحقيقي للذرة، لا يمكن تصورهما في صورة عيانية … ومع ذلك فإن من الممكن التفكير فيهما؛١٠ لأن من الممكن التعبير عنهما تعبيرًا رياضيًّا. وبغير هذه المسلَّمة التي تقول بإمكانية التفكير فيهما أو قابليتهما للتفكير — وهذا شيء مختلف عن تصويرها في صورة عيانية أو إمكانية تصورها وتمثُّلها — يصبح البحث الفيزيائي أو الرياضي بلا معنًى.
بيد أن القضية التي بسطناها، من وجهة نظر العلو، تقول بأن الواقع الحقيقي يتأبى على التصور العياني كما يتأبى على التفكير. ولا يعني هذا بأية حال من الأحوال أن نُسقط التصور العياني والتفكير، أو نظن أنهما قد أصبحا شيئًا سطحيًّا، وإنما يعني أن مفهوم العلو نفسه ينطوي على عدم إمكان الشعور بمغايرته إلا عن طريق العلو فوق «الهذا» المألوف.١١ وكلمة «فوق» في الجملة الأخيرة تعني التجاوز، كما قدمنا، ولا تعني مثلًا البعد أو الهروب.

ولكن كل «فوق متجاوزة» تتضمن — إذا فهمناها فهمًا حقيقيًّا — معنى «من خلال». فالعلو فوق العالم على سبيل المثال يراد به في الحقيقة العلو فوقه أو تجاوزُه من خلال التغلغل في أعماقه. وقد يستطيع الانزواءُ أو الانسحاب من العالم أن يبعدنا عنه، ولكنه لن يمكِّننا أبدًا من تجاوزه. كذلك فإن العلو فوق ما يمكن التفكير فيه أو يقبل التفكير فيه؛ معناه تجاوزه من خلال التغلغل فيه.

وإذن فالفكر لا يسقط البتة أثناء العلو، وإنما يتصاعد ويبلغ أقصى ما يمكن بلوغُه من عذاب العاطفة، كما قال كيركجارد في كلمته السابقة: أجل! إن عاطفة الفكر هذه هي شرط كل علو.

إن الفكر في تجربة العلو يصطدم بواقع لا يعجِز فحسب عن التفكير فيه، بل إن نظام تصوراته ومفاهيمه يتحطم ويتهشم عليه.

والدليل المعروف بالدليل الأنطولوجي على وجود الله للقديس أنسيلم الكانتربيري (١٠٣٣–١١٠٩م)؛ يمكن أن يكون مثلًا على هذه الحركة الفكرية والتجربة الفكرية المفعَمة بالعاطفة الجياشة المعذبة، فالعلو — أو الله في لغة هذا المفكر الذي عاش في العصر الوسيط — يُعرف في نهاية الحركة الفكرية التي تسري في هذا الدليل. (والأمر هنا يتعلق بحركة فكرية لا بنسق جامد ساكن من الأفكار؛ أي: إنه ليس دليلًا من نوع الأدلة التي نجدها في الرياضة). نقول إن العلو يُعرف بأنه ذلك الذي لا يمكن التفكير فيما هو أعظم منه.١٢ وبينما تستيقظ تلك العاطفة الفكرية التي تحدَّث عنها كيركجارد وقال إنها تتسم بالمفارقة، يتبين أن هذا التعريف يُلغي نفسه بنفسه، وأن الفكر لا يمكنه أن يتوقف عنده، بل يجد لزامًا عليه أن يتقدم نحو تعريف آخر يدل في الحقيقة على «انهيار» الفكر. فإذا كان الله هو ذلك الذي لا يمكن التفكير فيما هو أعظم منه، فيلزم بالضرورة — وهذه هي النتيجة التي يستخلصها أنسيلم — أن يكون أعظم من أن يقبل التفكير فيه على الإطلاق،١٣ ولو لم يكن الأمر كذلك لأمكن التفكير فيها هو أعظم من ذلك الذي لا يمكن التفكير فيما هو أعظم منه.

إن الفكر، من حيث هو فكر، يتحتم عليه التفكير في ذلك الذي لا يمكن التفكير فيما هو أعظم منه، وهو إذ يخضع لهذه الحتمية فإنما يصطدم بما لا يمكن التفكير فيه على الإطلاق؛ أي: إن الفكر يصطدم في أثناء هذه الحركة الفكرية بما يعلو فوقه ويتجاوزه هو نفسه، ولا سبيل إلى التفكير فيه (لاحظ أننا نقول: ما يعلو فوقه ولا سبيل إلى التفكير فيه؛ إذ إن الموجود الفردي الحسي المتعين لا سبيل أيضًا إلى التفكير فيه؛ إنه يقع خارج الفكر ولكنه لا يعلو عليه، بل العكس هو الصحيح؛ فالفكر يعلو فوق الحسي المتعين.) هذه التجربة التي يمر بها مَن يقوم بالحركة الفكرية، هي التي تنطوي في الحقيقة على الدليل المعروف «بالدليل الوجودي» على وجود العلو أو وجود الله، أجل إنه هو أقوى دليل وجودي يمكن تصوره؛ إذ يستحيل أن يكون هناك دليل على وجود شيء ما أقوى من الدليل الذي يثبت لي وجوده عن طريق تحطيمه إياي — وتحطيمه إياي — يساوي في هذه الحالة تحطيم فكري.

ونود أن نصف مثل هذا الفكر الذي يتحطم على «ما لا سبيل للتفكير فيه» بالفكر الجدلي (الديالكتيكي). وقد اخترنا هذه الصفة لكي نربط ما نقصده بالتراث التقليدي ونميزه عنه في آن واحد. وهناك ثلاث خصائص عامة تميز المفهوم التقليدي للجدل:
  • (١)

    الفكر الجدلي فكر خالص.

  • (٢)

    الفكر الجدلي فكر متحرك (ديناميكي)، لا فكر ساكن (ستاتيكي).

  • (٣)

    الفكر الجدلي يتجه نحو المطلق.

هذه الخصائص الثلاث جميعًا نجدها متوفرةً في مفهوم أفلاطون عن الجدل، وقد كان أفلاطون أول من صبغ هذا المصطلح بالصبغة الفلسفية، ويمكن بشيء من التبسيط أن نقول إن الجدل عند أفلاطون هو ذلك الفكر الذي يحرك المُثل من حيث هي مُثل، ويصعد من بينها إلى المثال الأعلى، ومن هناك يعود إلى الهبوط. والخاصية الأولى من خصائص الجدل، وهي الفكر الخالص، تتمثل في أن الجدل الأفلاطوني لا يتعامل إلا مع المُثل من حيث هي مُثل؛ على العكس من الفكر العادي أو اليومي ومن الفكر العلمي، فهذان يفكران أيضًا في كل شيء على ضوء المثل، ويهتديان بهما في كل خطواتهما؛ أي: إنهما ليسا عميانًا عن المُثل بأي حال من الأحوال، ولكنهما عاجزان عن استحضار المُثل نفسها أمامهما.

أما الخاصية الثانية، وهي حركية الفكر الجدلي، فنجد أفلاطون يعبر عنها على النحوَين التاليَين: فالفكر الجدلي لا يتناول الأفكار كما لو كانت أوضاعًا منعزلةً جامدة موجودة بذاتها، وإنما يحركها بالفكر نفسه كما يحرك نفسه من ناحية أخرى — أثناء وجوده بين المثل — في طريقه إلى أعلى المثل، وهو مثال الخير، ثم يعود فيهبط من جديد إلى الأفكار الفردية. أما عن الخاصية الثالثة، وهي الاتجاه إلى المطلق، فتتمثل في أن المهمة الحقيقية للفكر الجدلي عند أفلاطون هي الصعود إلى مثال الخير. صحيح أن «المطلق» — الذي مهَّد له اسبينوزا وكانط — لم يظهر كاصطلاح أساسي إلا في المثالية الألمانية التأملية. ولكننا نستطيع مع ذلك، كما أوضحنا من قبل، أن نتتبعه من الناحية الموضوعية حتى نصل به إلى مثال الخير الأفلاطوني.

إن الفكر الجدلي، كما نفهمه الآن في هذا المجال، هو بالدرجة الأولى كذلك فكر خالص، والرأي القائل بأن الواقع الحقيقي لا يمكن الوصول إليه إلا بالفكر — والفكر وحده — هو رأي يرجع الفضل في اكتشافه لأفلاطون، ولم يُنسَ أو يهمَل إلا في العصور التي انهارت فيها الفلسفة ويمكننا أيضًا أن نقول إن الشيء المذهل حقًّا في دليل أنسيلم هو أنه فكر خالص، وأنه يختلف عن كل أدلة وجود الله الأخرى في أنه لا يلجأ إلى أيِّ عنصر تجريبي.

والفكر الجدلي في رأينا أيضًا فكر متحرك (ديناميكي) لا فكر ساكن (ستاتيكي)؛ لأن العالي، بحسب ما قلنا، لا يمكن أن يجوب بالفكر إلا إذا اصطدم الفكرُ به وتحطَّم أو تكسَّر عليه، وهذا يفترض حركية الفكر بمعناها الأصيل.

بيد أن الخلاف بين مفهومنا عن الجدل وبين مفهومه التقليدي لا يتضح إلا في النقطة الثالثة بوجه خاص، فالخير في رأي أفلاطون — إذا صرفنا النظر عن مسألة وجوده في عالم آخر — يظل مثالًا في نهاية الأمر؛ أي: موجودًا ذا شكل، ومن ثم قابلًا للتفكير فيه، بل إنه هو أكثر ما نفكر فيه وأحقُّه بالتفكير، مثله مثل الشمس التي يشبِّهه أفلاطون بها في رمزَي الكهف والشمس في «الجمهورية»؛ أي: أوضح ما نراه وأكثر ما نراه أيضًا.

أما عن هيجل فإن المطلق بالنسبة إليه لا يدرَك في «وضع» واحد من أوضاع الفكر؛ يبقى دائمًا لهذا السبب أحاديًّا ومحدودًا، وإنما يدرَك عن طريق تخلُّل كل الأوضاع والتغلغل فيها جميعًا. «إن الحق هو الكل، أما الكل فليس إلا الماهية التي تكتمل من خلال تطورها، ويمكن أن نقول عن المطلق إنه في جوهره «نتيجة»؛ أي: إنه لا يصل إلى حقيقته إلا عند النهاية.١٤

حقًّا إن المطلق نفسه عند هيجل لا يمكن أن يصبح شيئًا موضوعيًّا، ولا أن يفكَّر فيه بوصفه موضوعًا، ولكنه مع ذلك يقبل التفكير، ولا بد أن يفكَّر فيه من خلال كل ما هو موضوعي، ومن خلال هذا الفكر يمكنه أن يكتسب واقعيته. وهكذا يكون المطلق في رأي هيجل هو ما يقبل التفكير فيه بحق؛ فضلًا عن أنه يحدده فيجعله روحًا أو عقلًا؛ ولهذا كان الجدل في نظره هو الحركة الذاتية للفكر، وهي الحركة التي يجرب الروح المطلق فيها نفسه ويرجع إلى نفسه.

من أهم ما يميز المفهوم التقليدي للجدل أن يكون الفكر قادرًا — على أي نحو من الأنحاء — على التفكير في المطلق، وأن يبلغ كماله عن طريق هذا التفكير في المطلق. ونحن نفهم الفكر الجدلي أيضًا على أساس أنه هو الفكر المتجه نحو المطلق، ولكننا إذا فهمنا المطلق بمعنى العلو الخالص الذي تحدثنا عنه، فلا بد أن نقول إن الحركة الجدلية لن تؤدي إلى اكتمال الفكر عن طريق تفكيره في المطلق، بل لا بد من القول بأنه عند اصطدامه بالمطلق سيتحطم عليه ويتكسر؛ ولهذا فإن مفهومنا عن الجدل قريب من مفهوم كيركجارد عنه، على الرغم من الفروق الأساسية بينهما.

إن العالي نفسه، بوصفه عاليًا، يستعصي على التفكير فيه والتعبير عنه، وإن كان من الممكن التفكير فيه من ناحية علاقته بالإنسان أو بوجه عام بالقائم بالعلو.

أشرنا في البداية إلى الازدواج اللغوي العجيب والأساسي في دلالة كلمة العلو، وقلنا إنها يمكن أن تدل على فعل العلو كما تدل على ذلك الذي يتجه إليه العلو. وقد أشرنا أيضًا إلى الفارق الأساسي بين الدلالتين، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع — بوصفنا كائناتٍ متناهيةً موجودة داخل العالم — أن نسأل عن العالي أو نتناوله بالبحث والشرح، بدون أن نسأل في نفس الوقت عن فعل العلو، ولا نستطيع من ناحية أخرى أن نسأل عن فعل العلو بدون أن يكون العالي، الذي يؤسس العلاقة بيننا وبينه، نُصبَ أعيننا وفي مجال رؤيتنا. وإذا كنا في الشروح السابقة قد فصَلنا بين الاثنين، فإننا لم نلجأ لهذا الفصل إلا لأسباب منهجية؛ لكيلا نعقد الأمور في بداية البحث.

إذا أردنا الآن أن نطرح السؤال عن العلو من جديد، فينبغي علينا أن نفكر في العالي وفي فعل العلو معًا؛ من خلال العلاقة البسيطة التي لا تنفصم بينهما؛ ولهذا فلن نسأل الآن عن العالي من حيث هو عالٍ، بل سنسأل عنه ونتناوله بالبحث من حيث علاقته بالقائم بالعلو.

ولكن إذا كان من المستطاع هنا إصدار عدد وافر من العبارات أو القضايا المحددة تحديدًا تامًّا، فإنها لا يمكن أن تكون من نوع القضايا التي تتعلق بالأشياء والوقائع الداخلة في نطاق العالم ولا من شكلها؛ لأن أمثال تلك القضايا ستعلو فوق هذه الأشياء والوقائع وتتخطاها، وقد أوضحنا من قبلُ أن هذه القضايا لا يمكن أن تدخل في نظام أو تندرج في نسق مذهبي، ونضيف إلى هذا أن ماهية الموضوع الذي نحن بصدده تقتضي ألا نعبِّر عنه بعبارات وقضايا بسيطة، بل بقضايا مزدوجة؛ بحيث تكون هذه القضايا في حالة تضاد مطلق، دون أن يترتب على هذا أن يُلغي بعضها بعضًا أو «يرفع» بعضها بعضًا.

إن العلو — أي ما نستطيع الآن أن نقول عنه إنه العالي في علاقته بالقائم بفعل العلو — لا يمكن أن يدركه هذا الذي يقوم بالعلو إلا من خلال العبارات والقضايا المتناقضة في ذاتها. ولهذا فإن التفكير الطبيعي، الذي لا يحتمِل مثل هذا التناقض، سيتحطم أو يتهشم إن حاول ذلك؛ أي: إنه سيصبح تفكيرًا جدليًّا بالمعنى الذي شرحناه.

ولكن لماذا يتحتم أن يحدث هذا؟ لماذا يتحتم أن يصبح الفكر متناقضًا في ذاته بمجرد أن يتجاوز العالم وكل ما يدخل في نطاقه؟ ربما أمكننا أن نوضح هذا عن طريق التأمل التالي:

كل ما هو «من العالم» أو داخل في نطاقه، فهو، بسبب تناهيه وبحكم طبيعته، متضاد أو ضديٌّ؛١٥ لأنه، بحكم تناهيه، محدود بحدود معينة؛ أي: لا بد أن يكون هذا الموجود بعينه لا موجودًا سواه، ولكن كل ما هو محدد ومعين يحتمِل النفي.١٦ ومعنى هذا أيضًا أن كل محدد ومعين أو كل «أ» يمكن عن طريق النفي أن يوجد له «لا–أ» مضادٌّ له.

كل ما هو متناهٍ ومن العالم (أو داخل في نطاق العالم) له ضد. يلزم عن هذا، عن طريق العكس المنطقي البسيط، أن كل ما ليس له ضد، فلا يمكن أن يكون متناهيًا محدودًا ولا مما يدخل في نطاق العالم. كما يلزم عن هذا أن ما ليس من العالم وما ليس متناهيًا، فلا بد بالضرورة أن يكون بلا ضد.

كل ما ليس له ضدٌّ لا يمكن التفكير فيه ولا التعبير عنه بطريق مباشر؛ لأن كل تعبير أو كل قضية تحتمل النفي، ومعنى هذ أن ما تعبِّر عنه القضية يمكن دائمًا أن نجد ضدًّا مقابلًا له. لكل قضية أو عبارة قضية أو عبارة أخرى مضادة لها؛ ولهذا فإن القضية الواحدة المحددة لا يمكنها أبدًا أن تصل إلى التعبير عما ليس له ضد؛ أي: لا يمكنها التعبير عما ليس موضوعيًّا ولا عالميًّا.١٧ ومع هذا فإن من الممكن تكوين قضايا لا نحتاج فيها إلى مقابلة القول الذي تنطوي عليه أو تعبر عنه بقول آخر مضاد؛ وذلك عن طريق الربط بين عدد من القضايا المتناقضة، فإذا ربطت بين قضيتين متضادتين وقلت:

«أ» و«لا أ» كلتاهما صحيحتان»، فإن التضاد هنا عن طريق النفي مستبعَد بالنسبة ﻟ «أ»؛ لأن النفي داخل في القضية منذ البداية.

قد نجد هنا مَن يعترض علينا بقوله إن من الممكن إيجاد قضية مضادة للقضية التي ذكرناها؛ وهي:

«لا أ» و«لا لا أ»: كلتاهما صحيحتان.

ولكننا لو تأملنا هذه القضية الأخيرة عن قرب، لاكتشفنا أنها تقول نفس الشيء الذي تقوله القضية الأولى، ولكن من وجهة نظر أخرى. فلو قلنا مثلًا عن شيء إنه صادق وكاذب معًا، لأمكننا أيضًا أن نقول عنه ليس إنه بصادق ولا كاذب.

وقد يمكننا أيضًا، إذا أردنا أن نعبر بطريقة جدلية سليمة لا غبار عليها، أن نصوغ قضية جدلية من أربعة أطراف على النحو التالي: «أ» و«لا أ» كلاهما صحيح؟ وكذلك «لا أ» و«لا لا أ». فيمكن القول مثلًا بأن الله موجود وغير موجود معًا، وأنه كذلك لا موجود ولا غير موجود. وهناك عدد كبير من أمثال هذه القضايا المربعة التي تمت صياغتها في عهود قديمة جدًّا.

ولكننا لا نريد أن نعقِّد الأمور أكثر مما يجب؛ ولهذا فسنكتفي بهذه القضية الجدلية ذات الحدين لتوضيحِ ما نحن الآن بصدده:

«أ» و«لا أ» كلتاهما صحيحتان.

وهذه القضية وحدها كفيلة بإثارة سخط الفهم العام؛ لأنها تناقض المنطق العام الذي يقول:

إن القضيتين المتناقضتين مثل «أ» و«لا أ» لا يمكن أن تصدُقا معًا، بل يتحتم أن تصدق إحداهما فقط.

والواقع أني لو طبقت مثل هذه القضية على الموجودات التي تدخل في نطاق العالم، لكانت سخفًا لا معنَى له؛ لأن مبدأ عدم التناقض يصدُق هنا صدقًا كاملًا غير محدود. ولكني لو وجدت، على الرغم من ذلك، عددًا من المفكرين الجادين الذين صاغوا أمثال هذه القضايا — وقد فعل ذلك أكثرُ المفكرين جديةً وأشدُّهم نفاذًا — فلا بد من القول بأنهم لا يقصدون العالم أو ما يدخل فيه بمثل هذه القضايا المتناقضة، وإنما يضطرون للُّجوء إليها لأنها من أصلح الوسائل للتعبير عما ليس له ضد.

إذا كنا نسأل الآن عن العلو ونصل إلى صياغة عبارات أو قضايا لا تتناقض مع نفسها من هذه الجهة أو تلك، بل تتناقض مع نفسها تناقضًا مطلقًا خالصًا؛ فلا بد أن نُحس بشيء من النفور من ذلك أو عدم الارتياح له، ولكن لا بد في نفس الوقت أن نُحس بأنه علامة على أننا نسير على الطريق الصحيح؛ إذ لا يمكن أن تكون مهمتنا هنا هي تجنُّب هذه المتناقضات التي يُفضي بنا إليها التفكيرُ في العلو، ولا يمكن أن تقف مهمتنا أيضًا عند استبعادها أو التهوين من ضررها أو محوها، بل لا بد لنا من التفكير فيها تفكيرًا واضحًا نقيًّا إلى أبعد حدود الوضوح والنقاء، وبقدر ما نُقبل على هذه المهمة، بقدر ما يمكن أن تساعدنا هذه القضايا المتناقضةُ على الإقدام على الانطلاقة الحاسمة.

(٢) العلاقة المزدوجة بالعالي

تتميز العلاقة العالية (أو العلاقة بالعالي) بمعناها الدقيق بالازدواج التالي، فنحن نجرب العلو بوصفه ذلك الغير–المطلق بالنسبة إلينا، كما نختبره في نفس الوقت بوصفه أخصَّ خصائصنا وأقربها إلينا.

نستطيع أن نصف هذا الطابع المزدوج بأنه الصورة الأساسية لكل تجربة حقيقية بالعلو. ولما كانت تجربة التدين — أيًّا كان نوعها أو ما نفهمه منها، وبشرطِ أن تكون متعلقة بالتدين لا بأي شيء آخر سواه — تفترض العلو على نحو من الأنحاء، ففي إمكاننا القول أيضًا إن هذه العلاقة المزدوجة هي الصورة الأساسية لكل تجربة دينية حقة. ولنستشهد على هذه العلاقة بعبارات من «اعترافات» القديس أوغسطين، اكتسبت أهمية كبيرة في علم النفس الحديث أيضًا. تقول هذه العبارات:

«ما هذا الذي يتجلى لي من حين لحين ويطعن قلبي دون أن يجرحه؟

إنني أتجمد وأتوهج في وقت واحد، أتجمد بقدر ما أختلف عنه، وأتوهج بقدر ما أشبهه.»١٨
ونبدأ تفسيرنا بالعبارة الثانية، وهي عباره جدلية تتسم بالصياغة المتناقضة التي أشرنا إليها فيما سبق؛ وهي «أ» و«لا» أكِلتاهما صحيحة أو صادقة؟ يقول القديس أوغسطين: «إنني أتجمد وأتوهج.» والتجمد والتوهج بالمعنى المراد هنا ضدان، بل هما من أشد الأضداد تطرفًا؛ فالذي يتجمد يكون أبعد ما يكون عن التوهج، والعكس صحيح. ومع هذا فإن أوغسطين يقول: «إنني أتجمد بقدر ما أتوهج.» وهذا هو السخف بعينه من وجهة نظر المنطق التجريبي. أما من وجهة نظرنا فإن هذا التناقض في العبارة يُعد — وَفقًا لما قدمناه — علامةً تدل على أننا لسنا بصدد تعبير عن تجربة من التجارب التي تدخل في نطاق العالم، بل تعبير يشير إلى مجال العلو. والتفسير الذي يقدمه أوغسطين بعد هذه العبارة مباشرةً لا يخفف من التناقض ولا يرفعه أو يُلغيه بأي صورة من الصور، وإنما يزيده شدةً وحدَّة: «إنني أتجمد بقدر ما أختلف عنه، وأتوهج بقدر ما أشبهه.» وإذا رجعت للمنطق التجريبي وجدت أني إما أن أشْبه شيئًا أو أختلف عنه، وأن الشبه والاختلاف لا يجتمعان، ولكن أوغسطين يؤكد أنه يختلف عنه بقدر ما يشبهه. (ربما أمكننا أن نخرج من المأزق ونقول إنه يشبهه من جهة ويختلف عنه من جهة أخرى. غير أن المعنى المقصود من كلمة ﺑ «قدر ما»١٩ يختلف عن هذا المعنى.) ولكن مَن هذا الذي يُحس أوغسطين أنه مختلف عنه كلَّ الاختلاف وشبيهٌ به كلَّ الشَّبه؟ هذا ما تجيب عنه العبارة الأولى بأنه هو الذي يتجلى له من حين لحين: «ويطعن قلبه دون أن يجرحه.»٢٠
وهو قول ينطوي أيضًا على مفارقة وتناقض؛ فالفعل اللاتيني٢١ معناه الطعن، والإيغال في الطعن، وقد يعني كذلك القتل. والقلب — أعمق ما في باطن الإنسان، ومركز الحياة فيه — يطعن دون أن يجرح. لا يحوز لنا أن نجرِّد مثل هذه العبارة من غرابتها، ونذكِّر القارئ بالمفارقة التي عرضنا لها من قبل، وتكمن في أن القائم بالعلو يفقد نفسه في «فعل» العلو المطلق؛ إذ ليس فيه شيء يمكن أن يبقى بغير أن يلحقه التغير — كما يكسبها لأول مرة كسبًا حقيقًا — إذ إنه يكسب نفسه لأول مرة من خلال هذا العلو، ويسترد شخصيته بمعناها الدقيق المطلق.
إن الذي يتجلى من حين لحين ويطعن القلب دون أن يجرحه؛ هو المطلق. حقًّا إن أوغسطين يسميه، بعد النص السابق بقليل، بالحكمة٢٢ ومع هذا فلا يجوز أن نفهم هذا الاسم بمعناه المباشر؛ إذ إن أوغسطين يقول قبل ذلك بقليل إن الله، جلَّت حكمته، يتكلم على نحو عجيب؛٢٣ أي: بطريقة تستعصي على الإدراك.
يمكننا إذن أن نعُد عبارة أوغسطين شاهدًا من أنصع الشواهد وأشدها إقناعًا على ذلك الطابع المزدوج للعلاقة العالية، التي نريد الآن أن نتحدث عنها، فالعلو، في علاقته بالإنسان الذي يقوم به، يتجلى له في صورة الآخر المطلق — أي ذلك الذي يختلف عنه٢٤ — كما يتجلى له أيضًا في صورة ذلك الذي هو أخص ما يخصه — أي: ذلك الذي يشبهه٢٥ . مع العلم بأن الاختلاف يأتي في المقام الأول.

كلما فكرنا في العلاقة العالية تفكيرًا أصيلًا، ازدادت حدة «الاختلاف» و«التشابه» على السواء. وسوف نصعد من هاتين الكلمتين ونبلغ بهما أقصى ما يمكن أن يبلغاه؛ فنجعل «المختلف» هو «الغير المطلق»، والشبيه هو «الخصوصي».

وسنبدأ بتناول مفهوم الغيرية، ثم نتناول مفهوم الخصوصية، فننظر فيهما ونتعمق معناهما، ونحاول بعد ذلك أن ننظر في العلاقة الجدلية المزدوجة التي تربط العالي بالقائم بالعلو.

(٢-١) العلو والغيرية

مفهوم الغيرية٢٦ من أقدم المفاهيم الفلسفية، ولكنه كذلك من أكثرها غموضًا وأشدها صعوبة، ويبدو أيضًا أنه أقلها حظًّا من اهتمام الباحثين وتفكيرهم.
هو من أقدم المفاهيم الفلسفية؛ إذ نجد أن «الغير»٢٧ هو أحد «الأجناس الخمسة العظمى» التي يتوصل إليها أفلاطون في «نضاله العملاق» من أجل الوجود، في محاورة السفسطائي، كما أن أرسطو يشرح مفهوم الآخر أو الغير٢٨ في الكتاب السادس من الميتافيزيقا ويصفه بأنه «اختلاف الجنس».٢٩ وجدل الواحد والآخر يكتسب أهمية كبيرة في الفكر الفلسفي منذ محاورة «بارمنيدز» لأفلاطون حتى هيجل ومن جاء بعده. ومن شاء أن يعرف رأي هيجل فليرجع إلى فصل «شيء ما وغيره» في كتاب المنطق.٣٠ وتظهر الكلمة في التصوف الألماني بالمعنى نفسه الذي عُرفت به في التراث الفلسفي. يقول الميستر إكهارت، على سبيل المثال، في عظة بعنوان «في أيامه In diebus suis»: «وفي مثل هذا الإنسان، الذي تحرر من كل غيرية ومن كل صفات المخلوقات،٣١ لا يدخل الله؛ لأنه موجود فيه أساسًا.»٣٢ الغيرية هنا٣٣ مفهومة بمعنًى يتفق مع التراث الفلسفي العام؛ أي: بمعنى الكلمة اللاتينية alterites، فالله، وهو الوحدة في أسمى معانيها، متَّحد مع ذاته بدون خلاف، أي: بدون «غيرية»، على عكس المخلوقات وكلِّ ما هو مخلوق.
ولكننا سنفهم الغيرية هنا بمعنًى يختلف اختلافًا أساسيًّا عن معناها في التراث الفلسفي القديم، وسنبدأ بالتفرقة من الناحية اللغوية والمعنوية بين «غير» و«مختلف». وكلمة مختلف٣٤ إذا أُخذت من ناحية الفعل المتعدي تعني «المفرق، المعزول»، وإذا أُخذت من ناحية الفعل اللازم كان معناها «الذي قام بفصل نفسه»، وإذن «فالمختلف» يتضمن مفهوم المعزول والمفصول، كما أن كلمة «المختلفين» مثلًا تعني الأفراد كلًّا على حِدة. أما كلمة «غير» التي يقول عنها الأخوان جريم في معجمهما الشهير إنها من أقدم كلمات اللغة الألمانية، فهي تعبر بوجه عام عن أن شيئًا أو موضوعًا معينًا ليس هو الشيء نفسه أو الموضوع الذي يقارن به. وهكذا نجد أن مفهوم الغيرية لا ينطوي أساسًا على معنى الانفصال أو التميز، وإنما ينطوي على معنى اللا–ذاتية. هذا إلى أن «غير» تدل بوجه خاص على الاختلاف النوعي والكيفي، ويتضح هذا عندما أقول مثلًا: لقد صرت إنسانًا جديدًا وتغيرت وتحولت تمام التغيُّر والتحول (التغيير في الأصل هو جعْل الشيء غير ما كان)، أو عندما نقول: إن الزمان الآن غير الزمان.٣٥

أشرنا من قبل إلى أن كل علو بوجه عام لا يقتصر على تجاوز ما يعلو فوقه، بل يتجاوز كذلك ضدَّه ونقيضه؛ ولهذا فإن ذلك الذي يؤدي العلو إليه لا يمكن أن تكون علاقته بما علا فوقه علاقةَ الضد بالضد ولا علاقةَ الاختلاف عنه، بل لا بد أن تكون علاقةً من نوع آخر غير هذا كله. ولقد عرَّفنا العلو بمعناه الحقيقي الأصيل بأنه «العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق.» وإذن فمن الضروري أن يكون ذلك الذي يؤدي إليه هذا العلوُّ مختلفًا عن كل شيء على الإطلاق. ولما كان هذا العلو المطلق لا يسمح «بنقل» أي شيء معه، فلا بد أن يكون «غير» كل شيء على الإطلاق، ولما كان كل شيء هو ما اتفقنا على تسميته بالعالم، فيلزم إذن أن يكون «غير» كلَّ ما يمتُّ بصلة للعالم، وأن تكون هذه «الغيرية» مطلقة.

هذه الغيرية المطلقة لا تعني فقط أنه٣٦ يختلف عن «كل ما هو من العالم» كما تختلف واقعة معينة داخل نطاق العالم عن واقعة أخرى، مهما كان مبلغ هذا الاختلاف؛ كما نرى مثلًا في اختلاف الحجر عن النبات، والنبات عن الحيوان، والحيوان عن الإنسان، بل معناه أنه هو «الغير المطلق» لكل ما هو من العالم الذي نلاحظ في داخله كلَّ الاختلافات السابقة.

إن هناك حدودًا قاطعة تفصل بين الحجر والنبات، وبين النبات والحيوان، وبين الحيوان والإنسان، بل إننا لَنجدُ هنا «غيرية» لا شك فيها، وهذا هو الذي يجعل الحيوان غريبًا عنا غربة أساسية، ولكنها مع ذلك ليست غيريةً مطلقة، وهذا هو الذي يجعلنا من ناحية أخرى نفهم الحيوان ونتعاطف معه. أجل إن الحجر والنبات والحيوان والإنسان تشترك جميعًا في أمر أساسي؛ وهو أنها جميعًا «هناك»؛ أي: موجودة في المكان والزمان، فوجودها جميعًا يوحد بينها. وحتى الوجود الحسي لا يختلف عن الوجود العقلي اختلافًا مطلقًا — على الرغم من أن أفلاطون قد نجح في إقامة فجوة فاصلة وحاسمة بينهما — وذلك لأن هناك وحدةً تجمع بينهما، وتتمثل في أن كليهما موجود وذو شكل.

أما العالي فهو على العكس من ذلك غيرُ كل ما هو من العالم غيريةً مطلقة؛ ومن ثَم فهو (يكون) غير كل ما هو من العالم أو كل ما يتصل بالعالم، وهذه الغيرية تبلغ في الحقيقة حدًّا يجعلنا عاجزين هنا عن الكلام عن أي «وجود» أو كينونة. ولكن هل من الممكن التفكير في «آخر» مطلق أو «غير» مطلق؟ بهذا السؤال تستيقظ عاطفة الفكر الجياشة التي تَسِمُه بالمفارقة، وتجعله، كما قال كيركجارد، يريد انهياره، أم أن هذا المفهوم (مفهوم الغير المطلق) متناقض مع نفسه ومنافٍ للعقل؟

لقد قلنا عنه إنه «غير كل ما هو من العالم غيريةً مطلقة»، واستخدام «الغيرية» هنا على سبيل التشبيه والمقارنة، وكل مقارنة تفترض مستوًى مشتركًا يسمح بها، فإذا قلت مثلًا إن «أ» غير «ب» على الإطلاق، لزم أن يكون هذا القول متناقضًا مع نفسه، وأن يرفع نفسه بنفسه. ويرجع هذا إلى أن ما هو «غير» شيء آخر بإطلاق، لا يمكن أبدًا أن يدخل في علاقة معه، بل إنه، إذا شئنا الدقة، لا يمكن أن يدخل معه في علاقة الغيرية.

يتبين من هذا أن مفهوم «الغيرية» — وَفقًا لقوانين المنطق العام — مفهوم متناقض ومنافٍ للعقل؛ بيد أننا لن نستغرب هذا بعد الآن؛ إذ ربما جاء هذا التناقض من أن الفكر لم يعُد يتعلق بموجود أو يتجه إلى موجود، ومن الواضح — لا من الناحية المنطقية فحسب، بل كذلك من الناحية الأنطولوجية — أن الموجود لا يمكن أبدًا، كما بينا من قبل، أن يختلف اختلافًا مطلقًا عن موجود آخر.٣٧

إن التناقض الذي تحدثنا عنه لا يظهر في مفهوم الغير المطلق وحده، وإنما يظهر كذلك مع كل المفاهيم الحدية التي تشبهه، فإذا كوَّنت مثلًا مفهوم «المجهول المطلق»، وجدتني أقع في الجدل العجيب نفسه، فأنا من ناحية لا أستغني — بوصفي مفكرًا — عن تكوين مثل هذا المفهوم، فكل إنسان يعلم أن هناك شيئًا يجهله من هذه الزاوية أو تلك — كأن يجهل مثلًا إن كانت هناك كائنات حية تعيش على سطح الأجرام السماوية البعيدة أو لا. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فكل إنسان يعلم أيضًا أن هناك شيئًا يجهله جهلًا مطلقًا، شيئًا لا يمكنه أبدًا أن يعرفه، ولا يستطيع بحال من الأحوال أن يجد السبيل إلى معرفته، كما يعرف أن هذا هو لب الواقع؛ السر الأساسي.

ومع ذلك فنحن لا نستطيع، عن طريق الفكر، أن نضع أيدينا على مفهوم المجهول المطلق؛ لأنني لا أستطيع أن أعرف شيئًا عما هو مجهول بإطلاق، بل إنني لا أستطيع أن أعرف أنه مجهول بإطلاق، وأنني لا أعرف عنه شيئًا ولا يمكنني أيضًا أن أعرف عنه شيئًا.

وهنا تواجهنا بصورة أخرى الصعوبة نفسها التي طالما دارت حولها المناقشات عن طبيعة «الشيء في ذاته» عند كانط، فأول ما يدل عليه هذا المفهوم هو أن الأشياء موجودة بذاتها؛ أي: وجودًا مستقلًّا عن علاقة العارف بالأشياء. ولكن من المستحيل التفكير في «شيء» مجرد من كل علاقة؛ لأن التفكير في جوهره تأسيس علاقة؛ هي على أقل تقدير علاقة «المفكر» ﺑ «موضوع» التفكير.

هكذا يبدو مفهوم الغير المطلق في ظاهره مفهومًا متناقضًا يُلغي نفسه بنفسه، ومع ذلك فهناك تجارب نشعر فيها أن ذلك «الغير المطلق» المختلف عن العالم وكلِّ ما فيه؛ يعلن عن وجوده بصورة واضحة لا لَبس فيها، وأمثال هذه التجارب هي التي تُلزمنا بتكوين هذا المفهوم الحدي٣٨ وأمثاله. وتجربة الاندهاش بمعناه الميتافيزيقي من هذه التجارب التي نتحدث عنها، فهو كما أشرنا يمثل جانبًا من كل تجربة «وجد» أو خروج من العالم؛ أعني: من كل تجربة علو. ويتميز هذا الاندهاش بأنه أشبه بغِلالة سحرية من الاغتراب أو الغربة تُلقى فوق كل شيء، وتدوم فترة قصيرة قد لا تتجاوز لحظة واحدة. إنه لا يتعلق بشيء فردي معين مما يدخل في إطار العالم، وإنما يتحول من خلاله كلُّ ما هو «عالمي» ومألوف إلى شيء غريب غير مألوف. إننا حين نندهش لا نجرب ما يختلف عن هذا الموجود أو ذاك من موجودات العالم فحسب — على نحو ما يحدث في حالة التعجب العادية — وإنما نجرب ما هو «غير» كل ما يتعلق بالعالم غيريةً مطلقة؛ ومن ثَم لا يمكن أن يدخل في نطاق العالم بأية صورة من الصور، ولا يمكن أن يصبح شيئًا مألوفًا. إننا نجرب عندئذٍ — وكأننا نخرج من العالم كله لِلحظاتٍ قليلة — ذلك «الغير المطلق» المختلف عن كل ما هو من العالم تجربة حية مباشرة. نقول: للحظات قليلة؛ لأن مثل هذه التجربة لا تدوم. إن في إمكاننا أن نلمس الغير المطلق، ولكن ليس في إمكاننا أن نمسك به، فليس في وسعنا — بوصفنا كائناتٍ متناهيةً تحيا في العالم — أن نتحمل انفتاح الغير المطلق والمجهول. إنه يباغتنا بصورة تتخطى حدود البشرية وطاقتَها.
ولكنَّ ثمة تحولًا عجيبًا يتم في هذه التجربة ويكشف لأول مرة عن ماهيتها الحقة، ونقصد به أن الغريب غربةً مطلقة يصير أكثر «الأشياء»٣٩ أُلفةً لنا وأشدها قربًا. غير أنه لا يصير كذلك كأي شيء من الأشياء التي تدخل في إطار العالم — فقد بينا استحالة هذا — بل على نحو أعمق وأكثر حسمًا وقطعًا: إننا نجرب الغير المطلق تجربتَنا لأخصِّ ما يخصنا.

وهذه التجربة بدورها لا تستمر غير لحظات ولا تحتمل إلا لحظاتٍ خاطفة، ولا يرجع السبب في هذه المرة إلى بُعد «المجرب» بُعدًا هائلًا أو غربتِه غربةً مذهلة، بل يرجع إلى قربه الحميم منا. بهذا نصل إلى الخاصية الثانية التي تتميز بها العلاقة العالية.

(٢-٢) العلو والخصوصية

نتناول الآن مفهوم «الخصوصية» الذي يعَد مفهومًا بالغ الأهمية، إلى جانب أنه يكاد أن يكون المركز الذي يدور حوله الفكر الصوفي الألماني. وكلمة خاص eigen في الألمانية الحديثة (وهي في الألمانية القديمة eigen) اسم فاعل ورد في الجرمانية القديمة من فعل مفقود كان يدل على معنى المِلك أو الامتلاك، ولا يزال له في اللغة الحديثة معنى «الوجود في ملكية شخص ما» عندما يقال مثلًا في التعبير الشائع: لست مالك نفسي (أو كما نقول في العربية: لست سيد نفسي).

ويدل النعت على معنى النسبة أو الانتماء، وهنا يغلب أن يكون الخاص في مقابل العام، على نحو ما أقول مثلًا: هذه مسألتي الخاصة. وتعبر الخصوصية عما «يخص كائنًا ما تمييزًا له عن الآخرين.»

ولهذا تتأرجح معاني كلمة «الخصوصية» على نحو عجيب ينسحب على الصفة (خاص) والصيغ اللفظية العديدة المشتقة منها … ونحن في معظم الأحيان نربط بين معنى الخصوصية وبين المعنى الفرعي الذي توحي به، ويدل على الشيء النادر والأمر المُغرِب العجيب؛ كأن نقول عن إنسان ما «إن له خصوصياته.» وجدير بالملاحظة أننا نربط هذا التصور الأخير في أغلب الأحوال بمفهوم الخاص والخصوصي؛ إذ لا يتحتم أن يكون هذا المفهوم الأخير بذاته مثار عجب أو غرابة.

ولكن «الخاص» لا يقتصر على هذا المعنى وحده، وإنما يدل أيضًا — كما يقول الأخوان جريم في معجمهما المشهور — على معنى الشيء الحميم، الباطن، الخفي، الملائم لطبيعة إنسان ما، أو النابع من حسه وفكره؛ وبهذا المعنى تكتسب الكلمة مضمونًا عميقًا. ومن الأمور المستحبة أن توصف مسألة شخصية بأنها «خصوصية جدًّا».٤٠
وكلمة eigen (خاص) بمعنى الانتماء والتعلق تقابل ضدَّها؛ وهو كلمة غريب (fremd). وهي أيضًا كلمة جرمانية قديمة، مشتقة من كلمة frem؛ أي: إلى الأمام، بعيدًا عن، ومعناها الأساسي هو «بعيدًا عن، بمنأًى عن». وكل ما يأتي من بعيد، أو يولد في مكان آخر؛ فهو غير مألوف، وغير معروف، وغير خاص؛ وبهذا تنطوي كلمة غريب (fremd) على معنيين: معنى الغربة، ومعنى عدم الانتماء أو عدم الخصوصية.

نكتفي بهذا القدر من الكلام عن الناحية اللغوية التي عرضناها في صورة تخطيطية موجزة. وقد تبين لنا على كل حال أن كلمة «خاص» كلمة خصبة غنية بالمعاني والدلالات المتعددة التي يصعب المفاضلة بينها في كثير من الأحيان.

ولكن ماذا عن مفهوم الخصوصية؟٤١ من الملاحظ أن فلسفة الوجود الحديثة تهتم اهتمامًا كبيرًا بالمقابلة بين الأصيل وغير الأصيل،٤٢ كما نرى مثلًا في تحليلاتها للوجود الأصيل والوجود غير الأصيل،٤٣ بغير أن تحاول هذه الفلسفة — بقدر علمنا — أن تتناول مفهوم «الأصالة» بالبحث أو ترجع به إلى أصوله الأولى. وجدير بالذكر أن كلمة «أصيل» (eigentlich) التي ترِد في هذه الفلسفة، شأنها شأن عدد كبير من مصطلحاتها الأساسية، قد جاءت إليها بطريق مباشر أو غير مباشر من التصوف الألماني. فهي كلمة أساسية عن الميستر إكهارت، نجدها مثلًا في هذه العظة «العادلون يحيون في الأبدية»٤٤ حين يقول: «إن أبي المحبوب ليس في الأصل هو أبي …»٤٥
أشرنا هنا إلى معنيين أساسيين لكلمة «خاص» (eigen)، وهما: موجود في ملك (حوزة) شخص ما، ومُنتمٍ لشخص ما أو متعلق به.
ولكن هل كل ما يملكه المرء ينتمي له؟٤٦

من الواضح أن هذا ليس صحيحًا البتة، بل نحن مضطرون إلى القول بأن هذا لا يحدث إلا في أندر الأحوال، كما نحن مضطرون إلى المضي إلى أبعدَ من هذا وطرح هذا السؤال: هل يمكن أن يمتلك الإنسان ما ينتمي له؛ أي: هل يمكنه أن يستحوذ عليه ويتصرف فيه؟ سنترك هذا السؤال مفتوحًا ريثما نعود إليه بعد قليل.

سوف نأخذ هنا كلمة «خاص eigen» بمعنى الانتماء أو التعلق الذي يفيد الشيء الخاص بشخص ما، كما يفيد الشيء المتصل بأعمق أعماقه، وأخفى خفاياه، وأخص أسراره النابعة من صميم ذاته الباطنة. وسوف نؤكد الكلمة بزيادة السابقة ur (الموغل في القدم، الأصيل، المبدئي)، فنتكلم عن أخصِّ ما يخص الإنسان (Das Ureigene)؛ أي: ما ينتمي إلينا ويتعلق بنا من ناحية الأصل والمبدأ.

ولكن الذي ينتمي إلينا من الأصل انتماء عميقًا وأخيرًا هو العلو؛ من حيث إن ماهية الإنسان تكمن في العلو فوق نفسه علوًّا غير متناهٍ، وهذا العلو — كما أوضحنا — هو الآخر أو الغير المطلق. وهكذا نصل إلى هذه العبارة التي توحي بالمفارقة: إن الغير المطلق هو أخص ما يخصنا. والعكس صحيح: أخص ما يخصنا هو الغير المطلق.

هنا، وهنا فقط، نبلغ العلو بحق، ونجرب العالي على هذه الصورة المزدوجة؛ من حيث هو الغير المطلق بالنسبة إلينا، ومن حيث هو أخص ما يخصنا. ولنتفق الآن على وصف المعرفة بهذا الطابع الجدلي المزدوج بأنها المعرفة المتعالية الأساسية، ويتضح هذا من الملاحظات التالية:

إننا نجرب العالي بوصفه الغير المطلق كما نجربه بوصفه أخص ما يخصنا. ويجب أن نتبين بوضوح أن الناحيتين معًا تنتميان بالضرورة إلى العلاقة المتعالية؛ لأننا لو أخذنا بالناحية الأولى وحدها — إذ قد يبدو لأول وهلة أن هذا هو المأخذ السهل القريب — ونظرْنا إلى العالي نظرتَنا إلى الغير المطلق، لكان معنى هذا أنه لا يمت إلينا بأية صلة، ولاستحال علينا مع انعدام هذه الصلة أن ندخل معه في أية تجربة.

ولو أخذنا بالناحية الثانية وحدها، ونظرنا إلى العالي نظرتَنا إلى أخص ما يخصنا؛ لكان معنى هذا التخلي عن علو العالي أو التضحية به.

ويجب أن نتبين كذلك بوضوح أن هاتين الناحيتين، اللتين تنتميان بالضرورة إلى تجربة العلو، متناقضتان مع بعضهما تناقضًا تامًّا؛ ويرجع تناقضهما على كل حال إلى المعنى الذي نقصده هنا من «الغير المطلق» و«أخص ما يخصنا».

وينبغي علينا ألا نحاول تخفيف حدة هذا التناقض أو إزالته، بل علينا أن نفكر فيه ونجربه في أقصى درجات حدته وتجرده ونقائه؛ لأني لو أضعفته، بالتخفيف مثلًا من حدة الأضداد، أو بوضع وجهات النظر المختلفة في اعتباري، لكان معنى هذا أن أبقى أسير التفكير والتجربة المحدودتين بحدود هذا العالم، ولكان معناه أيضًا ألا يحقق التناقض ما ينبغي عليه أن يحققه؛ ألا وهو الانتقال من مجال «العالمي»٤٧ إلى مجال ما «ليس بعالمي». وينبغي علينا فضلًا عن هذا كله أن نعلم أن هذا التناقض جدلي، ومعنى هذا أن الضدين المطلقين، وهما «الغير المطلق» و«الخصوصي الأخص»، لا يقفان من بعضهما في تجربة العلو موقفَ الضدين الجامدين، بل يتحول أحدهما إلى الآخر. فليست المسألة إذن أنني أجرب العلو من ناحية بوصفه الغير المطلق والغريب غير المألوف بالنسبة إلي، ثم أجربه من ناحية أخرى بوصفه أخصَّ ما يخصني، وأقرب شيء إلى صميم وجودي وأشده انتماء لي؛ بحيث تقع التجربتان من بعضهما موقف الضدين الجامدين (لأننا لو قدَّرنا الأمر «من ناحية» و«من ناحية أخرى» لكان معنى هذا أننا نفسح المجال لوجهات النظر المختلفة). بل إن تجربة العلو تجري في الحقيقة على هذا النحو: فالغير المطلق نفسه يجرَّب بوصفه أخصَّ ما يخصنا، كما أن أخص ما يخصنا نفسه مجرَّب بوصفه الغير المطلق. ولن يتيسر لنا أن نلمس العالي حتى نفكر في هذا التحول ونجربه، أعني تحول الغير المطلق إلى «الأخص» وتحول الأخص إلى «الغير المطلق».

ونحن نجد اليوم في بحوث فلسفة الدين وسيكولوجية الدين أمثلةً عديدة يمكن الاستشهاد بها على إساءة فهو ظاهرة التدين، والنظر إليها بنظرة دنيوية (علمانية)؛ ويرجع هذا إلى عدم تقدير هذا الجدل الأساسي في العلاقة بالعالي. إننا في العلو نجرب الغير المطلق بوصفه أخص ما يخصنا، ويجب ألا نفهم الغيرية — كما قدمنا — بمعنى الشبيه بشيء أو المتفرع عنه، بل يجب أن نفهمها بمعنى العالي والمتفوق والسامي إلى أقصى درجات العلو والتفوق والسمو. ومعنى هذا مرةً أخرى أننا نجرب ذلك الذي يعلو فوقنا ويسمو علينا بوصفه أخصَّ ما يخصنا، وأقربَه إلى صميم كياننا وأعمق أعماقنا. وهكذا نشعر في تجربة العلو أننا نعلو على ذواتنا علوًّا غير متناهٍ، وهذا يُلقي مزيدًا من الضوء على كلمة باسكال التي وقفنا عندها من قبل.

«تعلَّموا أن الإنسان يعلو على الإنسان علوًّا غير متناهٍ.»٤٨

هذا الذي يعلو فوقنا علوًّا غير متناهٍ، ويسمو على وجودنا سموًّا لا حد له؛ هو ذلك الذي يُفلت تمامَ الإفلات من مجال فعلنا وتأثيرنا وقدرتنا على التصرف فيه؛ لأن الذي يمكننا التصرفُ فيه على أي نحو من الأنحاء قد يعلو فوقنا من هذه الناحية أو تلك، ومن هذا الجانب أو ذاك، ولكنه لن يعلو فوقنا علوًّا مطلقًا.

وإذن فنحن في العلو نجرب الشعور بأن «أخص ما يخصنا» يُفلت من قدرتنا على التصرف. ربما تبدو المفارقة ظاهرة في هذا القول؛ لأنني إذا كنت أملك التصرف في شيء، فقد يبدو أن هذا الشيء «ملكي» أو «خاص بي»، لكن هل نملك حقًّا ما يخصنا؟

يحتمل هذا السؤال إجاباتٍ عديدة، حسَب ما نفهمه من كلمة «خاص».٤٩
فإذا فهمنا «الخاص» بمعناه الأساسي الأول الذي تقدم الحديث عنه؛ أي: بمعنى «الموجود في حوزة شخص ما» كان من الواضح أننا نملك الخاص. أما إذا فهمناه المعنى الأساسي الثاني الذي شرحناه من قبل؛ أي: بمعنى «ما ينتمي لشخص ما»، ثم أضفنا إليه المعنى العالي الذي نُلح عليه هنا وهو «ما يخصنا على الأصالة»،٥٠ فلا بد عندئذٍ أن يكون جواب السؤال: إننا لا نملك الخاص أبدًا ولا يمكن أن نملكه؛ لأننا لا نستطيع أن نتصرف فيه على أي صورة من الصور.

أيُّ لَبس هذا وأي ازدواج في المعنى والدلالة! إن هذا السؤال: هل يملك الإنسان الخاص؟ يتطلب — حسب ما نفهمه من كلمة خاص — الإجابةَ بنعم قاطعةٍ أو لا قاطعة. ومن الواضح أن هذا الازدواج ليس أمرًا لغويًّا عارضًا فحسب، وإنما يكمن في صميم ماهية «الخصوصية» ومفهومها. ولهذا السبب أيضًا بدا لنا من قبيل المفارقة أن يفلت «أخص ما يخصنا» من حوزتنا ويمتنع على إمكان التصرف فيه؛ لأننا فهمنا الخاص بمعنى «الموجود في حوزتنا وملكنا». ولو صح هذا لتحتم أن يصبح «الخاص» هو أكثر ما نتصرف فيه ونستحوذ عليه. والحقيقة أن هذا هو ما يمكن أن نصفه بالتشويه الأساسي للعلو وفهمه على عكس معناه الحقيقي، وهو ينشأ من الاعتقاد بأن من الممكن امتلاك «الخاص على الأصالة»، أي: الذي ينتمي إلينا من الأصل، والاستحواذ عليه والتصرف فيه.

أشرنا من قبل إلى عبارة وردت في «عظات الإرشاد» للميستر إكهارت — وهو من أقيم مؤلفات إكهارت والتصوف الألماني بوجه عام — وهذه العبارة تقول: «كلما ازدادت خصوصيتنا قلَّت هذه الخصوصية.»٥١

ويمكننا الآن أن نفسر هذه العبارة؛ لأن من الواضح أن صيغتها التي تتسم بطابَع المفارقة تُعد ردًّا على التشويه الأساسي الذي أشرنا إليه في فهم العلو أو بالأحرى إساءة فهمه. بل إننا لنستطيع القول بأن التغلب على هذا التشويه وسوء الفهم وتصحيحه هو جوهر كل تصوف.

والمترجم الألماني يوسف كوينت، الذي نقل الميستر إكهارت من الألمانية الوسيطة إلى الألمانية الحديثة، يصوغ العبارة على هذه الصورة: «أجل، كلما ازدادت خصوصيتنا «نحو أنفسنا»، قلَّت خصوصيتنا «نحو الله».»

(أي: ضعُفت صلتنا الخاصة بالله).٥٢

والملاحظ أن «كوينت» قد أضاف كلمتَي «أنفسنا» و«الله» لتوضيح النص، ولا خطأ في الترجمة، ولكن عيبها أنها تجرد العبارة من التوتر الذي تُضفيه المفارقة عليها، كما تُضعف من قدرتها على التعبير.

ومعنى العبارة ببساطة أننا كلما ازددنا امتلاكًا لأنفسنا، قلَّ انتماؤنا إليها؛ ومن ثم يقلُّ انتماؤنا أيضًا إلى الله؛ لأن مبدأ أنفسنا٥٣ أو مبدأ النفس في رأي إكهارت؛ متَّحد مع مبدأ الله، أو هما بتعبير أصحَّ شيءٌ واحد، ونوضح هذا المعنى الأخير بعبارة أخرى من عظة إكهارت «في أيامه» التي اقتبسنا جزءًا منها في موضع سابق: «إن النفس تستمد وجودها من الله دون واسطة؛ لهذا كان الله أقرب إلى النفس من قربها إلى نفسها، ولهذا كان الله «موجودًا» في مبدأ «عمق/باطن» النفس بكل ما يتصف به من الألوهية.»٥٤

وهنا نجد تعبيرًا كاملًا عن تجربة العلو الأساسية التي تكلمنا عنها من قبل، فالله — أي: الغير المطلق كما عبرنا عنه باصطلاحنا — أقرب إلى النفس من قربها إلى ذاتها؛ أي: إنها ستجربه بوصفه أخصَّ ما يخصها.

(٣) العلو والواقع

سنتناول الآن علاقة العلو المزدوجة من خلال بعض المفاهيم الأساسية التي تتحكم في تفكيرنا ووجودنا؛ لنبين مدى سيطرة جدل هذه العلاقة عليها، ومن ثَم نفهم قُرب هذه المفاهيم منا وبُعدها عنا، ونبدأ مفهوم الواقع. كتب كيركجارد عن هذه الكلمة في يومياته أثناء سماعه لآخر محاضرات شيلنج الكبرى في برلين: «هذه الكلمة الواحدة التي تذكرني بكل ما قاسيت من عذابات وآلام فلسفية.» وبهذا وصف كلمة «الواقع» بأنها مفتاح تفلسُفِه كله.

غير أن هذا لا يصدُق على كيركجاد وحده، وإنما يصدق أيضًا بدرجة لا تقل عنه على فيلسوف مثل نيتشه الذي نجده يتكلم في أحد كتبه المبكرة، وهو «إنساني، إنساني جدًّا» (١٨٧٨–١٨٨٠م) عن «عرسان الواقع»؛٥٥ بحيث يمكننا أن نصف «الواقع» بأنه المفهوم الأساسي للإنسان الغربي الحديث. وسنرجع لهذا بعد قليل بشيء من التفصيل، لنبدأ بالكلمة نفسها.
والكلمة٥٦ في اللغة الألمانية صيغة مجردة من «واقعي»٥٧ التي يحتمِل أن تكون قد وردت في كتابات المتصوفين الألمان في القرن الثالث عشر. ونحن نستدل عليها لأول مرة في عظات الميستر إكهارت المعروفة ﺑ «عظات الإرشاد». هكذا تكون كلمة الواقع — هذه الكلمة العقلانية البسيطة في ظاهرها — في الأصل كلمة صوفية، وهو أمر يستحق الاهتمام على كل حال. ولنشرح النص الذي وردت فيه الكلمة عند إكهارت شرحًا موجزًا، وهو نص سيفيدنا فائدة كبيرة في هذا السياق.
يقول إكهارت إن على الإنسان أن يتعلم أن «يشارك ربه في الفعل.» ثم يستطرد قائلًا في هذا الموضع من عظاته: «وليس معنى هذا أن ينصرف الإنسان عن الباطن أو يُسقطه أو يَعزف عنه، بل ينبغي عليه أن يتعلم كيف يفعل فيه ومعه ومنه؛ بحيث يترك الباطن ينفتح على الواقع، ويرشد الواقع إلى الباطن، ويعود نفسه بهذه الطريقة على الفعل الخالص.»٥٨

هذه العبارة أيضًا غلب عليها جدلُ الغير والخصوصي؛ الذي يمكن أن يُعد مفتاحًا لفهم كثير من أقوال الصوفية التي تبدو لأول وهلة متناقضةً مع نفسها. ينبغي على الإنسان أن يتعلم كيف يشارك الله في الفعل أو كيف يعمل معه، ومعنى هذا أن عليه أن يتعلم كيف يفعل بحيث لا يأتي الفعل من جانبه ولا يصدر عنه، بل يفعل الله فيه وعن طريقه. وهو بهذا لا يتخلى عن نفسه ولا يتنازل عنها بحال من الأحوال — كما قد يتبادر إلى الذهن — بل يفعل الفعلَ الحقيقي عندما يصدر هذا الفعل عن نفسه، وعند ذلك فحسب. وإذا أردنا أن نعبر عن هذا بلغة هذا الكتاب قلنا: عندما يصدر فعل الإنسان عن الغير المطلق، أي: عما ليس من صنعه، عندئذٍ فقط يصدر فعله عن أخص ما يخصه؛ أي: عن ذاته.

ويضيف الميستر إكهارت أن هذا الفعل ينبغي أن يكون من ذلك النوع الذي يجعل الإنسان يترك الباطن ينفتح في الواقع ويهدي الواقع إلى الباطن.

ولو أردنا اليوم أن نعبر عن هذا المعنى فلن نستعمل كلمة «واقع»، بل كلمة تأثير أو فعالية.٥٩

ينبغي على الإنسان إذن أن يترك الباطن ينفتح على الفاعلية (أو الشغل العملي)، وأن يرشد الفاعلية إلى الباطن؛ وبهذا يعوِّد نفسه على الفعل الخالص. ومعنى هذا أنه ينبغي على الإنسان أن يعمل ويشتغل ويكون فعالًا، ولكن بدون أن يقيد نفسه بهذا العمل أو يصبح أسيرًا له ومتعلقًا به. وهذا هو الذي يقصده إكهارت بالفعل الخالص الذي يُعد تاج الأخلاق في التصوف الألماني، والذي عبر عنه إكهارت بصيغة أخرى هي «الفعل بلا لماذا».

والنص الذي قرأناه لإكهارت لا يؤيد ما تذهب إليه أغلب المعاجم الفلسفية من أنه صاغ كلمة الواقع (أو العمل والشغل والفاعلية) ترجمة للكلمة اللاتينية actualitas (واقع/فاعلية). وإذا كان علينا أن نجد كلمة لاتينية تقابل كلمة الواقع الألمانية، لكانت هي كلمة operabilitas (تأثير على/شغل/عمل). ولا بد من الانتباه إلى هذا الفرق؛ حتى لا يُظن أن كلمة الواقع٦٠ هي النسخة الألمانية من اصطلاح مدرسي وسيط. ومع أن كلمة الواقع ليست من الكلمات الأساسية أو المصطلحات الرئيسية المستخدمة عند إكهارت — إذ لا تكاد تظهر في موضع آخر من كتاباته — فإن النص الذي ذكرناه يبين بوضوح أنها تنحدر من أصل آخر غير الفلسفة المدرسية.
مهما يكن من شيء فنحن اليوم حين نستخدم كلمتَي واقعي٦١ وواقع،٦٢ لا نفكر في كلمتَي عامل أو شغال،٦٣ وعمِل أو شغل.٦٤ فالمعنى الذي توحي به هاتان الكلمتان الأخيرتان قد أوشك في الحقيقة أن ينتقل بكليته إلى كلمتين أحدثَ منهما ترجعان إلى القرن الثامن عشر؛ وهما: «مؤثر/فعال»،٦٥ وتأثير أو فعالية.٦٦ إن المقصود اليوم بكلمتَي واقعي وواقع هو «ما هو موجود» بوجه عام. وإذا أردنا أن نترجم كلمة الواقع إلى اللاتينية، فلن نترجمها بإحدى الكلمتين اللاتينيتين السابقتين،٦٧ بل بكلمة realitas. والأصل في هذه الكلمة الأخيرة هو «الموضوعية» أو «الشيئية» (والترجمة الألمانية الوسيطة — التي سبقت الإشارة إليها — للمجموعة اللاهوتية للقديس توماس الأكويني تترجم كلمة الواقع realitas اللاتينية بكلمة dinklich شيئي).
يقول هوجوفون هوفمنستال٦٨ في «كتاب الأصدقاء»: إننا، نحن الألمان، نصف ما يحيط بنا بأنه فعال،٦٩ واقع فعلي٧٠ أما غيرنا من الأوروبيين الذين ينحدرون من أصول لاتينية فيصفونه «بالشيئية»٧١ أو «مجموع الأشياء»، وهذا يدل على الاختلاف العقلي الأساسي بيننا، كما يدل على أن كلينا يُحس بوجوده في هذا العالم على نحو مختلف تمامَ الاختلاف عن صاحبه.٧٢
مهما يكن من شيء فإن أهم ما في مفهوم «الواقع» هو المعنى الذي نفهمه من فعل «يفعل أو يوقع»٧٣ الذي اشتُقت منه الكلمة. واللغة الفلسفية الشائعة تستعمل كلمة «الواقعي» في مقابل الممكن من ناحية، والظاهر أو الوهمي من ناحية أخرى. ومن الواضح أن الاستعمال الأول يرجع إلى مفهوم كلمتَي «الإمكان والفعل»٧٤ المستخدمَين في الفلسفة المدرسية، وقد كانتا ترجمة لاتينية لكلمتَي الإمكان والفعل٧٥ اليونانيتين المعروفتين عند أرسطو.
وتدل كلمة الواقع في الاستعمال اللغوي العام — أي: على لسان رجل الشارع والأديب على السواء — على معنًى وانطباع يمثلان في الغالب الضد المقابل لكل ما هو وهمي أو متخيَّل أو متصوَّر؛ بحيث يظل معنى الأصالة والحقيقة عالقًا بها؛ أي: إنها لا تزال ترِد من تلك المنابع الأصلية التي نهَل منها التصوف الألماني عندما صاغ الكلمة.٧٦
إن كلمة الواقع لم تزل تحمل معنى الحقيقي أي الموجود على الحقيقة. وقد يمكننا أن نحذف الجزء الأخير من الجملة السابقة، بحيث تدل كلمة الواقع في نهاية الأمر على «الهذا».٧٧ فكلمة الواقع تعني «الهذا»، ولكنها حين تدل على وجود فائق وأخير تصبح كلمة رفيعة ومبتذلة في آنٍ واحد.

إنها تصبح كلمة مبتذلة وضحلة عندما يبتسر الواقع، ويفرَّغ من مضمونه، ويتحول إلى مجرد شيء واقعي أو عياني (واقع)، وهناك يمكن أن نصف رجل الأعمال النشيط أو السياسي الناجح بأنه «قريب من الواقع».

ولكن هل يمكننا حقًّا أن نكون قريبين أو بعيدين عن الواقع الذي يحوطنا من كل ناحية؟ ألَا يدين مثل هذا الأسلوب في التعبير نفسه بنفسه؟

لم يفهم «هوفمنستال» الواقع بهذا المعنى المحدود الذي يدل على كل ما هو موضوعي وملموس، فنحن نراه يعلق على خطبة ألقاها سنة ١٩١٦م بعنوان «الفكرة الأوروبية» فيقول: «إن الواقع لا يتألف فحسب من أشياءَ عينية مجسمة، ولا من أشياء يمكن لمسها والقبض عليها باليدين، فنحن نحيا أيضًا في عالم من الأسرار والحقائق الحية التي لا يمكن لمسها؛ وإن كانت مع ذلك بالغة الأثر.»٧٨

إن هوفمنستال يرجع هنا إلى المعنى القديم الذي كانت تدل عليه كلمة الواقع؛ وهو «الفعالية» أو «الإيجابية»، كما يرجع بشكل من الأشكال إلى معناها الأصلي الذي انحدر إليها من التصوف (دون أن يفصح عن هذا بنفسه)، وهو أن ما لا يلمس على الإطلاق — لا الأشياء العينية الملموسة التي يمكن الإمساك بها — هو أكثر «الموجودات» تأثيرًا وفاعلية.

إن «الواقع» في الاستعمال اللغوي الحديث يقترب في كثير من الأحيان من «الوجود»؛ ولهذا لا يوضع الواقع وحده في مقابل المظهر، بل إن الوجود أيضًا يوضع في موضع الضد منه. وقد أصبح تعبير «الوجود والمظهر» صيغة شائعة استطاعت أن تنفُذ إلى اللغة العامة التي تجري على الألسن. ومع ذلك فإن المعنيَين اللذين تدل عليهما الكلمتان غير متكافئَين على الإطلاق؛ كما أن كلمة الواقع التي تُستخدم اليوم في اللغة الطبيعية الحية تفوق كلمة الوجود في قوتها وقدرتها على التعبير، وتحتل مكانًا أكبر بكثير من هذه الكلمة (كلمة الوجود) التي أصبح الحديث عنها نوعًا من التكلف والتصنع.

مهما يكن من شيء، فليس الفلاسفة والعلماء هم الذين يحددون المعنى الذي تُستخدم به الكلمة في نهاية المطاف، بل إن الأدباء هم الذين يقومون بهذه المهمة؛ لأنهم هم الذين يحسنون الإنصات للغة الشعب (واللغة الشعبية مختلفة كل الاختلاف عن اللغة اليومية البالية المستهلكة).

قدمنا بعض ملاحظات «هوجوفون هوفمنستال» عن الاستعمال اللغوي الراهن لكلمة الواقع، ويمكننا أن نقتبس العديد من ملاحظاته الأخرى حول هذا الموضوع، ولكننا سننتقل إلى شاعر آخر له أثره البالغ على التعبير اللغوي الحديث؛ ألا وهو الشاعر رلكه، وسنقدم الآن قصيدة كاملة من شعره كنا قد أشرنا إلى أبيات قليلة منها في الملاحظات الأولية التي مهدنا بها لهذا الكتاب. تقول قصيدة رلكه «تجربة الموت»:

نحن لا ندري شيئًا عن هذا الفراق
الذي لا يشترك معنا في شيء. ليس من حقنا
أن نبدي الإعجاب والحب أو الكره للموت،
الذي يشوهه على نحو غريب
فم مقنع بالشكوى المأساوية.
ما زال العالم مليئًا بالأدوار التي نمثلها.
ما دمنا نهتم بأن نكون محل الإعجاب،
فالموت كذلك يلعب دوره، وإن لم يعجب.
غير أنك حين ذهبت، نفذ إلى هذا المسرح،
من ذلك الشق الذي مضيت منه،
شريطٌ نحيل من الواقع، أخضر، أخضر واقعي،
ضوء واقعي، غابة واقعية.
ما زلنا نمثل أدوارنا، نردِّد ما تعلمناه
بالألم والمشقة، ونرسل الإشارات
من حين إلى حين، لكن وجودك
الذي ابتعد عنا وغادر دنيانا؛
يمكن أن يفاجئنا أحيانًا، كأنه معرفة
تهبط علينا من ذلك الواقع.
فنمثل دور الحياة لحظة، ونحن نتمزق
دون أن نفكر في إعجاب المتفرجين.
لن نحاول الآن أن نقدم تفسيرًا كاملًا لهذه القصيدة التي كتبها الشاعر في اليوم الرابع والعشرين من شهر يناير سنة ١٩٠٧م. إن تشبيه العالم بالمسرح، والحياة بالدور الذي يمثله الفرد على خشبة المسرح وهو يتطلع لإعجاب المتفرجين؛ هو في الحقيقة تشبيه قديم، ولكنه لم يكتسب أهميته ودلالته إلا مع بداية العصر الحديث. فعندما حرر الإنسان نفسه من الوجود ككل، وبدأ يواجهه مواجهةَ الذات، تحوَّل هذا الكل، هذا العالم، إلى مسرح يقف على خشبته. عندئذٍ بدأ العالم أيضًا يتحول إلى صورة. ولم تظهر «صورة العالم» أو وجهات النظر المختلفة٧٩ فيه إلا مع بداية العصر الحديث.٨٠ وليس من قبيل الصدفة أن نرى مؤسس الميتافيزيقا الحديثة، وهو ديكارت، يشبِّه نفسه عند بداية نشاطه الفكري العلني بالممثل الذي يضع الأقنعة على وجهه، ويقف على مسرح العالم٨١ الذي لم يؤدِّ فيه قبل ذلك إلا دور المتفرج … ومع نهاية هذه الميتافيزيقا الحديثة نرى «كاشف الأقنعة» — وهو نيتشه الذي خلع على نفسه هذا الاسم — يبين لنا أن «التمثيل»٨٢ طبع أساسي في الإنسان الحديث و«العدمية الأوروبية»؛ ولهذا نجده يحاول تقديم الحساب عن سبب «تحول كل شيء إلى تمثيل».٨٣ ولا شك أن قصيدة رلكه تستظل من هذه الناحية بظل نيتشه، ولو تأملناها من وجهة النظر الميتافيزيقية لأمكننا أن نرجع بها إلى ديكارت. ولا يتسع المجال لمزيد من التفصيل في هذه المسألة، ولذلك فلن نسترسل الآن في هذا الحديث.

ولكن ما الذي يقصده رلكه «بشريط الواقع» الذي نفَذ من «ذلك الشق» إلى «هذا المسرح»؟ وما الذي يفهمه من كلمة الواقع؟

إن «ذلك الشق» هو الموت الذي جربه رلكه على أثر فراق إنسان يبدو أنه كان عزيزًا عليه قريبًا من نفسه. والواقع الذي نفذ من «ذلك» أشق هو «الماوراء» (أو ذلك العالم الآخر)، أي: ما وراء حياة يغلب عليها طابع التمثيل. ولكن ما طبيعة هذا الواقع الآخر؟

إن القصيدة تصفه بهذه الكلمات التي نوَّهنا بها في بداية هذا الكتاب: أخضر، أخضر واقعي، ضوء واقعي، غابة واقعية.٨٤ وهي تؤكد واقعية هذا الواقع بتكرار الكلمة ثلاث مرات: أخضر، ضوء، غابة؛ كلمات تعبر عن أقرب الأشياء إلينا وأشدها التصاقًا بالأرض. والأخضر كما نعلم هو اللون الذي نحبه ونؤثِره على سائر الألوان، في هذه الأرض التي نشعر بالغبطة والعرفان ونحن نصفها بالأرض الخضراء. والكلمات التي يستخدمها الشاعر تصف ذلك الذي ينفُذ من العالم الآخر (أو الماوراء) إلى «هذا المسرح» — أي: مسرح العالم — بأنه هو «هذا العالم» بأقوى معانيه وأصفاها. ولهذا فإن ما يسميه رلكه بالواقع إنما يعبر في الحقيقة عن «ذلك العالم» و«هذا العالم» في وقت واحد، أو بالأحرى يجمع بينهما في وحدة واحدة. وسنجده يعبر عن هذا المعنى بعد كتابة هذه القصيدة بثمانية عشر عامًا في رسالته المطولة التي كتبها إلى «فيتولد هوليفتش»،٨٥ وقال فيها: «… لا وجود لهذا العالم ولا ذاك العالم، فليس هناك إلا الوحدة العظيمة التي تحس فيها الكائنات المتفوقة علينا — «وهي الملائكة» — بأنها في بيتها.»٨٦

وإذن فالواقع عند رلكه ليس هو «هذا العالم» ولا «ذاك العالم»، وإنما هو «الوحدة العظيمة»، والمقصود بهذا أن «هذا العالم» لا يصبح هو هذا العالم بحق — أي: لا يصبح الأخضر أخضر في الواقع — إلا إذا جُرب من ناحية «ذلك العالم» تجربةً خالصة، أو إلا إذا «حُقق» تحقيقًا على نحو ما عبر رلكه نفسُه عن ذلك وحققه في تجربة الموت التي نجدها في القصيدة. وطبيعي أننا لا نستطيع أن نحقق هذه التجربة إلا لِلَحظاتٍ خاطفة؛ وذلك بحكم أننا كائنات محدودة بحدود هذا العالم. فإذا حدث وتمت، لم يُلغَ التضاد الحاد بين «هذا العالم» و«ذاك العالم»، بل اندمج الضدان في وحدة واحدة. وإذن فكلمة الواقع — وهي موضوعنا الأساسي الذي نريد الآن أن نعود إليه — لا يقتصر معناها عند رلكه على ما هو موضوعي أو ملموس أو يمكن الإمساك به، وإنما هو في الحقيقة اسم «ميتافيزيقي» أخير.

إن كلمة الواقع — وهذا أمر يمكننا أن نؤيده بأمثلة أخرى لا حصر لها — مفهوم أساسي، لا، بل هي المفهوم الأساسي في لغة الإنسان الحديث؛ سواء في لغته اليومية الجارية أو لغة الأدب والفلسفة والعلم بوجه عام.

إن كل إنسان منا يعرف ما تعنيه كلمة الواقع معرفةً محددة لا يداخلها غموض أو تعميم، فإذا طُلب منه أن يعبر عن هذا المعنى بالكلمات، أخذته الحيرة من كل جانب؛ إنه يحس أنه يعرفه ولكنه عاجز عن التعبير عنه. ولا يرجع هذا فحسب إلى عدم تعوده على التأمل في معرفته، بقدر ما يرجع إلى كون هذا الذي يعرفه هنا معرفةً محددة هو نفسه شيء لا يقبل التحديد؛ ومن ثم فهو يستعصي على التفكير فيه أو تعريفه أو التعبير عنه. صحيح أننا نجد تعريفات مختلفة لمصطلح الواقع في المعاجم الفلسفية المتداولة، ولكن هذه التعريفات إن دلت على شيء، فإنما تدل في معظم الأحيان على العجز والحيرة الشديدة بإزاء مثل هذه الكلمة أو هذا المفهوم الأساسي، كما أنها لا تطرح السؤال الذي ينبغي عليها أن تبدأ به عن موقف اللغة بوصفها لغة — عندما نتأمل كلمة مثل كلمة الواقع — من ذلك الذي تسعى جاهدةً إلى التعلق به أو التعبير عنه.

الحق أننا نستطيع أن نصوغ مجموعة كبيرة من العبارات والقضايا المحددة أتمَّ التحديد، عن الخصائص التي تميز الواقع، والواقع وحده، ونستطيع بهذا المعنى أن نقدم نوعًا من ظاهريات «فينومينولوجيا» الواقع. فمن خصائص الواقع مثلًا أنه لا يُردُّ، ولا يُنقض، ولا تمكن مقاومته أو استبداله بغيره. وحيثما وجدنا هذه الخصائص كلها، أمكننا بحق أن نتحدث عن الواقع وعما هو واقعي، والعكس صحيح.

بيد أننا لن ندرك الواقع نفسه بهذه الطريقة، ولن نستطيع أن ندركه؛ لأنه في جوهره يستعصي على الإدراك، وهو لا يستعصي على الإدراك بسبب عدم تحدده وبُعده الشديد، بل بالأحرى بسبب تحدده وقربه الشديدَين إلى أقصى درجة، إننا لن نستطيع أبدًا في أي وقت ولا في أي مكان أن نُفلت من هول الواقع وعظمته، بل إن أشد العدميين تطرفًا في العدمية لن يقدر على ذلك أيضًا، وكل ما نملكه هو أن نحاول بكل ما في وسعنا أن نتحمله.

بقي علينا الآن أن نتناول جانبين من جوانب مفهوم الواقع، نعتقد أنهما يُلقيان مزيدًا من الضوء على مشكلة العلو، لو سألنا: أين يمكن أن يتم اللقاء الحقيقي مع الواقع، فلا بد أن يكون الجواب: في أنفسنا نحن. فليس الواقع الأصيل بالنسبة إلينا إلا ما يتصل بصميم كياننا ووجودنا؛ بحيث يتَّحد به هذا الوجود أو يصبح وإياه شيئًا واحدًا. وسر العظمة التي لا سبيل إلى وصفها في واقعية الواقع هو أننا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نبتعد عنه، ولا أن نضع بيننا وبينه أيَّ شيء يمكن أن يحمينا منه، أو يخفف من وقعه علينا؛ كما نفعل في كل الأحوال الأخرى؛ وأنه لهذا السبب — على خلاف المظهر وكل ما يتسم بالطابع المظهري — يؤثر فينا تأثيرًا مباشرًا قويًّا لا نظير له. ونحن في العادة نتصور أن الواقع مقصور على كل ما هو فعلي أو عادي (فيزيائي)؛ لأنه هو الذي يؤثر فينا تأثيرًا مباشرًا. فالإحساس مثلًا بألم الأسنان يمنع أعظم المفكرين من التفكير! ومهما يكن من سخف هذا الألم، فإن واقعيته أقوى من واقعية تفكيره. ثم إن الوجود المادي أو الفيزيائي يؤثر علينا إلى أقصى حد؛ لأننا نعلم أنه قادر على قتلنا في أية لحظة. يقول «باسكال» في إحدى شذراته المعروفة: «ليس هناك ضرورة تدعو الكون لأن يحتشد لسحقه (أي الإنسان)؛ إن قليلًا من البخار أو قطرة ماء تكفي لقتله.»٨٧

ولكن مهما بلغ الواقع المادي من القوة، بحيث تكفي قطرة ماء لكي تتسبب في موتنا، فإن القلق الحقيقي من الموت لا يرجع إلى هذا الفناء المادي أو الفيزيائي؛ إذ إن الفناء المادي لا يولِّد إلا الخوف من الموت الذي تكفي الشجاعةُ وحدها (كما قال أفلاطون) للتغلب عليه. إن القلق الحقيقي من الموت يرجع إلى شيء آخر لا يمكن فهمه أو إدراكه، هذا القلق — الذي يمكن أن يفاجئنا كأقوى ما تكون المفاجأة وسط حياتنا اليومية الغافلة المطمئنة — هو الذي يعلمنا أن الواقع الحقيقي غيرُ الواقع المادي وأكبر منه بكثير.

إن «الواقعي» موجود فينا نحن، ولا يمكن في الحقيقة أن نجده خارج أنفسنا، ولكن هل يعني هذا أننا نؤيد ذلك الموقف الميتافيزيقي الذي يسمى ﺑ «الأنانة»؟٨٨ نعم، ولا نعم بالمعنى الذي يقصده فتجنشتين عندما يقول في رسالته المنطقية الفلسفية إن «الأنانة إذا طُبقت تطبيقًا متسقًا دقيقًا تلتقي مع الواقعية الخالصة.»٨٩ ولا إذا فهمت «الأنانة» بمعنى أن «الأنا» الخاصة بي مع ما تحتوي عليه من مضمونات شعورية هي الواقع الوحيد، وهذا الرأي الذي يقوم على سوء فَهم للمثالية المتعالية (الترانسندنتالية) هو في الحقيقة رأي لم يقل به مفكر جادٌّ على الإطلاق.
قلنا إن الواقع (أو الواقعي) مقصور على ما يتصل بصميم وجودنا الباطن اتصالًا حميمًا؛ بحيث يتَّحد به هذا الوجود الباطن أو يصبح وإياه شيئًا واحدًا. ومن هذا يتضح أن الواقعي هو ما يكون في وحدة أو هوية معنا، ولكنه من ناحية أخرى هو الذي يستقل عنا وعن تصورنا وصنعنا استقلالًا أساسيًّا أو «ماهويًّا»؛٩٠ لأننا لا نصطدم بالواقع حقًّا إلا عندما نصطدم بمقاومة؛ أي: عندما نصطدم بذلك الذي ليس منا أو ليس من صنعنا.
إننا نعرف على سبيل المثال أن فعلنا، سواء كان باطنيًّا أو ظاهريًّا، يبقى فعلًا غير واقعي، ويظل يتحرك في فراغ حتى يصطدم بمقاومة من نوع ما، وكلما اشتدت هذه المقاومة، زاد حظُّ فعلنا من الواقعية؛ ذلك أننا لا نلتقي بما هو واقعي إلا حيث نصطدم بما ليس متعلقًا بذواتنا، ولا يخضع لتصرفنا، ولم نصنعه بأي معنًى من المعاني بأنفسنا. هل يمكن على هذا الأساس أن نقول إن الآلة التي من صنعنا وتخضع لتصرفنا فيها ليست واقعية؟! إنها واقعية بكل تأكيد، ولكن «الواقع» الحقيقي المهول فيها ليس هو الذي صنعناه نحن، فالعامل الذي «يشغل» آلة ما — وهذا تعبير له دلالته؛ إذ إن الآلة الذاتية الحركة (الأوتومات) التي تسخر لخدمتنا٩١ لا تقوم بهذا إلا إذا قمنا نحن قبل ذلك بتشغيلها أو خدمتها — هذا العامل لا يصطدم حقًّا «بواقع» الآلة إلا حيث يصطدم عند قيامه بخدمتها وتشغيلها بما لم يحسُبْ حسابه أو لم يتنبأ به من قبل، وهو شيء يتربص بالإنسان دائمًا حتى مع أكمل الآلات وأتمِّها صنعة.

نحن إذن لا نصطدم بالواقع إلا حيث نصطدم بما ليس من صنعنا ولا يمكن أن يكون من صنعنا؛ أي: بما ليس خاصًّا بنا، وهذا وحده هو الذي يمكننا القول بأننا نصطدم به. (ونحن نفهم الصنع هنا بأوسع معانيه؛ بحيث يشمل كلَّ أشكال الفعل الخاص وأساليبه؛ بما فيها التصور العقلي مثلًا). ولهذا كان الواقع — حتى بالمعنى الضحل الذي نفهمه من كل ما هو «واقعي» أو «فعلي» — هو ما لا يقبل أن يُتصور وما يستعصي على التفكير فيه.

ولكن «ما ليس خاصًّا بنا» هو الذي سميناه من قبلُ «الآخر» أو «الغير»، ومن ثَم يكون «الواقعي» هو «الغير» بالنسبة لنا ولكل ما يمتُّ إلينا بسبب. وبدون هذه «الغيرية» لا يوجد واقع.

وإذن فكل تجربة بالواقع تتميز بالضرورة بأمرين: لا بد أن أجرب ذلك الذي أجربه بوصفه متَّحدًا مع ذاتي ومختلفًا عنها في آن واحد. بيد أن الأمرين لا يتجاوران هنا كيفما اتفق. فأنا لا أجرب معجزة الواقع الحقة وهولَه الهائل إلا عندما يرتبط هذان الأمران ارتباطًا جدليًّا. عندئذٍ تصبح تجربة الواقع مساوية للاتحاد مع «الغير»؛ أي: مع ما ليس مني أو ليس من صنعي.

هكذا تنكشف لنا العلاقة بين الواقع والعلو. يكفي أن نصعد من التعريفات السابقة فنجعل «الخاص بنا» هو «أخص ما يخصنا»، ونرتفع ﺑ «الغير» إلى «الغير المطلق» لكي نجد أنفسنا في تجربة العلو. وبهذا نكون قد عثرنا على علامة جديدة من علامات العلو؛ وهي الواقع.

ونرجع إلى الاعتراض الذي يثيره دائمًا الفهمُ العام الكامن في أنفسنا، فنقول إن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يؤدي إلى الفراغ والمظهر، كما إنه ليس مشكلةً فكرية مصطنعة، بل الأَولى أن يقال إن هذا العلو وحده هو الذي يمكنه أن يوصلنا إلى الواقع الخالص.

بهذا وحده يمكن بحق أن يتحول الأخضر إلى خضرة واقعية، ويمكن أن يصبح «الهو»٩٢ — وسط عالم الخطوط والظلال اليومي — واقعًا حقيقيًّا للحظات خاطفة.

(٤) العلو والأصالة

سنتناول الآن العلاقة المزدوجة بالعلو من خلال مفهوم الأصالة. ومن السهل علينا أن نرى أن العلاقة بالأصل تتميز هي أيضًا بجدل الغير والخصوصية. ويرجع السبب في هذا إلى أن ما يصدر عن الأصل لا بد أن يجرب الأصل بوصفه «الغير» بالنسبة إليه كما يجربه بوصفه «الخاص» الحميم إليه. بوصفه الغير بالنسبة إليه؛ لأن ما يصدر عن الأصل — إذا أريدَ له أن يكون صادرًا عن الأصل؛ أي: شيئًا جديدًا لم يكن من قبل — لا بد أن يكون شيئًا آخر غير ذلك الذي صدر عنه، وبوصفه «الخاص» الحميم إليه؛ لأن ما يصدر عن الأصل، بحكم صدوره عنه، يستمد كل ما يملكه ويكون وجوده من الأصل، ولا بد أن يستمده منه.

هنا أيضًا يصدُق ما قلناه من قبل من أننا كلما فكرنا في العلاقة بالأصل بمزيد من الدقة والحدة والعمق، ازداد هذا الجدل كذلك حدةً وعمقًا. ولكنه يبلغ أقصى درجات الحدة والعمق حين لا نكتفي بالسؤال عن الأصل في هذا الشيء أو ذاك، بل نسأل عن الأصل في كل شيء على وجه الإطلاق، وهو سؤال لا يخضع للهوى أو التعسف، وإنما يضطر التفكير بطبيعته إلى طرحه. فالتفكير دائمًا تفكير في شيء ما؛ ولكن «الما» بطبيعته متناهٍ، والتناهي معناه ألا يوجد في نفسه وبنفسه، بل في موجود آخر وعن طريق «غير» متفوق عليه. كل ما هو متناهٍ له أصل وله أساس. صحيح أننا نقول أحيانًا عن شيء ما إنه «بلا أساس» أو «بلا أصل»، ولكننا نقصد من هذا القول أننا لا نعرف أساسه وأصله، أو لا نستطيع أن نعيِّنه، ولا نقصد منه أنه غير متعلق بأي أساس، فالذي لا أساس له ولا سبب لا بد أن يكون غير متناهٍ وغير منتمٍ إلى العالم، وكل ما هو متناهٍ ومنتمٍ للعالم فهو دائمًا قائم على أساس وصادرٌ عن أصل.

ولكن الأصل في كل شيء لا يقتصر على أن يكون مختلفًا عن هذا الشيء أو ذاك، ومن هذه الناحية أو تلك — إذ إن اختلاف الأصل عما يصدر عنه، في كل علاقة بالأصل تتم داخل نطاق العالم، لا بد أن يكون اختلافًا نسبيًّا — بل يلزم أن يكون الأصل في كل شيء هو الغير المطلق المختلف عن كل شيء على الإطلاق، ولا بد أيضًا أن يكون كذلك لأنه، بوصفه أصلًا، يصب نفسه بكليتها فيما يصدر عنه، ويتَّحد بكل شيء على وجه الإطلاق.

بهذا نكون قد توصلنا إلى علامة جديدة من علامات العلو، وهي الأصالة، وهنا يتضح لنا مرة أخرى أن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا ينتهي إلى الفراغ والعدم السيئ، بل هو بالأحرى يؤدى إلى الكثافة والخصوبة والوفرة، أين يمكن أن تتوافر الوفرة إن لم تتوافر في الأصل الذي لم يزل يحتفظ بكل شيء في وحدة شاملة بريئة من التجزؤ والتشتت؟

إن الفهم العام الذي تلاشى العلو من وجوده يرى الأشياء كلها قائمةً جرداء، فكل شيء في نهاية الأمر في نظره عدم، والأخضر لا يزال يبدو لعينَيه في لون قاتم كئيب. إن العلو وحده هو الذي يقدر على أن يُضفيَ على الأخضر اخضراره الأصيل.

(٥) العلو والحرية

إذا كنا لا نصل إلى الواقع الحقيقي والأصالة الحقة إلا عن طريق العلو، فليس في استطاعتنا أيضًا أن نصل إلى ما يسمى بالحرية إلا عن طريقه.

وإذا كانت الحرية مفهومًا متعاليًا، وكانت — على حد تعبيرنا هنا — علامةً من العلامات الدالة على العلو، فإن من الأسباب التي توضح هذا أنه لا يمكن تناولها تناولًا صحيحًا إلا عن طريق الجدل. وقد تعرَّض الكثيرون لأبرز المعضلات والمتناقضات التي يؤدي إليها مفهوم الحرية عند التفكير فيه تفكيرًا منطقيًّا دقيقًا، وكشف كانط بوجه خاص عن «نقائضه الديناميكية» في باب «الجدل الترانسندنتالي» من كتابه نقد العقل الخالص.

والحُر، بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، هو المستقل بنفسه، غير المرتبط بغيره، أي: الحر من …

ولكنا إذا فكرنا في الحرية من جهة العلو، فلا بد أن نسأل: حُر من أي شيء؟

إن العلو الذي نقصده علو متعلق بكل شيء على الإطلاق، وكذلك الحرية بمعناها المتعالي لا بد أن تفعل الشيء نفسه؛ أي: لا بد أن تكون حرية من كل شيء على الإطلاق. لو فهمنا الحرية بهذا المعنى لكُنا بذلك نفهمها بأشمل وأوسع معنًى يمكن تصوره؛ إذ ليس هناك حرية أعظم من التحرر من كل شيء على وجه الإطلاق.

ولكن كل شيء على الإطلاق يعني كل ما هو موجود؛ ولهذا تكون الحرية بالمعنى المتعالي هي الحرية من الموجود. ولما كان الموجود دائمًا «شيئًا ما» كانت الحرية هي الحرية من «ما». ومن ثم يمكننا الآن أن نصوغ هذه العبارة: الحرية بوصفها علامةً على العلو هي الحرية من «ما».

هذه الحرية هي أكبر وأصعب ما يمكن أن يواجهنا بوصفنا كائناتٍ متناهيةً محدودة بهذا العالم؛ ومن ثم مقيدة ﺑ «الما»؛ ولهذا فهي لا تتنسى لنا إلا في لحظات فريدة منسلخة عن تيار الزمن.

إن الموقف البشري العادي، كما يقول اسبينوزا، هو موقف اللاحرية؛٩٣ لأننا بطبيعتنا مقيدون دائمًا بشيء ما، وإذا ما تخلصنا من شيء، حل محلَّه على الفور ارتباطٌ بشيء غيره؛ ولهذا فإن عدم الارتباط المطلق لا وجود له بالنسبة إلى الإنسان الطبيعي. وعدم الارتباط أو التحرر الذي يتحدث عنه الناس عادةً يراد به في الحقيقة أنهم لا يشعرون شعورًا واضحًا بما يحددهم ويربطهم؛ أي: إنه هو أدنى درجات الحرية أو بالأحرى أدني درجات اللاحرية، تلك التي لا نعرف موقفها الخاص.
أما الحرية بالمعنى المتعالي الذي نقصده هنا، فتدل على إلغاء الارتباط بكل شيء يدخل في نطاق العالم. وهذا هو أصعب الصعب، وقد تكلم المتصوفة الألمان، وبخاصة الميستر إكهارت وزويزه وتاولر، في هذا السياق عن «الاعتزال»٩٤ و«التخلي».٩٥ والشاعر أنجيلوس سيلزيوس — الذي استطاع أن يعبر عن أفكار هؤلاء المتصوفين تعبيرًا كاملًا لا يؤخذ عليه إلا تطرُّفُه الشديد إلى أقصى حدود التطرف — يكتب هذين البيتين في ديوانه «المتجول الملائكي»٩٦ تحت هذا العنوان: «لا بد من ترك الشيء»:
«أيها الإنسان، ما دمت تحب شيئًا ما، فأنت لا تحب في الحقيقة شيئًا.
ليس الله هذا ولا ذاك، لهذا عليك أن تترك الشيء على الإطلاق.»
هنا أيضًا يعترض الفهم العام الكامن في أنفسنا؛ اعتقادًا منه أن التخلي عن الشيء، أو «ترك ما» لن يؤدي إلا إلى العدم واللاشيء، ولكن أنجيلوس سيلزيوس — وهو في هذا يهتدي بالميستر إكهارت — يرى العكس من ذلك تمامًا: من أحب شيئًا ما، لا يحب في الحقيقة أي شيء على الإطلاق؛ ذلك أن «الما» و«العدم»، أو «الشيء» و«اللاشيء» مفهومان متضادان متضايفان، ولا يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر؛ ولهذا فإن الذي يحب شيئًا، لا بد بالضرورة أيضًا ألا يحب أي شيء.٩٧ أي: إنه، إن جاز التعبير، يحب العدم في «الما»؛ أي: يحب بصورة «عدمية». كما أن الذي لا يكتفي بالتخلي عن هذا الشيء أو ذاك، بل يتخلى عن كل شيء على الإطلاق؛ يتخلى أيضًا مع «الشيء» عن «العدم». وهذا رأي أساسي من آراء الصوفية؛ ولهذا نجدهم يطالبون بالتخلي؛ يطالبون بالتخلي عن الشيء؛ لأنهم يطالبون بالتخلي عن العدم.
«ليس الله هذا ولا ذاك» معنى هذا أن الله ليس شيئًا ما، وإنما هو ذلك الذي يختلف عن كل شيء ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.٩٨

ولكن كيف يتسنى لنا التخلي عن «الما»؟ أم أننا أخطأنا في طرح السؤال على نحو ما أخطأنا من قبلُ في طرح هذا السؤال: ما هو العلو؟ ربما يكون السبب في عدم الارتياح إلى هذين السؤالين أن مثل هذا التخلي لا ينتمي إلى مجال الصنع والعمل، ولا يدخل في نطاقِ ما يُصنع أو يُعمل، مثله مثل العلو الذي لا ينتمي إلى مجال الأشياء وكل ما يتصف بالشيئية؛ لأننا لو تخلينا عن «الما» لكي نصل إلى التخلي، لبقينا مع ذلك مقيدين ﺑ «شيء ما»؛ أعني: برغبتنا في التخلي. والواقع أن هذا التخلي الذي يتكلم عنه المتصوفة لا يتم في صورة كاملة خالصة إلا إذا تخلينا كذلك عن التخلي نفسه. ولكن لا بد من ناحية أخرى من ترك الشيء، كما يقول أنجيلوس سيلزيوس في العنوان الذي وضعه للبيتين السابقين. ولا بد من أن يقوم الإنسان بنفسه بتحقيق هذا الترك أو التخلي، وأن يتحمل في سبيله كلَّ ما يستطيع تحمُّله من جهد وعرق. ولقد أكد المتصوفة دائمًا، وفي كل مكان، أن التوصل إلى هذا التخلي يحتاج إلى أن يبذل الإنسان أقصى ما يمكنه بذلُه من تعب وجهد وعناء.

إذا كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن العلو في علاقته بنا هي طريقة التعبير بقضايا وعبارات جدلية، فإن الأمر نفسه ينطبق على الصيغ التي ترشدنا إلى عملية العلو نفسها؛ إذ إنها لا تتم إلا من خلال عبارات متناقضة على صورة و… وكذلك و، ولا، ولا لا؛ أي: عليك أن تقوم بها كما أن عليك ألا تقوم بها، وعليك ألا تقوم بها وألا تمتنع عن القيام بها.

إن الخلاص من كل «ما» هو أصعب الأشياء وأسهلها في وقت واحد؛ ويرجع هذا إلى أنه يتطلب منا الاتجاه نحو ذلك الذي يختلف عن كل «ما» كما يعلو علينا علوًّا غير متناهٍ؛ من حيث إننا كائنات متناهية.

هكذا يكون البحث في مفهوم الحرية قد انتهى بنا إلى التصوف. وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن التفكير في مفهوم الحرية بمعناها الخالص الحاسم لا بد أن يؤدي بنا إلى التصوف.

أشرنا من قبلُ إلى أن كل علو يظل متعلقًا بما يعلو عليه، ومهما كان من تفوق العالي وسموِّه على ما يعلو عليه، فإنه يظل دائمًا متعلقًا به. هنا نجد الحد الفاصل بين التصوف والميتافيزيقا؛ إن المتصوف لا يكتفي بالعلو فوق نفسه وفوق العالم، وإنما يقوم بما هو أجلُّ من هذا وأقل منه في وقت واحد، إنه يتخلى عن نفسه وعن العالم، بل إنه في الحقيقة لا يتخلى عن العالم بقدر ما يخرج منه.

قلنا منذ قليل إن التخلي عن «الما» يتطلب الاتجاه نحو ذلك «الغير» الذي يختلف عن كل ما هو «شيء». والحق أن عدم الارتباط بشيء لا يعني على الإطلاق عدم الارتباط، أو، إن شئنا، عدم الالتزام المطلق. فهذه الفكرة لا تقل في سخفها وبطلانها عن فكرة «العدم المطلق»؛ وإنما هو الوجه الآخر لالتزام أو ارتباط أقوى وأمتن من أي التزام أو ارتباط؛ لأنه يربط بغير رباط ولا حبال.

إن الحرية بمعناها الدقيق هي التحرر من اﻟ «ما»، وهذا التحرر لا يتحقق إلا على أساس الارتباط أو الالتزام بالعلو؛ لأن العلو وحده هو الذي يلزمنا إلزامًا مطلقًا.

بيد أن مفهوم الحرية — بوصفه مفهومًا داخلًا في نطاق العالم — له أيضًا جانب إيجابي، فليست الحرية فقط حرية «من كذا»، ولكنها كذلك حرية «لأجل كذا»، وبهذا وحده يمكننا أن نصل إلى المفهوم الكامل للحرية في نطاق هذا العالم.

ولكن ما هذا الذي يعد الملتزم بالعلو «حرًّا لأجله»؟ من الواضح أنه لا يوجد عالم وراء العالم.٩٩ ومن ثم فلا يمكن أن يكون ذلك الذي لأجله يتحرر الملتزم بالعلو سوى ذاك الذي تحرر منه، وأعني به «الما» أو العالم.

وإذا نظرنا هذه النظرةَ إلى العلو فوق «كل ما هو من العالم»، تبين لنا أنه لا يؤدي بنا إلى الابتعاد عنه، وإنما يجعلنا نصل إليه بحق؛ لأن ذلك الذي تحررت «منه»، هو وحده الذي تحررت «لأجله»، والإنسان الذي تحرر من العالم هو وحده الذي تحرر له، ولن يكون حرًّا للعالم حريةً كاملة إلا مَن تحرر منه حريةً كاملة.

وإذا وصفنا الحرية من العالم — وهي الوجه الآخر من الالتزام بالعلو — بأنها هي الحرية المتعالية، ووصفنا الحرية من أجل العالم بأنها الحرية العالمية؛١٠٠ استنتجنا من هذا أن الحرية العالمية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الحرية المتعالية، فتلك الحرية تفترض هذه.

من هنا يتضح لنا سخف بعض الشعارات الرائجة التي يتسرع أصحابها بإدانة الفكر المتجه نحو العلو والحكم عليه بالبطلان، مثل شعار الهروب من العالم أو الاغتراب عن العالم. صحيح أن الإنسان الذي يقوم بعملية العلو إنسان غريب عن العالم، بالمعنى الأصيل لكلمة الغربة؛ وهو البعد عن العالم، ولكن بُعده عن العالم هو الذي يجعله قريبًا منه، بل هو وحده الذي يمكِّنه من هذا القرب الحقيقي منه.

(٦) العلو والمعنى

وأخيرًا نتناول السؤال عن المعنى الذي يرتبط أوثقَ ارتباط بالسؤال عن الواقع والأصالة والحرية.

يقول نيتشه في خاطرة من خواطره التي جُمعت ونُشرت بعد موته: «خطر الأخطار: كل شيء ليس له معنًى.»١٠١

ولكن لماذا يكون هذا هو خطر الأخطار جميعًا؟

سنبدأ إجابتنا على هذا السؤال من القضية التي طرحها فتجنشتين قرب نهاية رسالته المنطقية الفلسفية: «إن معنى العالم لا بد أن يوجد خارجه».١٠٢

والحق أنه من الواضح أن معنى العالم لا يمكن أبدًا أن يكون داخله، كما أن كلمة «العالم» لا يمكن أن تكون هي الكلمة الأخيرة للفكر؛ لأنه لو كان معنى العالم في داخله، لكان هذا المعنى نفسه شيئًا من العالم أو عالميًّا، ولتحتم عليَّ أن أسأل مرةً أخرى عن معناه ثم أسأل بعد ذلك عن معنى المعنى … وهكذا إلى ما لا نهاية. ولكن اللانهائي — ولا بد من التفرقة بينه وبين غير المتناهي — هو الذي لا معنى له، وهكذا نقع في نوع من «التراجع العقيم إلى ما لا نهاية.»

ويمكننا أيضًا أن نناقش المسألة على نحو ما فعل فتجنشتين نفسه مع قيمة العالم — وللقيمة والمعنى عنده دلالة تشبه دلالتهما عند نيتشه — فنقول: لو كان معنى العالم موجودًا في داخل العالم، لَمَا كان له١٠٣ معنًى. أو يمكننا أن نعبر بطريقة أخرى فنقول: لما كان هناك معنًى للمعنى، ونود أن نوضح هذا بالتأمل التالي: إن المعنى — بمعناه الأصيل المطلق — ينبغي أن يلزمنا بصورة مطلقة، وهو لا يمكن أن يكون عالميًّا أو من العالم؛ لأننا نستطيع في هذه الحالة بحكم كونه متناهيًا، أن نبتعد عنه؛ أي: أن نرتفع فوقه. ولا يمكن أن يلزمنا المعنى الموجود داخل العالم إلزامًا أصيلًا إلا إذا تأسس على شيء موجود خارجه. ومن ثم يمكننا أن نعبر عن هذه الفكرة بهذه الصيغة: يتحتم أن يوجد المعنى في العالم، أما معنى المعنى فيتحتم أن يوجد خارجه.

خارج العالم. وهذا يعني: خارج كل شيء على وجه الإطلاق، وهذا يعني أيضًا أن معنى المعنى لا بد أن يكون متعاليًا، وفي عالم تلاشي منه العلو، لن يكون ثمة معنًى للمعنى، ولن يكون فيه اخضرار في الأخضر ولا كلمة في الكلمة.

بهذا نكون قد توصلنا إلى علامة أخرى من علامات العلو، لعلها أن تكون أهمها جميعًا؛ وهي المعنى. ومن هنا يكون تلاشي المعنى علامةً على تلاشي العلو، ويكون نيتشه محقًّا في أن يصفه١٠٤ بأنه خطر، لا، بل بأنه أخطر الأخطار جميعًا.

إن معنى كل شيء على الإطلاق لا بد أن يكون معنًى متعاليًا، وحين يعجِز الإنسان عن تجاوز كل شيء والعلو فوق كل شيء، فلن يبقى هناك معنًى لأي شيء.

إن معنى العالم الذي يوجد خارج العالم، أي: معنى المعنى، لا يمكن التعبير عنه أو وضعه في صيغة لغوية؛ فلا توجد كلمة تعبر عنه، كما لا توجد كلمة تعبر عن السر الحقيقي؛ ولهذا فإن هذا السؤال: ما هو معنى العالم؟ يصبح أيضًا بلا معنًى. إن معنى العالم لا يمكن أن يكون «شيئًا ما».

ولكن إذا كان مثل هذا السؤال خاليًا من المعنى، فإنه لا يمثِّل بحال من الأحوال كلَّ شيء في هذا العالم، فحيثما عشنا وفكرنا من خلال العلو، تكوَّن المعنى بلا لغة ولا كلام، وهو لا ينفك يتكون بقدرِ ما نعيش العلوَّ ونفكر فيه.

١  فضَّلت هنا وفي الصفحات التالية أن أستخدم كلمة الجدل بدلًا من الديالكتيك وإن كنت سأتصرف معها كما تصرفت مع كلمة «الترانسندنس»، فلا أذكر الكلمة الأجنبية — اليونانية الأصل — إلا حيث يقتضي السياق النظر في اشتقاقها الأصلي.
٢  انظر نقد العقل الخالص، ب ٨٦١ B 861.
٣  أي: الصدام أو الاصطدام بالمطلق، وهو المشكلة الكبرى التي ظلت تعذب فكر كيركجارد.
٤  أعمال كيركجارد السابقة، المجلد الرابع، ٢٠٤.
٥  أعمال كيركجارد السابقة، المجلد الرابع، ٢٠٥.
٦  حرفيًّا هو عنصره الأوَّلي أو أساسه الذي يقوم عليه.
٧  أي: يمكن رؤيتها رؤية عيانية.
٨  أي: الهذا أو الهو. وقد فضلت الاكتفاء بأداة التعريف في نقل العبارة الأصلية (لاحِظ أن المؤلف وضع خطًّا تحت أداة التعريف).
٩  أو الفلسفة الكلاسيكية.
١٠  أي: عن طريق فعل العلو فوق كل شيء عادي يمكن الإشارة إليه.
١١  نصه باللاتينية aliquid quo nihil majus cogitari potest. انظر البروسلوجيون (أو المقال في وجود الله) للقديس أنسيلم الكانتربيري، الفصل الثاني.
١٢  انظر المرجع السابق (البروسلوجيون)، الفصل الخامس عشر.
١٣  وبتعبير أنسيلم Quiddam majus quam cogitari possit.
١٤  هيجل، مقدمة ظاهريات الروح، في المجلد الثاني من الطبعة التذكارية التي نشرها هرمان جلوكنر، سنة ١٩٢٧م وما بعدها حتى سنة ١٩٤٠م.
١٥  أي: لا بد أن يكون طرفًا في علاقة التضاد مع طرف آخر مقابل له.
١٦  أي: يقبل النفي أو يجوز عليه أن يُنفى ويلغى.
١٧  أي: ما لا يدخل في نطاق العالم ولا يمت له بصلة.
١٨  إليك النص اللاتيني الأصلي، مع ملاحظة الكلمات التي تحتها خط لأهميتها في التفسير التالي:
“Quid est illud, quod interincet mihi et percutit cor meum sine laesione: Et inhorresco et inardesco: inhoresco in quantum dissimilis ei sum, inardesco, in quantum similis ei sum.”
١٩  iuquantum، ويلاحظ المؤلف هنا أن المترجم الألماني للاعترافات، وهو يوسف برنهارت، ينقل العبارة هكذا: «لأنني مختلف عنه كل الاختلاف، ولأنني أشبهه كل الشبه.»
٢٠  حرفيًّا: دون جرح.
٢١  Percutere.
٢٢  Sapientia.
٢٣  Miro modo.
٢٤  dissimlis.
٢٥  similis.
٢٦  الكلمة الألمانية الحديثة هي Andersheit (حرفيًّا: الآخرية)، ويلاحظ المؤلف هنا أنها ترِد في الألمانية الوسطى هكذا anderheit، كما ترِد في هذه الصورة نفسها في شِعر أنجيلوس سيلزيوس الشاعر الصوفي الكبير الذي سبقت الإشارة إليه، وفي فلسفة شيلنج. وأرجو أن يلاحظ القارئ أن الغيرية من «الغير» ولا صلة لها بالغيرية أو الإيثار.
٢٧  ϑάτερον (ثاتيرون)، والإشارة إلى محاورة السفسطائي ٢٥٤ ت وما بعدها. انظر الترجمة العربية الممتازة للأب فؤاد جرجي بربارة عن طبعة دبيس، ص١٦٨ وما بعدها، دمشق، وزارة الثقافة، ١٩٦٩م.
٢٨  έτερότης هنيرونيس.
٢٩  انظر: أرسطو، الميتافيزيقا، ١، ٥٨.
٣٠  هيجل، الطبعة التذكارية لأعماله الكاملة في عشرين مجلدًا، نشرة جلوكنر، ١٩٢٧م، المجلد الرابع، ١٢٢ وما بعدها.
٣١  حرفيًّا: من كل ما يميز كونه مخلوقًا.
٣٢  الميستر إكهارت، الأعمال الألمانية، نشرها وترجمها يوسف كوينت ١٩٥٨م و١٩٦٣م، ١ و١٦٥.
٣٣  يلاحظ المؤلف أن يوسف كوينت مترجم إكهارت يترجم الكلمة بالغرابة أو الغربة.
٣٤  يلاحظ المؤلف هنا أن كلمة مختلف في الألمانية Verschieden هي صيغة الماضي الأتم من فعل Verscheiden الذي كان في الأصل يُستخدم بصيغة التعدي بمعنى: يفرِّق أو يميز.
٣٥  يشير المؤلف هنا إلى أن كلمة «غير» تُستخدم في اللغة الشائعة للتعبير «عما يتورع الإنسان عن وضعه في فمه»؛ وذلك حين يقول القائل: لقد تغيرت، أو تغير حالي، ويقصد أن حاله ساءت إلى حد الغثيان والتقيؤ.
٣٦  أي: ذلك الذي يؤدي إليه العلو المطلق أو يتجه إليه.
٣٧  راجع ما سبق قوله عن الغيرية والاختلاف بين الحجر والنبات والحيوان والإنسان.
٣٨  وهي، كما يتضح مما سبق، المفاهيم التي تحد المعرفة البشرية، وتشير في نفس الوقت إلى ما يقع وراءها. ومفهوم «النومين» أو الشيء في ذاته عند كانط من أشهر هذه المفاهيم، ومثله مفهوم العالي والمجهول المطلق والسر المطلق … إلخ. والمفاهيم والتصورات والمواقف الحدية تلعب كذلك دورًا كبيرًا في فلسفة ياسبرز.
٣٩  نقول «الأشياء» ونضعها بين معقوفتين؛ لأنه لا يمكن بطبيعة الحال أن يكون شيئًا، ولكن اللغة تكشف هنا وفي مواضع أخرى عديدة عن عجزها وعجزنا.
٤٠  يشير المؤلف إلى الاشتقاقات الأخرى من كلمة eigen (خاص) مثل eigentlich (في الواقع، في الحقيقة)، وeigentümlich (عجيب، متميز، ملفت للنظر)، وكلاهما يدل في أصله على معنى الملك والامتلاك. وتُستخدم الكلمة الأولى للدلالة على المعنى الأول من eigen، كما تُستخدم الثانية للدلالة على معناها الأول، فتقول مثلًا إن لكل كلمة معنًى خاصًّا بها هو معناها الأصلي (eigentlicher ومعناها المميز المخصوص بها eigentümich).
٤١  Eigenheit (الخصوصية، ولكنه قريب أيضًا من معنى الأصالة).
٤٢  الأصيل هنا تقابل eigentlich، ويقصد المؤلف أن فلسفة الوجود تستخدم هذا المعنى بغير الرجوع إلى المعنى الأصلي الذي يدل على الخصوصية.
٤٣  خصوصًا في كتاب الوجود والزمان لهيدجر.
٤٤  عنوان هذه العظة باللاتينية: justi vivent in aeternum.
٤٥  إليك نص هذه العبارة باللغة الألمانية الوسطى:
“Min liplicher Vater ist niht eigentiche min Vater.”
راجع الأعمال الألمانية للميستر إكهارت، ١ و١١٠ …
٤٦  يشير المؤلف هنا إلى تفرقة فقهاء القانون بين فعل يملك أو يشغل (besitßen) وفعل gehören (ينتمي ﻟ … يملك) إذ قد أشغل بيتًا أسكنه ولكنني لا أملكه. كما يشير إلى أنه سيستخدم فعل gehören (وهي في الأصل تضعيف يسمع hören) بمعنى يناسب أو يلائم.
٤٧  العالمي هنا، كما سبقت الإشارة، صفة لكل ما هو من العالم أو كل ما يمت له بسبب Das Melthafte.
٤٨  باسكال، الأفكار، الفكرة ٤٣٤ (طبعة برولشفيح).
٤٩  eigen، وقد سبقت الإشارة إليها.
٥٠  ureigen أي: ما يخصنا على الأصالة ومنذ القدم وينبع من طبيعتنا وماهيتنا الحقيقية.
٥١  أي: كلما ازددنا تعلقًا بأنفسنا قلَّ تعلقنا بالله ووهنت صلتُنا به؛ لأن تملُّكنا لأنفسنا يحول دون تملك الله لنا.
٥٢  إليك النص الأصلي في الألمانية الوسطى:
“Jâ ie mer wir eige sîn, je minner eigen.”
٥٣  كلمة المبدأ هنا قاصرة عن التعبير عن الكلمة الأصلية Grund التي يصعب نقلها إلى العربية، فهي قد تعني المبدأ والأصل والسبب والعمق والباطن والأرضية … إلخ؛ مما أشرنا إليه في موضع سابق.
٥٤  أعمال إكهارت، ١ و١٦٢.
٥٥  نيتشه: إنساني، إنساني جدًّا، الجزء الثاني، القسم الأول، ٢.
٥٦  يقصد كلمة الواقع Wirklichkeit.
٥٧  wirklich واقعي.
٥٨  إكهارت، الأعمال الألمانية، ٥ و٢٩١.
٥٩  Wirksamkeit، ويشير المؤلف هنا أن كلمة Wütklicheit وكلمة Werkelicheit في اللغة الألمانية الوسيطة تدلان على الفاعلية أو «الشغل» أو العمل المنتج المؤثر Werktātigkeit.
٦٠  وهي Wirklichkeit كما سبق القول.
٦١  wirklich.
٦٢  Wirklicheia.
٦٣  Werktātig.
٦٤  Werktâtigkeit.
٦٥  wioksam.
٦٦  Wirksamkeit.
٦٧  وهما operabilitas, actualitas.
٦٨  أديب نمساوي كبير، وُلد في فيينا سنة ١٨٧٤م، ومات في روداون سنة ١٩٢٩م، كان طفلًا معجزًا، نضج في فترة مبكرة، فكتب أولى قصائده وهو في السادسة عشرة من عمره، ومطلعها يدل على منحنى فكره وشعوره: «ناضج قبل الأوان، حنون وحزين.» درس الحقوق واللغات الرومانية، وحصل على الدكتوراه من جامعة فيينا، قام برحلات عديدة إلى فرنسا وبلاد البحر الأبيض، وكُلف بمهامَّ دبلوماسية في الحرب العالمية الأولى، شارك في تحرير مجلة «الصباح» وأسس «المكتبة النمساوية»، وجمعت الصداقة بينه وبين الموسيقي الشهير ريشارد شتراوس الذي ألف له عددًا كبيرًا من أوبراته (مثل إليكترا وأريادنه في جزيرة ناكسوس والفارس الوردي وهيلينا المصرية، والمرأة التي لا ظل لها … إلخ) وهو شاعر وكاتب مسرحي وقاصٌّ، وكاتب مقالات تتميز جميعًا بأسلوبها الغنائي الساحر الرقيق، مع أحساس غالب بالحزن والاكتئاب والانهيار الحضاري، وتمكن من الشكل الفني وارتباط عميق بأفضل ما في التراث الغربي والألماني. تأثر في بداية حياته بالرمزية الفرنسية، ثم مال إلى الأسلوب التأثري والرومانتيكي الجديد الذي يُعنى بالصور والألوان والأنغام. جدَّد التراجيديا القديمة وتمثيليات الأسرار والتمثيليات الشعبية التي عُرفت في العصور الوسطى، وله فضل كبير على المسرح الموسيقي.
٦٩  wirkend.
٧٠  Wirklichkeit.
٧١  Dinglichkeit.
٧٢  راجع هوجوفون هوفمنستال، خواطر وانطباعات، ١٩٥٩م، ص٧٥.
٧٣  wirken أي: يحدِث أثرًا أو يحقق عملًا. ولعل الفعل «يوقع» أن يكون قريبًا من المعنى الأصلي الذي اشتُق منه «الواقع».
٧٤  Potentia: actas.
٧٥  τνέργεια — εύναις (ديناميس إنبرجيا).
٧٦  أي: كلمة الواقع Wirklichkeit.
٧٧  أي: Das؛ اسم الإشارة أو أداة التعريف في الألمانية. ويشير المؤلف بين معقوفتين إلى أنه يستخدمها بالمعنى الذي قصده الشاعر والكاتب المسرحي أرنونادل (١٨٧٨–١٩٤٣م) عندما قال في ديوانه (النغمة) (٢٩٣١): إن «هذه هي آخر شيء»؛ أي: «أول الموجودات وآخرها».
٧٨  هوجوفون هوفمنستال، الكتابات النثرية، المجلد الثالث، ١٩٥٢م، ص٣٨٢.
٧٩  وجهات النظر الشاملة عن العالم أو الأيديولوجيات، ترجمة للكلمة الألمانية Weltanschauung التي تصعب ترجمتها، وكثيرًا ما تحتفظ بها اللغات الأوربية الأخرى.
٨٠  انظر: هيدجر، طرق مسدودة، ١٩٥٠م، ص٦٩ وما بعدها.
٨١  Mundi theatrum انظر لديكارت: التأملات الخاصة: Cogationes privatae.
٨٢  انظر لنيتشه: إرادة القوة، الحكمة رقم ٧٨.
٨٣  المرجع نفسه، الحكمة ٦٨.
٨٤  أرجو أن يلاحظ القارئ أن كلمة «حقيقي» أنسب من «واقعي» في التعبير عن جو القصيدة وروحها، لولا أنني وجدت أنها تخالف السياق العام للبحث.
٨٥  Witold Hulewiez.
٨٦  انظر: رسائل رلكه، ١٩٥٠م، المجلد الثاني، ص٤٨١. ويلاحظ أن العبارة التي وضع تحتها خط مكتوبة في الأصل بالحروف المائلة، وذلك تأكيدًا من الشاعر نفسه لأهميتها. أما عن «الملائكة» ودلالتها في شعر رلكه، وبخاصة في قصائده المعروفة ﺑ «مرثيات دوينو»، فأرجو أن ترجع إلى الجزء الثاني من كتابي ثورة الشعر الحديث الذي تجد فيه المرثية الأولى والتعليق عليها.
٨٧  باسكال: الأفكار، الفكرة رقم ٣٤٧.
٨٨  أو Solipsism، وهي كلمة مركبة من الكلمتين اللاتينيَّتين Solus أي: وحيد، وipse أي: نفس أو ذات. وهي تدل من الناحية النظرية على الأنانية، أما من الناحية الفلسفية فتدل على الرأي الذي يزعم أن الأنا الذاتية — بما تنطوي عليه من المضمونات الشعورية — هي الموجود الوحيد. ويرى شوبنهور أن المتطرفين في هذا الرأي ينبغي أن يوضعوا في مستشفى المجانين! ومع ذلك فإن هناك موقفًا معتدلًا يقول بوجود أنا فوق الأفراد هي التي تحمل مضمونات الشعور والوعي، كما أن هناك اتجاهًا منهجيًّا يبدأ «بالأنانة»؛ لكي ينطلق منها إلى الواقع الموجود خارج الأنا أو الذات، ويمكن القول بأن ديكارت وهانز دريش يعبران عن هذا الاتجاه.
٨٩  أي: تساويها في النهاية أو تصبح وإياها شيئًا واحدًا. راجع الرسالة المنطقية الفلسفية (٥ و٦٤).
٩٠  أي: من حيث ماهيته وطبيعته الجوهرية.
٩١  يلاحظ أن الفعل الأصلي bedienen معناه تأدية خدمة معينة. وقد حاولت التوفيق بين خدمة الآلة وتشغيلها.
٩٢  الهو أو الهذا أو اﻟ Es تنزيهًا له عن كل تسمية. ويلاحَظ أن للمؤلف مجموعةً رائعة من الخواطر والحكم الفلسفية المنشورة التي نشرها بعنوان «نحن وهو»، زيورخ ١٩٥٧م (Wir und Es, Zuirich 1957).
٩٣  الكلمة التي يستخدمها اسبينوزا ويذكرها المؤلف هي الكلمة اللاتينية servitus أي: العبودية، ولكنه يترجمها باللاحرية.
٩٤  Abgeschiedenheit.
٩٥  Gelassenheit.
٩٦  أنجيلوس سيلزيوس، المتجول الملائكي، ١ و٤٤.
٩٧  أو لا بد بالضرورة أيضًا أن يحب لا شيء.
٩٨  التعبير القرآني يدل دلالة كاملة على المعنى المقصود (وهو بالطبع إضافة مني).
٩٩  هذه العبارة لا تتعارض مع الشعور الديني ولا تجرحه، وإنما تؤيده وتعززه. والمقصود بها أن «العالم الآخر» لا يصح ولا يمكن أن نتصوره على صوره «هذا العالم الدنيوي»، وإلا افترض عالمًا آخر وراءه، وهو محال؛ أي: لا بد أن تكون «الأخرى» مختلفةً تمامَ الاختلاف عن «الدنيا». وإن كان الرجل العادي في حاجة بالطبع إلى مثل هذه الصور والرموز.
١٠٠  نسبة للعالم.
١٠١  نيتشه، براءة الصيرورة، ضمن الكتابات التي تركها بعد موته، جمعها واختارها أ. بويملر، ١٩٣١م، الجزء الثاني، ص٥٥٢.
١٠٢  لودفيج فتجنشتين، الرسالة المنطقية الفلسفية، ٦ و٤١.
١٠٣  أي: لَمَا كان للمعنى معنًى.
١٠٤  أي: تلاشي المعنى والقول بأنه ليس هناك معنًى لأي شيء؛ أي: القول بالعدمية التي حاربها نيتشه في نفسه وفي عصره، كما وصف نفسه بأنه «آخر العدميين»؛ تمهيدًا لميلاد عصر جديد ذي قيم جديدة يجسدها إنسان جديد (الإنسان الأعلى).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤