مقدمة

تحيا البشرية الآن على أعتاب عصر الاكتشافات؛ فأعظم تجارب فيزياء الجسيمات وعلم الكونيات وأكثرها إثارةً تمضي قُدُمًا، في حين ينصبُّ تركيز العديد من أبرز العلماء الموهوبين في مجالي الفيزياء والفلك على ما تُفضِي إليه هذه التجارب من نتائج. وما سيتوصل إليه العلماء في العقد التالي قد يقدِّم أدلةً ستغيِّر في النهاية من نظرتنا للتركيب الأساسي للمادة، بل للفضاء ذاته، وقد تمنحنا هذه الأدلة كذلك صورةً أكثر شمولًا لطبيعة الواقع. ومَن يُولِي هذه التطورات اهتمامًا لا يتوقَّع أن تكون مجرد إضافات لعصر ما بعد الحداثة فحسب، وإنما ما نطمح إليه هو التوصُّل إلى اكتشافات يمكن أن تقدِّم نموذجًا فكريًّا خاصًّا بالقرن الحادي والعشرين، مختلفًا على نحو جذري بشأن بِنْية الكون الأساسية، ومن شأن ما يمنحه لنا هذا النموذج من معارف أن يغيِّر الصورة المحفورة في مخيلتنا عن التركيب الأساسي للكون.

شهد يوم العاشر من سبتمبر عام ٢٠٠٨ حدثًا تاريخيًّا؛ ألا وهو التشغيل التجريبي الأول لمُصادِم الهادرونات الكبير، ورغم بساطة هذا الاسم وافتقاره لعنصر الإلهام، فإن ذلك لا ينطبق على الإنجازات المتوقَّع منه تحقيقها، والتي من المُنتظَر أن تكون فريدةً من نوعها. يشير وصف «الكبير» هنا إلى المُصادِم لا إلى الهادرونات؛ إذ يحتوي على نفق حلقي ضخم يبلغ طوله ٢٦٫٦ كيلومترًا،1 ويمتد إلى عمق كبير تحت الأرض ما بين جبال جورا وبحيرة جنيف، مارًّا بالحدود الفرنسية السويسرية. وتعمل المجالات الكهربائية داخل هذا النفق على تعجيل حزمتَيْ جسيمات تتكوَّن كلٌّ منهما من مليارات البروتونات (التي تنتمي إلى فئة من الجسيمات تُسمَّى الهادرونات؛ ومن هنا جاء اسم المُصادِم)، بحيث تدوران داخل النفق الحلقي بمعدل ١١ ألف دورة في الثانية الواحدة تقريبًا.

ويضم المُصادِم ما يُعَدُّ — من نواحٍ عِدَّة — أعظمَ التجارب وأكثرها إذهالًا على الإطلاق. والهدف منه هو إجراء دراسات مُفصَّلة لبنية المادة عند مسافاتٍ لم يسبق قياسها قطُّ، وطاقاتٍ أعلى من أي طاقات سبق استكشافها من قبلُ. هذه الطاقات من المفترَض أن تُنتِجَ مجموعةً من الجسيمات الأساسية العجيبة، وتكشف عن تفاعلات حدثت في وقت مبكر من نشوء الكون، بعد وقوع الانفجار العظيم بنحو جزء من التريليون من الثانية.

وصل تصميم هذا المُصادِم بالابتكار والتكنولوجيا إلى أقصى حدٍّ لهما، وفرَضَ تشييدُه قدرًا أكبر من العقبات. لكن بعد تسعة أيام فقط من بدء تشغيل المُصادِم المُبشِّر بالنجاح، تسبَّبت وصلة لحام خاطئة في وقوع انفجار به؛ ما أصاب الفيزيائيين وغيرهم من المهتمِّين بالتوصُّل لفهم أفضل للطبيعة بالإحباط. لكن عندما عاد المُصادِم للعمل في خريف ٢٠٠٩ — وعمل على نحوٍ أفضل من أي توقعات — غَدَا ما بُشِّرنا به على مدى ربع قرن من الزمان واقعًا ملموسًا أمام أعيننا.

وفي ربيع العام ذاته، أُطلِق القمران الصناعيان «بلانك» و«هيرشل» من جويانا الفرنسية. كنت قد علمت بموعد هذا الحدث من مجموعة من روَّاد الفضاء المتحمسين الذين يعملون في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك). كان أولئك الروَّاد قد التَقَوا في الساعة الخامسة والنصف صباحَ يوم ١٣ مايو في باسادينا — التي كنتُ أزورها حينها — ليشهدوا ذلك الحدث التاريخي عن بُعْدٍ. كان من المنتظر أن يقدِّم القمرُ الصناعي هيرشل معلوماتٍ دقيقةً عن تكوُّن الأقمار، في حين يقدِّم القمرُ بلانك تفاصيلَ حول الإشعاع المتخلِّف عن الانفجار العظيم؛ الأمر الذي سيؤدِّي بدوره إلى التوصُّل لمعلومات جديدة حول التاريخ المبكر للكَوْن الذي نعيش فيه. عادةً يكون هذا النوع من عمليات الإطلاق مثيرًا، لكنه مسبِّب للتوتر في الوقت ذاته؛ إذ تبوء اثنتان من بين كلِّ خمس عملياتِ إطلاقٍ بالفشل، لتَضِيع معها هباءً سنواتٌ من العمل على المعَدَّات العلمية المُخصَّصة التي تشتمل عليها هذه الأقمار الصناعية التي تسقط عائدةً إلى الأرض. لكن، لحسن الحظ، تُوِّجت عمليةُ إطلاق القمرين بالنجاح، وأخذت المعلومات الواردة من القمرين تتوالى، شاهِدةً على مدى نجاح عملية الإطلاق. لكننا مضطرون للانتظار عِدَّة أعوام قبل أن يقدِّم لنا هذان القمران أهمَّ ما يمكنهما تقديمه من بيانات حول الأقمار والكَوْن.

•••

تقدِّم الفيزياء الآن جوهرًا معرفيًّا موثوقًا حول كيفية عمل الكَوْن على نطاق مسافات وطاقات هائلة. وقد أَسبغَتِ الدراساتُ النظرية والتجريبية على العلماء فهمًا عميقًا بشأن العناصر والبِنى، بدءًا من تلك البالغة الصغر وصولًا إلى الضخمة منها. وتوصَّلنا بمرور الوقت إلى تصوُّرٍ شاملٍ ومُفصَّل لكيفية اتساق هذه الأجزاء معًا. كما نجحت النظريات في أن تصف كيفية تطوُّر الكَوْن من مُقوِّمات ضئيلة الحجم تشكَّلت منها الذرَّات، تلك الذرات التي الْتَحمت بدورها مكوِّنةً النجوم التي تشتمل عليها المجرَّات والبنى الأكبر حجمًا المنتشرة في أرجاء الكَوْن؛ وكيف تفجَّرت بعد ذلك بعضُ النجوم وشكَّلت عناصرَ ثقيلة دخلت في مجرَّتنا ونظامنا الشمسي، وهي العناصر التي تلعب دورًا غايةً في الأهمية في نشأة الحياة. وباستخدام النتائج الآتية من مُصادِم الهادرونات الكبير وما تكْشف عنه الأقمار الصناعية كتلك التي ذكرناها فيما سبق، يطمح الفيزيائيون الآن في البناء على هذه القاعدة الشاملة ذات الأساس المتين من أجل توسيع نطاق فهمهم، بحيث يشمل المسافات الأصغر والطاقات الأكبر، ويصل إلى قَدْرٍ من الدقة لم يتوصَّل إليه أحدٌ من قبلُ قطُّ. إنها مغامرة حقيقية، وغاياتنا فيها بعيدة المدى.

لعلك سمعتَ من قبلُ تعريفاتٍ واضحةً للغاية ودقيقةً من الناحية الظاهرية للعلم، خاصةً عند مقارنته بنُظُم المعتقدات، مثل الدين. لكن القصة الحقيقية لتطوُّر العلم معقَّدَة، ورغم أننا نفضِّل التفكير في العلم — على الأقل هذا ما فعلتُه عند بداية عملي به — باعتباره انعكاسًا موثوقًا به للعالم الخارجي والقواعد التي تحكم العالم المادي، فإن الأبحاث الفعلية تُجرَى على نحوٍ شبه محتوم في إطار من الإبهام نطمح من خلاله في تحقيق التقدُّم، لكن حيث لا نتمتع بيقين حقيقي. والتحدي الذي يواجِهه العلماء هو المثابرة في العمل على أفكار واعدة، مع التشكُّك فيها طوال الوقت بهدف التحقُّق من صِدْقها وتبعاتها. فالبحث العلمي ينطوي حتمًا على محاولة الحفاظ على التوازن بين الأفكار الصعبة والمتناقضة والمتنافسة أحيانًا، لكن المثيرة غالبًا. والهدف من ذلك هو توسيع حدود المعرفة. لكن عند التعامل مع البيانات والمفاهيم والمعادلات للمرة الأولى، قد يساوِر الجميعَ عدمُ اليقين بشأن التفسير الصحيح لها، بما في ذلك أكثر المشاركين انخراطًا في هذا العمل.

ينصبُّ تركيزي فيما أُجرِيه من أبحاث على نظرية الجسيمات الأولية (دراسة أصغر أجسام توصَّلتْ إليها المعرفة البشرية)، مع الانتقال من حين لآخَر إلى نظرية الأوتار وعلم الكونيَّات (دراسة أكبر الأجسام حجمًا). فأسعى أنا وزملائي لفهم ما يوجد في قلب المادة، وما يوجد في الكَوْن، وكيف ترتبط في النهاية جميع الخصائص والكميات الأساسية التي يكتشفها الفيزيائيون التجريبيون معًا. لا يُجرِي الفيزيائيون النظريون أمثالي التجاربَ الفعليةَ التي تحدِّد أي النظريات تنطبق على العالم الواقعي، وإنما نحاول التنبُّؤَ بالنتائج التي من الممكن أن تتوصَّل إليها مثل هذه التجارب، والمساعدةَ في تطوير أساليب مُبتكَرَة للتحقُّق من صحة الأفكار. وليس من المرجح أن تغيِّر الأسئلة التي نحاول الإجابة عنها ما يتناوله الناس من طعام على العشاء يوميًّا في المستقبل القريب، لكن هذه الدراسات من شأنها مَنْحُنا المعرفة في النهاية بشأن مَن نحن ومِن أين أتينا.

يتناول «الطرق على أبواب السماء» الأبحاث التي نجريها، وأهم الأسئلة العلمية التي تواجهنا. فالتطورات الحديثة في فيزياء الجسيمات وعلم الكونيات تملك القدرة على أن تغيِّر جذريًّا فهمنا للعالم؛ من حيث بِنْيَته وتطوُّره والقوة الأساسية التي تحرِّكه. يصف هذا الكتاب الأبحاثَ التجريبية القائمة في مُصادِم الهادرونات الكبير، والدراسات النظرية التي تسعى للتنبؤ بما ستتمخض عنه تلك التجارب. كما أنه يصف الأبحاثَ القائمةَ في علم الكونيات، والكيفية التي نحاول بها استنتاج طبيعة الكون، وتحديدًا طبيعة المادة المظلمة الخفية الموجودة في كل مكان بالكون.

بَيْدَ أن «الطرق على أبواب السماء» له نطاق أوسع أيضًا؛ إذ يستكشف أسئلةً أكثر شمولية تتصل بجميع الأبحاث العلمية. وإلى جانب وصف حدود الأبحاث الحالية، يدور الموضوع الأساسي لهذا الكتاب حول توضيح طبيعة العلم أيضًا؛ فهو يصف كيفيةَ اتخاذنا القرارات بشأن الأسئلة التي علينا طَرْحها، وأسبابَ اختلافِ العلماء حول ذلك دومًا، وكيفيةَ انتشار الأفكار العلمية الصحيحة في النهاية. ويستعرض الكتاب أيضًا الأساليبَ التي يتقدَّم بها العلمُ بالفعل، والجوانبَ التي يتناقض فيها مع الأساليبِ الأخرى للبحث عن الحقيقة، مع طَرْح بعض الأُسُس الفلسفية التي يقوم عليها العلم، ووصف المراحل الوسيطة التي لا يكون مؤكدًا فيها إلى أين سينتهي بنا المآل، ومَن الذي على حقٍّ. وعلى القدر نفسه من الأهمية، يعرض الكتاب كيف يمكن تطبيق الأساليب والأفكار العلمية خارج نطاق العلم، ما يشجِّع بدوره على المزيد من عمليات صُنْع القرار العقلانية في سياقات أخرى أيضًا.

يستهدف هذا الكتاب القارئ غير المتخصص المهتم بما يطرحه من موضوعات، ويرغب في تعزيز فهمه للفيزياء النظرية والتجريبية الحالية، ويطمح في إدراكٍ أفضل لطبيعة العلم المعاصر ومبادئ التفكير العلمي السليمة. غالبًا لا يستوعب الناسُ حقًّا كُنْهَ العلمِ وما يمكن توقُّعه منه. والكتاب الذي بين يديك هو محاولة مني لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، وربما التنفيس قليلًا عن إحباطي بشأن كيفية فهم العلم وتطبيقه في الوقت الحالي.

لقد منحَتْني السنوات القليلة الماضية بعض الخبرات الفريدة، وأتاحت لي فرصةَ إجراءِ محادثاتٍ تعلَّمْتُ منها الكثير. وأودُّ مشاركة هذه الأمور هنا لتكون بمنزلة نقاط انطلاقٍ لاستكشاف بعض الأفكار المهمة. ورغم أنني لستُ متخصِّصةً في جميع المجالات التي أتناولها في هذا الكتاب — ورغم عدم اتساع المجال هنا لإيفائها جميعًا حقَّهَا — فإنني أطمح في أن يدفع هذا الكتاب بالقُرَّاء نحو سُبُل أكثر جدوى، مع توضيحه بعض التطورات الحديثة المثيرة أثناء ذلك. من المفترض كذلك أن يساعد الكتاب القُرَّاء في معرفة المصادر الأكثر موثوقيةً للمعلومات العلمية — ومصادر المعلومات الخاطئة — عند البحث عن المزيد من الأجوبة في المستقبل. قد تبدو بعض الأفكار التي يعرضها هذا الكتاب أولية للغاية، لكن الفهم الأشمل للأساس المنطقي للعلم الحديث سيساعد في تمهيد سبيل أفضل للبحث والمسائل المهمة التي يواجهها العالم المعاصر حاليًّا.

وفي ظل ما نعيشه من عصر الأفلام السينمائية المستندة إلى أحداث أجزاء سابقة لها، يمكن اعتبار هذا الكتاب القصة الأصلية لكتابي السابق له الذي يحمل عنوان «الطرق الملتوية»، مع تحديث يوضِّح الحال الذي نحن عليه الآن وتكهناتنا الحالية؛ فهو يسد الفجوات بتناوله أُسُس العلم التي تقوم عليها الأفكار والاكتشافات الحديثة، ويفسِّر سببَ ترقُّبنا ظهور بيانات جديدة.

يتنقَّل الكتاب بين تفاصيل العلم الذي يجري الآن من جانب، والأفكار المتعلقة بالمبادئ والموضوعات التي يقوم عليها هذا العلم وتُعَدُّ جزءًا لا يتجزَّأ منه، لكنها مفيدة في الوقت نفسه في فهم العالم الأوسع نطاقًا، من جانب آخَر. فيتناول كلٌّ من الجزء الأول من الكتاب، والفصلين الحادي عشر والثاني عشر في الجزء الثاني، والفصلين الخامس عشر والثامن عشر في الجزء الثالث، والجزء الأخير (كلمة أخيرة)؛ موضوعَ التفكيرِ العلمي، في حين ينصبُّ التركيز في الفصول المتبقية من الكتاب على الفيزياء؛ فتوضِّح موضعنا الحالي في هذا العلم الآن، وكيفية وصولنا إلى هذه المرحلة. فهو من نواحٍ عِدَّة كتابان في كتاب واحد، لكنهما كتابان يُفضَّل قراءتهما معًا. لعل الفيزياء الحديثة تبدو في نظر البعض بعيدةً كليةً عن حياتنا اليومية، فلا تمُتُّ لها بصلة ولا يمكن فهمها بسهولة أيضًا، لكن إدراك الأُسُس الفلسفية والمنهجية التي توجِّه تفكيرنا من شأنه إيضاح كلٍّ من العلم ووثاقة صلة التفكير العلمي بحياتنا، وهذا ما سنراه في العديد من الأمثلة التي سنطرحها. وعلى العكس من ذلك، لا يمكن الوصول إلى فهم كامل للعناصر الأساسية للتفكير العلمي إلا من خلال ممارسة العلم فعليًّا لإثبات الأفكار. ومَن يميل مِن القرَّاء لهذا الجانب أو ذاك قد يتجاوز جزءًا أو آخَر في هذا الكتاب، أو يمر عليه مرور الكرام، بَيْدَ أن التركيز على كلا الجانبين اللذين يتناولهما الكتاب يمنح القارئَ معرفةً متوازِنةً.

من المفاهيم المتكررة على مدار الكتاب مفهوم النطاق. وتقدِّم قوانين الفيزياء إطارًا متَّسِقًا للكيفية التي تتناغَمَ بها الأوصاف النظرية والمادية الثابتة لتشكِّل كيانًا متماسكًا، بدءًا من الأطوال المتناهية الصِّغَر التي تُكتشَف حاليًّا في مصادم الهادرونات الكبير، وصولًا إلى الحجم الهائل للنظام الكوني برمته.2 ويلعب مبدأ النطاق دورًا مهمًّا في تفكيرنا، وكذلك في المبادئ والأفكار التي سنواجهها. تنطبق النظريات العلمية المُثبَتة على نطاقاتٍ يسهل بلوغها، غير أننا عندما نضيف إليها المعرفة التي اكتسبناها حديثًا من مسافات لم يسبق لنا اكتشافها من قبلُ — صغيرة كانت أم كبيرة — تصير هذه النظريات جزءًا من نظريات أخرى أكثر دقة وجوهرية. ويركز الفصل الأول من الكتاب على تعريف عنصر النطاق، موضِّحًا كيف أن التصنيف حسب الطول أمر ضروري للفيزياء وللكيفية التي تُبنى من خلالها التطورات العلمية الحديثة على التطورات السابقة لها.

يستعرض كذلك الجزء الأول من الكتاب الأساليب المختلفة لتناول المعرفة، ويوضِّح أوْجُه الاختلاف بينها. فإذا سألت الناس عن فكرتهم عن العلم، فستحصل على إجابات متباينة بقدر تبايُن مَن طرحْتَ عليهم السؤال؛ إذ سيصِرُّ البعض على وصف العالم المادي بعبارات ثابتة جامدة، في حين سيعرِّفه آخرون بأنه مجموعة من المبادئ التي تخضع لتغيير دائم، وسيجيب فريقٌ آخَر بأن العلم ليس سوى نظام معتقدي آخَر، لا يختلف نوعيًّا عن الفلسفة أو الدين. والحقيقة أن كل هذه الإجابات خاطئة.

وطبيعة العلم المتجددة على الدوام هي السبب الرئيسي وراء وجود مثل هذا القدر الهائل من الجدل، الذي لا يُستثنَى منه المجتمع العلمي ذاته. ويعرض هذا الجزء جانبًا من التاريخ الذي يعكس كيف تعود جذورُ الأبحاث الحالية إلى التطورات الفكرية التي ظهرت في القرن السابع عشر، ويواصِل عرضَ عددٍ من مظاهر الجدل الأقل وضوحًا بين العلم والدين، وهي المواجهة التي نشأت بعض جوانبها آنذاك. ويتناول الجزء، فضلًا عن ذلك، النظرةَ المادية للمادة والتبعات الشائكة لهذه النظرة على مسألة الصراع بين العلم والدين، بالإضافة إلى قضية مَن يجدر بهم الإجابة عن الأسئلة الجوهرية في حياتنا، وكيف يفعلون ذلك.

أما الجزء الثاني من الكتاب، فينتقل بالقارئ إلى التكوين الفيزيائي للعالم المادي، ويمهِّد السبيلَ للرحلة العلمية التي سيأخذك فيها بعد ذلك مستكشِفًا المادة، بدءًا من النطاقات المألوفة وصولًا إلى النطاقات بالغة الصِّغَر، مع اتباع أسلوب التقسيم دومًا حسب النطاق. وهذا السبيل سيأخذنا من أراضٍ نَأْلفها إلى أحجام دون المجهرية لا يمكن لشيء استكشاف بِنْيَتها الداخلية سوى معجِّلات الجسيمات الضخمة. وينتهي الجزء بتقديم بعض التجارب المهمة التي تُجرَى الآن — مثل مصادم الهادرونات الكبير، والمسبارات الفلكية التي تستكشِف المراحلَ المبكرة من الكَوْن — والتي من المفترض أن تصل بفهمنا إلى آفاقٍ غير مسبوقة.

هذه المشروعات الجريئة والطموحة — شأنها شأن أي تطوُّر مشوق — تملك القدرة على تغيير نظرتنا العلمية الشاملة تغييرًا جذريًّا. وفي الجزء الثالث من الكتاب، سنبدأ في التعمُّق أكثر في تناول عمليات مصادِم الهادرونات الكبير، واستكشاف كيف تُنتِج هذه الماكينة حُزَمَ البروتونات، وتحقق التصادم بينها لإنتاج جسيمات جديدة من شأنها تزويدنا بمعلومات عن أصغر النطاقات التي يمكن الوصول إليها. ويستعرض هذا القسم كذلك الكيفيةَ التي يفسِّر الفيزيائيون التجريبيون بها ما يتوصَّلون إليه من نتائج.

وقد ساهمت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية المعروفة بالاختصار «سيرن» (والفيلم السينمائي الأمريكي الشهير شديد التضليل «ملائكة وشياطين») في الترويج للجانب التجريبي لفيزياء الجسيمات؛ فصار الكثيرون على عِلم بمعجِّل الجسيمات الضخم الذي سيصادم بين البروتونات عالية الطاقة، لتتركَّزَ بعد ذلك هذه البروتونات في مساحة بالغة الصغر بهدف إنشاء صور من المادة لم تسبق رؤيتها من قبلُ. ومصادم الهادرونات الكبير قَيْد التشغيل الآن، وهو يهدف لتغيير نظرتنا للطبيعة الجوهرية للمادة، بل للفضاء ذاته، لكننا لا نعلم إلى الآن ما سيتوصل إليه بالفعل.

هذا وفي أثناء رحلتنا العلمية، سوف نتناول فكرةَ عدمِ اليقين العلمي، وما يمكن للقياسات إخبارنا به حقًّا. فالبحث بطبيعته يقع على حدود معرفتنا الفعلية، ويهدف كلٌّ من الحساب والتجربة إلى الحد من أكبر عدد ممكن من صور عدم اليقين أو القضاء عليها تمامًا، وتحديد ما يتبقَّى منها على وجه الدقة. رغم ذلك، فمن الناحية العملية، تحفل الممارسة اليومية للعلم بصور عدم اليقين، وهو ما يبدو أمرًا شديدَ التناقُض. ويستكشف الجزء الثالث من الكتاب كيف يتعامل العلماء مع التحديات المتأصلة في استكشافاتهم الصعبة، وكيف يمكن للجميع الاستفادة من التفكير العلمي عند تفسير البيانات التي تصدر في عالم متزايد التعقيد، وفهم هذه البيانات.

يتناول الجزء الثالث أيضًا الثقوبَ السوداء في مصادم الهادرونات الكبير، وكيف أن المخاوف التي تصاعَدَتْ بشأنها تتناقض مع بعض المخاطر الحقيقية التي نواجِهها حاليًّا. وسوف نستعرض كذلك القضايا المهمة لتحليل التكاليف والفوائد والمخاطر، وكيف يمكن للناس التفكير في هذه القضايا على نحوٍ أفضل، سواء داخل المختبرات أو خارجها.

أما الجزء الرابع، فيصف الأبحاث التي تُجرَى على جسيم «بوزون هيجز» ونماذجه المحددة التي تمثِّل افتراضات مدروسة لما هو موجود بالفعل، كما تمثِّل أهدافًا لأبحاث مصادم الهادرونات الكبير. وإذا أكَّدَتْ تجاربُ هذا المصادم صحةَ بعض الأفكار التي اقترحها الفيزيائيون النظريون — أو حتى إذا كشفت عن أشياء لم يسبق توقُّعها — فإن النتائج سوف تغيِّر من أسلوب تفكيرنا في العالم. يشرح هذا القسم آلية هيجز المسئولة عن كتل الجسيمات الأولية، بالإضافة إلى مشكلة التسلسل الهرمي التي تخبرنا بأنه علينا اكتشاف المزيد. يبحث هذا القسم أيضًا في النماذج التي تتناول هذه المشكلة والجسيمات الغريبة الجديدة التي تتنبَّأ بها، مثل الجسيمات المرتبطة بالتناظر الفائق أو الأبعاد الإضافية للفضاء.

بالإضافة إلى عرض فرضيات محدَّدَة، يشرح هذا الجزء كيف يبني الفيزيائيون النماذج، ومدى كفاءة المبادئ الإرشادية في هذا الشأن، مثل «استكشاف الحقيقة من الجمال» و«الأسلوب التنازلي» مقابل «الأسلوب التصاعدي». ويوضِّح ما يبحث عنه مصادم الهادرونات الكبير، وكيف يتنبَّأ الفيزيائيون بما يمكن أن يتوصَّل إليه هذا المصادم. ويستعرض القسم كذلك كيف سيحاول العلماء ربط البيانات المجردة ظاهريًّا التي سينتجها لنا المصادم ببعض الأفكار الأساسية العميقة التي ندرسها حاليًّا.

وبعد جولتنا في الأبحاث التي تتناول الجانب الداخلي للمادة، ننتقل برحلتنا إلى الخارج في الجزء الخامس. ففي الوقت نفسه الذي يسبر فيه مصادم الهادرونات الكبير غوْرَ أصغر نطاقات المادة، تستكشف الأقمار الصناعية والتليسكوبات أضخم النطاقات في النظام الكوني، وذلك بدراسة المعدل الذي يتسارع به تمدُّد هذه النطاقات. هذا فضلًا عن دراستها تفاصيل بقايا الإشعاع الناجم عن الانفجار العظيم. ويمكن لهذا العصر أن يشهد تطورات جديدة مذهلة في «علم الكونيَّات»؛ وهو العلم الذي يبحث في كيفية تطوُّر الكَوْن. وفي هذا الجزء، سنستكشف الكَوْنَ إلى أقصى النطاقات، ونناقش العلاقة بين فيزياء الجسيمات وعلم الكونيَّات، بالإضافة إلى المادة المظلمة المُحيِّرة والأبحاث التجريبية عنها.

أما الكلمة الأخيرة في الجزء السادس، فتستعرض موضوع الإبداع، وعناصر التفكير المتنوعة والثرية التي تدخل في التفكير الإبداعي. وتستكشف كيف نحاول الإجابة عن الأسئلة الكبرى من خلال أنشطتنا اليومية التي تبدو أصغر بعض الشيء. ويُختَم الكتاب ببعض الأفكار النهائية حول السبب وراء الأهمية الكبيرة للعلم والتفكير العلمي في الوقت الحالي، بالإضافة إلى العلاقة التعاضدية بين التكنولوجيا والتفكير العلمي التي أدَّتْ إلى قدر كبير من التقدُّم في العالم المعاصر.

طالما أجد ما يذكِّرني بمدى صعوبة تقدير غير العلماء للأفكار التي يتناولها العلم المعاصر ويصعب تخيُّلها أحيانًا. وقد اتَّضَحَ لي ذلك التحدِّي عندما التقيت بطلاب أحد الفصول الدراسية الجامعية بعد إحدى المحاضرات العامة التي ألقيتُها عن الفيزياء والأبعاد الإضافية؛ فعندما أُبلِغت بأن جميع الطلاب لديهم سؤال واحد مُلِحٌّ يودون طرحه عليَّ، توقَّعتُ أن يكون الْتباسًا بشأن الأبعاد، لكنني عرفتُ بعد ذلك أنهم كانوا متلهفين لمعرفة كم أبلُغ من العمر! لكن عدم الاهتمام ليس هو التحدي الوحيد؛ والحقيقة أن الطلاب بدءوا بالفعل في الاهتمام بالأفكار العلمية. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن العلم الأساسي يكون مجرَّدًا في أغلب الأحيان، وإثباته يمكن أن يكون صعبًا، وهذه هي العقبة التي اضطررتُ لمواجهتها في جلسة استماع الكونجرس حول أهمية العلم الأساسي، التي حضرتها في خريف عام ٢٠٠٩ مع دنيس كوفار مدير قسم فيزياء الطاقة العالية في وزارة الطاقة الأمريكية، وبيير أدون مدير مختبر معجِّل فيرمي الوطني، وهيو مونتجومري مدير مختبر جيفرسون، المنشأة الفيزيائية النووية. كانت تلك المرة الأولى لي في أروقة الحكومة منذ أن اصطحبني عضو الكونجرس بنجامين روزنثال في جولة بها، عند وصولي للدور النهائي في مسابقة وستنجهاوس للعلوم بالمدرسة الثانوية قبل ذلك الحين بسنوات عديدة. كان روزنثال كريمًا معي ومنحني ما هو أكثر من مجرد فرصة لالتقاط صورة معه كباقي المؤهلين الآخَرين للجولة النهائية.

وأثناء زيارتي الثانية للمكان، استمتعت مجدَّدًا بمشاهدة المكاتب التي تُصنَع داخلها السياسات. تقع الغرفة المخصَّصة للجنة مجلس النوَّاب للعلوم والتكنولوجيا في مبنى ريبرن التابع لمجلس النواب الأمريكي. جلس النوَّاب في أقصى الغرفة، في حين جلسنا نحن «الشهود» في مواجهتهم. وفوق رءوسهم، عُلِّقت لوحات تحمل عبارات ملهمة، أولها «بلا رؤية يجمح الشعب» (سفر الأمثال، ٢٩: ١٨).

يبدو أن الحكومة الأمريكية لا بد أن تشير إلى الكتاب المقدس حتى في غرفة تابعة للكونجرس مخصَّصة للعلم والتكنولوجيا. رغم ذلك، فإن المقولة تعبِّر عن فكرة دقيقة ونبيلة نودُّ جميعنا تطبيقها.

أما اللوحة الثانية، فتضمَّنت مقولةً أكثر علمانيةً لتينيسون؛ أَلَا وهي: «استبصرتُ المستقبل قدر الإمكان؛ فتجلت أمامي صورة العالم وما سيشهده من عجائب.»

كانت تلك أيضًا فكرةً جيدةً يمكن أخذها في الاعتبار عند وصف أهدافنا من الأبحاث.

المثير للسخرية أن تنظيم الغرفة جعلنا نحن «الشهود» المنتمين لعالَم العِلم — الذين يتعاطفون بالفعل مع هذه العبارات — في مواجهة تلك اللوحات التي وضعت مباشَرةً نصب أعيننا، في حين جلس النوَّاب أسفلها حيث لا يستطيعون رؤيتها. وقد أقرَّ عضو الكونجرس ليبنسكي — الذي قال في العبارات الافتتاحية للجلسة إن الاكتشافات تحث على طرح المزيد من التساؤلات والاستفسارات الميتافيزيقية المهمة — بأنه اعتاد ملاحظة تلك اللوحات، لكنه صار من اليسير الآن نسيانها تمامًا. وجاء على لسانه أيضًا: «قَلَّمَا ينظر أحدٌ منَّا إليها.» وعبَّر عن امتنانه لتذكيرنا له بها.

بعد الانتهاء من الحديث عن الديكور، انتقلنا نحن العلماء للمهمة التي كنَّا بصددها، موضحين ما يجعل من العصر الذي نعيشه عصرًا مثيرًا وغير مسبوق في مجال فيزياء الجسيمات وعلم الكونيَّات. ورغم أن أسئلة النوَّاب اتَّسمَتْ أحيانًا بالحدة والتشكُّك، فقد كان بوسعي تقدير ما يواجهونه دومًا من معارضة عند التوضيح لناخبيهم أسباب ضرورة عدم التوقف عن تمويل البحث العلمي، حتى في ظل ظروف عدم الاستقرار الاقتصادي. وقد تراوحت أسئلتهم ما بين تفاصيل أهداف تجارب محدَّدة وصولًا إلى قضايا أكثر اتِّسَاعًا تتعلق بدور العلم ووجهته.

وما بين فترات غياب النوَّاب، الذين اضطروا للرحيل واحدًا تلو الآخَر للإدلاء بأصواتهم، قدَّمنا بعض الأمثلة للفوائد الجانبية التي يمكن جَنْيها من تطوير العلم الأساسي. فحتى حينَ يُباشَر العلم من أجل العلم، كثيرًا ما يكون له العديد من الفوائد من نواحٍ أخرى؛ فتحدثنا عن تطوير تيم بيرنرز لي للشبكة العنكبوتية العالمية لتكون وسيلة تسمح للفيزيائيين في دول عديدة بالتعاون على نحو يسير في تجاربهم المشتركة في سيرن، وناقشنا كذلك التطبيقات الطبية، مثل التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني، وهو وسيلة لاستكشاف بنية الجسم الداخلية باستخدام الجسيمات المضادة للإلكترونات، وأوضحنا دور إنتاج المغناطيسات الفائقة التوصيل على المستوى الصناعي التي تم تطويرها للمصادمات، لكنها صارت تُستخدَم الآن في التصوير بالرنين المغناطيسي أيضًا. وأشرنا، أخيرًا، إلى أنظمة تحديد المواقع العالمية التي نستخدمها يوميًّا في سياراتنا.

بطبيعة الحال ليس بالضرورة أن يكون للعلم الخالص أيَّة فائدة مباشِرة من الناحية العملية؛ فحتى إن كان هناك عائد نهائي، فإننا نادرًا ما نعرفه في وقت الاكتشاف. فعندما أدرك بنجامين فرانكلين أن البرق عبارة عن كهرباء، لم يكن يعلم آنذاك أن الكهرباء سرعان ما ستغيِّر وجه العالم، وعندما عمل أينشتاين على النسبية العامة، لم يتوقَّع أنها ستُستخدَم في أي أجهزة عملية.

ومن ثَمَّ، لم يكن التركيز الأساسي للقضية التي طرحناها في ذلك اليوم على تطبيقات محدَّدة، وإنما على الأهمية المحورية للعلم الخالص. ورغم أن وضع العلم في أمريكا قد يتَّسِم بعدم الاستقرار، فإن العديد من الناس يدرك قيمته الآن. لقد تغيَّرَتْ وجهة نظر المجتمع للكَوْن والزمان والمكان بفضل أينشتاين، وهذا ما تثبته الكلمات الأصلية لأغنية «مع مرور الوقت» التي ذكرتُها في كتابي «الطرق الملتوية».3 إن لغتنا وأفكارنا تتغير بتطور فهمنا للعالم، وظهور أساليب تفكير جديدة. وما يدرسه العلماء حاليًّا، وردُّ فعلِنا تجاهه سيلعب دورًا محوريًّا في فهمنا للعالم وفي تشكيل مجتمع قوي وذي بصيرة.

إننا نعيش حاليًّا عصرًا مثيرًا على نحو استثنائي في الفيزياء وعلم الكونيَّات، وبعض الأبحاث التي تجري حاليًّا تُعَدُّ من أكثر الأبحاث تقدُّمًا على الإطلاق. ومن خلال مجموعة كبيرة من الاستكشافات، يستعرض هذا الكتاب الأساليب المختلفة التي نتبعها في فهم العالم — من خلال الفن والدين والعلم — لكن مع التركيز بشكل رئيسي على أهداف الفيزياء الحديثة وأساليبها. وفي النهاية، فإن الأجسام البالغة الصغر التي نتناولها بالدراسة لَهِيَ جزءٌ لا يتجزَّأ من اكتشافنا مَن نحن ومِن أين أتينا، أما البِنى الكبيرة الحجم التي نطمح إلى معرفة المزيد عنها، فيمكنها إلقاء الضوء على البيئة الكونية التي نعيش فيها، بالإضافة إلى أصل الكَوْن ومصيره. يتناول هذا الكتاب ما نأمل في العثور عليه، وكيف يمكن أن يحدث ذلك. إنها رحلة مثيرة … ونرحب بك معنا فيها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤