الفصل الثاني عشر

القياس والشك

إن الإلمام بالإحصائيات والاحتمالات، والاطمئنان لها، يساعد في تقييم القياسات العلمية، ناهيك عن تقييم الكثير من القضايا الصعبة التي ينطوي عليها عالمنا المعاصر الذي يتسم بالتعقيد. وقد تذكَّرتُ فضْلَ التفكير القائم على الاحتمالات منذ بضعة أعوام، عندما أُحبِط صديق لي عندما قلت له: «لا أعلم.» ردًّا على سؤال طرحه عليَّ عمَّا إذا كنتُ قد خطَّطْتُ لحضور إحدى الفعاليات مساءَ اليوم التالي أم لا. لحسن حظي، كان ذلك الصديق مقامرًا وذا نزعة رياضية؛ لذا بدلًا من الإصرار في حنق على الحصول على ردٍّ محدَّد، سألني عن الاحتمالات. ما أدهشني آنذاك أنني رأيتُ ذلك السؤال الأخير أيسر كثيرًا في التعامل معه، ورغم أن التقدير الاحتمالي الذي منحته إياه لم يكن سوى تخمين محض، فقد عكس الاعتبارات والشكوك المتصارعة داخلي على نحو أدق من الإجابة المحدَّدة بالإيجاب أو النفي، هذا فضلًا عن أنه بدا أكثر صدقًا.

منذ ذلك الحين وأنا أتبع هذا الأسلوب القائم على الاحتمالات مع الأصدقاء والزملاء عندما يعتقدون أنه ليس بوسعهم الرد على سؤال ما. وقد توصَّلْتُ إلى أن أغلب الناس — سواء أكانوا علماء أم لا — لديهم آراء قوية، لكن يمكن الرجوع فيها؛ ولذا يرتاحون عادةً للتعبير عنها باتباع الأسلوب القائم على الاحتمالات. على سبيل المثال، قد لا يعلم شخص ما إذا كان يرغب في حضور إحدى مباريات البيسبول يوم الخميس بعد ثلاثة أسابيع من الآن أم لا، لكنه يعلم أنه يحب لعبة البيسبول، ولا يعتقد أن لديه أي رحلات عمل في الفترة القادمة، لكنه متردِّد لأن موعد المباراة في منتصف الأسبوع. وهكذا، قد يوافِق على أنه سيحضر المباراة بنسبة احتمال ٨٠ في المائة، حتى وإن لم يُعْطِ إجابةً حاسمة بالموافقة. ورغم أن هذا الاحتمال ليس سوى تقدير، فإنه يعكس على نحو أدق توقُّعه الحقيقي — حتى إن قَدَّمه على الفور.

وفي المحادثة التي دارَتْ بيني وبين المخرج وكاتب السيناريوهات، مارك فيسنتي حول العلم وكيفية عمل العلماء، أشار مارك إلى أنه صُدِم بتردُّد العلماء في إصدار تصريحات باتَّة وقاطعة مثلما يفعل أغلب الناس. إن العلماء ليسوا أكثر الناس وضوحًا بالضرورة، لكنهم يهدفون للتعبير بدقة عمَّا يعرفون ويفهمون وما لا يعرفونه ويفهمونه، على الأقل عند التحدُّث في مجال خبرتهم؛ ومن ثَمَّ فإنهم نادرًا ما يعطون إجابة قاطعة بالنفي أو الإيجاب؛ نظرًا لأن مثل هذه الإجابة لا تعكس بدقة النطاق الكامل للاحتمالات. يتحدث العلماء، بدلًا من ذلك، بلغة الاحتمالات والبيانات المشروطة. المثير للسخرية أن هذا الاختلاف في اللغة يجعل الناس عادةً يُسِيئون تفسير ادعاءات العلماء أو يستهينون بها. وبالرغم من الدقة التي يسعى العلماء دومًا لتحقيق المزيد منها، فإن غير الخبراء لا يعرفون بالضرورة كيف يقيِّمون ما يصدره هؤلاء العلماء من بيانات؛ وذلك لأن غير العلماء ممَّن يملكون ما يكفي من الأدلة لدعم فرضياتهم، لن يتردَّدوا في التعبير عن هذه الفرضيات بشكلٍ مؤكَّدٍ، لكن افتقار العلماء لليقين المطلق لا يعكس غياب المعرفة لديهم، وإنما هو ببساطة نتيجة الشكوك المتأصلة في أي قياس، وهذا هو الموضوع الذي سنتناوله الآن. يساعد التفكير القائم على الاحتمالات في توضيح معنى البيانات والحقائق، ويسمح باتخاذ قرارات على قدر أكبر من الاطلاع. وسنستعرض في هذا الفصل ما تخبرنا به القياسات، ونتناول الأسباب التي تجعل البيانات القائمة على الاحتمالات أكثر دقةً في التعبير عن الحالة المعرفية — العلمية منها وغير العلمية — في أي وقت محدَّد.

عدم اليقين العلمي

أتمَّتْ جامعة هارفرد مؤخرًا مراجعةً للمناهج التعليمية في محاولةٍ منها لتجريب العناصر الأساسية للتعليم الحر وتحديدها، ومن الفئات التي تناولتها الجامعة وناقشتها كأحد متطلبات العلم «الاستدلالُ التجريبيُّ». أشار المقترح التعليمي إلى أن هدف الجامعة ينبغي أن يكون «تعليم كيفية جمع البيانات التجريبية وتقييمها، وموازنة الأدلة، وفهم تقييمات الاحتمالات، واستخلاص النتائج من البيانات عند توفُّرِها [حتى الآن، لا اعتراض]، وإدراك الوقت الذي لا يمكن تسوية مسألة ما فيه استنادًا إلى الأدلة المتوفرة.»

إن الصيغة المقترحة للمتطلبات التعليمية — الموضَّحَة فيما بعدُ — كانت حسنةَ النية، لكنها انطوت على سوء فهم جوهري للكيفية التي تسير بها القياسات. بوجه عام، يسوي العلم المسائلَ التي يتناولها باتباع درجةٍ ما من الاحتمالية. يمكننا بالطبع الوصولُ إلى درجة عالية من الثقة فيما يتعلَّق بفكرة أو ملاحظة معينة، واستخدام العلم لإصدار أحكام صائبة، لكن لا يمكن لأحد في الغالب تسوية أي مسألة — علمية كانت أو غير علمية — على نحو قاطع استنادًا إلى الأدلة. فيمكننا جمع ما يكفي من البيانات للوثوق في العلاقات العرضيَّة، بل للتوصل إلى تنبؤات على نحو دقيق للغاية أيضًا، لكننا لا يمكننا فعل ذلك إلا بأسلوب قائم على الاحتمالات فحسب. ومثلما أوضحنا في الفصل الأول، يسمح عدم اليقين — مهما صَغُرَ — باحتمال وجود ظواهر جديدة مثيرة لم تُكتشَف بعدُ، ونادرًا ما يكون هناك شيء مؤكَّد بنسبة ١٠٠ في المائة، وما من نظرية أو فرضية يمكن ضمان تطبيقها في ظروف لم تخضع للاختبار بعدُ.

لا يمكن إثبات أي ظاهرة بدرجة مؤكدة من الدقة إلا في مجال محدَّد يمكن اختبارها في إطاره؛ فدومًا تنطوي القياسات على عنصر ما من الاحتمالية. ويعتمد الكثير من القياسات العلمية على افتراض وجود حقيقة كامنة يمكننا كشف الستار عنها باتباع قياسات على القدر الكافي من الدقة. ونحن نستخدم القياسات للوصول إلى هذه الحقيقة الكامنة على أفضل نحوٍ يمكننا التوصُّل إليه (أو على أفضل نحوٍ يلزمنا لتحقيق أهدافنا). من ثَمَّ يسمح ذلك بإصدار بيانات من قبيل: إن الفاصل المرتكز على مجموعة من القياسات يتضمن قيمة صحيحة باحتمالية تبلغ نسبتها ٩٥٪. في هذه الحالة، يمكننا القول ببساطة إن نسبة ثقتنا تساوي ٩٥ في المائة. مثل هذه الاحتمالات توضِّح لنا مدى موثوقية أي قياس محدَّد، والنطاق الكامل للاحتمالات والمعاني الضمنية، ولا يمكنك الوصول إلى فهم كامل لقياس ما دون معرفة الشكوك المرتبطة به وتقييمها.

ومن مصادر عدم اليقين غياب أدوات قياس على مستوًى لامتناهٍ من الدقة. فالقياس الدقيق بحاجة لجهاز تمت معايرته بعدد لا محدود من المنازل العشرية، والقيمة المقيسة ستتضمن عددًا لا محدودًا من الأرقام المقيسة بعناية بعد المنزلة العشرية. ولا يمكن للفيزيائيين التجريبيين إجراء مثل هذا النوع من القياسات، وإنما يمكنهم فقط معايرة أدواتهم لجعلها على أكبر قدر ممكن من الدقة باستخدام التكنولوجيا المتاحة، مثلما فعل عالم الفلك تيكو براهي على نحو محنك منذ ما يزيد عن أربعة قرون. والتكنولوجيا التي يتزايد تطوُّرها يومًا بعد يوم تؤدِّي إلى ظهور أجهزة قياس أكثر دقةً، لكن القياسات لن تصل أبدًا إلى الدقة المتناهية المرجوة، رغم التطورات العديدة التي ظهرت على مدار الزمن، وسيظل دومًا «عدم اليقين النظامي»1 سمةً من سمات جهاز القياس نفسه.

وعدم اليقين لا يعني أن يتعامل العلماء مع جميع الخيارات أو البيانات على قدم المساواة (وإن كانت التقارير الإخبارية ترتكب هذا الخطأ دائمًا)؛ فنادرًا ما تكون نسبة الاحتمال ٥٠ في المائة. لكن عدم اليقين يعني أن العلماء (أو أي أحد آخَر يسعى للوصول إلى الدقة المتناهية) سيصدرون بيانات توضِّح ما تمَّ قياسه وما يعنيه هذا القياس على نحو قائم على الاحتمالات، حتى عندما تكون هذه الاحتمالاتُ عاليةً للغاية.

وعندما يتوخَّى العلماء وخبراء الكلام الحذر الشديد، يستخدمون كلمتَيْ «دقيق» و«مضبوط» بمعانٍ مختلفة. فالجهاز يكون «دقيقًا» إذا كرَّرْتَ قياس كمية واحدة، ولم تختلف القيمة التي تسجِّلها في المرتين اختلافًا كبيرًا؛ فالدقة هي قياس درجة الاختلاف، وإذا لم تختلف نتيجة تكرار القياس كثيرًا، فمعنى ذلك أن القياس دقيق. ونظرًا لأن القيم الأدق تظهر في النطاقات الأصغر حجمًا، فإن القيمة المتوسطة تتشكَّل سريعًا إذا أُجرِيت قياسات متكرِّرة.

على الجانب الآخَر، يوضِّح «الضبط» مدى اقتراب متوسط القياس للنتيجة الصحيحة. بعبارة أخرى، هو يوضِّح ما إذا كان هناك «انحيازٌ» في جهاز القياس أم لا. من الناحية الفنية، لا يُسفِر الخطأُ المتأصِّل في جهاز القياس عن تراجُعٍ في دقته — فسوف تتوصَّل إلى النتيجة الخاطئة عينها في كل مرة — لكنه بالتأكيد يقلِّل من ضبطه. و«عدم اليقين النظامي» يشير إلى نقص الضبط الذي لا يمكن التغلُّب عليه والمتأصِّل في أجهزة القياس نفسها.

لكن في كثير من الأحيان، حتى إن استطعت تصميم جهازِ قياسٍ مثاليٍّ، فستظل بحاجة لإجراء الكثير من القياسات للوصول إلى النتيجة الصحيحة. ويرجع ذلك إلى أن المصدرَ الآخَر لعدم اليقين2 «إحصائيٌّ»؛ ما يعني أن القياسات تستلزم عادةً تكرارها عدة مرات قبل أن يمكنك الوثوق في النتيجة. حتى الأجهزة الدقيقة لا تقدِّم بالضرورة القيمةَ الصحيحةَ لأي قياس معين، لكن المتوسط سيقترب من الإجابة الصحيحة. ويتحكَّم عدم اليقين النظامي في ضبط القياس، في حين يؤثِّر عدم اليقين الإحصائي على دقته. والدراسات العلمية السليمة تأخذ كلا العاملين في الاعتبار، وتُجرَى القياسات بأكبر قدر ممكن من الحرص على أكبر عيِّنَة يمكن توفُّرها. ومن المنظور المثالي، يرغب المرء دومًا في أن تتميَّز القياسات التي يجريها بالدقة والضبط لكي تكون الأخطاء المتوقَّعة بسيطةً، ولكي يثق في القيم التي سيتوصَّل إليها. يعني ذلك أنه يرغب في أن تقع هذه القياسات داخل أضيق نطاق ممكن (الدقة)، وأن تقترب من الإجابة الصحيحة (الضبط).

من الأمثلة المألوفة (والمهمة) التي يمكننا تناول هذه المفاهيم في إطارها اختباراتُ فعاليَّةِ الأدوية. لا يصرِّح الأطباء عادةً عن الإحصائيات المتعلقة بالعقاقير، أو لعلهم لا يعرفونها. هل شعرت بالإحباط من قبلُ عندما قال لك الطبيب: «يحقِّق هذا الدواء نتيجة أحيانًا، ولا يحقِّقها أحيانًا أخرى»؟ تحجب هذه العبارة الكثير من المعلومات المفيدة؛ فهي لا تقدِّم أي فكرة عن نسبة نجاح الدواء، أو مدى التشابه بينك وبين الأفراد الذين جُرِّبَ عليهم الدواء، ويجعل ذلك من الصعوبة بمكان تقرير ما يجب فعله. ولعل العبارة الأكثر نفعًا هي التي تخبرنا بنِسَبِ نجاحِ الدواء أو الإجراء مع مرضى من نفس السن أو بنفس مستوى اللياقة البدنية، حتى في الحالات التي لا يفهم فيها الأطباء أنفسهم الإحصائيات، يمكنهم بالتأكيد تقديمُ بعض البيانات أو المعلومات للمريض.

وإحقاقًا للحق، «التباين» الذي يظهر بين الأفراد من حيث اختلاف ردود أفعالهم تجاه الأدوية، يجعل من تحديد نجاح الدواء مسألة معقَّدة؛ لذا لننظر أولًا في حالةٍ أبسط يمكننا اختبارها على فرد واحد، مثل اختبار ما إذا كان الأسبرين يساعد في تخليصك من آلام الصداع أم لا.

تبدو كيفية التوصُّل إلى إجابة عن هذا السؤال يسيرة: ما عليك سوى تناول قرص أسبرين وملاحظة ما إذا كان سيحقِّق نتيجة أم لا. لكن الحقيقة هي أن الأمرَ أكثرُ تعقيدًا بعض الشيء؛ فحتى إنْ شعرت بتحسُّن، كيف لك أن تعرف ما إذا كان الأسبرين هو السبب في هذا التحسن؟ للتأكد مما إذا كان قد نجح أم لا حقًّا — بمعنى ما إذا صار الصداع أقلَّ إيلامًا أو تبدَّدَ الشعور به أسرع دون الأسبرين — يلزم أن تكون قادرًا على مقارَنَةِ ما تشعر به في وجود الأسبرين ودونه. مع ذلك، ونظرًا لأنك إما أخذت الأسبرين أو لم تأخذه، فإن عمليةَ قياسٍ واحدةً ليست كافيةً لمنحك الإجابة التي تبغيها.

للتوصُّل إلى هذه الإجابة، عليك تكرار الاختبار عدة مرات. في كل مرة تشعر فيها بالصداع، ارمِ عملةً معدنيةً في الهواء لتقرِّر ما إذا كنتَ ستأخذ الأسبرين أم لا، وسجِّلِ النتيجة. بعد تكرار هذا الأمر لعدد كافٍ من المرات، يمكنك التوصُّل إلى متوسط، مع الوضع في الاعتبار الأنواع المختلفة للصداع الذي تعاني منه والظروف المتنوعة التي يظهر فيها (فربما يتبدَّد الشعورُ به سريعًا عندما لا تكون ناعسًا للغاية). ويمكنك استخدام الإحصائيات التي توصَّلْتَ إليها للوصول إلى النتيجة السليمة. من المفترض ألَّا ينطوي القياس الذي أجريتَه على أي انحياز من جانبك؛ نظرًا لأنك استندتَ فيه إلى إلقاء عملة معدنية في الهواء، والعينة التي أجريتَ عليها التجربة لم يكن بها غيرك؛ ومن ثَمَّ فإن النتيجة التي توصَّلْتَ إليها ستتأكد على نحو صحيح مع إجراء العدد الكافي من الاختبارات على نفسك.

كم سيكون من الرائع لو تمكنَّا من اختبار فعالية الأدوية باتباع هذا الإجراء البسيط. لكن، في الحقيقة، أغلب الأدوية تُستخدَم لعلاج أمراض أخطر بكثير من الصداع، ومنها ما يُسفِر عن الوفاة، علاوةً على ذلك، الكثير من الأدوية لها آثار طويلة المدى؛ لذلك لا يمكنك تكرار التجارب القصيرة المدى على فرد واحد، حتى إن أردتَ ذلك.

ومن ثمَّ، عندما يختبر علماء الأحياء والأطباء عادةً مدى فعالية دواء ما، فإنهم لا يجرِّبونه على فرد واحد فحسب، حتى إن فضَّلُوا فِعْل ذلك لأهداف علمية على الأقل. فعليهم التأقلم مع حقيقة أن الاستجابة للدواء تختلف من فرد لآخَر، وأن أي دواء يؤدِّي إلى مجموعة متنوعة من النتائج، حتى عند اختباره على أفراد يعانون من الدرجة نفسها من شدة المرض؛ ومن ثَمَّ فإن أفضل سبيل يمكن للعلماء اتباعه في أغلب الحالات، هو تصميم دراسات تُجرَى على أفراد يتَّسِمون بأكبر قدر ممكن من التشابه مع الشخص الذي يحاول العلماء الوصول إلى قرار بشأن منحه الدواء. لكن على أرض الواقع، لا يصمِّم معظم الأطباء الدراسات بأنفسهم؛ ومن ثَمَّ يكون من الصعب عليهم ضمان التشابه مع المريض الذي يجرون عليه التجربة.

قد يرغب الأطباء، بدلًا من ذلك، في محاولة استخدام دراسات قائمة بالفعل لم تُجْرَ فيها تجارب مصمَّمة بعناية، وإنما استندت في نتائجها إلى ملاحظات لأفراد موجودين بالفعل فقط، مثل أعضاء مؤسسات تنسيق خدمات الرعاية الصحية. يواجه الأطباء، بعد ذلك، معضلة التوصُّل إلى تفسير صائب. في هذا النوع من الدراسات، قد يصعب التأكُّد مما إذا كان القياس المعنِيُّ يُثبِت السببية، وليس فقط الصلة أو الارتباط. على سبيل المثال، قد يستنتج شخص ما — خطأً — أن اصفرارَ الأصابع يتسبَّب في الإصابة بسرطان الرئة، لملاحظته هذا الاصفرار لدى العديد من المرضى بهذا السرطان.

لذلك، يُفضِّل العلماءُ الدراساتِ التي تُخصَّص فيها أنواع العلاج أو عمليات تلقيه على نحو عشوائي. على سبيل المثال، الدراسات التي يحصل فيها الأفراد على دواء ما بناءً على رَمْي عملةٍ معدنية في الهواء تكون أقل اعتمادًا على عيِّنَةِ الأفراد؛ وذلك لأن احتمالية ما إذا كان المريض سيتلقَّى العلاج أم لا، تعتمد فقط على النتيجة العشوائية لرَمْي العملة. وبالمثل، يمكن للدراسة العشوائية — من ناحية المبدأ — توضيحُ العلاقات بين التدخين وسرطان الرئة واصفرار الأصابع. فإذا حدَّدْتَ عشوائيًّا لأفرادِ مجموعةٍ ما إذا كانوا سيدخنون أم لا، فستتوصَّل إلى نتيجة بشأن ما إذا كان التدخين — على الأقل — عاملًا أساسيًّا مسئولًا عن اصفرار الأصابع وسرطان الرئة لدى المرضى الذين يخضعون لملاحظتك، وما إذا كان أيهما سببًا في حدوث الآخَر، وبالطبع ستكون هذه الدراسة غير أخلاقية.

يهدف العلماء — متى أمكن ذلك — إلى تبسيط نظم عملهم قدر المستطاع من أجل عزل ظواهر معينة يبغون دراستها. ويُعَد اختيار كلٍّ من اختيارِ عينة أفراد واضحة المعالم ومجموعة ضابطة مناسبة عاملًا ضروريًّا لدقة النتيجة وضبطها. ومع المسائل المعقدة، مثل أثر دواءٍ ما على البيولوجيا البشرية، يتدخل الكثير من العوامل على نحو متزامن، ويكون السؤال الملائم حينئذٍ هو: ما مدى الموثوقية التي يجب أن تكون عليها النتائج؟

الهدف من القياسات

لا تكون القياسات مثالية أبدًا. وفي حالة البحث العلمي — شأنه شأن أي قرار آخَر — علينا تحديد مستوًى مقبول من الشك؛ إذ يسمح لنا ذلك بالمضي قدمًا. على سبيل المثال، إذا كنتَ تحصل على دواء تأمل في أن يريحك من آلام الصداع التي تزعجك، يمكن أن تقتنع بتجربته حتى إن كان من المعروف أن نسبة مساعدته في تخفيف الألم ٧٥ في المائة (مع أقل قدر ممكن من الآثار الجانبية). على الجانب الآخَر، إذا كان تغييرٌ ما في النظام الغذائي سيقلِّل من الاحتمال الضعيف لإصابتك بمرض بالقلب بنسبة اثنين في المائة فقط، فلن يزعجك ذلك بما يكفي لإقناعك بالتخلِّي عن تناول فطيرة الكريمة المفضَّلة لديك.

أما في مجال السياسة العامة، قد تكون نقاط اتخاذ القرار أقل وضوحًا، فيقع الرأي العام عادةً في منطقة رمادية لا يتفق فيها الناس بالضرورة على مدى الدقة التي يجب أن نعرف بها شيئًا ما قبلَ تغيير القوانين أو تطبيق القيود. وهناك عوامل عدة من شأنها تعقيد الحسابات الضرورية في هذا الشأن. ومثلما أوضحنا في الفصل السابق، يُسفِر غموضُ الأهداف والأساليب عن صعوبة إجراء تحليلات التكاليف والفوائد على نحو موثوق، هذا إن لم يؤدِّ إلى استحالته برمته.

وقد كتب نيكولاس كريستوف، الصحفي بجريدة «نيويورك تايمز» عن ضرورة الاحتراس من الكيماويات المحتملة الخطورة في الأغذية والحاويات قائلًا: «إن الدراسات التي أُجرِيت على الكيماويات المحتملة الخطورة قد دقَّتْ ناقوس الخطر لعقود، ولا تزال الأدلة على ذلك معقَّدَة وقابلة للمناقشة. هذه هي الحياة: في العالم الواقعي، لا بد من اتخاذ القرارات التنظيمية عادةً استنادًا إلى بيانات ملتبسة ومتباينة.»3

والقضايا الموضحة فيما سبق لا تنفي ضرورة استهدافنا الوصول إلى تقديرات كمية للتكاليف والفوائد عند تقييم أي سياسة، لكنها تعني في الوقت نفسه أنه علينا أن ندرك بوضوح ما تعنيه هذه التقديرات، ومدى تنوُّعها وفقًا للافتراضات أو الأهداف، وما الجوانب التي وضعتها الحسابات في الاعتبار، وتلك التي لم تضعها. يمكن لتحليلات التكاليف والفوائد أن تكون مفيدةً، لكنها قد تمنحك أيضًا شعورًا زائفًا بالصمود واليقين والأمان، ما يُسفِر بدوره عن تطبيقات مضلِّلة في المجتمع.

ولحسن حظ الفيزيائيين، الأسئلة التي يطرحونها تكون غالبًا أبسط بكثير — على الأقل في صياغتها — من الأسئلة التي تُطرَح في السياسة العامة. فعندما نتعامل مع المعرفة الخالصة دون الاهتمام المباشِر بالتطبيقات، نطرح أنواعًا مختلفة من الاستفسارات. وقياسات الجسيمات الأولية أبسط بكثير، على الأقل من الناحية النظرية؛ إذ تتشابه جميع الإلكترونات في جوهرها؛ ومن ثَمَّ يكون ما ينبغي القلق بشأنه هو الأخطاء الإحصائية والنظامية، وليس التباين بين العناصر التي تخضع للتجربة. فسلوك إلكترون واحد يعبِّر عن سلوك جميع الإلكترونات الأخرى. لكن يظل من الممكن ظهور أخطاء إحصائية ونظامية، ويحاول العلماء الحدَّ منها قدر المستطاع، لكن المدى الذي سيصل إليه هؤلاء العلماء في تحقيق ذلك يتوقَّف على الأسئلة التي يحاولون الإجابة عنها.

مع ذلك، حتى في النظم الفيزيائية «البسيطة» — مع الوضع في الاعتبار أن القياسات لا يمكن أن تكون مثالية أبدًا — ينبغي تحديد الدقة المُستهدَفة. على المستوى العملي، يتساوى هذا السؤال مع التساؤل عن عدد مرات تكرار القياس التي ينبغي لعالم التجارب اتباعها، ومدى الدقة التي ينبغي أن تتسم بها أداة القياس التي يستخدمها. والإجابة هي: الأمر يعود إليه. فالمستوى المقبول للشك يعتمد على السؤال الذي يطرحه العالِم، والأهداف المختلفة تتطلب درجاتٍ مختلفةً من الدقة والضبط.

على سبيل المثال، تقيس الساعات الذرية الوقتَ بثبات يصل إلى واحد كل ١٠ تريليونات، لكن القليل فقط من القياسات يتطلَّب مثل هذه المعرفة الدقيقة للوقت. يُستثنَى من ذلك اختباراتُ نظريةِ الجاذبية لأينشتاين؛ إذ تستخدم أكبر قدر يمكن تحقيقه من الدقة والضبط. ورغم أن جميع الاختبارات تُثبِت أن هذه النظرية صحيحة، تواصِل القياسات تطوُّرَها. ومع تزايد الدقة، يمكن أن تظهر انحرافات لم يسبق اكتشافها من قبلُ، وتعكس آثارًا فيزيائية جديدة كان من المستحيل رؤيتها في ظل القياسات السابقة الأقل دقةً؛ عندئذٍ ستمنحنا هذه الانحرافات معلوماتٍ دقيقةً مهمةً عن الظواهر الفيزيائية الجديدة، وفي حال عدم ظهورها، سنثق في أن نظرية أينشتاين باتَتْ أدقَّ مما سبق إثباته من قبلُ، وسنعرف أنه بإمكاننا تطبيقها بثقة على نظام أكبر للطاقة والمسافات، وبدرجة أعلى من الدقة. على الجانب الآخَر، إذا كنتَ تفكِّر في إرسال رجل إلى الفضاء، فستحتاج إلى فهم القوانين الفيزيائية فهمًا وافيًا لتتمكن من توجيه الصاروخ توجيهًا صحيحًا، لكنك لن تحتاج إلى فهم النسبية العامة، وبالتأكيد لن تحتاج للأخذ في الاعتبار الآثارَ الأقل احتمالًا للانحرافات المحتملة.

الضبط في فيزياء الجسيمات

نعمد في فيزياء الجسيمات إلى البحث عن القواعد الأساسية التي تحكم مكونات المادة الأصغر حجمًا والأكثر جوهريةً التي يمكننا اكتشافها. والتجربة الواحدة لا تقيس مزيجًا من التصادمات المتعدِّدة التي تحدث في آنٍ واحدٍ أو تتفاعل بشكل متكرِّر على مدار الوقت؛ فالتنبؤات التي نُجرِيها تسري على التصادمات الفردية لجسيمات معروفة تتصادم في ظل قدر محدَّد من الطاقة. وتدخل الجسيمات نقطة التصادم وتتفاعل وتتحرك عبر الكواشف، وعادةً ما تخلف طاقةً في هذه الأثناء. ويصف الفيزيائيون تصادمات الجسيمات بالخصائص المميزة للجسيمات الصادرة عنها (مثل: كتلتها، وطاقتها، وشحناتها).

من هذا المنطلق، ورغم التحديات الفنية التي تواجِهها التجاربُ، فإن فيزيائيي الجسيمات محظوظون؛ فنحن ندرس أنظمةً أساسية إلى أبعد حدٍّ ممكن حتى نتمكَّنَ من عزل القوانين والمكونات الأساسية لها، ويكمن الهدف هنا في إقامة أنظمة تجريبية على أكبر قدر من الوضوح الذي تسمح به الموارد المتوفرة. والتحدي الذي يواجهه الفيزيائيون هو الوصول إلى المعايير الفيزيائية اللازمة، وليس النظم المعقدة المتداخلة؛ لذا تتَّسِم التجارب بصعوبتها؛ لأن العلم عليه دفع حدود المعرفة لتصير مثيرة للاهتمام، ومن ثَمَّ تقع التجارب عادةً عند أبعد نقطة لتخوم الطاقات أو المسافات التي يمكن للتكنولوجيا الوصول إليها.

إلا أن تجارب فيزياء الجسيمات ليست بهذا القدر من البساطة، حتى عند دراستها الكميات الأساسية المحدَّدة. فعندما يعرض الفيزيائيون التجريبيون النتائجَ التي توصَّلوا إليها، يواجهون أحدَ تحدِّيَيْن. فإذا توصَّلوا إلى شيء غريب، يجب أن يكونوا قادرين على إثبات أنه لا يمكن أن يكون نتيجةَ أحداثٍ عاديةٍ للنموذج القياسي تتشابه أحيانًا مع الآثار والجسيمات الجديدة. على الجانب الآخَر، إذا لم يتوصَّلوا إلى شيء جديد، فسيكون عليهم التيقُّن من درجة الضبط من أجل وضع حدٍّ جديد أكثر صرامةً لما يمكن أن يوجد بعيدًا عن آثار النموذج القياسي المعروفة، وعليهم أن يتفهَّموا حساسيةَ جهازِ القياس بالقدر الكافي لمعرفة ما عليهم استبعاده.

وللتيقُّن من النتيجة التي توصَّلوا إليها، يجب أن يتمتع الفيزيائيون التجريبيون بالقدرة على التمييز بين هذه الأحداث التي يمكن أن تشير إلى عمليات فيزيائية جديدة، والأحداث «الخلفية» التي تنتج عن جسيمات النموذج القياسي المعروفة. ويُعَدُّ ذلك أحد الأسباب التي تجعلنا بحاجة للعديد من التصادمات للوصول إلى اكتشافات جديدة؛ فوجود الكثير من التصادمات يضمن وقوع ما يكفي من الأحداث التي تنتمي إلى عالم الفيزياء الجديدة لتمييزها عن عمليات النموذج القياسي «الاعتيادية» التي قد تتشابه معها.

لذا، تتطلب التجارب إحصائيات مناسبة، والقياسات نفسها تنطوي على بعض مواطن عدم اليقين المتأصِّلة فيها، الأمر الذي يُحتِّم تكرارها. وتنصُّ ميكانيكا الكم على أن الأحداث الأساسية تنطوي على مواطن عدم اليقين هذه أيضًا، فتشير ميكانيكا الكم ضمنًا إلى أنه بغض النظر عن مدى براعتنا في تصميم التكنولوجيا التي نستخدمها، لا يمكننا سوى حساب احتمالية وقوع التفاعلات. فعدم اليقين قائم، بغض النظر عن كيفية إجرائنا لعملية القياس، ويعني ذلك أن السبيل الوحيد لقياس قوة تفاعُلٍ ما بدقةٍ هو تكرار القياس عدة مرات. وفي بعض الأحيان، يكون مقدار عدم اليقين هذا أقل من عدم يقين القياس، وأقل بكثير من أن يكون له أي أهمية، لكن علينا أخذه في الاعتبار أحيانًا.

يشير لنا عدم اليقين المتعلِّق بميكانيكا الكم، على سبيل المثال، إلى أن كتلة الجسيم المتحلِّل هي كمية غير مؤكدة جوهريًّا. وينص المبدأ العام على أنه ما من قياس للطاقة يمكن أن يتسم بالدقة عندما يستغرق وقتًا محدودًا؛ ومن ثم يكون وقت القياس في هذه الحالة أقصر بالتأكيد من عمر الجسيم المتحلل. لذا، إذا كان هدف الفيزيائيين التجريبيين هو الوصول إلى أدلةٍ على وجود جسيم جديد عن طريق التوصُّل إلى الجسيمات التي تحوَّل إليها مع التحلُّل، فسيتطلَّب قياسُ كتلتها تكرارَ التجربة مرات عديدة. ورغم أنه ما من قياس واحد يمكن أن يكون دقيقًا، فسيكون متوسط جميع القياسات هو القيمة الصحيحة.

وفي أحيان كثيرة، يكون عدم اليقين الكمي المتعلِّق بالكتلة أقل من عدم اليقين النظامي (الخطأ المتأصِّل) بأجهزة القياس. وعندما يكون هذا صحيحًا، يمكن للتجارب تجاهُل عدم اليقين الكمي المتعلق بالكتلة، لكن تظل هناك حاجة للكثير من القياسات لضمان دقة القياس، وذلك بسبب الطبيعة الاحتمالية للتفاعلات المعنِيَّة بالدراسة. وكما هو الحال في اختبارات فعالية الأدوية، تساعدنا الإحصائيات الكبيرة في التوصُّل إلى الإجابة الصحيحة.

علينا الإقرار بأن الاحتمالات المرتبطة بميكانيكا الكم ليست عشوائية على نحو تامٍّ؛ فيمكن حساب الاحتمالات بناءً على قوانين واضحة. وسوف نستعرض ذلك في الفصل الرابع عشر الذي يتناول موضوع كتلة بوزون W. فنحن نعلم الشكل الكلي للمنحنى الذي يصف احتمالية ظهور هذا الجسيم ذي الكتلة المحدَّدة والعمر المحدَّد نتيجةَ تصادُمٍ ما. وتتمحور كل عملية قياس للطاقة حول القيمة الصحيحة، ويتسق التوزيع مع عمر الجسيم ومبدأ عدم اليقين. ورغم أن قياسًا واحدًا لا يكفي لتحديد الكتلة، فإن العديد من القياسات يمكنه فعل ذلك، ويمكن لإجراء محدَّد أن يوضِّح لنا كيفية استنتاج الكتلة من القيمة المتوسطة لهذه القياسات المتكررة. والعديد من القياسات يضمن على نحو وافٍ أن يحدِّد الفيزيائيون التجريبيون الكتلةَ السليمة في إطار مستوًى معين من الدقة والضبط.

القياسات ومصادم الهادرونات الكبير

إن كلًّا من استخدام الاحتمالية في عرض النتائج العلمية، والاحتمالات المتأصلة في ميكانيكا الكم، لا يعنيان جهل العلماء، بل إنهما في الواقع يثبتان العكس؛ فنحن نعلم الكثير. على سبيل المثال، «العزم المغناطيسي للإلكترون» هو سمة متأصلة في الإلكترون يمكننا حسابها بدقة متناهية باتباع «نظرية المجال الكمي» التي تجمع بين ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة، وهو أيضًا أداة تُستخدَم لدراسة الخصائص الفيزيائية للجسيمات الأولية. أجرى زميلي بجامعة هارفرد، جيرالد جبريالسي، قياسًا للعزم المغناطيسي للإلكترون بدرجة دقة وضبط تبلغ ١٣ رقمًا، ووجد أنه يتفق مع التنبؤ الذي أُجرِي عند هذا المستوى تقريبًا. فعدم اليقين لا يظهر إلا في مستوًى أقل من واحد في التريليون، وهذا يجعل العزم المغناطيسي للإلكترون ثابتًا فيزيائيًّا مع أدق درجات الاتفاق بين القياس والتنبؤ النظري.

لا يمكن لأحد خارج مجال الفيزياء إجراء مثل هذا التنبؤ الدقيق بشأن العالم، لكن معظم مَن يتوفَّر لديهم مثل هذا الرقم الدقيق، سيقولون إن بإمكانهم بالتأكيد معرفة النظرية والظواهر التي يتنبَّأ بها. لكن العلماء — رغم قدرتهم على إصدار بيانات على قدر من الدقة يفوق أي شخص آخَر — يُقِرُّون بأن القياسات والملاحظات، بغضِّ النظر عن مدى دقتها، تظل تفسح مجالًا لأفكار وظواهر جديدة لم يُكشَف الستار عنها بعدُ.

لكن بإمكان العلماء، في الوقت نفسه، تعيين حدٍّ محدَّدٍ لحجم هذه الظواهر الجديدة، ويمكن للفرضيات الجديدة أن تغيِّر التنبؤات، لكن فقط عند مستوى عدم اليقين القياسي القائم أو أقل. وأحيانًا، تكون الآثار الجديدة التي يتم التنبؤ بها ضئيلةً لدرجة لا تسمح لنا على الإطلاق برؤيتها على مدار عمر هذا الكون. وفي هذه الحالة، حتى العلماء يمكنهم إصدار تصريح محدَّد مثل: «لن يحدث ذلك مطلقًا.»

من الجلي أن قياس جبريالسي يوضِّح أن نظرية المجال الكمي صحيحة لدرجة عالية للغاية من الدقة. ومع ذلك، لا يمكننا التصريح بثقة بأن الأمر يقتصر على نظرية المجال الكمي، أو فيزياء الجسيمات، أو النموذج القياسي فحسب. فمثلما أوضحنا في الفصل الأول، فإن الظواهر الجديدة، التي لا تظهر آثارها إلا عند نطاقات طاقة مختلفة أو عندما نجري قياسات أكثر دقة، يمكن أن تقع خارج إطار ما نراه. ونظرًا لأننا لم ندرس نظم المسافات والطاقات تجريبيًّا، فإننا لا نعلمها حتى الآن.

تُجرَى تجارب مصادم الهادرونات الكبير عند مستويات طاقة أعلى بكثير مما درسناه من قبلُ؛ ومن ثَمَّ فهي تفتح المجال أمام احتمالات جديدة في صورة جسيمات أو تفاعلات جديدة تبحث عنها التجارب مباشرةً، وليس عن طريق الآثار غير المباشرة التي لا يمكن تحديدها إلا باستخدام قياسات دقيقة للغاية. وفي جميع الأحوال، لن تصل قياسات مصادم الهادرونات الكبير إلى مستوًى من الطاقة يسمح لنا برؤية الانحرافات عن نظرية المجال الكمي، لكنها ربما ستكشف عن ظواهر أخرى من شأنها التنبؤ بانحرافات عن تنبؤات النموذج القياسي فيما يتعلق بالقياسات عند مستوى الدقة الحالي، ويشمل ذلك العزم المغناطيسي للإلكترون المقيس جيدًا.

في أي نموذج فيزيائي يتجاوز حدود النموذج القياسي، تكون أي اختلافات طفيفة تم التنبؤ بها — حيث تؤدي التفاعلات الداخلية بأي نظرية لم يُكشَف عنها الستارُ بعدُ إلى اختلاف واضح — دليلًا مهمًّا على الطبيعة الجوهرية للواقع. وغياب مثل هذه الاختلافات الطفيفة حتى الآن يوضِّح لنا مستوى الدقة أو مدى ارتفاع الطاقة التي نحتاج إليها للوصول إلى شيء ما جديد، حتى دون معرفة طبيعة الظواهر الجديدة المحتمل اكتشافها على وجه الدقة.

والدرس الحقيقي للنظريات الفعَّالة — التي تحدَّثْنا عنها في مقدمة هذا الكتاب — هو أننا لا نستوعب ما ندرسه وما ينطوي عليه من قيود استيعابًا كاملًا إلا عندما نشهد فشله. فالنظريات الفعَّالة، التي تضم قيودًا موجودة بالفعل، لا تصنِّف أفكارنا في نطاق معين فحسب، وإنما تقدِّم لنا أيضًا أساليب منهجية لتحديد إلى أي مدى يمكن أن يصل حجم الآثار الجديدة في مستوًى معين من الطاقة.

وتتفق القياسات المتعلقة بالقوتين الضعيفة والكهرومغناطيسية مع تنبؤات النموذج القياسي حتى مستوى دقة قدره ٠٫١ في المائة. وتتفق معدلات تصادم الجسيمات، وكتلها، ومعدلات تحللها، وغير ذلك من الخصائص الأخرى مع القيم المتنبَّأ بها عند هذا المستوى من الدقة والضبط؛ ومن ثَمَّ فإن النموذج القياسي يفسح المجال لاكتشافات جديدة. والنظريات الفيزيائية الجديدة يمكنها أن تؤدِّي إلى انحرافات، لكنها لا بد أن تكون طفيفة للغاية لكي تَحُول دون اكتشافها حتى الآن. وآثار أي ظواهر جديدة أو نظريات أساسية يجب أن تكون بسيطة لدرجة تحول دون مشاهدتها حتى الآن؛ إما لأن التفاعلات ذاتها بسيطة، أو لأن الآثار ترتبط بجسيمات ثقيلة إلى درجة تمنع إنتاجها عند الطاقات التي تَمَّ التوصُّل إليها بالفعل. والقياسات القائمة بالفعل توضِّح لنا مدى ارتفاع الطاقة اللازم للعثور على جسيمات أو قوًى جديدة مباشِرة، والتي لا يمكن أن تُحدِث بالقياسات انحرافات أكبر مما تسمح به الشكوك الحالية، كما توضِّح لنا هذه القياسات مدى ندرة هذه الأحداث. وبزيادة مستوى دقة القياس بالقدر الكافي، أو إجراء تجربة في ظل ظروف فيزيائية مختلفة، يبحث الفيزيائيون التجريبيون عن انحرافات عن النموذج الذي وصف حتى الآن جميعَ نتائج تجارب فيزياء الجسيمات.

تعتمد التجارب الحالية على إدراكنا أن الأفكار الجديدة تقوم على نظرية فعَّالة ناجحة تنطبق عند مستويات الطاقة المنخفضة، وتهدف هذه التجارب لكشف الستار عن مادة جديدة أو تفاعلات جديدة، مع الوضع في الاعتبار أن الفيزياء تبني المعرفةَ بكلِّ نطاق على حدة. وبدراسة الظواهر عند طاقات مصادم الهادرونات الكبير العالية، نطمح في التوصُّل إلى النظرية التي يقوم على أساسها كلُّ ما رأيناه حتى الآن، واستيعاب هذه النظرية استيعابًا كاملًا. وحتى قبل أن نقيس الظواهر الجديدة، ستقدِّم لنا بيانات مصادم الهادرونات الكبير قيودًا صارمة، وقيمةً للظواهر والنظريات التي يمكن أن توجد وتتجاوز حدود النموذج القياسي. وفي حال كانت الاعتبارات النظرية صحيحة، لا بد أن تظهر ظواهر جديدة في النهاية عند الطاقات العالية التي يدرسها مصادم الهادرونات الكبير. مثل هذه الاكتشافات ستجبرنا على توسيع نطاق النموذج القياسي أو استيعابه في صياغة أكثر شمولًا، وسينطبق هذا النموذج الأكثر شمولًا بقدر أكبر من الدقة على مجموعة أكبر من النطاقات.

نحن لا ندري أي النظريات ستتحقَّق على أرض الواقع، ولا ندري كذلك متى سنتوصل إلى اكتشافات جديدة، وتعتمد الإجابة عن هذين السؤالين على ما نحن بصدد الوصول إليه، وهذا لا علم لنا به إلى الآن، وإلا فما كنَّا لنبحث عنه، لكن فيما يتعلق بأي تكهُّن محدَّد بشأن ما يوجد بالفعل، فنحن نعلم كيف نقدِّر الطريقة التي قد نكتشف بها النتائج التجريبية الخاصة به، وكيف نقدِّر الوقت الذي يمكن أن يحدث فيه. في الفصلين التاليين، سوف نتناول كيفية عمل التجارب في مصادم الهادرونات الكبير، وفي الجزء الرابع الذي يليهما، سوف نستعرض كيف يضع الفيزيائيون النماذج والتنبؤات لما يمكن أن يتوصَّلوا إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤