الفصل الرابع

البحث عن أجوبة

سمعت لأول مرة عبارة «الطَرْق على أبواب السماء» عند استماعي إلى أغنية بوب ديلان في حفلته عام ١٩٨٧ مع فرقة «جريتفول ديد» في أوكلاند بولاية كاليفورنيا. وغني عن القول هنا أن عنوان هذا الكتاب له مقصد مختلف عن كلمات هذه الأغنية التي لا تزال تتردَّد في ذهني بصوت ديلان وجيري جارسيا إلى الآن. تختلف العبارة عن أصلها في الكتاب المقدَّس أيضًا، وإن كان عنوان الكتاب يرمز ضمنيًّا إلى هذا التفسير. في إنجيل متى آية نصها: «اسألوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتَح لكم؛ لأن كل مَن يسأل يأخذ، ومَن يطلب يجد، ومَن يقرع يُفتَح له.»1

استنادًا إلى هذه الكلمات، يمكن للإنسان البحث عن المعرفة، لكن الهدف الأخير هو الوصول إلى الرب. إن فضول الناس بشأن العالم، واستفسارهم الدائم ليس سوى خطوات يخطونها نحو الرب، بل الكَوْن نفسه أمر ثانوي. قد تكون الإجابات في متناول المؤمن، أو قد يُدفَع إلى مزيد من السعي الحثيث نحو الحقيقة، لكن بدون الرب، تصير الحقيقة غير قابلة للوصول إليها أو لا تستحق السعي إليها؛ فالإنسان لا يمكنه فعل ذلك وحده، والفيصل في ذلك ليس له.

يشير عنوان كتابي إلى فلسفة العلم وأهدافه المختلفة. لا يتعلق العلم بالفهم والاعتقاد السلبي، والوصول إلى حقيقة الكَوْن غاية في حد ذاتها. يسعى العلماء بنشاط نحو المعرفة، وهي حدود ما نعلمه؛ فنحن نسأل ونستكشف، ونغيِّر آراءنا عندما تجبرنا الحقائق والمنطق على فعل ذلك، ولا نثق إلا فيما يمكننا إثبات صحته بالتجارب، أو فيما يمكننا استنتاجه من الفرضيات المثبتة تجريبيًّا.

يتمتَّع العلماء بقدر كبير من المعرفة بالكَوْن، لكنهم يعلمون في الوقت نفسه أنه لا يزال هناك الكثير من الأمور التي عليهم إدراكها؛ لا يزال هناك العديد من الأمور التي لم تتوصَّل إليها التجارب الحالية، بل وأي تجربة يمكننا أن نحلم بها. لكن رغم هذه القيود، يسمح لنا كل اكتشاف جديد بالصعود درجة أخرى على السلم المؤدي إلى الحقيقة، وأحيانًا يمكن أن تغيِّر خطوة واحدة من نظرتنا للعالم تغييرًا جذريًّا. ورغم إدراك العلماء أن تطلُّعاتهم الطموحة لا تتحقَّق دومًا، فإنهم يتقدَّمون بخطى ثابتة للوصول إلى فهم أعمق، مع تيسير التطورات التكنولوجية لهم الوصولَ إلى قدر أكبر من مكونات العالم، ويبحث العلماء بعد ذلك عن نظريات أكثر شمولًا يمكنها استيعاب أي معلومات مُكتسَبة جديدة.

السؤال المهم إذن هو: مَن لديه القدرة — أو الحق — في البحث عن إجابات؟ هل يبحث الناس عنها بأنفسهم، أم يثقون في سلطات أعلى في فعل ذلك؟ قبل الخوض في الحديث عن الفيزياء، سأختتم هذا الجزء من الكتاب بعرض أَوْجُه الاختلاف بين وجهتَيِ النظر العلمية والدينية.

مَن صاحب السلطة؟

رأينا فيما سبق كيف أن ظهور التفكير العلمي في القرن السابع عشر أسفَرَ عن انقسام الموقف المسيحي من المعرفة؛ وهو ما أدَّى إلى صراعٍ بين الأطر المفاهيمية المختلفة لا يزال يفرض نفسه حتى الآن. لكن ثمة سببًا آخَر أدَّى إلى الانقسام بين العلم والدين؛ ألا وهو السلطة؛ ففي نظر الكنيسة، كان ادعاء جاليليو بأن بوسعه التفكير بنفسه وافتراضه قدرته على فهم الكون بشكل مستقل انحرافًا عن المعتقد الديني المسيحي.

عندما ابتكر جاليليو المنهج العلمي، رفض الامتثال للسلطة وفضَّلَ إجراء الملاحظات وتفسيرها بنفسه، وكان يغيِّر آراءه وفقًا لهذه الملاحظات؛ وبفعل ذلك أطلَقَ جاليليو العِنان لأسلوب جديد تمامًا في تناول المعرفة بشأن العالم، وهو الأسلوب الذي من شأنه أن يؤدِّي إلى فهم أفضل للطبيعة وتأثير أكبر عليها. لكن رغم نشر جاليليو لأهم ما حقَّقه من إنجازات (أو بالأحرى بسبب ذلك)، زُجَّ به في السجن، فمثَّلت صراحته في استنتاجه بشأن النظام الشمسي — بقوله إن الأرض ليست مركز الكون — تهديدًا للقوى الدينية آنذاك ولتفسيرها المتشدِّد للكتاب المقدس. ومع وجود جاليليو وغيره من المفكِّرين المستقلين، الذين شاركوا في الثورة العلمية، صار أيُّ تفسير حرفي للكتاب المقدَّس حول طبيعة الكَوْن وأصله وسلوكه، عرضةً للتفنيد.

كان توقيت جاليليو سيِّئًا بوجه خاص؛ لأن ادعاءاته المتطرفة تزامَنَتْ مع ذروة الإصلاح المضاد، وهو رد فعل الكنيسة الكاثوليكية على التوجهات البروتستانتية. استشعرت العقيدة الكاثوليكية تهديدًا خطيرًا في تأييد مارتن لوثر للتفكير المستقل وتفسير الكتاب المقدَّس بالنظر مباشَرةً إلى النص بدلًا من التسليم بتفسير الكنيسة. وقد دعم جاليليو آراء لوثر، بل تمادى أيضًا فيها بعض الشيء؛ فرفض السلطة، وعارَضَ بوضوح التفسير الكاثوليكي للنصوص الدينية.2 واستندت مناهجه العلمية المعاصرة على الملاحظات المباشرة للطبيعة التي حاوَلَ آنذاك تفسيرها باستخدام أدق الفرضيات التي يمكن إرجاع النتائج إليها. ورغم إخلاص جاليليو للكنيسة الكاثوليكية، كانت أفكاره ومناهجه الفضولية مشابهةً كثيرًا للتفكير البروتستانتي في نظر رجال الدين؛ وبذلك دخل جاليليو في حرب بين السلطات الدينية دون قصد منه.

المثير للسخرية أنه رغم ما سبق، تسَرَّعت حركة الإصلاح المضاد دون قصد في اعتناق فكرة كوبرنيكوس بمركزية الشمس في الكون؛ فقد أرادت الكنيسة الكاثوليكية ضمان موثوقية تقويمها لتتم الاحتفالات في الوقت الصحيح من العام، وإجراء مراسمها على نحو سليم؛ ومن ثَمَّ كان كوبرنيكوس أحد علماء الفلك الذين طلبت منهم الكنيسة محاوَلَةَ إصلاح التقويم اليولياني ليكون أكثر توافقًا مع حركة الكواكب والنجوم، وكان ذلك البحث بعينه هو الذي قاد كوبرنيكوس إلى ملاحظاته؛ ومن ثَمَّ إلى ادعاءاته الثورية.

لم يوافِق لوثر نفسه على نظرية كوبرنيكوس، لكن ذلك كان موقفَ أغلبِ الناس أيضًا إلى أن أثبتت ملاحظاتُ جاليليو المتقدمة، ونظريةُ الجاذبية لنيوتن بعد ذلك، صحةَ هذه النظرية. لكن لوثر قبل التطورات الأخرى التي شهدها مجالَا الطب والفلك، والتي رآها مُتَّسِقَة مع نظرته المتفتحة للطبيعة؛ لم يكن لوثر مناصرًا عظيمًا للعلم، لكن الإصلاح شكَّلَ أسلوبًا للتفكير — مناخًا تتم في إطاره مناقشةُ الأفكار الجديدة وقبولها — شجَّعَ على ظهور الأساليب العلمية الحديثة. وبفضل التطور في الطباعة، تمكَّنَت أيضًا الأفكار العلمية والدينية على حدٍّ سواء من الانتشار سريعًا والحدِّ من سلطة الكنيسة الكاثوليكية.

رأى لوثر أن المساعي العلمية العلمانية لا تقل أهميتها عن المساعي الدينية، وقد تبنَّى العلماءُ — من أمثال الفلكي الشهير يوهانز كبلر — الرأيَ ذاته، فكتب كبلر إلى أستاذه السابق في توبينجن، مايكل ميستلين: «أردتُ أن أكون عالِم دينٍ، لكنني ظللتُ متردِّدًا لفترة طويلة. أما الآن، فأشهدُ من خلال جهودي مقدارَ الاحتفاءِ بالرب في مجال علم الفلك.»3

من هذا المنظور، يمكن القول إن العلم كان وسيلةً للاعتراف بالطبيعة المذهلة للرب وخلقه، والاعتراف بحقيقة التنوع الهائل للتفسيرات التي تتناول عمل الأشياء المختلفة. لقد صار العلم وسيلةً لتحقيق فهم أفضل للكَوْن المنطقي والمُنظَّم الذي خلقه الرب؛ ومن ثَمَّ مساعدة البشرية. الجدير بالذكر أن العلماء المعاصرين الأوائل لم ينبذوا الدين، وإنما على العكس تمامًا فسَّروا أبحاثهم بأنها نوع من تمجيد لخَلق الرب، وقد نظروا لكتاب الطبيعة وكتاب الرب كسبيلين للتهذيب والتنوير. وكانت دراسة الطبيعة من هذا المنظور نوعًا من الامتنان والتقدير للخالق.

وقد شهدنا وجهة النظر هذه في عهد أحدث أيضًا؛ فنجد الفيزيائي الباكستاني، محمد عبد السلام، في الخطاب الذي ألقاه عند تلقِّيه جائزة نوبل عام ١٩٧٩ تقديرًا لدوره في إنشاء «النموذج القياسي» لفيزياء الجسيمات، يقول: «لقد أكَّدَ رسول الإسلام العظيم على أن طلب المعرفة والعلم أمر إلزامي على كل مسلم، رجلًا كان أم امرأة، وأمر الصحابة بطلب العلم ولو في الصين. ومن الجلي أنه كان يقصد في حديثه هنا المعرفة العلمية، وليس الدينية، بالإضافة إلى أن هذه الكلمات كانت تأكيدًا على التعاون بين الأمم في طلب العلم.»

لماذا يهتم الناس؟

بالرغم من الاختلافات الأساسية الموضَّحَة في الفصل السابق، يرحِّب بعض المؤمنين بتطبيق الجانبين العلمي والديني في عقولهم على نحو منفصل، والاستمرار في اعتبار فهم الطبيعة وسيلةً لفهم الرب. وكثيرون ممَّن لا يسعون بِكدٍّ لتحصيل العلم يسعدهم في الوقت نفسه السماحُ للتقدُّم العلمي بالاستمرار دون أي قيود، لكن يظل الانقسام بين العلم والدين قائمًا لدى الكثيرين في الولايات المتحدة ومناطق أخرى بالعالم، ويمتد أحيانًا إلى مرحلةٍ يُسفِر فيها عن عنف أو على الأقل تدخُّل في التعليم.

من وجهة نظر السلطة الدينية، الأمور التي تتحدى الدين مثل العلم تكون مريبةً للعديد من الأسباب، من بينها ما لا علاقة له بالحقيقة أو المنطق. ومن وجهة نظر أصحاب السلطة، يمكن دومًا استخدام الدين كورقة رابحة تبرِّر وجهة نظرهم. إن أي بحث مستقل من أي نوع يمكن أن يمثِّل بوضوح تهديدًا محتملًا لهم؛ فالتعمق في البحث في أسرار الإله قد يُقوِّض السلطة الأخلاقية للكنيسة والسلطة الدنيوية للحكَّام على الأرض، ويمكن لمثل هذه الأبحاث أيضًا التدخُّل في التواضع والولاء المجتمعي، وأن تُسفِر أيضًا عن نسيان أهمية الرب. لا عجب، إذن، من قلق السلطات الدينية أحيانًا من هذا الشأن.

لكن لماذا يتبنَّى الأفراد وجهة النظر هذه؟ إن السؤال الحقيقي في نظري ليس هو: ما أوْجُه الاختلاف بين العلم والدين؟ إذ يمكن تحديد هذه الاختلافات مثلما أوضحنا في الفصل السابق، وإنما الأسئلة المهمة التي ينبغي الإجابة عنها هي: لماذا يهتم الناس إلى هذا الحد؟ ولماذا يشكُّ الكثير من الناس في العلماء والتقدُّم العلمي؟ ولماذا ينشأ هذا الصراع على السلطة كثيرًا ويستمر حتى يومنا هذا؟

أُدرِج اسمي مصادفةً ذات مرة في اللائحة البريدية لمؤتمر المائدة المستديرة بكامبريدج للعلم والفن والدين، وهو سلسلة من المناقشات بين أعضاء جامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأول مناقشة حضرتُها دار موضوعها حول شاعر القرن السابع عشر جورج هربرت والملحدين الجُدُد، وساعدت هذه المناقشة في إلقاء بعض الضوء على بعضٍ من هذه الأسئلة.

كان ستانلي فيش، الباحث الأدبي الذي صار بعد ذلك أستاذًا في القانون، المتحدث الرئيسي في المناقشة. بدأ ستانلي ملاحظاتِه بتلخيص آراء الملحدين الجُدُد وعدائهم للإيمان الديني. والملحدون الجُدُد هم مؤلفون من أمثال كريستوفر هيتشنز، وريتشارد دوكينز، وسام هاريس، ودانيال دينيت، هاجموا الدين بكلمات ناقدة لاذعة في كتبهم الأكثر بيعًا.

وبعد هذا التوضيح الملخِّص لآرائهم، واصَلَ فيش حديثه بنقده افتقارَ فهم هذه الجماعة للدين، وهو الرأي الذي راقَ للحضور؛ إذ أعتقدُ أنني كملحدة كنتُ من بين الأقلية في المناقشة. ذهب فيش إلى أن الملحدين الجُدُد كان بوسعهم التمتُّع بموقف أقوى إذا وضعوا في الاعتبار تحديات الاعتماد على الذات التي يلزم على المخلصين دينيًّا التغلُّب عليها.

إن الإيمان يستلزم بحثًا نَشِطًا، ويشير الكثير من الأديان إلى ضرورة أن يتسم الإيمان بالوعي. لكن في الوقت نفسه، ينادي العديد من الأديان — بما في ذلك بعض فروع البروتستانتية — برفض الإرادة المستقلة أو قمعها؛ فنجد كالفن يقول: «ينزع الإنسان بطبيعته إلى الإعجاب المُضلِّل بذاته. وهنا يكمن ما تطْلُب منا الحقيقةُ الإلهية السعيَ من أجله في دراستنا لأنفسنا: إنها تطلب منا نوع المعرفة التي تجردنا من أي ثقة لدينا في قدرتنا، وتحرمنا من أي فرصة للتباهي، وتقودنا إلى الخضوع والامتثال.»4

انطبقت هذه الكلمات تحديدًا بشكل أساسي على المسائل الأخلاقية، لكن الإيمان بضرورة وجود إرشاد خارجي أمرٌ غير علمي، وقد يكون من الصعب تحديد الخط الفاصل في هذا الشأن.

يتردَّد كثيرًا في المؤلفات الدينية ذِكْرُ الصراعِ بين الرغبة في المعرفة وعدم الثقة في الاعتداد البشري بالنفس، ومن الأمثلة على ذلك قصائدُ هربرت التي ناقشها فيش والمشاركون في مؤتمر المائدة المستديرة. تناولت هذه المناقشة صراعات هربرت الداخلية بشأن علاقته بالمعرفة وبالرب؛ رأى هربرت أن الفهم النابع من الذات علامة على الكبرياء الآثِم. وتظهر تحذيرات مماثلة كذلك في كتابات جون ميلتون؛ فرغم إيمانه الراسخ بضرورة البحث الفكري النَّشِط، نجد الملاك رافائيل يخبر آدم في قصيدة «الفردوس المفقود» لجون ميلتون بأنه لا ينبغي أن يبحث بفضول شديد في حركة النجوم؛ لأنها «ليست بحاجة لإيمانه».

المثير للدهشة (على الأقل في نظري) أن الممثلين المرموقين في المجموعة التي كنتُ بينها من أساتذة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بمؤتمر المائدة المستديرة وافَقُوا على محاولات هربرت لإنكار الذات، إيمانًا منهم بأن قمع فردية المرء وامتثاله لهذه القوى العظمى أمر طيب (وأي شخص يعرف أساتذة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سيندهش أيضًا بهذا الإنكار المزعوم للذات).

لعل السؤال «هل يمكن للإنسان الوصولُ إلى الحقيقة بنفسه دون مساعدة؟» هو جوهر الصراع بين الدين والعلم؛ فهل من الممكن أن يكون أحد الأسباب في المواقف السلبية تجاه العلم التي نشهدها حاليًّا هو المعتقدات شديدة التطرف، التي عبَّر عنها هربرت وميلتون؟ فنحن لسنا بصدد مناقشة كيفية نشوء العالم بقدر ما نحن بصدد مناقشة مَن له الحق في إجراء الاكتشافات، وأي النتائج يجب أن نثق فيها.

يتسم الكون بالتواضع؛ إذ تخفي الطبيعةُ الكثيرَ من أسرارها المثيرة، لكنَّ تعجرُفَ العلماء يصل بهم إلى الحد الذي يؤمنون معه بأن بوسعهم فكَّ طلاسمِ هذه الأسرار بأنفسهم؛ فهل يكون البحثُ عن إجابات تجديفًا؟ أم مجرد تعجرُفٍ؟ وصف أينشتاين، وكذلك ديفيد جروس الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، العلماءَ بأنهم يعتقدون أنهم يتصارعون مع الرب للوصول إلى إجابات عن الأسئلة المهمة المتعلقة بكيفية عمل الطبيعة. لا شك أن ديفيد لم يقصد المعنى الحرفي لهذا الكلام (وبالتأكيد لم يقصد أنهم متواضعون أيضًا)، لكنه كان يؤمن بقدرتنا المذهلة على إدراك العالم من حولنا.

لا يزال هذا الافتقار إلى الثقة في قدرتنا على اكتشاف الأشياء بأنفسنا يفرض نفسه في جوانب أخرى أيضًا، فيظهر في الدعابة والأفلام والكثير من شئون الحياة السياسية الآن. والإخلاص للحقائق واحترامها لم يَعُدْ رائجًا بعض الشيء في عصرنا المتسم بالسخرية وأحيانًا بمعارضة التفكير المنطقي. ومن المذهل بحق ما يمكن أن يصل إليه بعض الناس من إنكار لنجاحات العلم. ذات مرة التقيتُ في حفل بسيدة أكَّدَتْ لي بإصرار على أنها لا تؤمن بالعلم، فسألتها ما إذا كانت قد وصلت للدور الحادي عشر باستخدام المصعد الذي استخدمتُه أنا أيضًا أم لا. هل يعمل هاتفها؟ وهل وصلَتْ إليها الدعوة الإلكترونية للحفل؟

لا يزال الكثير من الناس يرون من المحرج — أو من الغريب على أفضل الأحوال — تناوُل الحقائق أو المنطق بجدية، ولعل من الأمور التي تدفع لمناهضة العلم والتفكير المنطقي هو الاستياء من غرور مَن يشعر بأنه على القدر الكافي من القدرة على دراسة العالم. ومَن لديهم شعور دفين بأنه ليس من حقنا خوض التحديات العقلية العسيرة، يؤمنون بأن هذا العمل يفوق ما نتمتع به من قوة. ولا نزال نشهد هذا الموقف العجيب من إنكار الذات ومناهضة التقدُّم على جميع الأصعدة.

يرى البعض أن فكرة إمكانية كشف أسرار العالم تبعث على التفاؤل، وتؤدي إلى مزيد من الفهم والتأثير. لكن البعض الآخَر يرى أن العلم والسلطات العلمية، التي تتميَّز بقدر أكبر من المعرفة والمهارة في هذه المجالات التقنية، تثير المخاوف؛ فينقسم الناس إلى مَن يشعر بأنه مؤهَّل للاشتراك في الأنشطة العلمية وتقييم النتائج العلمية، ومَن يشعر بالضعف أمام الفكر العلمي؛ ومن ثَمَّ ينظر إلى مثل هذه المحاولات على أنها نوع من الغرور.

يرغب أغلب الناس في الشعور بالتمكين والانتماء، والسؤال الذي يواجِهُه أي شخص في هذا الشأن هو: أيهما يمنحك شعورًا أقوى بالتحكم في العالم: العلم أم الدين؟ أين يمكنك العثور على الثقة والراحة والتفهم؟ هل تفضِّل الإيمانَ بأن بوسعك اكتشاف الأشياء وحدك، أم إنك تثق على الأقل في غيرك من البشر في فعل ذلك؟ يرغب الناس في إجابات وإرشادات لم يمكن للعلم توفيرها بعدُ.

ومع ذلك، فقد قدَّمَ لنا العلم الكثير من المعلومات بشأن ماهية مكونات الكَوْن وكيفية عمله. وعندما تجمع بين كل ما لدى العلماء من معارف، تتشكَّل الصورة التي استنتجها العلماء بمرور الزمن على نحو جيد، فالأفكار العلمية تؤدي إلى تنبؤات صحيحة؛ ومن ثَمَّ يثق بعضنا في سلطتها، ويدرك الكثيرون الدروسَ المهمة للعلم بمرور الزمن.

يتجاوز دائمًا العلماء الحدس البشري عند استكشافهم المناطقَ التي لا يمكنهم الوصول إليها مباشَرةً، ولا يزال علينا أن نتوصَّل إلى الاكتشافات التي تُعِيد الإنسانَ إلى وضعه المركزي في وصفنا للعالم. فثورة كوبرنيكوس تفرض نفسها علينا بشكل متواصل، مع إدراكنا أننا لسنا سوى مجموعة واحدة من بين العديد من مجموعات الأجسام، وهذه المجموعة ذات حجم عشوائي وفي مكان عشوائي في كَوْن يبدو — من وجهة النظر العلمية — أنه يعمل بعشوائية.

إن فضول الإنسان، وقدرته على تحقيق التقدُّم في سبيل إرضاء هذا النهم لتحصيل المعرفة، يجعلانه كائنًا متميزًا بلا شك؛ فهو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة والسعي الحثيث للوصول لأجوبة. فنحن نتساءل، ونتفاعل، ونتواصل، ونفترض، ونستقي استنتاجات مجردة، وفي النهاية نصل إلى وجهة نظر أعمق للكون ومنزلتنا فيه.

لا يعني ذلك بالضرورة أن العلم سيجيب عن جميع الأسئلة، فمن يظنون أن العلم سيحل كل مشكلات الإنسان، هم — على الأرجح — مخطئون أيضًا. لكن ما يعنيه ذلك هو أن طلب العلم كان — ولا يزال — مسعًى جديرًا ببذل الجهد والعرق في سبيله. إننا لا نعرف إلى الآن كلَّ الإجابات، ومَن لديهم نزعة علمية — سواء أكان لديهم إيمان ديني أم لا — يحاولون سبر أغوار الكَوْن والبحث عن هذه الإجابات. ويتناول الجزء الثاني من هذا الكتاب ما توصَّلَ إليه هؤلاء الآن، وما يلوح في الأفق من اكتشافات أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤