المسألة السادسة عشرة: مسألة طبيعية

لِمَ شارك المُعجَّبُ من نفسه المتعجَّب منه؟

مثال ذلك: شاعرٌ يُفْلِق في قافيةٍ فيتعجَّب منه السامع حسب ما اقتضى بديعه؛ فالشاعر لم يتعجَّب أيضًا وهو المتعجَّب منه، وهذا نجده في النظم والنثر، والجواب والكتاب، والحساب والصناعة.

وعلى ذكر التعجب، ما التعجب وعلى ماذا يَدُل؟ فقد قال ناسٌ فيه كلامًا:

قيل لبعض الحكماء: ما أعجب الأشياء؟ قال: السماء بكواكبها.

وقال آخر: أعجب الأشياء النار.

وقال آخر: أعجب الأشياء اللسان الناطق.

وقال آخر: أعجب الأشياء العقل اللاحق.

وقال آخر: الشمس.

وقال أرسططاليس: أعجب الأشياء ما لم يُعرَف سببه.

وقال آخر: بل أعجب الأشياء الجهل بعلة الشيء.

فعلى قِيَاد ما قال أولئك كل شيء عجبٌ.

وعلى ما وضع ما قال هذا الحكيمُ كل مجهولٍ سببه فهو عجبٌ، كان ذلك من الحقير أو من النفيس.

وقال آخر: أعجب الأشياء الرزق؛ فإن مناطه بعيدٌ، وغوره عميقٌ، والعقل مع شرفه فيه حيران، والعاقل مع اجتهاده سكران.

وقال آخر: لا عجب، وصدق.

فما هذا التفاوت والتباين، وليس في الحق اختلافٌ، ولا في الباطل ائتلافٌ؟

وعلى ذكر الحق والباطل، ما الحق والباطل؟ وينتظم في هذا الفصل.

قال بعض الأولين: أعجب الأشياء إكداء الوافر، ومنال العاجز.

وقال آخر من الصوفية، وشاهدته وناظرته واستفدت منه: أعجب الأشياء بعيدٌ لا يُجحَد، وقريبٌ لا يُشهَد، وهو الحق الأحد.

•••

وعلى ذكر الله تعالى بِمَ يحيط العلم من المشار إليه باختلاف الإشارات والعبارات؟ أهو شيء يلصق بالاعتقاد؟ أم هو مطلق لفظٍ بالاصطلاح؟ أم هو إيماء إلى صفةٍ من الصفات مع الجهل بالموصوف؟ أم هو غير منسوبٍ إلى شيء بعرفان؟

فإن كان منعوتًا بنعت فقد حصره الناعت بالنعت.

وإن كان غير منعوتٍ فقد استباحه الجهل وزاحمه المعدوم.

ولا بد من الإثبات إذا ستحال النفي، وإذا وقف الإثبات والنفي على المثبت النافي فقد سبق إذن كل إثباتٍ ونفي.

فإن كان سابقًا كل هذه الألفاظ وجميع هذه الأغراض، فما نصيب العارف؟ وما بُغْية ما ظفِر به الموحد؟

هيهات! هيهات! اشتد اللغط، وكثُر الغلط، ورجع كلٌّ إلى الشطط، وفات الله الفهم والفاهم، والوهم والواهم، وبقي مع الخلق علمٌ مختلَفٌ فيه، وجهلٌ مصطلحٌ عليه، وأمرٌ قد تُبرِّم به، ونهيٌ قد ضُجِرَ منه؛ وحاجةٌ فاضحة، وحجةٌ داحضةٌ، وقولٌ مزوَّق، ولفظ منمق، وعاجلٌ معشَّق، وآجل مُعوَّق، وظاهر مُلفَّق، وباطن ممزق.

إلى الله الشكوى من غلبات الهوى وسطوات البلوى إنه رحيم ودود.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

هذه المسألة التي ذنَّب فيها صاحبها بمسائل أعظم منها وأبعد غورًا وأشد اعتياصًا، وأصابه فيها ما كان أصابه قبلُ في مسألة تقدَّمتها، فظهر لي في عذره أنه داءٌ يعتريه، ومرضٌ يلحقه، وليس من طغيان القلم، ولا سلاطة الهذر، ولا أشر الاقتدار في شيءٍ، كما أنه ليس من جنس ما يستخف المتكهن عند الكهانة، ولا من نمط ما يعتري المتواجد من الصوفية، وما أحسبه إلا من قبيل المس والخبل والطائف من الشيطان الذي يُتعوَّذ بالله منه، فلقد أطلق في سجاعته القافية بما تُسدُّ له الآذان، وتُصرف عنه الأبصار والأذهان.

ولولا أنه اشتكى إلى الله تعالى في آخرها من سطوات البلوى فاعترف بالآفة واستحق الرأفة، لكان لي في مداواته شغل عن تسطير جواباته.

•••

افهمْ — عافاك الله — أن آثار النفس وأفعالها كلها بديعةٌ عند الحس وأصحابه؛ ولذلك تجد أكثر الناس متعجبين من النفس نفسها، متحيرين فيها، ظانين بها ضروب الظنون، وليس يخلون مع كثرة تفننهم في هذه الظنون من أن يجعلوها جسمًا على عاداتهم في الحس وتصورهم في المحسوسات، ثم يجدون أفعال هذه النفس وآثارها غير مُشْبِهةٍ شيئًا من آثار الجسم وأفعاله فيزداد تعجُّبهم، ولو أنهم حصَّلوا مائية النفس لكان تعجُّبهم من آثارها أقل؛ إذ كانت هي غير جسم، ولو صحَّ لهم أنها جسم لم يكن بديعًا عندهم أن تكون آثارها غير جسمانية.

ولما كان الشاعر المفلق، والناظر في المسألة العويصة من الحساب وغيره من الصناعات إنما يستدعي نظرًا نفسانيًّا، ووجودًا عقليًّا، ويحرك نفسه حركة غير مكانيةٍ ليظفر بمطلوب غير جسماني، ثم وجد هذه الحركة من النفس مفضية بالإدمان والإمعان إلى وجود المطلوب — عجِب هو أولًا من هذه الحركة التي يجدها من نفسه ضرورة، وليست مكانيةً على عادة الجسم في حركة الجسم، ثم من وجوده المطلوب بعقب هذه الحركة، عرض له هذا العارض من التعجب، ولم يكن السامع أولى بهذا التعجب منه؛ لأنهما قد اشتركا في الجهل بالنفس وبآثارها وأفعالها، وكل واحدٍ منهما حقيقٌ بالتعجب، فأما العارف بالنفس وجوهرها، العالِم أنها ليست بجسم، وأن آثارها وأفعالها لا يجب أن تكون جسمانية؛ فإنه لا يعترض له هذا العارض في نفسه، وكذلك صورة مستمعه إذا كان عالِمًا كعلمه.

•••

فأما التعجب نفسه الذي سأل عنه السائل في عرْض مسألته الأولى فإنه حيرةٌ تعرض الإنسان عند جهل السبب، فكلما كانت المعرفة بأسباب الموجودات أقل كانت المجهولات أكثر والتعجب بحسبها أشد، وبالضد إذا كانت المعرفة بأسباب الموجودات أكثر كانت المجهولات أقل والتعجب بحسبها أقل؛ ولذلك قال قوم: كل شيء عجبٌ، وقال قوم: لا عجب من شيء.

فإن كانت الطائفة الأولى اعترفوا بالجهل العام وزعموا أنهم يجهلون أسباب الأمور، فالطائفة الثانية ادَّعت لنفسها مزيةً عظيمةً لأنهم زعموا أنهم يعرفون أسباب الأمور.

•••

فأما قولك — أعزك الله — عندما عددت أقوال المتكلمين في التعجب: ما هذا التفاوت والتباين وليس في الحق اختلافٌ ولا في الباطل ائتلافٌ؟

فالجواب: أن التعجب ليس بشيء له طبيعةٌ ولا وجود له من خارج، وإنما هو كما ذكرنا حيرة النفس عند جهلها السبب، ولما كان ما يجهله زيد قد يعلمه عمرو، لم يُنكَر تفاوتهما في العجب؛ لأن كل واحد منهما متعجبٌ مما يجهل سببه، ومجهول هذا هو بعينه معلوم هذا.

وإنما كانت تكون المسألة عويصةً وبديعةً لو كان لأمرٍ ما وجودٌ من خارجٍ ثم اختلف فيه قومٌ فضلاء يُعتَدُّ بآرائهم ويُذكَر تباينهم وقال قوم منهم: هو حق وقال آخرون: هو باطل.

على أن مثل هذا قد وقع في مسألة الخلاف وفي الزمان والمكان والعدم وأشباهها من المسائل، فقال قوم: هي جواهر لا أجسام لها، وقال قومٌ: هي أعراضٌ، وقال آخرون: ليست أجسامًا ولا جواهر ولا أعراضًا، واحتج كل قوم بحججٍ قويةٍ، إلا أن جميع هذه المذاهب تحررت في زمان الحكيم، واستقر قرارها، ووضح مشكلها، وبان صحيحها من سقيمها.

وليس من شأننا الإطالة في هذه المسائل فنذكرها ونحكيها؛ فإن أحببتَ معرفتها فقف عليها من مظانها وجرِّد لها مسائل لنُفرِد لها زمانًا ونظرًا إن شاء الله.

•••

وأما سؤالك في آخر هذه المسألة: بِمَ يحيط علم الخلق من المشار إليه بقولنا «الله» باختلاف الإشارات والعبارات؟ مع سائر ما ذكرتَ، فغير معترَفٍ بشيءٍ منه ولا يقول أحد إنه يحيط علمه بشيءٍ من هذا ولا يُلصَق به كما ذكرتَ، ولا يُعترَف أيضًا بهذه النعوت فيه.

والكلام في هذا الموضوع لا يمكن استقصاؤه؛ إذ كان جميع سعي الحكماء بالفلسفة إنما ينتهي إلى هذا، وإياه قصد بالنظر كله، وليس يمكن أن يُتكلَّم فيه إلا بعد تحصيل جميع المقدمات التي قُدِّمت له ومُهِّدت لأجله، أعنى الرياضيات والطبيعيات، ثم ما بعد الطبيعة من علم النفس والعقل، ثم بعد معرفة جميع هذه الجواهر الشريفة يمكن أن يُعلَم أنها محتاجةٌ ناقصةٌ متكثرةٌ مضطرةٌ إلى سببٍ أوَّلي، وموجدٍ قديم، ومبدعٍ ليس كهي في ذاتٍ ولا صفةٍ، فيكون هذا الجهل أشرف من كل علمٍ سبقه، وهو من الصعوبة والغموض بحيث تراه.

ولو كان إلى معرفة هذا الموضع طريقٌ غير ما ذكرناه لسلكه القدماء وأهل الحرص على إشاعة الحكمة وإذاعتها؛ فإنهم — رضي الله عنهم — ما أسفوا ولا بخلوا ولكن لم يجدوا إلى هذا المطلوب إلا طريقًا واحدًا فسلكوه وسهَّلوه بغاية جهدهم ودلوا عليه وأرشدوا عليه؛ وهو غاية سعادة البشر، فمن اشتاق إليه فليتكلَّف الصبر على سلوك الطريق إليه صعبًا كان أو سهلًا وطويلًا كان أم قصيرًا، على عادة المشتاق فإنه يسلك السبيل إلى الظفر بمحبوبه كيف كانت غير مفكرٍ في الوعورة والبعد، ومن لم يُعطَ الصبر على هذا السلوك فليقنع بِرُخَص الألفاظ والصفات المطلقة له في الشرائع الصادقة المعتادة، وليُصدِّق الحكماء والأنبياء والمقتدين بهم، وليُحسِن الظن، فليس يجد غير هذين الطريقين، والله ولي المعونة والتوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤