المسألة الرابعة والثلاثون: مسألة تشتمل على نيف وعشرين مسألةً طبيعيةً ولغوية وفيها الكلام في البخت والاتفاق

ما الخصائص الفارقة بين حقائق المعاني في ألفاظٍ دائرةٍ بين أهل العقل والدين، وهي أسماءٌ طابقت أغراضها لكنها خفية الأصول جلية المعاني وهي:

ما القوة والقدرة والاستطاعة والطاقة؟ فهي وفاء القوة بالمحمول عليها، والشجاعة، والنجدة، والبطولة، والمعونة، والتوفيق، واللطف، والمصلحة، والتمكُّن، والخذلان، والنصرة، والولاية، والمُلْك، والمِلْك، والرزق، والدولة، والجَد، والحظ.

ولم أذكر البخت؛ فإنه ليس من كلام العرب، ومعناه قد التبس ببعض هذه الأشياء، وكذلك المبخوت.

فأما المجدود، والمحدود، والمحظوظ، والحظي، والجدِّي، فكل ذلك مرادٌ به معنًى، ومَرْمِيٌّ به غاية، ولكن البيان عنها عزيز، والتحقيق فيها شديد.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

وجدتُ في هذه المسائل مع اختلافها ما يتقارب وما يتباعد في المعاني، فألَّفتُ الشكل إلى شكله، ولم أراعِ تأليفها ونظمها.

•••

أما القوة: فاسمٌ مشترك يُقال على القوة التي هي في مقابلة الفعل.

وهذا اسم خاص يستعمله الحكماء حَسْب، ولا يعرفه الجمهور، ومعناه أنه الشيء الممكن أن يظهر فيصير موجودًا بالفعل، فيُقال: الجرو مبصرٌ بالقوة، والإنسان كاتبٌ بالقوة، وإن لم يكن في الوقت كذلك.

ويُقال على القوة التي يُشار بها إلى معانٍ موجودةٍ للنفس كقوة الإبصار، والإدراك، والفكر، والتمييز، والغضب، وما أشبهها.

ويُقال على المعنى الذي في الحديد وأشباهه من الصلابة والامتناع على التثني والكسر.

ويُقال أيضًا على البطش والجَلَد الذي يختص الحيوان، وأظنك إياها عنيت بالمسألة؛ لأنها ذُكِرت مع الطاقة والقدرة.

وقد أصبتُ حدًّا يعم أكثر هذه الأسماء ويخص مسألتك وهو أن القوة حالٌ لذي القوة تظهر عند ما هي قوةٌ عليه.

فأما شرح هذا الحد بحسب ما يختص الحيوان، فهو اعتدال في الأعصاب بين الرطوبة واليبوسة، وذلك أن العصب إذا أفرط في الرطوبة استرخى عند العمل فسُمِّيَ مستعمِله ضعيفًا، وإذا أفرط في اليبوسة انبتر وانقطع أو خُشِي عليه ذلك، وألِمَ عند العمل؛ فكان مستعمِله أيضًا ضعيفًا.

وليس يُطلق اسم القوة إلا بالإضافة وعلى حسب موضوع ذي القوة، فقد يُقال: رجل قوي، وجمل ضعيف، كما يُقال: نملة قوية، وفيل ضعيف.

•••

فأما الطاقة فهي وفاء القوة بالمحمول عليها، وهي مستعملة في الحيوان، وفي قوته خاصة، وفي الأثقال الجسمانية.

وقد تُستعمل أيضًا في الأثقال النفسانية تشبيهًا واستعارةً، فيُقال: فلان يطيق حمل مائة مَنَا، أي قوته وفاءٌ بهذا الثقل إذا حُمِّلَه، ويُقال: فلان يطيق الكلام، ولا يطيق النظر، ولا الغم والسرور؛ فإن استُعْمِل في غير الحيوان فعلى المجاز البعيد.

•••

فأما القدرة فهي التمكن من إظهار هذه القوة عند الإرادة؛ ولذلك تختص بالحيوان، ولا تُستعمل في غيره ألبتة لِما حددناه به.

•••

وأما الاستطاعة فهي استِفْعَال من الطاعة، أي استدعاؤها، هذا بحسب الاشتقاق ودليل اللغة.

فأما على الحقيقة فهي كلمة مستعارةٌ، وذلك أنك لا تستدعي طاعة شيء لك إلا وأنت تستحقها منه بالقدرة عليه.

وتلخيص هذا الكلام أنك إذا قلت: استطعتُ كذا، وأنا أستطيع الأمر، أي إذا استدعيتُ طاعته أجابني.

وهي تَؤول إلى معنى القدرة وإن كانت أقدم منها بالذات، وكان بينهما فرقٌ من هذا الوجه؛ لأن النفس هي التي تستدعي طاعة الشيء بالقدرة عليه وتحكم بإجابته لها.

وهذه المعاني مضمَّنة لفظة الاستطاعة، واشتقاق الاسم دال عليه، فتأمَّله تجده واضحًا إن شاء الله.

•••

فأما الشجاعة فهي استعمال قوة العصب بقدر ما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وفيما ينبغي، وعلى الحال التي تنبغي.

وهي خُلُق يصدر عنه هذا الفعل على ما يَحُدُّه العقل، وهي حال واسطة بين طرفين مذمومين: أحدهما زيادة بالإفراط، والأخرى زيادة بالتفريط.

فأما من جانب الزيادة فأن تُستعمَل بأكثر مما ينبغي في سائر شرائطها فتُسمَّى «تهورًا».

وأما من جانب النقصان فأن تُستعمل بأقل مما ينبغي في سائر شرائطها فتُسمَّى «جبنًا».

والشجاعة لفظة مدح كالجود والعفة وما جرى مجراهما.

وأول ما يظهر منها أثرها في الإنسان نفسه إذا قُمِعَتْ شهواته فاستعمل منها قدر ما يحدُّه العقل بسائر شرائطها، ثم يظهر أثرها في غيره إذا قصده آخر بضيم أو ظلم؛ فإنه يدفعه عن نفسه بالشروط المذكورة من غير إفراط ولا تفريط.

•••

وأما النجدة فهي في معنى الشجاعة، أعني أنها لفظة مدحٍ، وتؤدي عن معناها، إلا أنها بحسب اللغة مأخوذةٌ من الارتفاع، والرجل النَّجْد كأنه المرتفع عن الضَّيْم، الذي علا عن مرتبة من يُسْتَذَلُّ ويُمْتَهَنُ، كالنَّجْد من الأرض الذي هو ضد الغَوْر.

•••

وأما البطولة، وإن كانت في معنى الشجاعة؛ فإنها مختصةٌ بما يظهر في الغير، ولا تُستعمل في قهر الإنسان شهوات نفسه، وهي تابعة للفروسة، كما يُقال فارس بطل.

وأخلق بالبطولة أن تكون عائدةً إلى معنى البطلان؛ لأن صاحبها أبدًا متعرض لذلك من الفرسان، لا سيما والعرب لا تميز بين الشجاعة الممدوحة وبين الزيادة فيها المذمومة، بل عندها أن الإفراط هو الشجاعة.

فأما ما سمَّيناه نحن شجاعةً — فهو بالإضافة إلى ما سمَّته بها — جبنٌ، كما فعلوا ذلك في السخاء والجود فإنهم استعملوا هذا المذهب بعينه.

وأقول: إن الشجاعة ربما أدت إلى بطلان الحياة، وكان الموت حينئذٍ خيرًا جيدًا ممدوحًا لمَّا وقع بحسب الشجاعة، أعني على ما حده العقل، وكما ينبغي، وعلى سائر الشروط؛ لأنه لو قصَّر صاحبها، أعني الشجاعة، لكان مذمومًا جبانًا كما بيَّنا وأوضحنا، وكما تقدم من شرحنا معنى الموت الجيد والحياة الرديئة فيما تقدَّم.

•••

فأما المعونة فهي إمداد القوة بقوة أخرى من جنسها خارجةٍ عنها.

والخذلان ترك هذا الإمداد مع التمكن منه.

فإذا كانت المعونة من البشر، كانت نافعةً مرةً، وضارة مرة؛ لجهلهم بعواقب الأمور، ولكن اسم المعونة اسم مدح؛ لأن المعوَّل عليه بين الناس هو النية والقصد في الوقت لا عواقب الأمور.

فأما إن كانت من الله تعالى فليست إلا نافعة غير ضارة؛ لعلمه بالعواقب، ولأن الله تعالى لا يفعل إلا الخير والنافع، وهو متعالٍ عن الشر منزهٌ عنه، جل ذكره، وتقدَّس اسمه، وعلا علوًّا كبيرًا عما يقول الظالمون.

وإذا تبيَّن ما المعونة وكيف تقع من البشر ومن الباري تعالى، فقد تبيَّن ضدها الذي يُسمَّى الخذلان فلا معنًى لإطالة الكلام فيه.

•••

فأما اللطف والمصلحة فلفظتان مختصتان بأصحاب الكلام، وإن كانتا أيضًا معروفتين عند الجمهور، ومعناهما عند القوم معروف.

وأنت — أبقاك الله — ريان شبعان من كلامهم ومعانيهم وأغراضهم، غير محتاج أن نتكلف لك إيضاح شيء منها، زادك الله وأمتع بالنعمة فيك.

•••

وأما التمكين فهو تفعيل من الإمكان، والإمكان في الشيء هو جواز إظهار ما في قوته إلى الفعل، وطبيعته بين الواجب والممتنع.

وذلك أنك إذا تصورت طبيعة الواجب كان طرفًا، وبإزائه في الطرف الآخر — أعني ما هو في غاية البعد منه — طبيعة الممتنع، وبينهما طبيعة الممكن.

ولأجل هذا صار للممكن غرضٌ كبيرٌ، ولم يكن للواجب ولا للممتنع غرضٌ؛ لأن بين الطرفين مسافة تحتمل الانقسام الكثير، فأما الطرف فلا مسافة له، والمسافة التي بين هذين الطرفين — أعنى الواجب والممتنع — إذا لَحَظْتَ وسطها على الصحة فهو أحق شيء وأولاه بطبيعة الممكن، وكلما قربت هذه النقطة التي كانت وسطًا إلى أحد الطرفين كان ممكنًا بشرط وتقييد، فقيل: ممكن قريبٌ من الواجب، وممكنٌ بعيدٌ منه.

وكذلك يُقال في الممكن القريب من الممتنع والبعيد منه.

فأما إذا كان في الوسط فهو ممكن على الإطلاق، وحينئذٍ ليس هو بالواجب أولى منه بالممتنع، ولا هو بأن يظهر من قوته إلى الفعل أولى من أن يبقى بحاله في القوة.

فالتمكين هو مصدر مكَّن تمكينًا كما تقول: كرَّم تكريمًا، وكلَّم تكليمًا.

والإمكان مصدر أمكن إمكانًا كما تقول: أكرم إكرامًا، والممكن مفعل منه كما تقول: مُكرِم.

وأما الاسم الذي منه اشتُق هذا الفعل فلم يُستعمل في اللغة ولا جاء منه ذلك؛ لأن الشيء لا فعل له إلا الفعل المتعدي بالهمزة، فإذا قلت في الشيء: هو ممكن، فكأنك قلت: إن هذا الشيء الذي في القوة — ولم يُستعمل له اسم، وهو في التقدير، وتقديره الممكن — قد أعطاك ذاته، وجعل من نفسه بحيث تخرجه إلى الفعل بالإرادة.

والإمكان مصدر أمكن الشيء من ذاته، فأما التمكين فهو فعل شيء آخر بك إذا جعلك من هذا الشيء بحيث تخرجه إلى الفعل بالإرادة، وهو مصدر مكَّن، وهذا التشديد يجيء في مثل هذا الوضع من اللغة إذا أُريد به تكرير الفعل وتأكيده، كما تقول: ضرَب وضرَّب، وشدَّ وشدَّد.

وقد يجيء التمكين بمعنًى آخر، وهو أن يكون تفعيلًا مشتقًّا من المكان، كما تقول: مكَّنت الحجر في موضعه إذا وفَّيته حقه من مد المكان ليلزمه ولا يضطرب.

ومنه تمكُّن الفارس من السَّرْج، وتمكُّن الإنسان من مجلسه، وتمكن الإنسان من الأمير، من هذا على التشبيه والاستعارة.

وبين هذا المعنى والمعنى الأول بون بعيد كما تراه.

•••

وأما الرزق فهو وصول حاجات الحي إليه بما هو حي.

وها هنا أشياء توصِّل إلى هذه الحاجات، وهي عوض منها ونائبةٌ عنها، أعني ما يُتعامَل عليه، فجُعِلت كأنها هي، وسُمِّيت أيضًا أرزاقًا لما أدت إليها، والأصل الأول، قال الله — تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.

ولما كانت أسباب الوصول إلى الحاجات كثيرةً: فمنها قريب، ومنها بعيد، ومنها طبيعي، ومنها غير طبيعي، وغير الطبيعي منها اتفاق ومنها غير اتفاق، وغلِط الناس ضروبًا من الغلط: منها أنهم راموا أن يجعلوا الأسباب الكثيرة سببًا واحدًا، ومنها أنهم راموا في الأسباب البعيدة القرب، فلما خفي عنهم ذلك ولم يجدوه حيث طلبوه لحقتهم الحيرة وبقدر جهلهم بالسبب عرض لهم التعجب من الأمر.

•••

فأما الدُّولَة فمن قولك: دال الشيء بين القوم وتداولوه بينهم إذا اعْتَوَروه بالمعاطاة، قال الله تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، أي ليتعاوره الكل ولا يخص قومًا دون قوم.

وهي لفظة مختصةٌ بالأمور الدنيوية المحبوبة لا سيما الغلبة، وأسبابها أيضًا كثيرة: فمنها بعيد، ومنها قريب، ومنها طبيعي، ومنها غير طبيعي، وغير الطبيعي منقسم إلى الإرادي والاتفاقي، وكل واحد من هذه الأقسام أيضًا ينقسم وتبعُد علله وتقرُب وتختلط، ويتركب ضروب التراكيب، فإذا فقد الجمهور وجود سببه عرض لهم فيه من الحيرة والتعجب ما عرض في الرزق.

•••

فأما التوفيق والاتفاق، والموافقة والوفاق، فقد مر ذِكْر كل واحد منها منفردًا وفي مسائل متفرقة، ووعدنا الكلام عليها في هذا الباب مع ذكر البخت والجَد لأنها أشكالٌ وقرائب.

وهذه الألفاظ الأربعة التي عددناها متقاربة المعاني، وهي مشتقة من الوفق، وهي من ألفاظ الإضافة؛ لأنها لا تقع إلا بين شيئين أو بين أشياء، ويُقال: هذا وفق هذا، أي لِفقُه وطِبقه وملائمه، ويُستعمل في كل متلائمين من جسمين وخلقين وغيرهما، وفي المثل: وافق شَنٌّ طَبَقَة، وافقه فاعتنقه، فقولك وافق فاعل من الوفق.

وهذا الوزن يجيء في كلام العرب لما كان بين اثنين، وكان كل واحد منهما وافق الآخر، وهو موافق، كما قيل: ضارَب صاحبه فهو مُضَارِب.

والاتفاق افتعال من الوفق، وهذا الوزن يجيء فيما لم يكن فاعله خارجًا منه، كما يُقال: اقترب واعتلق واضطرب، والأصل في اتفق اوتفق.

وكل هذا مشتق من الوفق، وهذا الوزن لا يجيء فيما لم يكن فاعله إلا الذي ذكرناه.

فإذا اجتمع شيئان أو أشياء على ملاءمة بينهما بسبب إرادي مجهول، وكان منهما موافقةٌ لإرادة إنسانٍ ما، كان اتفاقًا له، ولا بد أن يكون فيه قِسْطٌ من الإرادة، ونصيبٌ من القصد والاختيار؛ فإن لم يكن للإرادة فيه نصيبٌ، وإنما وقع بسبب طبيعي مجهولٍ، وكان فيه أمر نافع لإنسان — كان بختًا له.

ولما كانت الأمور بعضها يتم بأسباب طبيعيةٍ، وبعضها بأسباب إرادية، وبعضها يتركب فيكون تمامه بأسباب طبيعيةٍ وأسباب إرادية، وكل واحد منهما يتم منه أمر واحدٌ محبوبٌ أو مكروه، وإن اختلفت أسبابه بحسب إنسانٍ إنسانٍ ونحو غرضٍ غرضٍ خُولِفَ بين أسمائها ليُدَلَّ بها على اختلاف أسبابها.

وما كان من الأمور له سببٌ طبيعي بعيد أو قريب إلا أنه مجهولٌ، ثم عرض أن يكون نافعًا لإنسانٍ من غير إرادة ولا قصدٍ — سُمِّي بختًا.

وما كان من الأمور له سببٌ إراديٌّ بعيدٌ أو قريبٌ إلا أنه مجهولٌ، ثم عرض له أن يكون نافعًا لإنسان موافقًا لغرض له وإرادةٍ — سُمِّي اتفاقًا.

ولا يُشتق للإنسان اسم من هذين إلا بعد أن يتكرر له أمر، أعني أنه إنما يُسمَّى مبخوتًا إذا عرض له مراتٍ كثيرةً أن تحدث أفعال طبيعيةٌ لأسباب لها مجهولة، فتتم بها أغراض مطلوبةٌ محبوبة.

وأيضًا فإنما يُسمَّى موفَّقًا إذا عرض له مراتٍ كثيرةً أن تقع أفعالٌ إراديةٌ لأسباب لها مجهولةٍ فتتم بها أغراض جميلةٌ محبوبة.

وأنا أكشف هذين المعنيين بمثالين ليضِحَ أمرهما وينكشف.

على أني رأيتك تستعفي أن تفهم معنى البخت؛ لأنك لم تجده في كلام العرب كأنك حظرت على نفسك أن تفهم حقيقةً إلا أن تكون في لفظ عربي؛ فإن عدِمتَ لغة العرب رغبتَ عن العلوم، لكنا — أيَّدك الله — لا نترك البحث عن المعاني في أي لغة كانت وبأي عبارة حصلت، فأقول:

أما مثال البخت فأن يسقط حجر من مكان عالٍ، فيصيب رجلًا في عضو له تنفجر منه عروق ويخرج منه الدم؛ فإن كان الرجل محتاجًا قبل ذلك إلى إخراج الدم صار سقوط الحجر الذي فجَّر العرق وأخرج الدم سببًا لصحته ومنع المرض عنه، فهذا بخت جيد.

فإن كان عرض للرجل أشياء كثيرة تشبه هذا فهو مبخوت.

وإن كان خروج الدم غير نافع للرجل ولا كان به حاجةٌ قبل ذلك إلى إخراجه، بل تعجَّل بسقوط الحجر الألم، وبخروج الدم سقوط القوة، والوقوع في مرض كان غير مستعد له، فهو بخت رديء.

وأما المثال في الاتفاق فأن يخرج إنسان من منزله بإرادة وقصدٍ إلا أنهما كانا منه نحو التماس الحاجة، فلقي في طريقه ذلك صديقًا كان يهوى لقاءه أو غريمًا كان يطلبه فلا يجده، فهذا اتفاق جيد؛ فإن عرض للرجل مثالٌ لهذا كثيرٌ فهو موفق.

وإن كان لقاؤه أيضًا وافق عدوًّا كان يهرب منه أو غريمًا كان متواريًا عنه، فهو اتفاق رديء، والرجل إذا دام عليه مثل هذا غير موفَّق.

ولما كانت أسباب الحركات الإرادية إنما تكون من خواطر وعوارض للنفس ليست بإرادة، إذ لو كانت عن إرادة لوجب من ذلك وجود إرادات لا نهاية لها، وهذا محال، كانت هذه الخواطر والعوارض التي هي آثارٌ وأفعالٌ منسوبة إلى فاعل، وقد قلنا إن فاعلها غير الإنسان، فهي إذن فعل غيره لا محالة؛ فإن كانت مؤديةً إلى خيرات ومنافع كانت منسوبةً إلى الله — تعالى — وهو التوفيق، تفعيل من الوفق، وهذا التوفيق ربما فعله الله تعالى بالعبد من غير مسألة، وربما كان بعد مسألة وتضرُّع، إلا أن الناس كافةً يرغبون إلى الله — تعالى — فيها ويسألونه إياها دائمًا في كل زمان، فإذا سنحت هذه العوارض والخواطر للنفس فَزِعت إلى حركات يتم بها وبغيرها أمرٌ واحدٌ مختارٌ لإنسان ما نحو غرضٍ جيدٍ له — كان توفيقًا وكان الرجل موفقًا.

•••

فأما الجد فكأنه اسمٌ شاملٌ لهذين المعنيين جميعًا؛ لأن الإنسان إن وُفِّقَ وبُخِتَ فهو مجدود وإن انفرد أيضًا بأحدهما فهو مجدود أيضًا.

•••

وأما الحظ فهو القَسم والنصيب، ولما كان لكل إنسان نصيبٌ من السعادة وقسط من الخير مقسومٌ له من الفلك بحسب مولده، كان ما يصيبه من ذلك منسوبًا إلى الحظ.

•••

فأما المحدود فهو الممنوع، واشتقاقه من الحد وهو المنع، ويُقال للبواب حداد من هذا، وكأن المحدود ممنوعٌ مما يصيب غيره من الخير.

•••

والحظي والجدي منسوبان الي الجد والحظ، كما يُقال تميمي وبكري.

فأما النصر فهو المعونة، إلا أنه فيما أدَّى إلى الغلبة والقهر، وقد قلنا ما المعونة فيما سلف.

•••

وأما الولاية فاسمٌ مشترك، وتَصرُّفه بحسب تصرُّف اسم المَوْلى، أعني أنه يكون من فوق، ويكون من أسفل، إلا أن الحقيقة فيهما أنهما حال توجب اختصاصًا وتحققًا يدعو الأعلى إلى الحُنُوِّ والشفقة، والأسفلَ إلى النصيحةِ والطاعة.

وإذا أُخِذَ هذا الاسمُ بحسب الشريعة وأنه لفظ شرعي حُدَّ بقدر ذلك المعنى المشار إيه، وإن كان الأصل ما ذكرناه.

فأما مِلْكُ الشيء فهو التفرُّد بنفاذ الحكم فيه.

وهذا قد يكون بالطبيعة، والشريعة، وبالاصطلاح:

أما بالطبيعة فملك الإنسان لأعضائه وآلاته الطبيعية، وحركاته التي يُصرِّفها على إرادته.

وأما بالشريعة فمِثلُ ملكِ الرِّقِّ بالسبْي لمن خالف أصول الشرع.

وأما بالاصطلاح فمِثلُ المفاوضات التي تقع بين المتعاملين.

فأما المُلكُ فهو المِلكُ إلا أنه أكثر عمومًا، وأظهر استيلاءً، وهو مع قهر.

ونفوذ الأمر فيه على طريق عموم المصلحة بالشفقة؛ فإذا كان بحسب الشرع، والقيام بقوانينه، وإنفاذ أحكامه، وحمل الناس عليه طوعًا وكرهًا، ورغبةً ورهبة، ونظرًا لهم كافةً بلا هوًى ولا عصبيةٍ؛ فهو المُلكُ الحقيقي الذي يستحق هذا الاسم، ويستوجبُه بحسب معناه.

وإن لم يكن بحسب الشرع وشروطه التي ذكرناها فهو غلبة، والرجل متغلِّب، ولا يجب أن يُسمى ملكًا، ولا صناعتُه مليكة، ولا نفوذ أمره بحسب المُلك.

وقد استبان من هذا الكلام حقيقةُ المَلِك، والفرقُ بينه وبين المتغلب، وإن كان شرح ذلك يضيق عن هذا المكان، لكنَّ الإشارةَ إليه كافيةٌ بالغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤