المسألة الرابعة: مسألة اختيارية

لِمَ تواصَى النَّاس في جميع اللغات والنِّحَل وسائر العادات والمِلل بالزهد في الدنيا والتقلل منها والرضا بما زَجَا به الوقت وتيسَّر مع الحال، هذا مع شدة الحرص والطلب، وإفراط الشَّرَه والكَلَب، وركوب البر والبحر بسبب ربح قليل ونائل نزر، حتى إنك لا تجد على أديمها إلا متلفتًا إلى فانيها حزينًا، أو هائمًا على حاضرها مفتونًا، أو متمنيًا لها في المستقبل مُعَنًّى، وحتى لو تصفحت الناس لم تجد إلا متحسرًا عليها أو متحيرًا فيها أو مُسَكَّرًا منها، وأشرفهم عقلًا أعظمهم خبلًا، وأشدهم فيها إزهادًا أشدهم بها انعقادًا، وأكثرهم في بُغضها دعوى أكثرهم في حبها بلوى.

وهاتِ السبب في ذلك والعلة، وعلى ذكر السبب والعلة فما السبب والعلة؟ وما الواصل بينهما إن كان واصل؟ وهل ينوب أحدهما عن الآخر؟ وإن كانت هناك نيابة أفهي في كل مكان وزمان أو في مكان دون مكان وزمان دون زمان؟

وعلى ذِكْر المكان والزمان، ما الزمان وما المكان؟ وما وجه التباس أحدهما بالآخر؟ وما نسبة أحدهما بالآخر؟ وهل الوقت والزمان واحد والدهر والحين واحد؟ وإن كان كذا فكيف يكون شيئان شيئًا؟ وإن جاز أن يكون شيئان شيئًا واحدًا هل يجوز أن يكون شيء واحد شيئين اثنين؟ هذا — أيَّدك الله — فنٌّ ينشف الريق، ويُضْرِع الخد، ويُجِيش النفْس، ويُقيِّئ المِبْطَان، ويفضح المُدَّعى، ويبعث على الاعتراف بالتقصير والعجز، ويدل على توحيد من هو محيط بهذه الغوامض والحقائق، ويبعث على عبادة من هو عالِم بهذه السرائر والدقائق، وينهى عن التحكم والتَّهَانُف، ويأمر بالتَّنَاصُف والتَّوَاصُف، ويُبيِّن أن العلم بحرٌ، وفائت الناس منه أكثر من مدركه، ومجهوله أضعاف معلومه، وظنه أكثر من يقينه، والخافي عليه أكثر من البادي، وما يتوهمه فوق ما يتحققه، والله تعالى يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، فلو استمر المعلوم بالنفي لَمَا عُلِمَ شيء، ولولا الإيضاح بالاستثناء لمَا بَقِيَ شيء، لكنه جل وعز نفى ﺑ «لا» على ما يقتضيه التوحيد وبقَّى ﺑ «إلا» ما يكون حِلية ومصلحة للعبيد.

•••

«ثم أتبعتَ المسألة من تنقُّص الإنسان وذمه وتوبيخه ما أستغني عن إثباته.»

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

هذه المسألة موشحة بعدة مسائل طبعية، وقد جعلتَها مسألة واحدة، ولعل التي صيرتَها أذنابًا هي أشبه بأن تكون رءوسًا.

وقد عرض لك فيها عارضٌ من العُجْب، وسانحٌ من التيه، فخطرتَ خطرانَ الفحل ومشيتَ العِرِضْنَةَ، ومررتَ في خُيَلائك، ومضيت على غُلَوائك حتى أشفقت أن تعثر في فضل خطابك، فلو تركتَ هذا الغرض للمتكلم على مسائلك ووفَّرتَ هذا المرض على المجيب لك؟!

•••

ارفق بنا يا أبا حيان — رفق الله بك — وأرْخ من خناقنا، وأسغنا ريقنا، ودعنا وما نعرفه في أنفسِنا من النقص فإنه عظيم، وما بُلِينا به من الشكوك فإنه كثير، ولا تُبَكِّتنا بجهل ما عَلِمْناه، وفوت ما أدركناه فتبعثنا على تعظيم أنفسنا وتمنعنا من طلب ما فاتنا؛ فإنك — والله — تأثم في أمرنا وتقبُح فينا، أسأل الله أن لا يؤاخذَك ولا يطالبك ولا يعاقبك فإنك بعَرَض جميع ذلك إلا أن يعفو ويغفر فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

•••

أما أولى المسائل فالجواب عنها: أن الإنسان لما كان مُرَكَّبًا من نفس وجسد، واسم الإنسانية واقع على هذين الشيئين معًا.

وأشرف جُزْأَيِ الإنسان النفس التي هي معدن كل فضيلة وبها وبعينها يرى الحق والباطل في الاعتقاد، والخير والشر في الأفعال، والحسن والقبيح في الأخلاق، والصدق والكذب في الأقاويل.

وأما جزؤه الآخر الذي هو الجسم وخواصه وتوابعه فهو أرذل جزأَيْه وأخسهما؛ وذلك أنه مُركَّب من طبائع مختلفة متعادية، ووجوده في الكون دائمًا لا لُبْثَ له طرفة عين، بل هو متبدِّل سيَّال؛ ولهذا سُمِّيَ عالَمه العالَم السوفسطائي.

وهذه مباحث محققةٌ مشروحةٌ في مواضعها، وإنما ذكَّرنا بها لحاجتنا في جواب المسألة إليها.

فإذا كان الإنسان مركَّبًا من هذين الجزأَيْن، وممزوجًا من هاتَيْن القوتَيْن، وكان أشرف جزأَيْه ما ذكرناه — وهو النفس التي ليس وجودها في كون ولا هي متركبة من أجزاءٍ متعادية متضادة، بل هي جوهر بسيط بالإضافة إلى الجسم وهي قوة إلهية غنية بذاتها — وجب أن يكون شغل الإنسان بهذا الجزء أفضل من شغله بالجزء الآخر؛ لأن هذا باقٍ وذاك فانٍ، وهذا جوهر واحد وذاك جواهر متضادة، وهذا له وجود سرمدي وذاك لا وجود له إلا في الكون الذي لا ثبات له.

وفي عَدِّنا فضائل النفس ونقائص الجسم خروج عن غرض هذه المسألة.

والذي يكفي في الجواب عن هذه المسألة بعد تقرير هذه الأصول والإقرار بها، أن الإنسان إذا أحس بهذه الفضائل التي في نفسه، والرذائل التي في جسمه، وجب عليه أن يستكثر من الفضائل ليرتقي بها إلى درجات الإلهيين ويُقِلَّ العناية بما يعُوق عنها، ولما كان الشغل بالحواس وخصائص الجسم عائقًا عن هذه الفضائل والعلوم الخاصة بالإنسان، استقبح أهل كل ملة الانهماك فيه، وصرف الهمة والبال إليه، وأمروا بأخذ قوته الذي لا بد له منه في مادة الحياة، وصرف باقي الزمان بالهمة إلى تلك الفضائل التي هي السعادة.

وهذا المعنى يلوح للناظر، ويبين له بيانًا جليًّا، إذا نظر إلى فرق ما بين الإنسان وسائر الحيوانات؛ لأنه إنما فَضَلَها بخاصة النفس لا بخواص الجسد؛ لأن خواص الجسد للحيوانات أتم وأغزر — وقد علم أن الإنسان أفضل منها — وأعني بخواص الجسد الأَيْد والبطش والقدرة على الأكل والشراب والجماع وما أشبه ذلك، فإذا تماميَّة الإنسان وفضيلته إنما هي بهذه المزية التي وُجِدت له دون غيره؛ فالمستزيد منها أحق باسم الإنسانية وأولى بصفة الفضيلة؛ ولهذا يُقال: فلان كثير الإنسانية، وهو من أبلغ ما يُمدح به.

ومن أحب الاطلاع على تلك الأصول والاستكثار منها وبلوغ غاية اليقين فيها فليأخذه من مظانه.

فأما حرص الناس — مع شعورهم بهذه الفضيلة — وكَلَبُهم على الدنيا بركوب البر والبحر لأجل الملاذ الخسيسة؛ فلأن الجزء الذي فينا معاشر البشر من الجسم الطبيعي أقوى من الجزء الآخر، وعَرَضَ لنا من تجاذُب هاتين القوتين ما يعرض لكل مركَّب من قوًى مختلفة فيكون الأقوى أبدًا أظهر أثرًا؛ فلأجل ذلك انجذبنا إلى هذا الجزء مع علمنا بفضيلة الجزء الآخر.

ونحن وإن علمنا أن هذا كما حكيناه، وتيقنا هذا المذهب تيقنًا لا ريب فيه؛ فإنَّا في جهاد دائم، فربما غلب علينا هذا الجزء، وربما مِلْنا إلى الجزء الآخر بحسب العناية، وسأضرب في ذلك مثلًا من العيان والحس، وهو أن المريض والنَّاقِه والخارج عن مزاج الاعتدال قد تيقن أنه بالحِمْيَة وترك الشهوات يعود إلى الصحة والاعتدال الطبيعي، وهو مع ذلك لا يمتنع من كثير من شهواته لشدة مجاذبتها له وغلبتها على صحيح عقله وثاقب فكره ونصيحة طبيبه، حتى إذا فرغ من مواقعة تلك الشهوة وأحس بالألم ندم ندامة يظن معها ألا يعاود أبدًا، ثم لا يلبث أن تهيج به شهوة أخرى أو هي بعينها، وهو في ذلك يعظ نفسه ويُديم تذكيرها الألم ويشوِّقها إلى الصحة، ولا ينفعه وعظ ولا تذكير للعلة التي ذكرناها قبلُ من شدة مجاذبة الشهوة الحاضرة، حتى ينال شهوته ثانيًا، ثم هذه حال مستمرة به ما دام مريضًا.

وكذلك هو أيضًا في حالة الصحة، يتناول من الشهوات ما يعلم أنه يُخرِج عن مزاج الاعتدال، ولا يأمن هجوم الأمراض عليه، فيحمله سوء التحفظ وشدة مجاذبة الطبيعة إلى مخالفة التمييز ومشاركة البهائم.

فإذا رأيتَ هذا المثل صحيحًا، ووجدتَه من نفسك ضرورة، اطلعت على ما قدَّمناه وفهمته فهمًا بيِّنًا، وعذرت من زهَّدك في الدنيا وإن خالفك إليها، ومن نصحك بتركها وإن أخذ هو بها واستكثر منها.

•••

فأمَّا ما اعترض في المسألة من ذكر السبب والعلة، والمسألة عن الفرق بينهما؛ فإن السبب هو الأمر الداعي إلى الفعل ولأجله يفعل الفاعل.

فأما العلة فهي الفاعلة بعينها؛ ولذلك صار السبب أشد اختصاصًا بالأشياء العرضية، وصارت العلة أشد اختصاصًا بالأمور الجوهرية.

والحكماء قد أطلقوا لفظ العلة على الباري تقدَّس اسمه، وعلى العقل والنفس والطبيعة، حتى قالوا: العلة الأولى والعلة الثانية والثالثة والرابعة، وقالوا أيضًا: العلة القريبة والعلة البعيدة، في أشياء تتبينها من كُتبهم.

وعلى أن هذه المسألة بجهة من الجهات تنحلُّ إلى المسألة الأولى وتعود إليها؛ لأنها يجوز أن توجد في المتباينة أسماؤها بضربٍ من الاعتبار، وفي المترادفة أسماؤها بضربٍ آخر من الاعتبار، وقد مر هذا الكلام مستقصًى فلا وجه لإعادته.

•••

وأما الزمان والمكان؛ فإن الكلام فيهما كثير، قد خاض فيه الأوائل، وجادل فيه أصحاب الكلام الإسلاميون، وهو أظهر من أن يَنْشف الريق ويَضْرَع فيه الخد، ولا سيما وقد أَحْكَم القول فيه الحكيمُ، وناقض أصحاب الآراء فيهما، وبيَّن فساد المذاهب القديمة، وذكر رأي نفسه ورأي أستاذه في كتاب «السماع الطبيعي»، وكل شيء وُجِدَ لهذا الحكيم فيه كلام فقد شفى وكفى، وقد فسَّر كلامه فضلاء أصحابه المفسرين، ونُقِلَ إلى العربية، وهو موجود.

وأنا أذكر نص المذاهب لِما تقتضيه مسألتك في عُرْض المسألة الأولى، وأترك الاحتجاج لأنه مسطور، وإذا دللتُ على موضعه فقُرِئ منه كان أولى من نقله إلى هذا المكان نَسْخًا.

•••

أما الزمان فهو مدة تَعُدُّها حركات الفلك.

وأما المكان فهو السطح الذي يحوز المحْوِي والحاوي.

وأما الفرق الذي سألته بين الوقت والزمان، والدهر والحين؛ فإن الوقت قدر من الزمان مفروض مميَّزٌ من جملته مشارٌ إليه بعينه.

وكذلك الحين هو مدة أطول من الوقت وأفسح وأبعد، وإنما تقترن أبدًا هاتان اللفظتان بما يميزهما ويفصلهما من جملة الزمان الذي هو كل لهما، فيُقال: وقت كذا وحين كذا، فيُنسب إلى حال أو شخص أو ما أشبه ذلك.

فإذا أُريد بهما الإبهام لا الإفهام قيل: كان كذا أو يكون كذا في حين أو وقت، فيعلم السامع أن المتكلم لم يؤثر تعيين الوقت والحين، وهما لا محالة مُعَيَّنان مُحَصَّلان.

فأما الدهر فليس من الزمان ولا الحين ولا الوقت في شيء، ولكنه أخصُّ بالأشياء التي ليست في زمان ولا مُقَدَّرة بحركات الفلك؛ لأنها أعلى رتبةً من الأمور الطبيعية.

فأقول: نسبة الزمان إلى الأمور الطبيعية كنسبة الدهر إلى الأمور غير الطبيعية، أعنى ما هو فوق الطبيعة.

وهذا القدر من الكلام كافٍ في الإيماء إلى ما سألت عنه، وإن أحببت التوسع فيه فعليك بالمواضع التي أرشدناك إليها من كلام الحكيم ومفسري كُتبه فإنه مستقصًى هناك.

وهذه المواضع — أبقاك الله — إذا نظر فيها الإنسان وعرفها حق معرفتها، تنبَّه على حكمة بارئها ومبدئها، وصارت أسبابًا محكمة ودواعي قويةً إلى التوحيد.

وليس معرفتنا بها وإحاطتنا بعلمها إلا من نعمة الله علينا وإفاضته الخير بها علينا، وهي مما شاء أن نحيط به من عِلْمه، ولم يكن عِلْمنا بالزمان والمكان والوقت والآن إلا كسائر ما علَّمناه الله.

ووراء هذه المواضع سرائر ودقائق لا يبلغها العقل الإنساني ولم يطمع في إدراكها أحدٌ قط، وهناك يحسُن الاعتراف بالضعف البشري والعجز الإنساني، وسائر ما تكلم فيه أبو حيان ورمى الإنسان به من الذلة والقلة فيُقْعِي حينئذٍ على استه، ويستحي من الفُسُولة والذل عند الحاجة إلى خالق الخلق وبارئ الكل.

فأما هذه المواضع التي تكلَّمنا فيها فهي مواضع الشكر له والتحدث بنعمته والتعجب من حكمته والاستدلال بها على جوده وقدرته وفيضه بالخير على بريته، ومسألته الزيادة منها، والحرص على نيل أمثالها بالنظر والفحص، وإدامة الرغبة إلى واهبها ومُنِيلها بإفاضة أشباهها وأشكالها مما هو موضوع للبشر ومُيَسَّر لهم، وهم مندوبون له مبعوثون عليه، بل أقول إنه مأخوذ على الإنسان الكامل بالعقل ألا يقعد عن السعي والطلب لتكميل نفسه بالمعارف، ولا يني ولا يفتر مدة عمره عن الازدياد من العلوم التي بها يصير من حزب الله الغالبين وأوليائه الفائزين الآمنين الذين لا خَوْف عَليهم وَلَا هم يَحْزَنون.

فأما القوم الذين يُفنون أعمارهم في قُنْيَة الذهب والفضة، ويجعلون سعيهم كله مصروفًا إلى الأمور الزائلة الفانية من اللذات الجسمانية والشهوات البدنية، فهم الذين قد بعدوا من الله وصاروا من حزب الشيطان، فوقعوا في الأحزان الطويلة والخوف الدائم والخسران المبين؛ إذ كانوا أبدًا من مطلوبهم على إحدى حالتين: إما أسفٌ على فائت ونزاعٌ إليه، أو لهفٌ على مفقود وحزنٌ عليه؛ لأن الأمور التي يطلبونها لا ثبات لها ولا نهاية لأشخاصها ولا وجود بالحقيقة لها، وإنما هي في الكون والاستحالة والتنقُّل بالطبع.

نسأل الله الواحد الذي نُخْلِص إليه رغباتنا ونرفع أيدي نفوسنا له ونسجد بهممنا وعقولنا أن يفيض علينا الخير المطلوب منه الذي نشتاق إليه لذاته لا لغيره، وأن ينير عقولنا لندرك بها حقيقة وحدانيته وعجائب مبروآته، ويفضي بنا إلى السعادة القصوى التي خلقنا لها من أقصر الطرق وأهدى السُّبل صراط الله المستقيم؛ فإنه أهل ذلك ووليه والقادر عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤