المسألة الثالثة والتسعون

ما سبب تصاغي البهائم والطير إلى اللحن الشَّجي والجِرْم النَّدِي؟
وما الواصل منه إلى الإنسان العاقل المُحَصِّل حتى يأتي على نفسه؟
وهذا جارٍ في العادة ومعروف عند المُتَعَرفين للأمور.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

قد مر لنا في المسألة الثالثة من هذه المسائل كلام كثير في سبب قَبول الإنسان بعض الأسماء وكراهية بعضها، وثقل بعض الحروف وخفة بعضها، وما يلحق النفس من الأصوات المختلفة بالحدة والجهارة وغير ذلك، ونحن نزيد في هذا الموضع ما يليق بزيادتك في المسألة فنقول:

إن النفس وإن كانت صورةً فاعلةً من حيث هي كمالٌ لجسمٍ طبيعيٍّ إلى ذي حياة بالقوة فإنها هيولانية منفعلة من حيث هي قابلة رسوم الأشياء وصُوَرها؛ ولذلك صار لها سببان: أحدهما إلى ما تفعل به، والآخر إلى ما كان ينفعل به.

فالنفس تقبل نِسَب الاقتراعات بعضها إلى بعض كما تقبل نفْس الاقتراعات مفردة مركَّبة، وذاك أن أفراد الأصوات ومجموعها غير نسب بعضها إلى بعض؛ لأن النسبة هي إضافة ما، والنظر الإضافي غير النظر في ذوات الأمور، وكذلك تأثير هذا غير تأثير ذاك.

ولما كانت هذه النسب كثيرة مختلفة وجب فيها ضرورة ما يجب في الأشياء المُتَكَثِّرة، أعني أن لها طرفين: أحدهما الزيادة، والآخر النقصان، ولها من هذين الطرفين اعتدال؛ فإن كانت الأطراف كثيرة فالاعتدالات أيضًا كثيرة، والنفس تأبى الزيادة والنقصان، وتميل إلى الاعتدال، ولأن لها قوًى تظهر بحسب الأمزجة، فلتلك القوى المختلفة إضافات مختلفة إلى نِسَب مختلفة واعتدالات مختلفة.

وقد اجتهد أصحاب الموسيقى في تمثيل هذه النِّسَب وتحصيل هذه الاعتدالات بأن جعلوا لها أمثلة في مقولة الكم من العدد، وإن كان بعضها بمقولة الكيف أحق؛ لأن الصناعة مؤلفة من هاتين المقولتين، أعني الكم والكيف، ولكن الكم الذي هو العدد أقرب إلى الأفهام، ومثَّلوا ما كان من الكيفية بالكمية ثم لخَّصوا كل واحدة منهما تلخيصًا تجده مبيَّنًا في كُتبهم.

وإذ قد قلنا ما الذي يصل إلى النفس من آثار الأصوات وما المحبوب منه وما المكروه على طريق الإجمال من القول، فقد تبيَّن أن الإفراط منه والخروج إلى إحدى الجهتين يؤثِّر بحسب ذلك.

وقد كان تبيَّن في مواضع كثيرة أن النفس والبدن كل واحد منهما مشتبك بالآخر، وكثيرًا ما يظهر أثر أحدهما في الآخر؛ فإن الأحوال النفسية تُغيِّر مزاج البدن، ومزاج البدن أيضًا يُغيِّر أحوال النفس، فإذا قوِيَ أثرٌ ما في النفس حتى يتفاوت به المزاج ويخرج عن اعتداله لم يقبل أثر النفس وعرَض منه الموت؛ لأن الموت ليس بأكثر من ترك النفس استعمال الآلات البدنية، وقد علمنا أن دم القلب، الذي له اعتدال ما، إذا انتشر في البدن ورقَّ بالسرور أكثر مما ينبغي، أو عاد واجتمع إلى القلب بالغم أكثر مما ينبغي، عرَضَ من كل واحدة من الحالتين الموت أو ما يقارب الموت بحسب قوة الأثر.

وما أكثر ما تؤثر الأجسام في الأجسام تأثيرًا طبيعيًّا فيتأدى ذلك الأثر إلى النفس فتعرِض لها حركة ما، وتصير تلك سببًا لتأثير آخر في الجسم يكون به انتقاصه وخروجه عن الاعتدال، وإذا تأملت ذلك في الأشياء المغضبة والمحزنة إذا كانت قوية تبيَّن لك ذلك.

فهذا كافٍ في هذا الموضع، وإن أحببت الاتساع فيه فعليك بكُتب الموسيقى فإنها تشفيك إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤