الفصل الرابع عشر

ذيل للباب الرابع

عودة إلى المنطاد

تكلمنا في الباب الثاني عن المنطاد، وفي البابين الثالث والرابع عن نشوء الطيارة وارتقائها قديمًا وحديثًا، وبيَّنَّا أجزاءهما ووظائف هذه الأجزاء وكيفية أدائها لهذه الوظائف. ونريد الآن أن نتكلم عن محطات المناطيد، ثم نقارن بينها وبين الطيارات، ونذكر أثرهما في الحضارة.

(١) محطات المناطيد أو السفن الهوائية

هي كمطارات الطيارات إلا في اختلافات بسيطة، منها أن بها آلات لتوليد الأيدروجين hydrogen plant وتنقيته وملء أكياس المناطيد به، ومنها أن الحظائر أكبر وأفسح؛ حتى تسع ذلك الحجم العظيم للمناطيد، وبها سيور straps طويلة مُدلَّاة من السقف تحزم المنطاد وتربطه مُعلَّقًا إن فرغت أكياسه من الأيدروجين. غير أن عملية إدخال المنطاد إلى الحظيرة وإخراجه منها في غاية الصُّعوبة وتحتاج لأنفار كثيرين، لا سيما إذا كانت هناك ريح شديدة، وعندئذٍ تكون العملية خطرة يُخشى منها على بعض أجزاء المنطاد من الاصطدام بحِيطان الحظيرة، فتكسرها (انظر المنطاد الذي في شمال الجزء العلوي من شكل ١٤-٣ أثناء إدخاله في الحظيرة)؛ ولذلك كان يضطر القائمون على المنطاد إلى ربطه بواسطة أحبال تتدلَّى منه، فتُربط في مَرَاسٍ إلى الأرض كما رأيتَ في شكل ١-٥ ريثما تقلُّ حدَّةُ الريح. ولكن ابتكار فكرة صاري الرُّسُوِّ mooring mast سهَّل هذه المهمة وكفانا مئونةَ التعب، وجعل الالتجاءَ إلى إيواء المنطاد بالحظيرة قاصرًا على الأحوال التي يُراد فيها خَزْنُه بغير عمل أو تصليحه، وإلا فما دام في الخدمة الفعلية فيكفي ربطُه في الصاري.

(١-١) صاري الرُّسُوِّ

هذا الصاري منشأة هندسية رفيعةٌ عالية، في قمَّتها قطعة مَعدنية جوفاء تتحرك بسُهولة في مُعظم الاتجاهات، فتكون مفصلًا عامًّا تقريبًا nearly universal joint، والمنطاد المُعد لأن يُربَط بالصاري يكون في أقصى مقدمته كتلةٌ معدنية كُرِّية حجُمها كحجم الفراغ داخل التَّجويف الذي في قمَّة الصَّاري تقريبًا، فإذا أُريد رسوُّ منطاد يسبح في الهواء: وجَّهه رواده نحو الصاري، واتجهت مقدمتُه الكرية المعدنية نحو هذا المفصل الذي في أعلى الأَخير، وتحرَّرَتْ حتى تدخُلَ في ذلك التجويف المعدنيِّ، فينطبق عليها عندئذٍ بسرعة، ويمسكها بقوَّة ويحبِسها والمنطاد معها مشدودٌ إلى الصَّاري. وترى في شكل ١٤-١ رسمًا يوضِّح جزءًا في وسط الصاري الذي شُدَّ إليه المنطاد الظاهر في الشكل، كما يظهر أيضًا رجل نازل من المنطاد على سُلَّم الصاري، وهذا السلم سيُستعاض عنه بلا شكٍّ في المستقبل بمِصعد في وسط الصَّاري يرقَى به الركَّاب إلى القِمَّة، ومنها يدخلون إلى المنطاد من أبواب خاصة تفتح عند مقدِّمته، ومنها كذلك تُشحَن البَضائع. ويُركَّب في الصاري عدة أنابيب بعضُها يتَّصل بجهاز توليدِ الأيدروجين حتى تُملأ منها الأكياسُ الفارغة، وبعضها يتَّصل بأنابيب الماء العادية، إلخ.
fig66
شكل ١٤-١: صاري الرُّسوِّ مربوطًا إليه المنطاد «ر. ٣٣».
وفكرة صاري الرسو حديثةُ العهد؛ ولذلك لم تصل بعد إلى حدِّ الكمال، فقد حدث مِرارًا أن إنشاء المنطاد لم يقوَ على مقاومة الجُهود الناشئة من فِعل الرياح، ففي شكل ١٤-٢ صورتان للمنطادين شنندو (أو ز. ر. أ) الأمريكي (إلى اليمين) و«ر. ٣٣» الإنجليزي (إلى اليسار)، وقد مُزِّقا عند المقدمة من أثَر ربطهما بالصاري أثناء هُبوب عاصفة. ويلاحظ القارئ أن المنطاد «ر. ٣٣» لا يزال في الهواء، فقد ظلَّ طائرًا وهو بهذه الصورة فوق الثلاثين ساعة، وهذا يوضح فائدة تقسيم المنطاد إلى خزَّانات يشغَل كلًّا منها كيسٌ قائمٌ بذَاته، فلو أن غاز المنطاد كان يحتويه كيس واحد ومُزِّق هذا الكيس عند مقدِّمته؛ لتسرَّب كل غاز المنطاد إلى الهواء وهوى إلى الأرض، ولكن هبوط كيس أو اثنين أو ثلاثة من التسعة عشر كيسًا التي في مثل هذا المنطاد لا يَقضي عليه، فتظلُّ الأكياس الباقية ممتلئة أيدروجينيًّا، وما على الرُّواد إلا أن يرموا بعضَ الصابورة تخفيفًا للمِنطاد، وينقلوا البعضَ من مكانٍ إلى آخر حِفظًا للاتزان.
fig67
شكل ١٤-٢: المنطادان شنندر الأمريكي (يمينًا) و«ر. ٣٣» الإنجليزي (يسارًا) مُمزَّقان على أثر انفصالهما من صاري الرسو، والمنطاد شنندر مرسوم وهو داخل حظيرته، أما «ر. ٣٣» فمرسوم في أعلى الصورة قبل الكارثة، وفي الأسفل بعدَها.
وقد عثَرنا على صورةٍ خياليَّة لِما ستكون عليه محطة المناطيد في المستقبل أثبَتْناها هنا في شكل ١٤-٣ لفائدتها، فهي توضِّح أهميةَ قُربِ المَطار من المُدن الكبيرة والسِّكك الحديدية والطرق الممهدة. كما توضح شكل الحَظائر والصاري والمنطاد نفسه، ففي أعلى الصُّورة إلى اليسار تجِد المنطادَ يُدخلُه رجالٌ كثيرون إلى الحَظيرة، وفي وسط الصورة تجد الصاري قائمًا على بنيان يمثل فندقَ المطار (أو المحطة الهوائية)، وتحت هذا الفندق محطة للسكة الحديدية ترى قطارًا خارجًا منها. ويسهُل على القارئ أن يُقدِّر عِظَم ارتفاع الصاري وعِظَم حجم المنطاد إذا قارنهما بالقطار.
fig68
شكل ١٤-٣: صورة خيالية لما ستكون عليه في المستقبل محطة المناطيد.

وفي أعلى الصاري يجِدُ الإنسانُ المنطادَ على الشكل الذي يظنُّ مؤلف الصورة أنه سينتهي إليه، فالعرَبات أو الجندولات التي تحمِل المُحرِّكات قد شُدَّتْ إلى الجَنب بدَل أن تكون في الأسفل، أما غُرف الركاب وصالوناتهم ومماشيهم وملاعبهم، فقد شغَلَت سقف المنطاد.

(٢) المقارنة بين الطيارات والمناطيد

  • أولًا: من حيث السرعة: الطيارات أسرَع بكثير من المناطيد، فسرعة هذه لما تتجاوَز بعد ٩٠ ميلًا في السَّاعة، أما سرعةُ الطيارات فقد بلغَت كما قدمنا نحو ٢٨٠، ولو أن ذلك في طيارات السِّباق، ولكن ١٨٠ ميلًا في الساعة أصبَحت مُمكنة في الطيارات العادية السريعة.
  • ثانيًا: من حيث الأَمن: المنطاد آمنٌ من الطيَّارة؛ لأنه غيرُ متوقِّف على المحرك كالطيارة التي تضطر للنزول إلى الأرض لأيِّ خلَلٍ يُصيب محركَها، وهذا مصدر خطرٍ عظيم؛ لأنه قد لا يكون قريبًا من الطيَّارة عندئذٍ مكان يَصلح لنزولها، أما إذا تعطَّل بعض محركات المنطاد فيزلُّ معتمِدًا على المحركات الأخرى، حتى يُصلح الميكانيكيُّون فيه المحركات المُختلَّة، أو يصل إلى محطة مناسبة يغيِّرها فيه. أما الأخطارُ التي يتعرَّض لها المنطاد بسبب قابلية الأيدروجين للاحتراق، فاحتمالُها ضعيف ويَزداد ضَعفًا بمرور الأيام وإدخال التحسينات، وإذا أمكنَ تحضير الهيليم helium بطريقةٍ رخيصة فإنه يُستخدَم عندئذٍ بدل الأيدروجين في مِلء أكياس المناطيد، فميزة الهيليم كونه لا يحترق ولا يساعد على الاحتراق، ولو أنه أثقل من الأيدروجين مرتين. نعم إن هناك مناطيد مثل ر. ٣٣ الإنجليزي انكسَرت وهي طائرةٌ ومات من فيها، ولكن ذلك أمر غير عاديٍّ وبعيد الاحتمال، وسببُه راجع إلى إهمال في استخدام نتائج علميةٍ كانت معروفة أيامَ صنعه، ويبعُد تكرار مثل هذه الغلطة. وهناك كارثةُ المنطاد دكسمود Dixmode الفرنسي الذي اختفَى ولم يُعثَر له على أثَر، وترجَّح أن البَرق أصابه فسَرَتْ فيه شُحنة كهربائية هشَّمته، ولكن هذه أيضًا حوادث فذَّة يحدث مثلها للمَراكب المائية الكبيرة.
  • ثالثًا: من حيث راحة الركاب: المنطاد لكِبَره فسيحُ الصالونات، وهذا مما يهيِّئ السبيل لجعلِه مريحًا، زِد على ذلك أنه من الممكن للراكب فيه إلى مسافات طويلةٍ أن يتحرك ويأكل ويمشي ويلعب كما يفعل في البواخر الكبيرة، أمَّا في الطيارات فالمسافاتُ محدودةٌ والمقاعد مزدحمة.
  • رابعًا: من حيث مدة البقاء في الهواء: المنطاد يفُوق الطيَّارة في هذه؛ لأن في قدرته أن يحمل مقدارًا عظيمًا من البترول، ويزداد هذا المقدار بازدياد حجم المنطاد، تلك الزيادة التي لم توضع لها حدود بعدُ، بل لا تزال في حيز الإمكان. أما ما تستطيع الطيَّارة حملُه فقليلٌ محدود، ولو أنَّ محاولة إمداد الطيارة بالوقود وهي طائرة كما سنشرحه في [الباب الخامس: الجهود الحالية في سبيل الطيران – الفصل السابع عشر: الطيران من الوجهةِ المدَنيَّة أو الاقتصادية – الطيران المدني] يمهِّد السبيلَ لتغلُّب الطيَّارة على هذه الصعوبة في المستقبل.

(٢-١) أثرهما في الحضارة

كل ما ذكرناه من الكلام في المقارنة بين المناطيد والطيارات يُشير إلى أن المرجَّح أن المستقبل للمنطاد في الأسفار الطويلة، كالمواصلات التي تربط القارات المتنائية بعضها ببعض؛ فعدد الركاب يكون عندئذٍ أكبر، وفيها تكون المناطيد آمَنُ وأريحَ وأوثقَ وأرخَصَ. والتوفير في زمن السَّفر يكون عظيمًا إذا قورن بالزمن اللازم للبواخر والقطارات لقَطع المسافات نفسها؛ من أجل ذلك كُتبَ على المنطاد في شكل ١٤-٣: «لندن-نيويورك»، دليلًا على أنه أحد المناطيد التي تقوم بمواصلةٍ بين أوروبا وأمريكا، أما الأسفار القصيرة حيث سُرَع القطارات عظيمة فلا بدَّ للتفوق عليها من استخدام الطيَّارات. وعلى ذلك فيغلُب أن تكون خطوط المواصلات بالطيارات تكميليةً للخطوط الرئيسية للمَناطيد، أمثال الخطِّ من فرنسا وإنجلترا إلى أمريكا الشمالية، ومن إسبانيا إلى أمريكا الجنوبية، ومن لندن إلى القاهرة ثم إلى كلكتا، ومن برلين إلى القاهرة ثم إلى جنوب أفريقيا، ومن باريس إلى وارسو ثم إلى اليابان فوق سيبيريا أو الصين، إلخ. أما الخطوط التكميلية فتكون أمثال الخطوط الحالية فوق أوروبا تصل البلاد الرئيسية بعضها ببعض، وبالمدن الأصغر منها. وهذا العهد عهد المواصلات الهوائية لم يصِر بعيدًا، وسيرى الجيل الحاضر بلا شكٍّ هذه المواصلات تُزاحم المواصلات البرية والبحرية الحالية، وتتغلب عليها.
هذا من جهة المواصلات الهوائية كأداةِ نَقل، ويتبَعها في ذلك المواصلات البريدية، ولكن للطائرات فوائد أخرى: فالطيارات تستطيع القيام بإعداد المسح الفُوتوغرافي الدَّقيق للأراضي، وهي مستخدَمة في ذلك كثيرًا الآن، وفي شكل ١٤-٤ صورة لميدان واشنجتن في نيويورك مأخوذة بالفتوغرافيا من طيارة. والواقع أنَّ هذه الصور تكون أوضح وأمتع من الصور الأخرى العادية، وحديثًا استُخدمت الطيارات في أمريكا لغرض زراعي جليل، وهو رشُّ بعض المزروعات كالقطن مثلًا بالمواد الكيميائية المطهرة، فيتم بذلك تطهير مساحات كبيرة من الأفدنة في زمنٍ قليل. وكثيرًا ما تُستخدَم الطيارات في هذه الأيام للإعلان، فتُحلِّق في السماء فوق المدن وتطير في اتجاهات خاصَّة، بحيثُ يرسُم جسمها أثناء مروره في الجو حروفًا خاصَّةً، وفي أثناء قيامِ الطيارة بهذه الحركات يخرُج من أنبوبةٍ خلفَها باطِّراد دخان أبيض يُظهر مسار الطيارة في الهواء بوضوح، فيقرأ سكان المدينة كلهم ما تكتَبُه الطيارة من حروف، ويكون غالبًا أسماء المحلات التجارية أو الجرائد التي تُعلن عن نفسها بهذه الواسطة، إلى غير ذلك من الفوائد المدنية.
fig69
شكل ١٤-٤: منظر ميدان واشنجتن في نيويورك مأخوذًا بالفتوغرافية من طيارة.
على أن فائدة الطائرات الحربيَّة على جانبٍ عظيم من الأهميَّة، إلى حدِّ أنه أصبح من المقرَّر الثابت أن التفوُّقَ في حروب المستقبل سيكون من نصيب الأمم المتفوقة في مجهوداتِها الهوائية. وكل أنواع الطائرات تستطيع أن تشترك في الأعمال الحربية: فالبالونات تقوم بالحراسة المستديمة لبعض المناطق الحربية المهمَّة، فما علينا إلا أن نُصعدها في الجو ونَربطها إلى الأرض أو إلى عوَّامة على سطح البحر كما رأيت في شكل ١-٢، ونمد من فيها بمعدات المراقبة عن بُعد وبالآلات اللاسلكية يستخدمونها في تلقِّي التعليمات وإرسال ما عندهم من معلومات أو مُلاحظات.
والمنطاد غير المتماسك وشِبْه المتماسك يقوم بحراسة المناطق المتَّسِعة؛ لأنها طائرات مُسيَّرة تستطيع أن تغدو وتروح فوق مساحات كبيرة، وعليها اعتمدت إنجلترا في حراسة شواطئها في الحرب الماضية. والمناطيد المتماسكة هي والطيارات الكبيرة الثقيلة تنقل الجنود وتقوم بالغارات على مواقع الأَعداء واستكشافها، والطيارات الأخفُّ من هذه تقوم بمحاربة نظيراتها عند العدو، أما أصغَر الطيارات الحربية وهي: المحاربة الخفيفة أو (الكشافة إذا لم تختلط على القارئ بالمستكشفة)، واسمها بالإنجليزية scout، وبالفرنسية chasse، فإنها تقوم بالأعمال التي تحتاج إلى نشاط كبير وسرعة عظيمة، من محاربة (بهلوانية) إلى مُساعدة الطائرات الأكبر منها في إتمام مهمَّاتها بمطاردة طيَّارات العدو، عنها إلى نقل الرَّسائل والأوامر العسكرية وكِبار أركان الحرب من مكانٍ لآخر على جَناح السرعة، إلى غير ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤