إِهْدَارُ الدَّم

بِدَايةُ عَام ٢٠٠٠.

القلم بين أصابعي والصَّفحة تحت يدي بيضاء، مساحة من الفضاء تنتظر كلماتي، النَّافذة مفتوحة أمامي على السَّماء، أُحَمْلِق في مساحات من الْخَوَاء، أبحث عمَّا كان أبي يقول إنَّه الحقيقة. منذ الطفولة كنت أجادل أبي، لم يكن عقلي يقبل أي شيء دون برهان، يغضب أبي ويقول: هناك حقائق ليس لها برهان، يرمقني بنظرة حمراء لأكف عن الجدل، ولم يكف عقلي عن التساؤل.

كان عقلي مشكلة حياتي، أردت التَّخلص منه منذ الطُّفولة. في سنِّ المراهقة أصبحت بلا عقل، فتاة وادعة مطيعة لا تجادل، لا يدور في رأسها سؤال، أشياء أخرى تدور في جسدها، رغبات عارمة يرتجُّ لها الجسد، أحلام في اليقظة والنَّوم عن الحب، أشياء لها ملمس مادي، الجسد يُعانق الجسد في اللَّيل، ترمقني أمي بنظرة حمراء لأكفَّ عن الحب، لم يكن جسدي يكف عن رغباته.

أصبح جسدي مشكلة حياتي، أردت التَّخلص منه منذ المراهقة، في سِنِي الشَّباب الأولى أصبحتُ بلا جسد، امرأة ناضجة مثالية حسنة السيرة والسلوك، زوجة مُطيعة لزوجها في البيت، مُطيعة لرئيسها في العمل، تُضحِّي بحياتها من أجل الأسرة، وإن قامت الحرب تُضحِّي بالأسرة وتموت فداء الوطن.

مرت بي أيام أمشي في الطَّريق مثال الخيال، شبح من الأموات، شاحبة الوجه مُطبقة الشَّفتين في صمت، لا شيء يتحرَّك في عقلي أو جسدي، منذ زمن طويل فقدتهما، أترنَّح وأنا أمشي مثل خيال. كان الموت قريبًا مني أكاد ألمسه بيدي، الموت من أجل الوطن، من أجل الله، من أجل زوجي. يعلو الله فوق الجميع، من بعده يأتي الوطن أو الملِك أو الرَّئيس، بعد ذلك يأتي الزَّوج.

في اللَّيل، كنت أهتف يسقط الملك يسقط الزَّوج يسقط الإنجليز. كان ذلك في طفولتي، تغيرت الأسماء في مرحلة الشَّباب، أسمع الشَّباب يهتفون، يسقط الرَّئيس يسقط الأمريكان، أشاركهم الْهُتاف وأضيف من عِندي ويسقط الزَّوج.

صديقتي صفيَّة تهتف معي يسقط الزَّوج، تنضم إلينا الصديقات الأخريات سامية وبطة، الثَّلاث زوجات مطيعات يحلمن بالطَّلاق في الليل، أربعة وأربعون عامًا يحلمن بالطَّلاق، يتكرَّر الحلم كلَّ ليلة حتَّى انتهى القرن وجاء القرن الجديد الواحد والعشرون.

ذاكرتي تروح وتجيء في الزَّمن على نحو عجيب، يتلاشى نصفُ قرن في لحظة، واللَّحظة الحاضرة تمتدُّ أمامي لا نهائية، يلتحم الماضي بالحاضر في لحظة واحدة، الصَّوت يتسرَّب إلى أذني واضحًا كأنَّنِي أسمعه الآن، اقتلوها الكافرة عدوَّة الله. أهبُّ من النَّوم على الصَّوت يزعق في شارع الجيزة، النَّافذة مُغلقة بالشيش الخشبي والزجاج المزدوج، شريف نائم في سريره المجاور لسريري، كان لنا سريران مُنفصلان في غرفة نوم مشتركة، الجدران بيضاء نظيفة والملاءة ناصعة البياض، الأرض من البلاط النَّاعم، أنزلق فوقه حين أمشي، فوق المنضدة السَّاعة تشير إلى الواحدة، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند ٣١ ديسمبر ١٩٩٨، عيد رأس السنة الجديدة، أشياء مُفزعة تحدث دائمًا ليلة العيد، منذ طفولتي لا أحب الأعياد، يمتلئ قلبي بالحزن حين يتألَّق العالم بالفرح.

أهدروا دمها الكافرة عدوَّة الله.

جفوني مثقلة بالنَّوم، يسري الصَّوت إلى أذني قبل أن أفتح عيني، أضواء خافتة تتسرَّب من شقوق الشِّيش، أمشي إلى النَّافذة على أطراف أصابعي، أتوقَّف لحظة لألتقط أنفاسي، أُطل من بين الشَّق، الشَّارع ليس فيه أحد، عربة كارو يجرُّها حِمار، صاحبها راقد فوق ظهره يهتز مع اهتزاز العربة، سيارات مُسرعة تظهر أنوارها ثم تختفي، الشَّق ضيِّق، أخشى أن أفتح النَّافذة، الصَّوت يزعق، يردد بعض الأسماء، يرنُّ اسمي واسمُ أبي وجدي السعداوي الَّذي مات قبل أن أُولد.

– اقتلوهم الكفرة أعداء الله.

أذناي من وراء النَّافذة المغلقة تلتقطان الأسماء واحدًا وراء الآخر، يرنُّ اسمي في الجو: نوال السعداوي. يخترق رأسي مثل طلقة الرصاص، يفتح شريف عينيه، يراني واقفة وراء النافذة جامدة مثل تمثال.

– فيه إيه يا نوال؟

– سامع الصُّوت؟

يفتح شريف النَّافذة، من أين ينبعث الصَّوت، الميكروفون فوق مئذنة الجامع المجاور لنا، أو الجامع الآخر الجديد في الشَّارع الخلفي، أو الجامع القديم وراء الكنيسة، أو المئذنة الجديدة بدون جامع، تبرز بين البيوت من فوق ميكروفون ضخم، يربِّت شريف على كتفي: نامي يا نوال وبكرة الصبح نعرف إيه بيحصل في البلد.

يأتي الصُّبح ولا نعرف شيئًا. لا أحد في الكون يعرف الحقيقة إلا الله والسَّيِّد الرَّئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التِّليفون، يضحك ويقهقه بصوت يهزُّ الأسلاك. أيوه يا شريف محدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت، فاكر حريق القاهرة في يناير اثنين وخمسين، الحكومة والإنجليز حرقوا البلد عشان يضربوا العمل الفدائي في القنال، أنا مُتوقع حرايق في البلد مش حريق واحد، الجماعات الإسلامية دي عملها السَّادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب اليسار كله، وطبعًا معاه الأمريكان، أنا باسمع اسمي في الميكروفونات فوق الجوامع، الجوامع دي كلها بنتْها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا منا يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والأمريكان عاوزين يخلصوا مني أنا بالذَّات؛ لأن مقالاتي في الأهرام أخطر من المقالات في صحف المعارضة، عاوزين يقتلوني يا شريف.

– مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الأهرام يا يوسف.

– أيوه يا شريف، لكن أنا عارف إن الحكومة سايباني أكتب عشان تكون عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أي معارضة، على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف إزاي يهدروا دم امرأة؟

– زي ما بيهدروا دم الرَّجل يا شريف.

– لكن المرأة غير الرَّجل يا شريف.

– مش فاهم.

– في الصَّعيد مثلًا دم الرَّجل هو المطلوب في الثأر، وفي السِّياسة أيضًا دم الرَّجل هو المطلوب.

– ليه يا يوسف، هو الرَّجل فقط اللي عنده دم؟!

كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون، يضحك يوسف بصوت عالٍ، تهتز الأسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السِّياسة إلى المرأة.

كان يوسف إدريس زميلًا لأحمد حلمي في كلية الطِّب وأحمد المنيسي وفؤاد محيي الدين وغيرهم من الطلبة، لماذا بدا أحمد حلمي مختلفًا عن الجميع؟! الصَّوت الهادئ المنخفض، الكلام القليل، الخطوة فوق الأرض الواثقة غير المتسرعة؟ العمل في صمت دون ضجَّة، في الاجتماعات في المدرج الصَّغير كنت أراه جالسًا في الصَّف الأخير، يتنافس زعماء الطَّلبة على الميكروفون وهو في مكانه جالس، يدقُّون بقبضة اليد على الْمِنَصَّة ويُلقون الخُطب، يثرثرون بأصوات عالية وهو صامت، يتكلمون في وقت واحد يقاطعون بعضهم بعضًا، وإذا تكلم أحمد حلمي صمت الجميع.

حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام ١٩٦٤ تذكرت أحمد حلمي عام ١٩٥١، برزت ملامحه من العدم، الجبهة العريضة، والشَّعر الأسود الغزير، الحاجبان الكثيفان، العينان، الأنف، الصَّوت، المشية فوق الأرض، الكلام القليل والعمل في صمت، مات أحمد حلمي بعد أن عاد من الحرب مهزومًا، ماتت الروح قبل أن يموت الجسد، كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة، مات شهيد الوطن مثل أحمد المنيسي دون أن يُقام له حفل تأبين.

كان زعماء الطلبة مثل زعماء الأحزاب السِّياسيَّة، تعلموا منهم قواعد اللعبة، لم يُستشهد منهم أحد، لم تسقط من أحدهم قطرةُ دم، أصبح فؤاد محيي الدين وزيرًا للصِّحة ثم رئيسًا للوزراء، كان في كلية الطِّب ضمن اليسار، عضو لجنة العمال والطلبة، وفي عهد عبد النَّاصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع العام، وفي عهد السَّادات لم يعترض على شيء، جلس في مقعد رئيس الوزراء، يتلقى التوجيهات من السَّيِّد الرَّئيس، الانفتاح والرَّأسمالية والسُّوق الحرة والقطاع الخاص، ثم سقط في مكتبه ومات بالسَّكتة القلبيَّة وهو رئيس الوزراء في عهد حسني مبارك.

التقيت بفؤاد محيي الدين لأوَّل مرة عام ١٩٥١، في اجتماعات طلبة كلية الطِّب بالمدرج الصَّغير، تخرَّج قبلَنا بعِدَّة سنوات وتخصَّص في الأشعة، طويل القامة نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس، عيناه تتجاوزان كلية الطِّب إلى وزارة الصِّحَّة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصِّحة، كنا نتحدث في الأدب والإبداع، تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلًا: كنت أتمنى أن أكون أديبًا مبدعًا مثلك ومثل يوسف إدريس. ثم يضحك، إيه رأيك يا نوال نتبادل المواقع، تبقي أنتِ وزير الصِّحَّة وأنا أديب مشهور في العالم زيك. أضحك وأقول له: إذا بقيت وزيرة الصِّحَّة لازم يرفدوني بعد أسبوع.

صوت أبي الميت كان يهمس في أذني، الوزير يأتي بقرار ويذهب بقرار، والأديب لا أحد يعيِّنه ولا أحد يعزله إلا قلمه.

لم يكن فؤاد محيي الدِّين صديقًا، رغم حديثنا عن الأدب والفن، كان هناك حاجز زجاجي يقف بيني وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السِّياسيَّة تحجب ميوله الأدبية، أن طموحه في المنصب العالي أكثر من طموحه الأدبي. يوم ٢٥ نوفمبر ١٩٨١ كان لقائي الأخير بفؤاد محيي الدِّين، كان جالسًا إلى جوار رئيس الدَّوْلة حسني مبارك فوق الكنبة المذهَّبة في قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل، ثم فؤاد سراج الدِّين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهم أنور السادات السِّجن قبل اغتياله بشهرٍ واحد. هذه الاعتقالات عُرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام ١٩٨١، كنت واحدةً من المسجونات، ثم أصدر حسني مبارك قرارًا بالإفراج عن الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، انفتح بابُ السِّجن في صباح ذلك اليوم وحملوني من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجن إلى قصر العروبة، حيث استقبلَنا رئيس الدَّوْلة ورئيس الوزراء فؤاد محيي الدين.

كنت أرتدي حذائي الكاوتش، أخفيت داخلَه رسالة إلى رئيس الدَّوْلة أطالبه بالتَّحقيق في جريمة اعتقالي دون سبب إلا كتابة رأيي، قبل الاجتماع أخرجت الرسالة من حذائي وناولتها لرئيس الدَّوْلة، قرأها كلها حتى آخرِ سطر ثم قال لي: معلهش يا دكتورة نوال.

رنَّت كلمة «معلهش» في أذني غريبة، هل يضعونني في السِّجن دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لي معلهش؟ ألقى رئيس الدَّوْلة علينا خطبة عن نظامه الجديد في ظل الدِّيموقراطيَّة والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضي ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف: بلاش ننبش القبور. وكان يعني أن ننسى فترة السِّجن، أن ننسى ما فعله السَّادات بنا، وأن ننتظر ما يفعله الرَّئيس الجديد.

لم يقنعني هذا الكلام، كنت أرى أن تقييمَ الماضي ضرورة لعدم تكرار الأخطاء، وأن التَّحقيق فيما حدث يتمشَّى مع القانون، ثم لماذا ينتظر النَّاس دائمًا ما يفعله رئيس الدَّوْلة، لماذا لا يعملون بدلًا من مجرد الانتظار؟ ولماذا يصبح رئيس الدَّوْلة هو الفرد الوحيد الذي يعمل والذي يتخذ القرار ونحن علينا أن نجلس في بيوتنا وننتظر؟

بدأ فؤاد سراج الدِّين يتكلَّم بعد أن انتهى رئيس الدَّوْلة من كلمته، قال فؤاد سراج الدين: يا سيادة الرَّئيس، لقد أنابني زملائي لأتكلم عنهم. دُهشت لهذه العبارة الأولى؛ لأنَّ أحدًا لم يأخذ رأيي في موضوع الإنابة هذه، كان عددنا ثلاثة وعشرين شخصًا، منهم واحد وعشرون رجلًا، وامرأتان فقط، أنا واحدة منهما، سألت زميلتي: هل تعرفين شيئًا عن هذه الإنابة؟ هزَّت رأسها بالنَّفي، سألت الزَّميل الجالس إلى جواري، فقال: لا أعرف شيئًا يا دكتورة نوال، لكنِّي سمعتُ أنَّ محمد حسنين هيكل اقترح على اثنين من أصدقائه المقربين إنابة فؤاد سراج الدين للتَّحدث نيابة عن الجميع، وأبلغوا رئيس الوزراء الدُّكتور فؤاد محيي الدين بهذا القرار لإبلاغه للسَّيِّد الرَّئيس، وبالطبع لم يأخذ رأينا أحد. قلت: كيف ينوب عنَّا أحد دون أن نعلم؟ هذا تصرف غير ديموقراطي … كيف نقبله نحن الذين دخلنا السِّجن؛ لأننا اعترضنا على التَّصرفات غير الدِّيموقراطيَّة؟ ابتسم الزميل في أسًى وقال: يا دكتورة نوال الأفضل أن نسكت وإلا أعادونا إلى السِّجن!

لم يُعبِّر فؤاد سراج الدين عما كان يَجِيش في صدري، رفعت يدي وطلبت الكلمة بعد أن انتهى من كلمته، رمقتني بعض العيون بشيء من الضِّيق، ثلاثة أو أربعة من كبار الأسماء الذين كانوا داخل السِّجن بالأمس ثم أصبحوا اليوم شيئًا آخر، يتطلعون إلى رئيس الدَّوْلة ورئيس الوزراء ويرمقون المساجين الآخرين شَزْرًا.

أعطاني رئيس الدَّوْلة حق الكلام، تكلمت، قلت كل ما عندي في أقل من خمس دقائق، تشجَّع بعض المسجونين الآخرين وطلبوا الكلمة، ربما تَلَعْثَمَ أحدُهم خوفًا أو رعبًا، إلا أنَّه فتح فمه وعبَّر عن رأيه، زميلتي المسجونة تكلمت وطلبت حماية النِّساء الحوامل في السِّجن، وتكلَّم شابٌّ عن رعاية صغار السِّن وعدم تعريضهم للضَّرب أو التَّعذيب … وفجأة رأيت محمد حسنين هيكل ينظر في ساعته فوق معصمه، وقال هذه العبارة: أظن أنَّ وقت السَّيِّد الرَّئيس ثمين ولا يسمح بمزيد من الكلمات وأقترح قفل باب الحديث.

في لقاء لي مع محمد حسنين هيكل بعد بضعة شهور سألته: لماذا قلت هذا الكلام، وهل وقت الرَّئيس أثمن من وقت ثلاثة وعشرين شخصًا دخلوا السُّجون دون جريمة؟ وإذا كان هو لم يقفل باب الحديث لماذا تقفله أنت وكنت مسجونًا معنا؟ ثم لماذا لم تأخذوا رأينا في موضوع إنابة فؤاد سراج الدين ليتكلم عنا؟ ألم تفعلوا بنا ما يفعله أي حاكم دكتاتور رغم أنَّكم تكتبون عن الدِّيموقراطيَّة؟!

كان شريف معي في هذا اللقاء وسمعني أقول هذا الكلام، نظر إليه محمد حسنين هيكل وقال: الدُّكتورة نوال صعبة أوي مش كده ولا إيه يا دكتور شريف؟ ابتسم بهدوء وقال: نوال تُعبِّر عن رأيها وهذا حقُّها.

بعد اللِّقاء مع رئيس الدَّوْلة يوم ٢٥ نوفمبر ١٩٨١ خرجت من قصر العروبة، قالوا لنا داخل القصر: إنَّ قرار الإفراج صدر ويُمكننا العودة إلى بيوتنا. اجتزت حديقة القصر الكبيرة أشم رائحة الزهور، رمقني أحد الصَّحافيين فأقبل نحوي، نظر إلى حذائي الكاوتش مندهشًا، وقال: أتقابلين رئيس الدَّوْلة بهذا الحذاء الكاوتش؟! قلت: ولماذا تنظر إلى حذائي يا أستاذ؟!

وقفت عند محطة الأتوبيس أنتظر سيارة أجرة تحملني إلى بيتي في الجيزة. فوق الأرض وضعت حقيبتي بها ملابس السِّجن، أرمق النَّاس وهي تمشي في الشَّارع، كيف يمشون هكذا دون أن تقبض عليهم الشُّرطة، كأنما لم أمشِ في الشَّارع أبدًا بهذه الحريَّة؟ كأنَّما رجال البوليس سوف يأتون بعد لحظة لإعادتي إلى السِّجن. لم تكن كلمتي أمامَ رئيس الدَّوْلة هي الكلمة المطلوبة، انتزعتُها من بين بَراثِن السُّلطة وزملاء السِّجن. لم يطلبها أحد، لم يرغب في سماعها أحد. تقلصت وجوه الرِّجَال حين تكلمت، بما فيها وجه رئيس الدَّوْلة، كيف تتكلم امرأة بهذا الشَّكل في أمور لا يتكلم فيها أحد. كلمة فؤاد سراج الدين لم تخرج عن تقديم الشكر والامتنان لرئيس الدَّوْلة؛ لأنَّه أطلق سراحنا. كلمة زميلتي لم تخرج عن طلب حماية المرأة الحامل في السِّجن باسم الشَّفقة، كلمة الشفقة تطرب لها آذان الرِّجَال، الشَّفقة بالمرأة الحامل الضَّعيفة، ضَعف النِّساء يُؤكِّد قُوة الرَّجل، الرُّجولة هي القوة والقوامة، الرِّجَال قوامون على النِّساء. زميلة السِّجن كانت ترتدي الحجاب، تؤكِّد به هوية الأنثى التي يطلبها الرِّجَال. لم تتقلص الوجوه حين تكلمت الزميلة المحجبة، خرجت من السِّجن وأصبحت صورتها في كل مكان، تكتب في صحف الحكومة والمعارضة، تتحدث باسم الإسلام والتراث والحجاب، أصبح لها مقال أسبوعي في إحدى الصُّحف الحكومية الكبرى، صورتها بالحجاب على رأس المقال، على وجهها ابتسامة أنثوية ناعمة، شفتاها متوردتان.

أمام باب الشَّقة في الجيزة وضعت حقيبتي على الأرض، رأيت اسمي فوق رقعة نحاسية صغيرة، ضغطت على الجرس، فتح شريف الباب، مش معقول! أي مفاجأة! كان يظن أنَّني في السِّجن، لم يُنشر الخبر بعدُ في الصُّحف. ألقيت ملابس السِّجن في صفيحة القُمامة، وأخذت حمَّامًا ساخنًا، تمددت فوق السَّرير النَّظيف الدافئ، الْمُلاءة بيضاء ناعمة تفوح برائحة صابون معطر، أدفن رأسي في الوسادة النَّاعمة، أغمض عيني كأنِّي في حُلم سأصحو منه بعد لحظة، وأجد نفسي في زنزانة السِّجن.

جاءني ابنتي منى وابني عاطف من المدرسة آخرَ النهار، أخفاني شريف في الغرفة ليصنع لهما المفاجأة، أراهما من ثقب الباب جالسَيْنِ في الصالة، سحابة من الحزن تطفو فوق الوجهين الحميمين، عيون أطفال خطف بريقَها غيابُ الأم، خيالهما قادر على اختراق جدران السِّجن، يكسر القضبان الحديد، يرى الأم جالسة فوق الأرض، تكتب بأصابعها فوق التراب رسالةً إلى أطفالها.

في صباح اليوم التالي قرأ شريف الصُّحف، خبر الإفراج عن المسجونين في الصفحة الأولى، برقيات التهنئة إلى السَّيِّد رئيس الدَّوْلة يتبارى على نشرها الكتَّاب المعروفون، ذَوُو الأعمدة اليومية الثابتة أو المقالات الأسبوعية الطويلة، لم يفتح أحدُهم فمَه حين صدر قرار الاعتقال، وتم حبس أكثر من ألف شخص دون تحقيق ودون جريمة، كتب أغلبهم يؤيدون قرار الحبس، وصمت الباقون. قلت لشريف: الصمت في مثل هذا الوقت جريمة أو على الأقل مشاركة في الجريمة.

في جريدة الأهرام ظهرت برقية التهنئة لرئيس الدَّوْلة بقلم يوسف إدريس، الكاتب الكبير، ظهر اسمه بالبنط العريض، كأنما هو بطل الإفراج عن السِّجناء، لا يفوقه بطولة إلا رئيس الدَّوْلة، أصبح البطلان محَطَّ الأنظار، واختفى المسجونون داخل البيوت أو بين السُّطور، لا تُنشر أسماؤهم إلا بالبنط الصغير جدًّا، لا يكاد يُرَى بالعين المجرَّدة.

حين كنت في السِّجن كتبت رسالة إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس، قلت لتوفيق الحكيم: أنت رئيس اتِّحاد الكتَّاب، ورئيس لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وأنا عضوة باتحاد الكتَّاب، وعضوة بلجنة القصة، وقد دخلت السِّجن دون تحقيق ودون جريمة، أرجو أن ترفع صوتك ضد هذا الحبس غير القانوني، وأن ترسل مندوبًا من اتحاد الكتاب ليكتب تقريرًا عن حالة الزنزانة التي أعيش داخلَها.

وفي الرسالة نفسها إلى يوسف إدريس قلت له: أنت زميل لي في اتحاد الكتاب ولجنة القصة، ولك مقال أسبوعي بجريدة الأهرام، أرجو أن تكتب شيئًا ضد قرار الحبس دون تحقيق ودون جريمة.

لم ينطق توفيق الحكيم أو يوسف إدريس بكلمة واحدة، لم يجتمع اتحاد الكتاب ليقرر إرسال مندوب ليرى حال الزنزانة، وفجأة بعد قرار الإفراج يخرج يوسف إدريس عن صمته ويرسل إلى رئيس الدَّوْلة يهنئه بعبارات التمجيد والولاء.

بعد أيام جاء يوسف إدريس إلى بيتنا في زيارة، قال: إنَّه جاء للتَّهنئة، وكان يريد أن يشتري لي باقة ورد، لكن جميع محلات الورد كانت مغلقة. وضحك شريف، يا يوسف بلاش مبالغة، معقول كل محلات الورد قفلت؟! سهر معنا يوسف إدريس تلك الليلة، ربما كان تحت تأثير مادة الماكسيتون التي أدمن عليها مثل أحمد حلمي، يصبح لسانه ثقيلًا في الكلام، يحتقن وجهه ويتورم قليلًا، يداه أيضًا تتورمان، يميل إلى السهر والكلام دون انقطاع، يصور له الوهم أنه بطل.

– عارف يا شريف مين السبب وراء صدور قرار الإفراج عن المساجين؟

– مين يا يوسف؟

– أنا يا شريف، أنا اللي …

شريف يستمع إليه، يبتسم بهدوء ونوع من السُّخرية الخفيفة، يعرف أن يوسف إدريس لم يرُدَّ على رسالتي، ولم يكتب كلمة واحدة ضد قرار الحبس، وأنَّه يعيش وهم البطولة منذ كان طالبًا في كلية الطِّب، وأن مادة الماكسيتون المنبهة تَسري في دمه، تصور له الوهم كأنَّما هو الحقيقة.

كان يوسف إدريس يجلس أمامي منفوخًا بالماكسيتون وغرور العظمة، أصبح يحمل لقب الكاتب الكبير، وأصبحت أنا السجينة رقم ١٥٣٦. الألم في عمودي الفقري، والنَّوم فوق أرض الزنزانة، صمت الزُّملاء والزَّميلات من الكُتَّاب والأدباء، وصمت نقابة الأطباء، أرسلْتُ رسالة إلى نقيب الأطباء فلم يرد.

تلك الليلة لم يَكُفَّ عن الكلام، يقول إنَّه السَّبب وراءَ خروجنا من السِّجن. وكان شريف يتثاءب ويريد أن ينام، وأنا أيضًا مللت كلامه عن بطولته الوهميَّة، وقلت وأنا أتثاءب: أعتقد يا يوسف أنَّك في حاجة إلى الذهاب إلى بيتك لتنام. قال: ولكني لا أريد أن أنام. قلت: ولكننا نريد أنا وشريف أن ننام. نهض متثاقلًا واقفًا فوق قدميه، وقال: عرفتِ يا نوال أنَّنِي كنت السَّبب وراءَ قرار الإفراج عنكم؟ قلت: وكيف أعرف وأنت لم تنطق بكلمة واحدة حين كنَّا في السِّجن؟!

مثل البالونة المنفوخة بالهواء تثقبها إبرة رفيعة، انكمشت البالونة وجلس يوسف إدريس بعد أن كان واقفًا، رمقني بشيء من الغضب، لم أنسَ أنَّه صَمَتَ حين كان الكلام واجبًا. أكثر ما كان يغضبه أنه لم ينس هو أيضًا، أكان ضميره يؤرِّقه؟! أكان يحقن نفسه بالماكسيتون لينسى دون أن ينسى؟! كان أحمد حلمي يقول: الماكسيتون ليس مثل المخدرات يُضعف الذاكرة، إنَّه أخطر المنبهات جميعًا، يُشعل الأحاسيس، تلتهب خلايا العقل إلى حد نسيان كل شيء، مع ذلك تظل الذاكرة مشتعلة لم تنسَ شيئًا.

•••

أوَّل مرة أسمع عن قائمة الموت أو إهدار الدم كان عام ١٩٨٨، أرسلت الحكومة حراسة أمام بيتي في الجيزة، وبودي جارد لحماية حياتي، لم أكن أدرك فكرة إهدار الدم، لم أسمع اسمي يرنُّ في الليل من فوق الجوامع. وقال شريف: ما رأيك أطلب لطيفة الزَّيَّات في التليفون، لا بد أن لديها بعض معلومات؟

لم تشأ لطيفة الزَّيَّات أن تتكلَّم عبر الأسلاك. أنت عارف يا شريف، التليفونات عليها رقابة، أنا جاية الجيزة ويمكن أمر عليكم بالبيت، بوسلي نوال يا شريف.

كانت لطيفة الزَّيات صديقتي منذ نهاية السِّتينات نلتقي بصفة منتظمة في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان لها أخ يحتل منصبًا كبيرًا في الدَّوْلة، يلتقي بالسَّادات أحيانًا، يهمس لأخته لطيفة أحيانًا بمعلومات لا يعرفها أحد. حين فقدت منصبي في وزارة الصِّحَّة في أغسطس عام ١٩٧٢ همست لطيفة في أذني: السَّادات بيقول لسانك طويل. وأطلقت ضحكتها العالية على شكل قهقهات متقطعة، ومدت يدها البضَّة النَّاعمة وأمسكت يدي، وراحت دون انقطاع، يتورَّد وجهها الممتلئ، يقفز الخدان المكتنزان إلى أعلى، يضغطان على العينين الصغيرتين، تنغلق الجفون إلا من شق ضيق يطلُّ منه جزء من النِّني على شكل خط أسود، يصبح وجهها مستديرًا كوجوه الأطفال، يهتز جسمها المربع الممتلئ. أسمع ضحكتها في الشَّارع قبل أن أدخل بيتها، تذكرني بضحكة أمي، لكن جسد أمي لم يكن يهتز، وكان لضحكتها رنين في الجو يشبه رنين الفضة المجلوَّة. لم تكن أمي تدخن ولم يكن صوتها مبحوحًا أو مشروخًا بالدخان. كنت أضحك مع لطيفة وأقول لها: أنتِ مدخنة يا لطيفة. تموت على نفسها من الضَّحك، ثم تصمت فجأة، تكسو وجهَها سحابةُ حزن وتقول: أعمل إيه يا نوال، خلاص ما فيش لذة في حياتي إلا دي. وتشير إلى السيجارة بين شفتيها.

كانت تجلس إلى جواري في لجنة القصة، يجلس توفيق الحكيم عند رأس المائدة؛ فهو رئيس اللجنة، يجلس نجيب محفوظ وثروت أباظة عن يمينه، ويجلس يوسف إدريس ويوسف الشاروني عن يساره. يفتح توفيق الحكيم الحديث عن الاشتراكية والرَّأسمالية، ثم يطرح السؤال: هل الله اشتراكي أم رأسمالي؟ يقهقه يوسف إدريس ويقول: أعتقد أنه من أهل الوسط يا أستاذ توفيق. تقهقه لطيفة الزَّيات وتقول: يعني قصدك من الحكومة؟

لم يكن مثل هذا الحديث يعجب بقية الأعضاء، لكن أحدًا لم يكن يعترض على الرَّئيس، منذ الإله أخناتون ورمسيس الأول، يحترم المصريون الملوك والرؤساء. يدرك توفيق الحكيم هذه الحقيقة ويسترسل في حديثه متجاوزًا الخطوط الحمراء، يحكي بعض الفكاهات عن الملك فاروق، يضحك يوسف إدريس ويقول: النكتة دي فيها إسقاط يا أستاذ توفيق؟ إسقاط على مين يا يوسف؟! وينفجر أعضاء اللجنة بالضَّحك، تتصاعد القهقهات مع دخان السَّجائر حتى السَّقف.

ثم ينتقل توفيق الحكيم من السِّياسة إلى المرأة، لا يمل الحديث عن المرأة، رغم أنه كان يحمل لقب عدو المرأة. تلمع عيناه وهو يتحدث، تدوران على وجوه الرِّجَال أعضاء لجنة القصة، ثم تثبتان على وجه واحدة من الأديبات.

رغم كهولة توفيق الحكيم كان يتمتَّع بحيوية تفوق الشَّباب، شعره الأبيض مع البريق في العينين يُضفي عليه جاذبية خاصَّة. تنقضي السَّاعة وراءَ السَّاعة وهو يحكي النَّوادر والفكاهات عن أيام شبابه، يحرك رأسه ويديه في حماس ويقول: المرأة ملاك أو شيطان ولا ثالث لهما. يهتف أعضاء اللَّجنة في نفَس واحد على رأسهم يوسف إدريس: تمام يا أستاذ!

يرمقني توفيق الحكيم بطرف عين، يراني صامتة مترفعة عن الرَّد، أفكِّر في شيء آخر، تطلق لطيفة الزَّيات ضحكتها، القهقهة المتقطعة المتصلة، تشعل سيجارة جديدة بأصابع ترتعش قليلًا، يهتز جسمها مع الضَّحك، تمد يدها المهتزة تحت المائدة وتمسك يدي، تقرب فمها من أذني وتهمس: عينه عليكي يا نوال!

– مين يا لطيفة؟

– يعني مش عارفة؟!

•••

حين دخل اسمي قائمة الموت عام ١٩٨٨، همستْ لطيفة الزَّيات في أذني: بيقولوا يا نوال روايتك سقوط الإمام فيها إسقاط!

– إسقاط!

– أيوه يا نوال.

– إسقاط على مين؟!

– على السَّادات.

– ده مات يا لطيفة من سبع سنين!

– بيقولوا لسه عايش.

وأطلقت ضحكتها الطَّويلة المتقطعة الأنفاس، أشعلتِ السِّيجارة وراءَ السِّيجارة، تحكي لي الحكاية المرة بعد المرة، تنسى أنَّها حكَتْها من قبل، ترتعش أصابعها وهي تُشعل عود الكبريت، تضحك بعد كل عبارة تنطقها وتمد يدها لِتُمسك يدي.

•••

عام ١٩٩٢ دخل اسمي قائمة الموت مرَّة أخرى، وضعتِ الحكومةُ حراسةً مُسلَّحة أمام بيتي في الجيزة، وبودي جارد يُرافقني ليل نهار، قال شريف: حياتك في خطر يا نوال، ولا بد من السَّفر إلى مكانٍ بعيد.

لم نكن نعرف من أين تنطلق الرَّصاصة، من الجماعات الإسلامية أم من الحرَّاس؟ كانت صديقتي القديمة بطَّة في مؤتمر إعلامي دولي في لندن، وكانت سامية في نيويورك في مؤتمر نسائي دولي، جاءت صفية إلى بيتي وسألتني: هل لطيفة الزَّيات صديقتك يا نوال؟ قلت لها: نعم، هي صديقتي. قالت صفية: غريبة أوي، ليه هي بتقول كلام ضدك يا نوال؟ كلام ضدي؟ يمكن مجرد إشاعات يا صفية. لأ يا نوال، ده كلام مكتوب في المجلة، خدي اقري يا ستِّي!

كانت مجلة أدبيَّة عربيَّة، وحوار أجرتْه إحدى الصَّحافيات مع لطيفة الزَّيات، سألتْها هذا السُّؤال: كيف تفسرين نجاح روايات نوال السعداوي المترجمة إلى اللُّغات الأجنبية؟ جاء رد لطيفة الزَّيات؛ لأنَّ نوال السعداوي تكتب للغرب!

قبل ذلك بأيام قليلة كانت لطيفة الزَّيات في بيتي، كانت تقول لي: إنَّنِي أهم روائيَّة عربيَّة، وإنَّها سوف تُصدر كتابًا نقديًّا عن أعمالي الأدبيَّة. كانت تتحدث بحماسٍ، وتضحك مع شريف وتقول له: أنت يا شريف كاتب مبدع، روايتك «الشبكة» جميلة جدًّا، هل تنوي ترجمتها إلى الإنجليزية؟

– دي رواية طويلة جدًّا يا لطيفة.

– وما له؟

– أنا مشغول بترجمة روايات نوال.

– اشمعنى يعني؟

– روايات نوال بتعجبني.

عام ١٩٨٠ ظهر أوَّل كتاب لي باللغة الإنجليزية، كان شريف هو الذي تحمَّس لترجمته، نجح الكتاب وتُرجم إلى لغاتٍ مُتعددة، ومن بعده بدأ النَّاشرون في أنحاء مختلفة من العالم يطلبون ترجمة كتبي الأخرى.

وأصبح جرس التِّليفون يَرن في بيتنا، الأدباء الكبار يأتون إلينا في زيارات مفاجئة، جاء عبد الرحمن الشَّرقاوي يحمل عددًا من كتبه، أَهْدَاها لِي ولشريف. بعد أن انتهت الزِّيارة، قال لشريف وهو يودِّعه على الباب: «عندك كارت بلانش، إذا شفت إن كان كتاب من كتبي ممكن ترجمته ونشره في لندن!» وقال شريف بهدوء: «أنا روائي ولست مُترجمًا يا عبد الرحمن.» كانت الزِّيارة الأولى والأخيرة لعبد الرحمن الشَّرْقاوي، قرأنا نَعْيَه في جريدة الأهرام بعد شهور قليلة. وكان يوسف إدريس يضحك مع شريف، يُداعبه ويقول: يعني اشمعنى نوال يا أخي اللي أنت نازل ترجمة لرواياتها، ما تترجم لي رواية أو مجموعة قصص يا شريف! ويضحك شريف معه ويقول: لازم تعملي شوية إغراءات يا يوسف، ثم أنت عندك الحكومة كلها ومؤسساتها والمترجمين بتوعها.

قرأ شريف معي ما كتبته لطيفة الزَّيات عنِّي، وبدأ عددٌ من الماركسيين والماركسيات يُردِّدون ما قالته لطيفة، وعدد من النُّقاد الأدباء والأديبات العاجزين عن نشر أعمالهم في الخارج. كان نجاح روائية مصرية خارج البلاد أمرًا غير مألوف، وهي لا تتبع لا الحكومة ولا حزبًا ولا المجلس الأعلى للثقافة.

حين عادت سامية من الخارج قالت لي: واللهِ يا نوال حاجة تفرَّح إنْ كاتبة مصرية تحصل على هذا التَّقدير والاحترام في العالم. قلت لها: وما رأيك فيما أشاعته صديقتك لطيفة؟ مطَّت سامية شفتيها الرَّفيعتين وقالت: شيء طبيعي يا نوال، أنا كمان باحقد عليكي، الغيرة تنهش قلبي وأحيانًا أقول يا رب تموتي يا نوال!

يضحك شريف، ويقول: أنا باحب صراحتك يا سامية، لكن المشكلة ليست الغيرة أو الحقد، المشكلة إن نوال كاتبة مستقلة لا تستند إلا على قلمها، ويمكن أن تنقد الشرق والغرب والحكومة والمعارضة واليسار واليمين، والمشكلة أيضًا تتعلق بالْمُناخ العام والإحباط … لطيفة الزَّيات ويوسف وكثير من الأصدقاء كانوا زملاء لي في الحركة الدِّيموقراطيَّة للتَّحرر الوطني، حين بدأنا الحركة عام ستة وأربعين ضد الملك والإنجليز كان الْمُناخ العام أفضل من اليوم، كنَّا في مرحلة الشَّباب عندنا مبادئ وحماس وأمل، الْمُناخ الجيد يُبرز أحسن ما في الإنسان، لكن الحركة ضُربت ودخلنا السُّجون، لم يهزمنا السِّجن لكننا انهزمنا من الدَّاخل، تفكَّكت الحركة، وتفرَّق الزُّملاء، وانتشرت الإشاعات، الْمُناخ السيئ يُبرز أسوأ ما في الإنسان، وأنتِ يا نوال من جيل آخر جاء بعدنا.

أمَّا جيلنا فقد تمزَّق بين الطُّموح والإحباط، بين تأييد السُّلطة ومعارضتها، لطيفة الزَّيات هي المثل على ذلك، هذه الضَّحكة العصبيَّة دليل على التَّمزُّق والإحباط، رعشة الأصابع والإفراط في التَّدخين، وابتلاع حبوب الفاليوم. إنَّها تعرف تمامًا أنَّك ناقدة للغرب أكثر منها، وتعرف أيضًا أنَّ الغرب ليس شيئًا واحدًا، وهناك في الغرب من هم أكثر تقدُّمًا وأكثر اشتراكية من الاشتراكيين عندنا، المسألة ليست غرب وشرق، هي تعرف ذلك، ويوسف إدريس يعرف ذلك، لكن المسائل الشَّخصيَّة تتغلَّب على المسائل العامَّة، والإحباط يُولِّد الإشاعات، وما معنى أن يكتب أديب أو أديبة للغرب أو للشَّرق. وأغرب شيء هؤلاء الَّذين يقولون: إنَّ الأعمال الأدبية النَّاقدة لمجتمعنا تسيء إلى سمعة مصر في الخارج! أعظم الأعمال الأدبية لا بد أن تكون ناقدة لمجتمعها، أهم أعمال يوسف إدريس أو نجيب محفوظ الأدبية هي التي نقدت النَّظام الحاكم، وأشكال الظُّلم أو القهر في بلادنا؛ لكن يوسف إدريس ونجيب محفوظ في الأهرام، أكبر جريدة حكوميَّة في مصر، وهما جزء من النِّظام، يتمتَّعان بحصانة السُّلطة، وقد ترجمت أعمالهما إلى اللغات الأجنبية عبر وزارة الثَّقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وكلها مؤسسات حكومية؛ لكن أعمالهما لم تنجح في الخارج كما نجحت في مصر؛ لأنَّ النَّجاح الأدبي في بلادنا لا يعتمد على جودة العمل فقط ولكن على الدعم الحكومي أيضًا، ولا يمكن للكاتب أن يَشْتَهِر ويحمل لقب كاتب كبير دون أن تكون له علاقات طيبة بالمسئولين الكبار، وهذه هي المشكلة بالنسبة لك يا نوال أو غيرك من الأديبات أو الأدباء الذين لا يسيرون في فلك السُّلطة.

إنَّ السُّلطة في مصر تملك كل مؤسسات الثَّقافة والنشر والإعلام والتَّرجمة، ويُمكنها أيضًا مُصادرة أعمالك، وتشويه سمعتك، لكنَّها لا تملك مصادرة أعمالك المترجمة في الخارج. شاءت الصُّدف يا نوال أن تتزوجي شريف حتاتة، وأن يقوم شريف بترجمة رواياتك! أتعرفين يا نوال آخر إشاعة عنك؟ يقولون: إنك تزوجتيني لأترجم أعمالك! كان شريف يضحك، يحاول أن يُخفف عني وطأة الألم.

كنت في بداية يناير ١٩٩٢، نتأهَّب للرَّحيل إلى المنفى، أصبح الخطر يحوطنا من كل جانب، يتحدث النَّاس كلَّ يومٍ عن قوائم الموتى، الأسماء التي تم إهدار دمها، جرائم تحدث دون أن يُقبض على القتلة، الهمس يدور بين النَّاس، لا يعرفون الوهم من الحقيقة، ولا الإشاعات من الحقائق. كانت الحراسة المسلحة أمامَ بيتنا، والبودي جارد يتبعني حيثما أذهب، لا أعرف من أين تنطلق الرَّصاصة. في النَّوم أرى دمي مهدرًا فوق أسفلت الشَّارع، تزحف قشعريرة باردة إلى جسدي من الرَّأس إلى بطن القدمين، والصَّوت يزعق: اقتلوها الكافرة عدوة الله والإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤