آروم جاك مديري

أصغيت ليلة إلى إذاعة لندن، فسمعت بيانًا صادرًا عن مديرية الأسماك … فقلت في نفسي: عجيب! كيف غفلنا عن إنشاء هذه المديرية وفي بحرنا ألف دلفين ومليون حوت …!

وبعد فليست مديرية الأسماك الإنكليزية شيئًا بالقياس إلى مديرية قص عليَّ قصتها أحد «بكوات» لبنان في العهد الحميدي، عاد سعادته من الآستانة فائزًا بالرتبة الأولى المتمايزة، فالتحى تشبهًا برجال الدولة، إلا أنه لم يدع لحيته تركب رأسها، فكان يلملم أذيالها ويهذبها على طراز لحى الصدور العظام، فيبدو أحرى برتبة «أبهتلو» من رتبة «سعادتلو».

كان — رحمه الله — مولعًا بأخبار رحلته السطمبولية فلا يحتل صدر المجلس حتى يتحين الفرصة فيقص علينا قصصًا طريفة تنبعث العبر من خلال مضحكاتها.

قال: عرفت رجال الدولة: أبا الهدى، عزت باشا العابد، تحسين بك، باشكاتب المابين الهمايوني، وصادقتهم فتغلبت بهم على أولاد الملحمة: حبيب ونجيب وفيليب، ويئست يومًا فرحت أتسلى عن تعقد الأمور برؤية جامع آجيا صوفيا، فكنت كيفما التفت تقع عيني على رجل متأنق جدًّا في ملبسه، ضحوك السن، أراد الله خلقه ذكرًا فجاء كالأنثى، كان يتنفش في صحن الجامع كالطاووس، ويتبختر في بذلة مقصبَّة، متقلدًا سيفًا مذهب القراب يمشي على طقطقته، فتهيبته، ثم «بكلت» أزراري، وأخذت أقترب منه بحذر، ونفسي تقول لي: تعرَّف عليه تتسهل أمورك. قل تعارفنا وارتفعت الكلفة فقلت له ذات يوم: باي أفندي، عندي عرضحال سرِّي أتكتبه لي؟
figure

فاستضحك وقال: صدقني إذا قلت لك إني لا أعرف من التركية أكثر من أربعين خمسين جملة.

فأشرت إلى بدلة رتبته متعجبًا! فألقى يده على كتفي، وهزَّ برأسه مستهزئًا وهو يقول: إذا كنت تهجي تهجية وعندك من يدعمك صرت وزيرًا، وإن كنت حائزًا جميع المكارم وكنت فيلسوف دهرك وما لك ظهر تقضي عمرك باش بزق.

أنا صرت مديرًا لأني شامي، وأخص عزت باشا، عرفته؟ خلق لي مديرية كما خلقه ربه.

فقلت: اسم مديرية سعادتكم؟

فاستيقظت عنجهية المديرية فيه، وتذكر في تلك الدقيقة أنه مدير تركي، وإن كان دمشقيًّا، فتفرعن وتلفظ باسمها الضخم مقطعًا مقطعًا: آروم جاك مديري.

فقلت: ترجمتها من فضل سعادتك؟

فقال: بالعربية: مدير العنكبوت في جامع آجيا صوفيا.

فقلت: مدير عنكبوت؟!

فأجاب وهو يكزُّ: أي نعم.

وبعد هنيهة فتح فمه وقال وهو يشبِّر: معاش كبير … ولقب سعادتلو أفندم حضرتلري، آتقبر القراءة والكتابة سيدي.

وكان البيك ينهي «السالفة» بضحكة عريضة ما زال وقعها في أذني. وها أنا أتذكرها اليوم وأقول بمناسبة تفصيل ثوب الدولة على القد: هذا كان في دولة تركيا يوم شيَّخت وجازت مدى الهرم، فما عذر دولتنا وهي بنت أمس، ولبنان علَّم الناس القراءة والكتابة …

ما عذر لبنان بلد الإشعاع ليكون فيه مدراء عنكبوت، وأشباه مدير العنكبوت؟!

أليس من الاحتقار للثقافة والعلم؟! أليس من الاستهانة بالشعب أن يتربع في مناصب الدولة من لا يحملون على الأقل شهادة «سرتيفيكا»؟! أو يعون في صدورهم من العلم ما يعادل دروسها؟!

٣٠  /  ٧  /  ٤٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤