نعم … أنت مراقب

هل هي مكالمةٌ من المقر السري؟ هل هي مكالمةٌ من الشياطين؟ …

أستبعد ذلك؛ فهم لا يستخدمون التليفون الذي يُحتمل أن يكون مراقبًا. قال في نفسه: لا بد أنها شركة الطيران.

جلس بجوار التليفون، ربما يدقُّ مرةً أخرى. فكَّر لحظة، ثم قام وأحضر دليلًا للتليفونات … أخذ يبحث عن رقم تليفون شركة الطيران الفرنسية، وما كاد يعثر عليه حتى دقَّ جرس التليفون، رفع السمَّاعة بسرعة … واستمع قليلًا … ثم ابتسم قائلًا: أهلًا أيها الصديق «نعيم». نعم لقد اتصلت بك. نعم أتمنَّى أن ألقاك. سوف أمرُّ عليك بعد قليل. إلى اللقاء.

وضع السمَّاعة، ثم شرد قليلًا، تذكَّر أنه كان يُريد أن يتصل بشركة الطيران … ما كاد يمدُّ يده إلى السمَّاعة حتى دقَّ جرس التليفون. رفع السمَّاعة بسرعة، ثم سمع من يقول: ننصحك أن تعود إلى مكانك … أنت مراقب … ومن الممكن أن تنتهي حياتك بطلقةٍ واحدة.

قال «بو عمير»: من المتحدِّث؟!

ردَّ الطرف الآخر: لا داعي لأن تعرف … قد نلتقي يومًا … إنني فقط أُحذِّرك. وُضعت السمَّاعة في الطرف الآخر، بينما كان «بو عمير» لا يزال يُردِّد: ألو، ألو … وضع السمَّاعة وشرد يُفكِّر: تُرى من كان صاحب المكالمة؟ هل هي دعابة من أحد الشياطين؟ غير أنه استبعد ذلك، وفكَّر أن يُرسل رسالةً إلى المقر السري. ظلَّ يُفكِّر لحظة، ثم في النهاية قرَّر أن يُرسل الرسالة. ما كاد يقف ليتحرَّك في اتجاه جهاز الإرسال حتى دقَّ جرس التليفون مرةً أخرى.

أسرع برفع السمَّاعة فربما كان هو نفس الصوت، غير أن الصوت كان مختلفًا … جاءه صوت موظفة شركة الطيران يقول: إن الطائرة سوف تقوم بعد ساعة بعد أن تأخَّر موعد طيرانها، وهناك مقعدٌ قد اعتذر صاحبه.

شكرها «بو عمير»، ثم وضع السمَّاعة وقفز سؤال جديد … هل يُسافر، أو يُؤجِّل السفر؟ إن المكالمة الغامضة التي تلقَّاها تجعله يُفكِّر أكثر من مرةٍ قبل أن يُقدم على شيء.

في النهاية استقرَّ رأيه … وأرسل إلى المقر السري: «من «ش. ك. س» «٥»، إلى «ش. ك. س»: هل اتصلتم بي منذ عشر دقائق؟»

وبسرعة جاءه الرد: «من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» «٥» لم يحدث … هل جدَّ جديد؟»

أرسل رسالةً أخرى: «جاءتني مكالمة تليفونية تُحذِّرني من الاستمرار.»

انتظر قليلًا. كانت الدقائق تمر، وموعد قيام الطائرة يقترب، وتأخَّرت الرسالة قليلًا، كان جهاز الإرسال والاستقبال صامتًا تمامًا. دقَّ جرس التليفون، ووقف ينظر إليه قليلًا. ظلَّ الجرس يدق … مشى في اتجاهه بهدوء، وعندما رفع سمَّاعة التليفون سمع نفس الصوت السابق يقول: لا داعي للتفكير. غادر مقرَّك السري، وعُد من حيث أتيت … أنت تُواجه قوةً لا يمكن التغلُّب عليها.

قال «بو عمير» في هدوء: من أنت؟

لم يردَّ الطرف الآخر، ووضع السمَّاعة … أُضيئت لمبةٌ صفراء في جهاز الاستقبال. عرف أن هناك رسالةً له، فوضع السمَّاعة، ثم اتجه إلى الجهاز … استقبل الرسالة التي كانت تقول: «من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» «٥»: لقد بدأ الصراع. استمر!»

فكَّر قليلًا، ثم أرسل رسالةً إلى المقر السري: «إلى رقم «صفر». إنني في الطريق إليهم.» أخذ طريقه بسرعة إلى الخارج، وعند باب السيارة توقَّف قليلًا، كان يُفكِّر في موعد الضابط «نعيم» … نظر في ساعة يده، لم يكن هناك وقت، كان يجب أن يتجه إلى مقر شركة الطيران.

هناك قالت له الموظفة: الطائرة سوف تُقلع بعد ساعة.

شكرها، ثم خرج. وقف قليلًا يُفكِّر؛ فلا يزال هناك بعض الوقت حتى يذهب إلى الضابط «نعيم». ركب السيارة، ثم انطلق. كانت شوارع المدينة قد بدأت تخلو من المارة … فانطلق بسرعة. نظر في المرآة الأمامية للسيارة، كانت هناك سيارةٌ تتبعه، إنها تنطلق بنفس سرعته تقريبًا. حاول أن يرى ملامح سائقها في المرآة، فلم يستطع. انحرف بالسيارة يمينًا حتى يتأكَّد إن كانت السيارة تتبعه أم لا، مضت لحظة، ثم ظهرت السيارة خلفه من جديد.

كان الطريق الذي يسير فيه يُبعده عن مكتب الضابط «نعيم»، وقد كان يتمنَّى أن يراه … ولكن … المطاردة الجديدة التي فُرضت عليه كانت أهم.

قال في نفسه: لا بد أنه الرجل الذي حدَّثني في التليفون.

أبطأ من سرعته قليلًا، فاقتربت السيارة الأخرى منه، وفي المرآة الأمامية رأى رجلًا آخر بجوار السائق، غير أنه لم يستطِع تبيُّن ملامحه … ضغط بنزين السيارة فازدادت سرعتها، وانحرف يسارًا انحرافًا حادًّا، ثم انحرف يمينًا مرةً أخرى، وبعد عشرة أمتار أوقف السيارة، ثم نزل منها، واختفى خلف أحد البيوت. سمع السيارة الأخرى تمرُّ بسرعة، غير أنها توقَّفت، فأحدثت صوتًا عاليًا، ظهرت السيارة وهي تعود للخلف … ثم دخلت في اتجاهه، أخرج مسدَّسه واستعد. كان واضحًا أن المطاردة سوف تكون لقاءً مباشرًا … توقَّفت السيارة على بعد خمسة أمتار، فانتظر قليلًا حتى يرى ماذا سيفعلون … نزل أحدهما بسرعة، ثم جلس خلف باب السيارة المفتوح، انحنى «بو عمير»، ثم أمسك حجرًا صغيرًا، وألقى به في منتصف الشارع. دوَّى صوت الحجر وشقَّت الفضاءَ رصاصةٌ لها صوت مكتوم في اتجاه «بو عمير». عرف أنهما يستخدمان مسدَّسات كاتمةً للصوت، فلم يردَّ برصاصةٍ مماثلة، وتسلَّل في هدوء … ودار دورةً كاملة، ثم ظهر في الطرف الآخر من الشارع. كان الضوء خافتًا، حتى يبدو الظلام أقوى من النور … شاهد أحد الرجلَين يقف بجوار سيارته … كانت السيارة مغلقةً بإحكام؛ حتى لا يستطيع أحد العبث بها. ظهر الرجل الآخر … كان يمشي في حذر.

فكَّر «بو عمير» فترة: هل يتركهما، ويستقل تاكسيًا إلى المطار، أم يدخل معهما في اشتباك؟ قال لنفسه: من الواضح أنهما يعرفاني جيدًا … ولا بد أن أحدهما هو الذي حدَّثني بالتليفون.

رفع مسدَّسه، ثم صوَّبه في اتجاههما، وأطلق طلقةً دوَّت في الفضاء. انبطح الرجلان على الأرض، وبدأ تبادل الرصاص. اختفى «بو عمير» وعاد إلى حيث بدأ قريبًا من سيارته حيث كانا يرقدان. عندما أصبح مقابلًا للسيارة، لم يرَهما، كانا قد اختفيا. انتظر قليلًا، ثم أطلَّ براسه، فدوَّت طلقة في هدوء الشارع، فانبطح أرضًا … مرَّت الرصاصة بجوار رأسه تمامًا، فزحف بجوار الحائط، حتى أصبحَت بينه وبين السيارة قفزة واحدة … انطلقت رصاصة أخرى، أحدثت صوتًا مدوِّيًا؛ فقد أصابت جسم سيارته المصفَّحة. فكَّر: هل يقفز إلى السيارة؟! لكن قد تُصيبه طلقة من أحدهما.

كان الصمت يُخيِّم الآن على كل شيء، ولم يكن يسمع أي صوت.

زحف عائدًا من حيث أتى … وفي الظلام تحت جدار أحد البيوت، نظر في ساعته الضوئية، كانت لا تزال هناك ثلاثة أرباع الساعة على قيام الطائرة. ركَّز سمعه قليلًا … فسمع وقع أقدام تقترب، وكانت الأقدام لرجلٍ واحد، فزحف حتى بداية الشارع، فرأى أحد الرجلَين يقترب في حذرٍ بجوار جدران البيوت. فكَّر بسرعة: إنه يمكن أن يلتفَّ حول الرجل الآخر، فيصطاد كلًّا منهما بمفرده.

تراجع بسرعة زاحفًا حتى أصبح عند نهاية البيت الذي يزحف بجواره … وقف، ثم انطلق جريًا في الظلام محاذرًا أن يصدر منه أي صوت. لاحت سيارة الرجلَين في منتصف شارع عرضي … التصق بجدار البيت، ثم تقدَّم … كانت السيارة قريبةً تمامًا … ظلَّ يتقدَّم، لم يكن أحد داخلها. فجأةً دوَّت طلقة رصاص عند قدمَيه، فألقى بنفسه بعيدًا … وانهال الرصاص … كانت الرصاصات تأتي من خلفه. لقد فكَّرا مثله تمامًا. زحف بسرعة حتى أصبح في منتصف الشارع، شاهد الرجل الآخر، فجرى حتى احتمى بالبيوت المقابلة. دوَّت طلقة واصطدمت بالجدار فوق رأسه. اختفى تمامًا … فكَّر، لو أنه أخذ نفس الدائرة مرةً أخرى فإنه يمكن أن يُفاجئهما. جرى بسرعة … حتى أصبحا هما في جانب وهو في الجانب الآخر. ثم تقدَّم في اتجاه سيارته حتى أصبح محاذيًا لها، غير أنها كانت عند الرصيف الآخر … شاهد أحد الرجلَين فأحكم النيشان، ثم أطلق طلقة، ورأى الرجل يتهاوى، وقد أمسك كتفه. كانت تصدر عنه أنَّات خافتة، ثم سمع وقع أقدام الرجل الآخر يجري مقتربًا منه. انتظر لحظة، وعندما ظهر الرجل أطلق رصاصة، غير أن الرجل كان قد انبطح في نفس اللحظة. قال في نفسه: إنها فرصة أن ينشغل أحدهما بالآخر!

شاهد الرجل يُعين زميله. كان يزحفان في اتجاه سيارتهما … كانت فرصةً ذهبيةً أمام «بو عمير» أن ينتظرهما قريبًا من سيارتهما، عاد مسرعًا إلى حيث توجد السيارة، اختار شارعًا جانبيًّا، ثم مرَّ منه حتى أصبح مقابلًا للسيارة. كانت خطوات الرجلَين تقترب في بطء. استعد. ظهر الرجلان، كانا كشبحَين في الليل. لم يستطِع أن يُميِّز أحدَهما عن الآخر، ولم يستطِع معرفة من فيهما الذي أُصيب … اقتربا من السيارة تمامًا. رفع مسدَّسه في نفس اللحظة التي فتح أحدهما فيها باب السيارة، فأُضيء داخلها. أطلق طلقةً علت بعدها صرخة أحدهما، وتهاوى داخل السيارة، ثم أغلق الباب، وأُطفئت أنوارها الداخلية … انطلقت طلقة في اتجاهه فالتصق بالحائط، مرَّت بجواره مباشرة، لحظة ثم انطلقت سيارة الرجلَين وعجلاتها تصرخ … ظلَّ مكانه حتى ابتعدت تمامًا، خرج من مكانه ووقف يرقبها وهي تبتعد، وفي حذر أخذ طريقه إلى سيارته.

كان الليل هادئًا … نظر في ساعة يده، لم يبقَ سوى ربع ساعة على قيام الطائرة، قدَّر المسافة؛ فهو يعرف الطريق إلى المطار جيدًا، إنه يستطيع أن يقطعه في خمس دقائق، وتذكَّر الضابط «نعيم» لكن الوقت لم يعُد يسمح. وقف بجوار سيارته يستعيد ذلك اللقاء الحاد بينه وبين الرجلَين. فتح باب السيارة، ثم ألقى بنفسه فيها.

لم يكَد يُغلق باب السيارة حتى سمع صوت سيارةٍ قادمة … ظلَّ في مكانه لا يتحرَّك؛ فأي حركةٍ يمكن أن تكشف مكانه، وقد تكون هذه عصابةً بأكملها … اقترب صوب السيارة أكثر … ثم مرقت في سرعة البرق دون أن يحدث شيء.

أدار محرِّك السيارة، ثم انطلق في الطريق إلى المطار. كان الطريق هادئًا، ولا يكاد يُسمع صوت. فكَّر لحظة، ما دام الرجلان يعرفاني فلا بد أني سألتقي بهما مرةً أخرى … إن المسألة لا تمر هكذا بسهولة.

أطفأ أنوار السيارة واستمرَّ متقدِّمًا في حذر. لم يكَد يقطع كيلومترًا واحدًا حتى شاهد أضواء سيارة قادمة خلفه … رفع سرعة السيارة قليلًا حتى يبتعد عن السيارة القادمة … ارتفعت أضواء السيارة القادمة حتى شعر أنه أصبح مكشوفًا تمامًا، فزاد سرعة السيارة مرةً أخرى، ومن خلال المرآة الأمامية شاهد السيارة التي خلفه تأتي مسرعة … وفجأة، لمعت في عينَيه أضواء سيارةٍ أخرى قادمة، فعرف أنه قد وقع في كمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤