من يكون مدير الرحلة؟

هزَّ رأسه وقال لنفسه: إنها مطاردةٌ نادرة! … أضاء اللمبات الأمامية لسيارته، فاضطُرت السيارة القادمة إلى إطفاء أضوائها.

كانت لمبات سيارته قويةً للغاية، بجوار أنها مزودةٌ بلمباتٍ إضافيةٍ تجعل السيارة القادمة مشلولة الحركة تمامًا لأن سائقها لن يرى. ضغط البنزين فاندفعت سيارته بسرعةٍ كبيرة … كان يرى السيارة التي أمامه كتلةً صامتةً لا تتحرَّك، غير أنها كانت تقف في منتصف الشارع، حتى إنه لم يكن يستطيع المرور … ألقى نظرةً جانبيةً سريعةً على الرصيف، لم يكن مرتفعًا عندما اقترب من السيارة المقابلة، انحرف يمينًا حتى صعدت سيارته الرصيف، وظلَّت في انطلاقها حتى تجاوزت السيارة، فاندفع في الطريق إلى المطار … كانت أضواء المطار تلمع من بعيد، غير أنه فكَّر في أن يدخل مع السيارتَين في صراع السرعة … إن اقترابه من المطار وجلبة المطاردة يمكن أن تلفت الأنظار إليه؛ ولهذا فعندما ظهر أول شارع جانبي، انحرف فيه يمينًا حتى اختفى داخل الشارع العرضي … وعندما أصبح في الشارع الرئيسي الموازي للشارع الآخر الذي كان فيه انحرف يسارًا، لكن فجأةً ظهرت السيارة التي كانت خلفه موازيةً له تمامًا، وأصبح الصدام صدام سيارات … انحرف يمينًا على السيارة التي أصبحت تنطلق بجواره … ثم صدمها صدمةً قويةً جعلت السيارة تنحرف يمينًا، ثم تصطدم بالرصيف حتى صعدت فوقه … في نفس اللحظة التي كان فيها قد انطلق حتى اختفى … دار دورةً واسعةً وهو يُحافظ في نفس الوقت على اتجاه المطار حتى لا تفوته الطائرة. كانت هناك خمس دقائق، غير أن الطريق إلى المطار لا يستغرقها … زاد من سرعة السيارة في اتجاه المطار … كانت السيارتان خلفه، غير أنهما لا تستطيعان أن تلحقاه بنفس السرعة. لاحت تفاصيل المطار، وأخذ يقترب حتى توقَّف أمام الباب تمامًا … نزل بسرعة، وفي خطواتٍ واسعةٍ أخذ طريقه إلى صالة المطار.

كانت المذيعة تُعلن: المسافرون إلى «باريس» يتَّجهون فورًا إلى طائرتهم.

أخذ طريقه إلى أرض المطار جريًا، لكن أحد ضُبَّاط المطار استوقفه … قال الضابط: لحظة، لمَ تجرِ؟

بو عمير: يجب أن ألحق بالطائرة!

الضابط: أي طائرة؟

بو عمير: المتجهة إلى «باريس».

هزَّ الضابط رأسه، ثم قال: هل أستطيع أن أرى أوراقك؟

حاول «بو عمير» أن يكون هادئًا فقال: إن الطائرة أمامها دقيقة، أو دقيقتان، وقد تطير دون أن ألحق بها.

ابتسم الضابط وقال: لا بأس. لكن هذا لا يمنع من أن أرى أوراقك.

أخرج «بو عمير» أوراقه، وبينما الضابط يُقلِّب فيها ويقرأ بياناتها قال: لا تتعجَّل، إن الطائرة تُزوَّد الآن بالوقود … أمامها على الأقل ربع ساعة.

وبسرعةٍ قال «بو عمير»: هل أنت متأكِّد؟

ضحك الضابط وقال: نعم. هذه مسئوليتي. هل تظن أنني أخدعك؟

للحظة سريعة … ظن «بو عمير» أن الضابط ربما يكون أحد أفراد تلك العصابة التي تُطارده، لكنه وفي نفس اللحظة رأى الضابط يُنادي مسافرًا كان يدخل على عجلٍ أيضًا … استوقف الضابط الراكب، وطلب أوراقه، في نفس اللحظة التي قدَّم فيها أوراق «بو عمير» إليه … أخذ طريقه إلى أرض المطار في هدوء … كانت مذيعة الطائرة الداخلية تعلن: الطائرة المتجهة إلى «باريس» سوف تقوم بعد عشر دقائق. الركَّاب المسافرون إلى «باريس» يتجهون إلى الطائرة.

تنفَّس «بو عمير» في ارتياح. اقترب من بائع جرائد قد فرد جرائده ومجلَّاته في تشكيلة بديعة. وقف أمامها يقرأ عناوينها. فكَّر: هل يأخذ بعضها معه للتسلية بعد ذلك الجهد العصبي الذي بذله؟ ظلَّ يقرأ، ثم يقلب في المجلَّات قليلًا، ويختار من بينها، فلفت نظره كتاب في أقصى المجلَّات … كان عنوان الكتاب «جريمة بلا صاحب». أعجبه عنوان الكتاب، وأخذه وفتحه، وهو ينظر إلى البائع مستأذنًا، وقرأ في بداية المقدِّمة: «كل جريمةٍ لها صاحب، هذه ضرورة، لكن هناك جرائم لم يتعرَّف أحد على صاحبها، فظلَّت بلا صاحب.» … توقَّف عند هذه الكلمات، ثم نظر في ساعة يده … لم يبقَ سوى خمس دقائق … اشترى الكتاب، ثم أخذ طريقه إلى أرض المطار … كانت مقدِّمة الكتاب لا تزال تدور في رأسه، وتذكَّر تلك المطاردة التي حدثت، وقال في نفسه: إنها جريمة بلا صاحب!

أخذ طريقه إلى حيث تقف الطائرة التي زُوِّدت بالوقود، وعندما وضع قدمه على سُلَّم الطائرة، كان هناك رجل يصعد معه. نظر له الرجل، وبابتسامة هادئة قال: لقد تأخَّرنا …

ابتسم «بو عمير» وقال: نعم.

دخل من باب الطائرة فبدأ السلَّم يتراجع. أغلق الباب بينما كان يأخذ طريقه إلى كرسيِّه، وعندما جلس، كان نفس الرجل يجلس بجواره … قال الرجل مبتسمًا: صدفةٌ مدهشة، متأخِّران معًا … وجالسان معًا.

ابتسم «بو عمير» ولم يردَّ … غير أن الرجل استمرَّ في الكلام: إننا زملاء رحلة. هل سافرت قبل ذلك كثيرًا؟

لم يردَّ «بو عمير» مباشرة، لكنه بعد لحظةٍ قال: ليس كثيرًا.

قال الرجل: في السفر يحتاج الإنسان إلى زميل يتحدَّث معه حتى تنتهي الرحلة … اسمح لي أن أُقدِّم لكَ نفسي؛ «جان فال»، مهندس بترول، أعمل في «الجزائر» منذ فترة.

•••

قال «بو عمير»: أهلًا بك، «مصطفى مسعود».

ابتسم الرجل وقال: إذن أنت جزائري؟

بو عمير: لا، إنني يمني.

هزَّ الرجل رأسه في دهشة، ثم قال: إذن أنت تتحدَّث العربية؟!

بو عمير: بالتأكيد. هل تتحدَّثها أنت؟

جان: نعم، تعلَّمتها لكثرة عملي في «الجزائر» … خصوصًا عندما بدأتْ مرحلة التعريب في «الجزائر». لقد كان الجزائريون يتحدَّثون الفرنسية كما تعرف، لكن بعد الثورة والاستقلال، بدءوا في استخدام العربية.

بو عمير: هذه مسألةٌ ضرورية، فكيف يتخلَّى شعبٌ عن لغته؟

بينما كان الرجل يتحدَّث، كان «بو عمير» يُحاول أن يستعيد صوت الرجل الغامض الذي تحدَّث إليه في التليفون، لكنه لم يستطِع أن يُحدِّد إن كان هو أم لا.

جاء صوت مذيعة الطائرة تطلب ربط الأحزمة، وبدأت محرِّكات الطائرة تدور، فأحدثت اهتزازًا قويًّا فيها.

مرَّت لحظات، ثم بدأت الطائرة تتحرَّك.

عندما استقرَّت الطائرة في الهواء قال الرجل مبتسمًا: الآن ممكن أن نتحدَّث. فكَّر «بو عمير» بسرعة: إنها فرصة، من يدري؟ قد يكون بداية خيط، إنه لن يكشف نفسه بهذه البساطة.

سأل الرجل: هل تقوم برحلة إلى «باريس»؟

بو عمير: نعم، غير أنها رحلة عمل.

سأله الرجل: ماذا تعمل؟

بو عمير: إنني كهربائي …

ظهرت الدهشة على وجه «جان فال» وقال: مسألةٌ غريبةٌ أن تُفكِّر بالعمل في «باريس»!

ابتسم «بو عمير» وقال: وما وجه الغرابة في ذلك؟

جان فال: أنصحك أن تبحث عن العمل في أي مكانٍ غير «باريس»؛ لأنها مدينةٌ مزدحمةٌ بالغرباء العاملين في مهنٍ مختلفة.

توقَّف «جان» قليلًا، ثم قال: معذرة!

بو عمير: لا بأس.

جان: إنك تتحدَّث الفرنسية جيدًا!

بو عمير: نعم، لقد درستها، بجوار أنني كنتُ أعمل في شركة فرنسية لسنوات طويلة.

جان: مع أنك صغير السن نسبيًّا!

بو عمير: نعم. إنني أعمل منذ أن كنت صغيرًا.

جان: هيَّا نتحدَّث العربية … إنني أسعد عندما أتحدَّثها … هل تعرف أحدًا في «باريس»؟

بو عمير: لا. لكني سأُحاول أن أتعرَّف … المؤكَّد أن هناك عربًا كثيرين.

جان: بالتأكيد … بالتأكيد!

ظلَّ الحوار يدور بينهما، حتى تثاءب «جان» وقال في النهاية: إنني أشعر بالرغبة في النوم قليلًا. إن السفر يجعلني أشعر بهذه الرغبة دائمًا، ربما … بسبب صوت الطائرة.

هزَّ «بو عمير» رأسه ولم يُجِب. تثاءب «جان» مرةً أخرى، ثم أغمض عينَيه. ظلَّ «بو عمير» يتأمَّله بطرف عينه، ثم فجأةً قال «جان» وهو يفتح عينَيه: مسيو «مصطفى» هل تعمل عندي؟

قال «بو عمير»: سوف أكون سعيدًا أن يحدث هذا.

جان: إذن … عليك أن تتبعني عندما ننزل في المطار.

هزَّ «بو عمير» رأسه وقال: شكرًا يا سيدي.

أغمض «جان فال» عينَيه، واستغرق في النوم. أخذ «بو عمير» يتأمَّله وهو نائم. كان يبدو كثعلبٍ بشاربه الرفيع الأصفر، وملامحه الدقيقة. حوَّل «بو عمير» عيَنيه وأخذ يتأمَّل الظلام الذي كان قد بدأ منذ قليل … كانت لا تزال بعض الألوان الحمراء تُكوِّن أطراف بعض قطع السحب المتناثرة … استغرق في التفكير … مرَّت لحظات، ثم ألقى نظرةً جانبيةً على «جان» الذي كان يغطُّ في نومه.

غير أنه لم يكَد يُحوِّل عينه عنه، حتى قال «جان» وهو لا يزال مغمض العينَين: مسيو «مسعود»، هل تعرف أنكَ تجلس مكان زميلي الآن؟

نظر له «بو عمير»، ثم قال: كيف؟

ودون أن يفتح «جان» عينَيه قال: كان المفروض أن يكون زميلي «بول» معي الآن … لكنه تخلَّف في آخر لحظة.

بو عمير: لعل المانع خير.

جان: نعم خير.

قالها باللغة العربية، ثم ابتسم، وأكمل بالفرنسية: هناك بعض الأعمال في الشركة استدعت وجوده، لكنه سوف يلحق بي بعد يومٍ أو يومَين …

وفتح «جان» عينَيه، ونظر إلى «بو عمير» نظرةً لا معنى لها … ثم ضحك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤