نزيل الحجرة رقم «٩»

قال «بو عمير»: إن هذه الضحكة تعني شيئًا من اثنَين؛ إمَّا أن «جان فال» هو الرجل الذي حدَّثني، أو أن زميله هو الذي حدَّثني … ولا بد أنني مراقبٌ حقيقة.

انتهت ضحكة «جان»، فقال: إنك فعلًا زميل ممتاز. وأغلق عينَيه مرةً أخرى.

كان الوقت يمرُّ بطيئًا، وكان «بو عمير» يشعر بالرغبة في الوصول بسرعة. ها هو يلتقي بأحدهم، إن ذلك يعني في النهاية أنه سيلتقي مع العصابة مواجهة وبسرعة، ربما أسرع ممَّا يتصوَّر؛ ولذلك فعندما كانت الطائرة تنزل في مطار «ديجول» الكبير شعر «بو عمير» بالراحة.

أخذ طريقه للخروج فقال «جان»: هيه أيها الزميل «مصطفى»، هل تصحبني؟

قال «بو عمير»: ما دمتُ سأجد عملًا.

نزلا معًا حتى أصبحا خارج المطار، قال «جان»: أُريد أن أُوضِّح لكَ الأمر أكثر؛ إنكَ لن تعمل في «باريس»، إن مقر العمل يبعد عنها بحوالي مائة كيلومتر.

قال «بو عمير»: لا بأس ما دام العمل مُجزيًا.

جان فال: سوف تتقاضى راتبًا طيبًا، بجوار أنك ستجد المسكن المناسب، والطعام، وربما النزهة أيضًا.

صمت «بو عمير»، ثم سأل: لا تهم المسافة، المهم أن يكون العمل طيبًا، وأن تكون الصحبة طيبةً أيضًا.

ضحك «جان» مرةً أخرى، ثم قال: سوف تروق لكَ الصحبة تمامًا، وسوف تجد شبانًا في مثل سنك، يمكن أن تتسلَّى معهم.

صمت «جان» قليلًا، ثم قال: على فكرة … عندنا كثيرون يتحدَّثون العربية مثلك.

قال «بو عمير»: هذا شيءٌ طيب.

مرَّت لحظاتٌ سريعة، توقَّفت بعدها سيارة «مرسيدس» ضخمةٌ أمامهما. نظر إليها «جان»، ثم قال: هذه السيارة سوف تنقلنا إلى هناك.

قال «بو عمير»: هل هي قرية، أم إحدى المدن الصغيرة؟

هزَّ «جان» رأسه، ثم قال: وهل يهمُّ هذا؟

قال «بو عمير» بثقة: إطلاقًا، المكان لا يهم، المهم كما اتفقنا العمل، والصحبة.

نظر حوله … كانت هناك وجوه تُحدِّق من بعيد، لم يشكَّ لحظةً أنهم من رجال العصابة، أشار «جان» إلى السيارة، ثم قال: هيَّا إذن.

ركبا السيارة التي كانت خاليةً تمامًا، وما إن أخذا مقعدَيهما حتى انطلقت تقطع شوارع «باريس» الواسعة الجميلة، ولم يمضِ وقت طويل حتى كانت تأخذ طريقها بين المزارع الخضراء. وامتدَّ الطريق، وامتدَّ الوقت أيضًا، ثم بدأت تظهر مجموعة من الأبنية، شدت انتباه «بو عمير»، لاحظ «جان» ذلك فقال مبتسمًا: هذه مدينة «ريمس»، وهي إحدى المدن الصناعية الهامة في «فرنسا».

قال «بو عمير»: أتمنَّى أن أزور كنيستها؛ فقد قرأت أن «جان دارك» مناضلة «فرنسا» المعروفة قد عُمِّدت فيها، وأنها بناءٌ أثريٌّ جميل.

ابتسم «جان» وقال: سوف نزور كلَّ هذه الأماكن، سواء التي تعرفها والتي لا تعرفها. هل زرتَ كنيسة «نوتردام» في «باريس»؟

قال «بو عمير»: لا، لم أزُرها، وإن كنتُ قد قرأتُ روايةً أدبيةً تدور أحداثها فيها، هي رواية «أحدب نوتردام».

قال «جان» بسعادة: آه، إنها رواية ممتازة …

بدأت ملامح الأبنية تظهر شيئًا فشيئًا، حتى دخلت السيارة مدينة «ريمس»، فقال «جان»: هذه هي مدينتنا.

ثم قال بعد لحظة: على فكرة، لقد زارتنا هنا إحدى الفرق المسرحية المصرية، وكانت تعرض مسرحية «إيزيس»، تلك الأسطورة الفرعونية … هل تعرفها؟

قال «بو عمير»: بالتأكيد، وقد شاهدتُ المسرحية أيضًا.

قطعت السيارة شوارع مدينة «ريمس»، وأمام أحد الميادين قال «جان»: هذا هو ميدان «جان دارك».

ثم أشار بيده جهة اليسار قائلًا: انظر، هذه كنيسة «جان دارك»، إننا نُسمِّيها باسمها.

كان «بو عمير» يُشاهد كل الأشياء وكأنه يقوم بحفرها في ذاكرته؛ فقد يحتاجها. أخذت الشوارع تضيق، حتى توقَّفت السيارة أمام بناء يبدو كأنه فيلا مهجورة، تحوطه حديقة صغيرة، قال «جان»: هنا سوف تكون إقامتك، أمَّا العمل فإنه في مكانٍ آخر.

صمت قليلًا، ثم قال: هل تُحب أن تستريح قليلًا حتى أعود إليك، أو تصحبني مباشرةً إلى مكان العمل؟

قال «بو عمير»: في هدوء: لا يهم.

جان: إذن، استرح قليلًا حتى أعود إليك.

•••

نزل «جان» فتبعه «بو عمير»، ودخلا الفيلا، فظهر عدد من الخدم قال لهم «جان»: مسيو «مصطفى»، إنه موظَّفٌ جديدٌ أرجو أن تهتمُّوا به.

ثم نظر إلى «بو عمير» وقال: أليس كذلك؟

بو عمير: شكرًا … أن تجعلني مهمًّا.

قالها «بو عمير» بالعربية ونظر في وجوه الخدم ليرى أثر ما فعل.

قال «جان»: سيُقيم مسيو «مصطفى» في الحجرة رقم «٩»، وسوف أعود بعد ساعة ويكون قد ارتاح قليلًا وتناول طعامه.

رفع يده محييًا «بو عمير»، ثم انصرف.

اقترب أحد الخدم من «بو عمير»، وقال في احترام زائد: إنني «فيكتور» كبير الخدم هنا، وأعمل تحت إمرة «باولوس» الذي يرأس المكان كلَّه، وسوف يحضر بعد قليل … إنني تحت أمرك منذ الآن.

بسرعة استعاد «بو عمير» أسماء الأعضاء المهمِّين الذين تحدَّث عنهم رقم «صفر»، فتذكَّر اسم «باولوس»، فقال على الفور: إنني سعيدٌ أن أتعرَّف إليك يا «فيكتور». أرجو أن تكون هذه بداية صداقة بيننا. هل يمكن أن أذهب إلى حجرتي الآن حتى أكون مستعدًّا لحضور مسيو «جان»؟

قال «فيكتور» بأدب: تحت أمرك يا سيدي.

تحرَّك «فيكتور» فتبعه «بو عمير»، فظلَّ يدور به في طرقاتٍ متعرِّجةٍ كثيرة، ثم في النهاية توقَّف أمام باب إحدى الحجرات وقال: هذه حجرتك يا سيدي. هل تأمرني بشيء؟ …

قال «بو عمير»: أشكرك أيها الصديق.

فيكتور: هل تتناول طعامك في الحجرة، أو في قاعة الطعام؟

صمت «بو عمير» قليلًا، ثم قال: في قاعة الطعام، فقط أرجو أن تصحبني إليها بعد نصف ساعة.

انحنى «فيكتور» أمامه قائلًا: أمرك يا سيدي. ثم انصرف.

ما كاد «بو عمير» يمد يده إلى مقبض الباب حتى انفتح وحده. نظر إلى المقبض قليلًا، ثم دخل.

كانت الحجرة متسعة تضمًّ سريرًا ناعمًا عريضًا، يبدو وكأنه لأحد العظماء، ثم مكتبة صغيرة تضمُّ عددًا من الكتب، ودولابًا للملابس، وجهاز تليفزيون صغير، وتليفونًا، وعند نهاية السرير يوجد باب صغير … اتَّجه «بو عمير» إليه، ثم فتحه، فإذا به الحمَّام، وكان أزرق اللون أنيقًا. أغلق باب الحمام، ثم عاد إلى الحجرة، وظلَّ يدور داخلها يبحث عن أشياء يمكن أن تُراقبه، في النهاية جلس إلى المكتب الصغير الموجود في أقصى الحجرة، ثم أخذ يفتح أدراجه الواحد بعد الآخر، فلم يجد سوى ورقٍ وقلمٍ صغيرًا. أمسك القلم يتأمَّله قليلًا، ثم فكَّ أجزاءه؛ فلم يجد فيه ما يمكن أن يخشاه. أغلق أدراج المكتب، ثم عاد إلى السرير، كان هناك راديو صغير يغوص داخل ظهر السرير، أدار الراديو؛ فانبعثت موسيقى هادئة، ورفع الصوت قليلًا، ثم توسَّط الحجرة، وأخرج جهاز الإرسال، وأرسل رسالةً عاجلةً إلى المقر السري: «من «ش. ك. س» «٥»، إلى رقم «صفر»: إنني الآن داخل المقر.» وبسرعةٍ جاء الرد: «من رقم «صفر»: أنت لست داخل المقر الرئيسي. استمرَّ حسب التعليمات.»

أخفى الجهاز، ثم جلس على الكرسي. كان صوت الراديو عاليًا، فقام وخفض الصوت، وألقى بنفسه على السرير. كان متعبًا … تمطَّى، ثم استرخى فشعر ببعض الانتعاش. بعد دقائق قام واغتسل، وأجرى بعض التمرينات الرياضية فشعر بانتعاشٍ أكثر. بعد قليلٍ سمع صوتًا يتحدَّث: السيد «مصطفى». الطعام في انتظارك.

حاول أن يعرف مصدر الصوت ففشل. وقف يتأمَّل الحجرة من جديد، ومضت دقيقة، ثم جاءه الصوت مرةً أخرى: إن كنتَ تُريد الطعام في الحجرة يمكن أن نُحضره إليك.

عرف أن الراديو هو مصدر الصوت، قال: لا، إنني أُريد أن أتناول طعامي في قاعة الطعام، لكن … كيف الوصول إليها؟

جاءه الصوت: ستعرفها بسرعة فقط، اخرج من الحجرة.

تقدَّم من الباب فانفتح، خرج وتوقَّف، وظلَّ ينظر حواليه قليلًا، غير أن أحدًا لم يظهر. كان أمامه دهليز طويل، سار فيه حتى وصل إلى دهليزٍ آخر … ظلَّ يخرج من دهليز إلى آخر، دون أن يعرف أين هو بالضبط … غير أنه في النهاية وجد نفسه أمام «فيكتور» الذي كان يبتسم في مودة، وقال: أهلًا بك يا مسيو «مصطفى»، الطعام جاهز.

هزَّ «بو عمير» رأسه شاكرًا، ثم دخل خلف «فيكتور» إلى قاعة الطعام. كانت القاعة واسعة، تُزيِّنها نقوشٌ ذهبيةٌ لطيور تطير في الفضاء، وأسماك تسبح في الماء، وصيادون. وفي نهاية القاعة كان الطعام الساخن في طرف المائدة الضخمة … عندما وصلا إلى الطعام، انحنى «فيكتور» قائلًا: أوامرك يا سيدي.

جلس «بو عمير» قائلًا: شكرًا لك، ألن يأكل أحد معي؟

قال «فيكتور»: لا يوجد هناك من ضيوف سواك يا سيدي، هل من شيءٍ آخر؟

بو عمير: شكرًا يا صديقي «فيكتور».

فيكتور: إذا احتجت شيئًا اضغط طرف المائدة فقط.

انصرف «فيكتور»، وظلَّ «بو عمير» وحده. نظر إلى طعامه، كان مكوَّنًا من الدجاج والخضار، والأرز والخبز، وكميات كبيرة من الفاكهة، خصوصًا التفاح … أخذ يأكل في شهية، ويُعيد النظر في جوانب القاعة الفسيحة. لم يكن هناك ما يلفت النظر سوى فخامة القاعة.

ظلَّ يأكل في هدوء حتى أحسَّ بالشبع، ثم ترك الطعام، ومدَّ يده يأخذ تفاحة. ظلَّ يقلب التفاح أمامه لينتقي واحدةً وهو يُفكِّر في كل ما حدث، لقد استسلم منذ اللحظة الأولى لأصابع العصابة. كانت فكرته بسيطة … إن العصابة لن تكتفي بقتله … فهذه مسألة كانت يمكن أن تتم في الطريق … رصاصة واحدة وينتهي كل شيء … سيُحاولون الحصول على أكبر قدرٍ من المعلومات … وربما يستخدمونه كرهينةٍ للضغط على الشياطين … فماذا سيحدث؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤