الشياطين يقعون في الفخ

كانت التفَّاحة معطوبة الجانب، لا تُثير من ينظر إليها، إلا أنها لفتت نظر «بو عمير». حملها بين أصابعه، فوجدها أخفَّ من المعتاد، وضغط عليها فوجدها صلبة. وضعها مكانها في صمت، ودون أن يُفكِّر في انتقاء واحدةٍ غيرها، عرف «بو عمير» أن هذه التفاحة إمَّا جهاز إرسال، وإمَّا كاميرا سحرية.

ظلَّ جالسًا في صمت، لكنه فجأة … شعر بأن هناك من يرقبه، وعندما التفت كان «جان فال» يقف في عمق القاعة مبتسمًا. رفع يده يُحيِّي «بو عمير» وهو يبتسم قائلًا: أظن أنني لم أتأخَّر عليك كثيرًا … ولعلك استرحتَ قليلًا، وتناولتَ طعامك.

وقف «بو عمير» وهو يُبدي سعادةً مزيفة، ثم قال بصوتٍ هادئ: إنني أشكرك، ولا أدري ماذا كان يمكن أن أفعل لو لم أقابلك.

كان «جان فال» يقترب فقال: هل يمكن أن نتحرَّك الآن؟

بو عمير: نعم، إنني تحت أمرك.

لم يكد «بو عمير» ينتهي من جملته، حتى ظهر رجل يلبس نظارةً سوداء، ما إن رأى «جان» حتى انحنى قائلًا: إنني تحت أمرك يا سيد «جان»!

ابتسم «جان» قائلًا: أهلًا «باولوس». إن لدينا ضيفًا عزيزًا.

قال «باولوس» في هدوء: أعلم يا سيدي … لقد صدرت الأوامر لنكون تحت أمره.

نظر «جان» إلى «بو عمير» وقال: هذا مسيو «مصطفى مسعود» … إنه شاب نادر المثال.

صمت قليلًا، ثم قال: «باولوس» … المسئول عنك يا سيد «مصطفى». إنه رجلٌ طيب، يمكن أن تثق فيه.

قال «بو عمير»: إنني سعيدٌ لذلك.

باولوس: السيد «بالمي» في انتظاركما.

هزَّ «جان» رأسه وقال: سوف نكون عنده حالًا.

ثم نظر إلى «بو عمير» وقال: هيَّا بنا.

تبع «بو عمير» «جان» حتى خرجا من القاعة، ووقفا أمام بابٍ فُتح في بطءٍ فدخلا، وكان المصعد صغيرًا فنزل بهما المصعد، حتى توقَّف أمام سيارةٍ فاخرة.

ابتسم «جان» وقال: تفضَّل.

خرج «بو عمير»، ثم ركب السيارة وتبعه «جان». كان هناك سائق يجلس إلى عجلة القيادة، ما إن أغلق «جان» باب السيارة، حتى انطلق بهما.

كانت السيارة تسير في سردابٍ طويل شاحب الضوء، حتى إن «بو عمير» لم يستطِع تمييز أي شيء، خصوصًا وأن السيارة كانت تنطلق بسرعةٍ كبيرة … مضت نصف ساعة دون أن ينطق أحد بكلمة ما … في النهاية ظهرت بقعةٌ من الضوء، ظلَّت السيارة تقترب منها شيئًا فشيئًا حتى أصبحت داخلها تمامًا. توقَّفت السيارة، ففتح «جان» الباب وخرج، وتبعه «بو عمير». خطوات قليلة، ثم وقفا أمام بابٍ صغير … فُتح في بطء، ثم دخل «جان» وخلفه «بو عمير»، أغلق الباب، ثم بدأ المصعد صعوده. مرَّت ربع ساعة، والمصعد مستمرٌّ في الصعود، ثم توقَّف وفتح الباب، فخرجا خطوةً واحدةً خارج المصعد، فإذا بقاعةٍ واسعة، تلتف حول المصعد. أغلق الباب، ثم اختفى المصعد نهائيًّا، واختفت الفتحة التي كان يقف فيها، لم يكن هناك أي شيءٍ أمام «بو عمير» … لكنه اضطُر أن يلتفت بعد أن سمع صوتًا يتحدَّث إليه: أهلًا بالسيد «مصطفى».

نظر «بو عمير» فعرف أين هو بالضبط؛ إن الذي أمامه هو «بالمي» رئيس العصابة، وبسرعة أيقن أن الرجل الذي قيل إنه رئيس الخدم، هو «باولوس» الرجل الثالث في العصابة، وليس «باولوس» رئيس الخدم. قال «بو عمير»: مساء الخير يا سيدي.

بالمي: اقترب، إنني أُريد أن أتحدَّث إليك. اقترب «بو عمير» حتى أصبح أمام «بالمي»، كان يبدو كهلًا متهالكًا شاحب الوجه، وعندما بدأ يتحدَّث ظهرت تلك الحركة العصبية في عينه اليمنى. قال بالمي: لعلك بارعٌ في أعمال الكهرباء كما أخبرني «جان».

بو عمير: أرجو أن أنال ثقتك يا سيدي.

ابتسم الوجه الشاحب، وكانت الحركة العصبية لا تزال في عينه اليمنى. قال بعد لحظة: الحقيقة إنني تعبت في الوصول إلى مهندسين مهرة، يمكن أن يقوموا بالإشراف على الأعمال الكهربائية في مجموعة المصانع التي أمتلكها … لقد أحضرتُ عمَّالًا من «ألمانيا» و«إيطاليا» و«اليابان». إن لديَّ مهندسين في الكهرباء، لكنني أُريد بجوارهم عمَّالًا مهرة، أرجو أن تكون كذلك.

بو عمير: أرجو ذلك يا سيدي.

شرد «بالمي» قليلًا، ثم قال: سوف أتركك حتى ترتاح، ويمكن أن تصحبك «لوثيلا» في زيارة للمدينة، وغدًا سوف تتسلَّم العمل.

بو عمير: أمرك يا سيدي.

بالمي: هل اتَّفقتَ مع «جان» على أجرٍ مُعيَّن.

بو عمير: ليس بعدُ يا سيدي.

صمت «بالمي» قليلًا، ثم قال: أعتقد أنه ينبغي أن ننتظر حتى نرى عملك، ثم نتفق.

بو عمير: كما ترى يا سيدي.

أشار «بالمي» إلى «جان» وقال: هيا يا «جان»، اصحب السيد «مصطفى» إلى مقرِّه، واطلب من «لوثيلا» أن تصحبه، إنها سوف تكون مسئولةً عنه، بجوار «باولوس» طبعًا في تعريفه بكل شيء.

ثم نظر إلى «بو عمير» وقال: أتمنَّى أن أراكَ مرةً أخرى، وأن يُعجبك العمل معنا.

بو عمير: شكرًا يا سيدي.

استدار «بو عمير» بعد أن حيَّا «بالمي»، وبدأ في التحرُّك، ثم توقَّف أمام فتحة ظهرت في الأرض، في نفس اللحظة التي سمع فيها صوت «بالمي» يُناديه: سيد «مصطفى».

استدار «بو عمير» في هدوء، وقال: أمرك يا سيدي.

بالمي: إننا نحتاج إلى عمَّال آخرين … فهل يمكن أن تُساعدنا؟

فكَّر «بو عمير» بسرعة، ثم قال: أُحاول يا سيدي.

بالمي: متى؟

بو عمير: سوف أُخبر السيد «جان» بذلك.

بالمي: حسن، حسن. إلى اللقاء، وأرجو أن تهتمَّ بذلك.

بو عمير: أمركَ يا سيدي.

ظهر المصعد، فدخل «بو عمير» وتبعه «جان»، ومن جديد توقَّفا أمام السيارة، التي انطلقت بمجرَّد أن ركبا فيها.

وأمام مصعد آخر توقَّفت السيارة، ونزل «بو عمير» فقال «جان»: يمكن أن تعود إلى الفيلا، وهناك ستجد كلَّ شيء في انتظارك.

شكره «بو عمير»، ثم ركب المصعد الذي صعد به حتى توقَّف … وعندما خرج كانت هناك فتاةٌ جميلةٌ تقف أمام الباب، ما إن رأته حتى صاحت: مرحبًا بالصديق «مصطفى»، لقد كنتُ في انتظارك.

مدَّت يدها، فمدَّ يده يُحيِّيها … قالت: لقد تأخَّرت، أظن أنكَ قابلت السيد «بالمي».

بو عمير: نعم.

سارا معًا، وقالت «لوثيلا»: برنامج الليلة جولة في «ريمس»، ما رأيك؟

فكَّر «بو عمير» قليلًا، ثم قال: هل أستطيع أن أقوم بها وحدي؟

ابتسمت «لوثيلا» وقالت: بالتأكيد. كلُّ ما تُريده لا بد يُنفَّذ … ثم قالت بعد لحظة: الليلة فقط.

التفت … كان «باولوس» يقف بعيدًا، قالت: «باولوس» … السيد «مصطفى» سوف يخرج بمفرده الليلة … جهِّز السيارة الخاصة به.

ودَّعت «لوثيلا» «بو عمير» الذي ركب السيارة، التي انطلقت به إلى «ريمس» في الطريق قال للسائق: كم كيلومترًا بين الفيلا و«ريمس»؟

قال السائق: ليس كثيرًا يا سيدي؛ فالفيلا تقع في ضاحيةٍ من ضواحي المدينة.

بو عمير: دعني أتعرَّف بك.

الرجل: أُدعى «مارسان» سائق السيارة الخاص بالضيوف.

لم ينطِق «بو عمير» مباشرة، لقد عرف أنه محاصرٌ تمامًا … قال بعد لحظة: هل يمكن أن أصل إلى كنيسة «جان دارك» يا سيد «مارسان»؟

قال «مارسان»: بالتأكيد يا سيدي.

بو عمير: أظن أن الوقت متأخِّر.

مارسان: من أجلك لا يتأخَّر شيء.

توقَّفت السيارة أمام الكنيسة الضخمة القديمة البناء، فنزل «مارسان» بسرعة وفتح الباب، وقال: يمكن أن تدخل مباشرةً يا سيدي.

دخل «بو عمير» … كانت الكنيسة رطبة، تسبح في ضوء شاحب، وإن كانت مجموعات الشموع مضاءة، تُحاول أن تتغلَّب على الظلام. سار «بو عمير» في هدوء، حتى اختفى خلف أحد الأعمدة الضخمة. نظر خلفه، لم يكن هناك أحد، فأخرج جهاز الإرسال وأرسل رسالةً عاجلة: «من «ش. ك. س» «٥» إلى رقم «صفر»: ينبغي إرسال ثلاثة غدًا.» وبسرعةٍ جاءه الرد من رقم «صفر»: «إنهم في الطريق إليك.» أخفى «بو عمير» الجهاز، ثم أخذ يتجوَّل في أنحاء الكنيسة. ظلَّ داخلها نصف ساعة حتى لا يلفت النظر لشيء … في النهاية عاد حيث كان ينتظره «مارسان».

عاد إلى الفيلا حيث اتجه مباشرةً إلى الحجرة رقم «٩»، بعد أن أعلن أنه يُريد أن ينام مبكِّرًا؛ حتى يكون مستعدًّا للعمل.

في الصباح كان «بو عمير» قد أخذ طريقه إلى قاعة الطعام، حيث جاءه «باولوس» الذي أخبره أنه سوف يتجه الآن إلى المصانع في جولة هناك، وما كاد ينتهي من طعامه، حتى حضر «جان» الذي سأله إن كان سوف يُحضر بعض العمَّال … قال «بو عمير»: يمكن أن أنزل إلى «باريس» لأفعل ذلك.

جان: إذن نُؤجِّل زيارة المصنع اليوم حتى تكونوا معنا.

ما إن انتهى «بو عمير» من الطعام حتى سأله «جان»: هل تُحب أن يصحبك أحد؟

بو عمير: لا أظن … إنني لن أتغيَّب كثيرًا.

جان: هل تُريد «مارسان» معك؟

بو عمير: لا أظن أنني سوف أحتاجه.

جان: كما ترى، لكن هل تقود السيارة بنفسك؟

بو عمير: نعم.

انطلق «بو عمير» بسيارته الصغيرة التي قدَّمها له «مارسان» في الطريق إلى «باريس»، وهناك اتجه مباشرةً إلى المقر السري، وما كاد يقترب من الباب حتى سمع صوت «أحمد» … فتح الباب ودخل. كان هناك «باسم» و«أحمد» و«فهد» …

جلسوا في اجتماع سريع أخبرهم فيه «بو عمير» بكل شيء. وظلوا بعض الوقت، ثم خرجوا، فركبوا السيارة إلى «ريمس»، وعندما وصلوا إلى هناك، كان «جان» و«مارسان» و«باولوس» و«لوثيلا» في انتظارهم … اقترب «جان» وقال: أهلًا بالأصدقاء … ثم نظر إلى «بو عمير» وقال: إنكَ سوف تنال ثقة السيد «بالمي».

ابتسم «بو عمير» وقال: أرجو ذلك.

ثم أخذ يُقدِّم الشياطين لهم: «إبراهيم»، «نادر»، «عادل»، وكلهم يعملون في الكهرباء؛ فنحن أبناء حيٍّ واحد.

رحَّب بهم «جان»، وقالت «لوثيلا»: أظن أنكم سوف تتجهون إلى لقاء السيد «بالمي».

جان: أظن ذلك … ثم بعد لحظة: ما رأيك يا سيد «مصطفى»؟

بو عمير: أظن أن ذلك أحسن.

جان: هيا إذن.

أخذوا طريقهم إلى لقاء «بالمي»، وعندما خرجوا من المصعد لم يكن «بالمي» موجودًا، وقال «جان»: اجلسوا … إن السيد «بالمي» سوف يصل حالًا. ما كادوا يجلسون حتى ظهر «بالمي» … يختفي خلف ابتسامةٍ شاحبة، وحركة عينه اليمنى تُؤكِّد شخصيته عند الشياطين. وجلس «بالمي» ورحَّب بهم، ثم قال مخاطبًا «بو عمير»: إنني أشكرك جدًّا يا …

ولم يُكمل كلامه، ثم نظر إلى «جان»، ثم قال: استدعِ «مارسان» و«باولوس» و«لوثيلا».

تحرَّك «جان» بسرعة، ثم اختفى لحظات وعاد قائلًا: إنهم في الطريق. ولم يكَد يُكمل جملته حتى ظهر الثلاثة.

قال «بالمي»: الآن يمكن أن نتحدَّث، وأن نُحدِّد للأصدقاء ما هو المطلوب منهم.

نظر إلى «أحمد»، ثم ابتسم قائلًا: إن الرجل الذي تعملون معه ليس ذكيًّا بهذه الدرجة، ولقد فعلتُ ذلك لأريه كيف يمكن أن يتصرَّف بذكاء.

ظهرت الدهشة على وجوه الشياطين، وإن أظهروا ثباتهم. أكمل «بالمي» كلامه: إن رقم «صفر» يمكن أن يأتي إلى هنا … وهذه ليست مسألةً صعبة.

أيقن الشياطين أنهم قد وقعوا في الفخ، وأيقنوا في نفس الوقت أن المغامرة قد بدأت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤