الفصل الأول

نظرةٌ على الديناصورات

لقد اكتُشِفَت البقايا المتحجرة للديناصورات (مع الاستثناء الجدير بالذكر لأحفادها المباشِرة من الطيور، انظر الفصل السادس) في صخور تنتمي إلى حقبة الحياة الوسطى؛ يتراوح عُمْر الصخور المنتمية لهذه الحقبة بين ٢٤٥ و٦٥ مليون سنة مضت. ومن أجل وضع الوقت الذي عاشت فيه الديناصورات في سياقه — نظرًا لأن هذه الأرقام ضخمةٌ للغاية على نحوٍ يصعب فعليًّا تخيُّله — من الأسهل أن نحيل القارئَ إلى الجدول الزمني الجيولوجي (الشكل ١-١).
fig4
شكل ١-١: الجدول الزمني الجيولوجي يوضِّح تفصيليًّا الفترةَ التي عاش فيها الديناصورات على سطح الأرض.

خلال القرن التاسع عشر وجزءٍ كبير من القرن العشرين، كان عمر الأرض والأعمار النسبية للصخور المختلفة التي تتكوَّن منها، موضوعَ بحثٍ مكثَّفٍ؛ ففي أوائل القرن التاسع عشر أصبح من المُعترَف به (على الرغم من أن الأمر لم يكن دون جدال) أن صخور الأرض وما تحتوي عليه من حفريات، يمكن تقسيمها نوعيًّا إلى أنواع مختلفة؛ فثمة صخور لا تحتوي فيما يبدو على أية حفريات، ويشار إليها عادةً بالصخور النارية أو «القاعدية»، وفوق هذه الصخور القاعدية التي تبدو خاليةً من الحياة، تقع سلسلةٌ من أربعة أنواع من الصخور تعبِّر عن أربعة عصور للأرض. وخلال جزء كبير من القرن التاسع عشر، كان يُطلق على هذه الصخورِ الأسماءُ: الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وهي تمثل فعليًّا العصور: الأول والثاني والثالث والرابع. سُمِّيَت الصخور التي احتوت على آثارِ كائناتٍ قديمة صدفية وبسيطة التكوين تشبه الأسماك؛ بالصخور «الأولى» (وتُعرَف الآن بصخور حقبة الحياة القديمة، التي تشير فعليًّا إلى «الحياة القديمة» على سطح الأرض). توجد فوق صخور حقبة الحياة القديمة سلسلةٌ من الصخور، احتوت على خليط من أصداف وأسماك وعظائيات برية (أو «حيوانات زاحفة» قد تضمُّ حاليًّا البرمائيات والزواحف)، سُمِّيت هذه الصخور إجمالًا بالصخور «الثانية» (وتُعرَف حاليًّا بحقبة الحياة الوسطى أو العصر «الميزوسي»). وفوق صخور الحقبة الوسطى عُثِرَ على صخور تحتوي على كائنات أقرب في شكلها إلى الكائنات التي تعيش في عصرنا الحالي؛ لا سيَّما أنها تحتوي على ثدييات وطيور، وأُطلِقَ على هذه الصخورُ «الثالثة» (وتُعرَف حاليًّا أيضًا باسم حقبة الحياة الحديثة أو العصر «السينوزي»). وأخيرًا، الصخور الرابعة (أو الحديثة) التي وثَّقَتْ ظهور النباتات والحيوانات المتعارَف عليها حديثًا وتأثير العصور الجليدية الكبرى.

صمد هذا النمط العام على مر السنين بحالة جيدة على نحو مذهل. استمرت جميع الجداول الزمنية الجيولوجية الحديثة في إقرار هذه التقسيمات الفرعية البدائية نسبيًّا، وإنْ كانت أساسية؛ وهي: العصر الباليوزي، والعصر الميزوسي، والعصر السينوزي، والعصر الحديث. مع هذا، فإن التحسينات في طريقة فحص السجل الحفري بطرق من بينها على سبيل المثال: استخدام الفحص المجهري العالي الدقة، وتحديد البصمات الكيميائية المرتبطة بالحياة، والتأريخ الأكثر دقةً للصخور الذي أتاحته أساليبُ النظائر المُشعَّة؛ أدَّتْ جميعها إلى الحصول على جدول زمني أكثر دقةً لتاريخ الأرض.

إن الجزء الذي يعنينا بالأحرى في الجدول الزمني الجيولوجي في هذا الكتاب هو حقبة الحياة الوسطى (العصر الميزوسي)، التي تتكوَّن من ثلاث فترات جيولوجية: العصر الترياسي أو الثلاثي (منذ ٢٤٥–٢٠٠ مليون سنة)، والعصر الجوراسي (منذ ٢٠٠–١٤٤ مليون سنة)، والعصر الطباشيري أو الكريتاسي (منذ ١٤٤–٦٥ مليون سنة). لاحظ أن هذه الفترات لم تكن بأي حال من الأحوال متساويةً في مدتها؛ فلم يتمكن علماء الجيولوجيا من تحديد مؤشر زمني يشبه بندول الساعة يقيس مرور الوقت على سطح الأرض. وقد وُضِعَ مخطَّط للحدود بين هذه الفترات في القرنين الأخيرين على يد علماء جيولوجيا استطاعوا التعرُّف على أنواع معينة من الصخور، وغالبًا على ما تحتوي عليه من حفريات، وينعكس هذا عادةً في الأسماء التي اختِيرت لهذه الفترات؛ فمصطلح «ترياسي» أو «ثلاثي» نشأ من مجموعة ثلاثية تتكوَّن من أنواع صخور مميَّزة — تُعرَف باسم بونتر وموشيلكالك وكويبر — أما الاسم «الجوراسي» فقد نشأ من سلسلة من الصخور اكتُشِفت في جبال جورا في فرنسا، في حين أن الاسم «طباشيري» أو «كريتاسي» قد اختير ليعكس السُّمْكَ الهائل للطباشير (المعروف باسم كريتا في اللغة اليونانية)، كالذي يشكِّل المنحدرات الصخرية البيضاء في مدينة دوفر، ويوجد على نطاق واسع في جميع أنحاء أوراسيا وأمريكا الشمالية.

يرجع تاريخ أولى الديناصورات المعروفة، التي عُثِرَ عليها في صخورٍ، إلى ٢٢٥ مليون سنة مضَتْ منذ نهاية العصر الترياسي — وهي فترة تُعرف باسم الفترة الكارنية — في الأرجنتين ومدغشقر. ومن المُربِك بعض الشيء أن هذه البقايا المبكرة ليست أمثلةً نادرةً وفرديةً على نوع واحد من الكائنات؛ الجَدِّ المشترك لجميع الديناصورات اللاحقة؛ فحتى وقتنا الحالي اكتُشِف على الأقل أربعة كائنات مختلفة (أو ربما خمسة)، ثلاثة منها آكلة لِلُّحوم (إيورابتور، وهيريراصور، وستوريكوصور)، وبيزانوصور وهو نوع آكِل للعُشب غير مكتمِل للأسف، ونوع واحد آكِل للحيوانات والنباتات لم يُطلَق عليه اسم حتى الآن. إذن ثمة استنتاج واحد واضح؛ أن هذه ليست الديناصورات الأولى؛ فمن الواضح أن الفترة الكارنية شهدت مجموعةً متنوعة من الديناصورات الأولى؛ وبناءً عليه، يشير هذا إلى ضرورة وجود ديناصورات قد عاشت في العصر الترياسي الأوسط (اللاديني-الأنيسي)، مثَّلَت «آباء» الأنواع المتعددة التي عاشت في الفترة الكارنية؛ لذا، نعلم يقينًا أن قصة أصول الديناصورات — من حيث الوقت والمكان — ما زالت غير مكتمِلة.

السبب وراء ندرة حفريات الديناصورات

fig5
شكل ١-٢: ديناصور هيريراصور الآكِل للحوم.

من المهم أن يدرك القارئ في البداية أن سجل الحفريات غير مكتمِل، وربما ما يثير مزيدًا من القلق أنه متقطع وغير مفصَّل بكل تأكيد. يرجع عدم الاكتمال هذا إلى عملية التحجُّر؛ فقد كانت الديناصورات جميعها حيواناتٍ بريةً تعيش على سطح الأرض، وهو أمر يطرح مشكلات معينة، وحتى نفهم هذا، من الضروري أن نفكِّر أولًا في حالة كائن صدفي يعيش في البحر، مثل المحار؛ ففي مياه البحار الضحلة التي يعيش فيها المحار في عصرنا الحالي، يكون احتمالُ تحجُّرِه مرتفعًا إلى حدٍّ كبير؛ فهو يعيش في قاع البحر — أو يتعلق به — ويتعرَّض على الدوام ﻟ «قطرات» من الجسيمات الصغيرة — الرواسب — بما في ذلك الكائنات العالقة المتحللة، والطمي أو الطين، وحبيبات الرمل. إذا ماتَتْ إحدى المحارات، فإن أنسجتها الرخوة ستتعفَّن أو ستقتات عليها الكائنات الأخرى بسرعة كبيرة إلى حدٍّ ما، وستُدفَن صدفتها الصلبة بالتدريج تحت الرواسب الناعمة، وبمجرد أن تُدفَن الصدفة يصبح من المحتمَل تحوُّلها إلى حفريةٍ؛ حيث تعلق تحت طبقة من الرواسب يزداد سُمكها تدريجيًّا. وعلى مدار آلاف أو ملايين السنين، تنضغط الرواسب المدفونة تحتها الصدفة لتكوِّن حجرًا رمليًّا مليئًا بالطمي، وربما تصبح متماسكةً أو متحجِّرةً عن طريق ترسُّب كربونات الكالسيوم (الكالسيت) أو السيليكا (الحجر الصَّوَّان)، التي تنتقل عبر نسيج الصخرة عن طريق الماء الذي يتخلَّلها. ولكي تُكتشَف البقايا المتحجرة للمحار الأصلي، لا بد أن يُزاح الحجر المدفون على عمق كبير — بفِعل حركة الأرض — لتشكيل أرض جافة، ثم تتعرَّض تلك البقايا المتحجرة لعمليات التآكُل والتعرية المعتادة.

من ناحية أخرى، الكائناتُ التي تعيش على سطح الأرض يقل احتمالُ تحجُّرِها أكثر من هذا بكثير؛ فأي حيوان يموت على سطح الأرض يُحتمَل — بالتأكيد — أن تُلتهم بقاياه اللحمية الرخوة ويعاد تدويرها؛ ومع هذا، حتى يتسنَّى الاحتفاظ بهذا الكائن في صورة حفرية، لا بد من أن يُدفَن بشكل من الأشكال. وفي حالات نادرة قد تُدفَن الكائنات سريعًا في انجراف الكثبان الرملية، أو في انهيار طيني، أو تحت رماد بركاني، أو عن طريق أي نوع من الكوارث الأخرى. لكن، في معظم حالات بقايا الحيوانات الأرضية، لا بد من وصولها إلى جدول مائي أو نهر قريب، وينتهي بها الحال في بحيرة أو في قاع البحر؛ حيث يمكن بدْءُ عملية دفنٍ بطيءٍ، تؤدِّي إلى التحجُّر. بعبارة بسيطة، إن الطريق أمام تحجُّر أيٍّ من الكائنات الأرضية يكون أطول بكثير، ومحفوفًا بمخاطر أكبر؛ فكثيرٌ من الحيوانات التي تموت على سطح الأرض تُؤكَل وتصبح بقاياها مبعثرةً بالكامل، لدرجة أن أجزاءها الصلبة يُعاد تدويرها في المحيط الحيوي، في حين تتبعثر الهياكلُ العظمية لكائنات أخرى، لدرجة أن الشظايا المكسورة فقط هي التي تُكمِل الطريقَ فعليًّا نحو عملية الدفن النهائي؛ مما يترك لمحاتٍ محبِطة عن هذه الكائنات؛ إذ لا يحدث إلا في حالاتٍ نادرة للغاية أن تُحفَظ أجزاء رئيسية أو حتى هياكل عظمية كاملة بصورتها المكتمِلة.

لذا، يقضي المنطق بأن هياكل الديناصورات (كحال أي حيوان يعيش على سطح الأرض) لا بد أن تكون نادرةً للغاية، وهي بالفعل كذلك على الرغم من الانطباع الذي تقدِّمه وسائلُ الإعلام أحيانًا.

إنَّ اكتشاف الديناصورات وظهورها داخل سجل الحفريات هو أيضًا عمل غير منتظم وغير مكتمِل بالتأكيد، لأسباب طبيعية إلى حدٍّ كبير؛ فحفظ الحفرية — كما أصبحنا نعرف — هو عملية قائمة على الصدفة وليس عمليةً قائمةً على التخطيط. واكتشاف الحفريات هو أمرٌ عرضي أيضًا؛ نظرًا لأن الطبقات السطحية من الصخور لا تكون مرتَّبةً على نحوٍ منسق مثل صفحات الكتاب حتى يمكن أخذ عينات منها بالترتيب، أو كما يُخيَّل لنا.

إنَّ طبقات الأرض السطحية الهشة نسبيًّا — أو قشرتها بالمسمَّى الجيولوجي — قد تعرَّضَتْ للدمار والتمزيق والانهيار بفِعل القوى الجيولوجية التي أخذت تؤثِّر فيها على مدار عشرات أو مئات أو ملايين السنين، والتي جذبت كتلًا من الأرض بعضها بعيدًا عن بعض أو سحقتها معًا؛ ونتيجةً لهذا، تعرَّضت الطبقات الجيولوجية المحتوية على الحفريات إلى الكسر، وقُذِفت إلى السطح، وكثيرًا ما كانت تُدمَّر بالكامل عن طريق عملية التعرية طوال الزمن الجيولوجي، وتصبح غيرَ واضحة فيما بعدُ بسبب الترسيب المتجدد للفترات اللاحقة؛ وبناءً عليه، فإنَّ ما يبقى لنا — نحن علماء الحفريات — هو «ساحة معركة» شديدة التعقيد، مليئة بالثقوب والحُفَر، ووعرة بطرق متنوعة محيِّرة. وقد كان تحليل هذه «الفوضى» هو العمل الذي اشتغل به عدد لا حصرَ له من أجيال علماء الجيولوجيا الميدانيين. خضعت النتوءات الصخرية هنا والمنحدرات الصخرية هناك للدراسة، وتجمَّعَتْ ببطء لتكوِّن الأحجيةَ التي تُعرَف باسم التكوين الجيولوجي للأرض؛ ونتيجةً لهذا، أصبح من الممكن حاليًّا التعرُّف على صخور تعود إلى حقبة الحياة الوسطى — المنتمية للعصور: الترياسي والجوراسي والطباشيري — بقدرٍ من الدقة في أية دولة في العالم. لكن، لا يكفي هذا للمساعدة في البحث عن الديناصورات؛ فمن الضروري أيضًا التغاضي عن صخور حقبة الحياة الوسطى الموجودة في قاع البحر، مثل الرواسب الطباشيرية السميكة التي تعود إلى العصر الطباشيري والأحجار الجيرية الوفيرة للعصر الجوراسي؛ فإن أفضل أنواع الصخور التي يمكن البحث فيها عن حفريات للديناصورات، هي الموجودة في بيئات المياه الساحلية الضحلة أو في مصبَّات الأنهار؛ فربما تكون قد احتُجِزت في هذه المناطق الجثثُ الفريدة المنتفخة للكائنات التي عاشت على سطح الأرض، ثم جُرِفت إلى مياه البحر. لكن أفضلها على الإطلاق هي رواسب الأنهار والبحيرات؛ وهي بيئات كانت أقرب من الناحية الطبيعية إلى مَوْطِن هذه الكائنات الأرضية.

البحث عن الديناصورات

من البداية، علينا أن نتعامل مع عملية البحث عن الديناصورات بطريقة منظَّمة. وعلى أساس ما تعلمناه حتى الآن، من الضروري في البداية معرفة الأماكن التي يمكن العثور فيها على صخور من العصر المناسب، وذلك بالرجوع إلى الخرائط الجيولوجية للدولة موضع الاهتمام. وما لا يقل أهميةً عن ذلك ضرورةُ التأكُّد من أن الصخور من النوع الذي من المحتمَل على الأقل أنه يحافظ على بقايا الحيوانات الأرضية؛ لذا من الضروري توافُر بعض المعرفة الجيولوجية من أجل الحكم على احتمالية وجود حفريات الديناصورات، خاصةً عند زيارة منطقةٍ ما لأول مرة.

يتطلَّب هذا على الأرجح توافُر معرفةٍ بالصخور وهيئتها في المنطقة التي يُجرى فيها البحث، وهو أمر أشبه إلى حدٍّ ما بالطريقة التي يجب أن يَدرس بها الصيادُ باهتمامٍ شديدٍ المنطقةَ التي تعيش فيها الفريسةُ. يتطلَّب هذا أيضًا تطويرَ «عين راصدة» خبيرةٍ بالحفريات، وهو ما يُكتسَب ببساطة من البحث إلى حين العثور في النهاية على أجزاء الحفرية، ويستغرق هذا وقتًا.

إنَّ لحظة الاكتشاف تكون مصحوبة بدرجة كبيرة من الإثارة، لكن يتعيَّن أيضًا على المكتشِف في هذه اللحظة التزام أقصى درجات الحيطة والحذر؛ ففي كثير من الأحيان، تتلف الحفرياتُ المكتشَفة — من الناحية العلمية — بفِعل ثورة الحماس العارمة التي تعتري المكتشِفَ أثناء الحفر من أجل استخراج العينة، حتى يتمكَّن من الافتخار بعرضها؛ ومثل هذا التسرُّع يمكنه إلحاق ضرر هائل بالحفرية نفسها، وأسوأ من ذلك أن هذا الجسم قد يكون جزءًا من هيكل عظمي أكبر، وربما يكون من المربح أكثر أن ينقِّب عنه بعنايةٍ فريقٌ أكبر من علماء الحفريات المدرَّبين. وبلغة المحقِّقين، إن الصخورَ التي دُفِنَتِ الحفريةُ بداخلها قد تخبرنا أيضًا بقصص مهمة عن الظروف التي مات فيها الحيوانُ ودُفِن، بالإضافة إلى المعلومات الأكثر وضوحًا بشأن العمر الجيولوجي الفعلي للعينة.

إنَّ البحث عن الحفريات — واكتشافها — قد يكون مغامَرةً مثيرةً على المستوى الشخصي، وعمليةً مُبهِرةً من الناحية الفنية، لكنَّ العثور على الحفريات هو مجرد بدايةِ عمليةٍ من البحث العلمي، قد تؤدِّي إلى فهم التكوينِ الحيوي للكائن المتحجر وطريقةِ حياته والعالَمِ الذي عاش فيه في وقت ما. ومن هذا المنطلق الأخير، تظهر بعض أوجه الشبه بين علم الحفريات وعمل الطبيب الشرعي؛ فمن الواضح أن كليهما يشتركان في اهتمامهما الشديد بفهم الملابسات المحيطة باكتشاف الجثمان، ويستخدمان العلم في تفسير وفهم أكبر عدد ممكن من المعلومات والأدلة؛ حتى لا يتركَا بابًا دون طرقه.

اكتشاف ديناصور الإجواندون

بمجرد العثور على الحفرية، لا بد من دراستها علميًّا من أجل الكشف عن هويتها وعلاقتها بالكائنات الأخرى المعروفة، بالإضافة إلى معرفة جوانب أكثر تفصيلًا، مثل شكلها وتكوينها الحيوي وبيئتها. ولتوضيح بعض المِحَن والشدائد المتأصِّلة في أي برنامج استكشافي في علم الحفريات من هذا النوع، سنحلِّل أحدَ أنواع الديناصورات المألوفةِ إلى حدٍّ ما والمدروسةِ جيدًا؛ وهو الإجواندون. وقد اخترنا هذا الديناصور لأن وراءه قصة ممتعة ومناسبة، وهو أحد الديناصورات المألوفة لي؛ لأنه يمثِّل نقطةَ البداية غير المتوقَّعة لمهنتي كعالِم حفريات. يبدو أن الصدفة تعلب دورًا مهمًّا في علم الحفريات، وهذا ينطبق بالتأكيد على عملي.

تغطي قصة الإجواندون تقريبًا تاريخَ البحث العلمي في الديناصورات بأكمله، وكذلك التاريخ الكامل للعلم المعروف حاليًّا باسم علم الحفريات؛ ونتيجةً لهذا، فإن هذا الحيوان يوضِّح دون قصدٍ تطوُّرَ البحث العلمي في مجال الديناصورات (والمجالات الأخرى في علم الحفريات) خلال ٢٠٠ سنة مضت. تُظهِر القصة أيضًا أن العلماء بشر، لديهم عواطف وصراعات، وتُظهِر التأثيرَ المنتشر للنظريات المفضَّلة في أوقات معينة من تاريخ هذا الموضوع.

يرجع تاريخُ السجلات الأولى الحقيقية للعظام المتحجِّرة التي أُطلِق عليها فيما بعدُ اسم «إجواندون» إلى عام ١٨٠٩؛ وهي تشكِّل — من بين أجزاء متكسِّرة من فقرات يصعب تحديدها — الجزءَ السفلي من عظمة ساق كبرى ومميَّزة للغاية، جُمِعت من محجر في قرية كوكفيلد في مقاطعة ساسكس (انظر الشكل ١-٣). جمَعَ هذه الحفريةَ على وجه التحديد ويليام سميث (الذي يُشار إليه دومًا على أنه «أبو الجيولوجيا الإنجليزية»). كان سميث في هذا الوقت يبحث في أول خريطة جيولوجية لبريطانيا، تلك التي انتهى منها في عام ١٨١٥. على الرغم من أن هذه العظام المتحجرة كان من الواضح أنها مثيرة للاهتمام بما يكفي لجَمْعها والاحتفاظ بها (لا تزال موجودةً ضمن مقتنيات متحف التاريخ الطبيعي في لندن)، فإنها لم تخضع لمزيد من الدراسة؛ فقد ظلت العظامُ مهملةً دون التعرُّف على هوِيَّتها حتى طُلِب مني تحديدُ هوِيَّتها في أواخر سبعينيات القرن العشرين.
fig6
شكل ١-٣: أول عظمة من عظام الإجواندون تُكتشَف على الإطلاق، على يد ويليام سميث في قرية كوكفيلد في مقاطعة ساسكس، عام ١٨٠٩.

مع ذلك، كان عام ١٨٠٩ وقتًا مناسبًا على نحو استثنائي لحدوث مثل هذا الاكتشاف؛ فقد كانت أمور كثيرة تحدث في أوروبا في فرع العلوم المختص بالحفريات ومعناها. في ذلك الوقت، كان أحدُ كبار العلماء وأكثرهم تأثيرًا في هذا العصر — جورج كوفييه (١٧٦٩–١٨٣٢) — أحدَ «مؤيدي المذهب الطبيعي»، وكان يعمل في باريس، وقد تَقَلَّد منصبًا إداريًّا في حكومة الإمبراطور نابليون. كان «مؤيدو المذهب الطبيعي» في هذا الوقت يمثلون طيفًا واسع النطاق من العلماء-الفلاسفة العاكفين على دراسة نطاق واسع من الموضوعات المرتبطة بالعالم الطبيعي؛ مثل الأرض وصخورها ومعادنها وحفرياتها، وجميع الكائنات الحية. وفي عام ١٨٠٨، أعاد كوفييه وصْفَ حفرية ضخمة شهيرة لأحد الزواحف، استُخرِجت من محجرٍ طباشيريٍّ في ماستريخت في هولندا؛ وقد نبعت شهرتُها من حقيقة الزعم بأنها كانت إحدى غنائم الحرب خلال حصار جيش نابليون لماستريخت في عام ١٧٩٥. حدَّدَ كوفييه هويةَ هذا الكائن — الذي صُنِّف خطأً في البداية على أنه تمساح — على نحو صحيح، بوصفه سحلية مائية ضخمة (أطلق عليها فيما بعدُ رجلُ الدين الإنجليزي المؤيِّدُ للمذهب الطبيعي القسُّ ويليام دي كونيبير، اسمَ الموزاصور). إن تأثيرَ هذا الاكتشاف (وجود سحلية متحجرة ضخمة الحجم على نحو غير متوقَّع في وقت سابق من تاريخ الأرض) كان عميقًا بالفعل؛ فقد شجَّع البحثَ عن «سحالٍ» ضخمة منقرضة أخرى واكتشافها، وأثبت — دون أي مجال للشك — أن «العوالم المبكرة» السابقة على ظهور الإنجيل كان لها وجود بالفعل، كما حدَّدَ طريقةً معينة للنظر لمثل هذه الكائنات المتحجرة وتفسيرها؛ بوصفها سحاليَ عملاقةً.

عقب هزيمة نابليون واستعادة السلام بين إنجلترا وفرنسا، تمكَّن كوفييه أخيرًا من زيارة إنجلترا في ١٧١٧-١٧١٨، والتقى بعلماء يشاركونه الاهتماماتِ نفسها. وفي أكسفورد عُرِضت عليه بعضُ العظام المتحجرة العملاقة في مجموعات العالِم الجيولوجي ويليام باكلاند؛ بَدَا أن هذه العظام تنتمي لكائن عملاق يشبه السحلية، لكنه هذه المرة يعيش على الأرض، وذكَّرَتْ كوفييه بعظام مشابهة عُثِرَ عليها في نورماندي. أطلق ويليام باكلاند في النهاية على هذا الكائن اسمَ «ميجالوصور» في عام ١٨٢٤ (مع قليل من المساعدة من كونيبير).

fig7
شكل ١-٤: إحدى أسنان الإجواندون الأصلية التي عَثَر عليها مانتل.

مع هذا، من منظور هذه القصة على وجه الخصوص، فإن الاكتشافات المهمة فعليًّا لم تحدث إلا في عام ١٨٢١-١٨٢٢، في المحاجر نفسها، حول مكان يُعرَف باسم وايتمانز جرين في كوكفيلد، زاره ويليام سميث قبل هذا بنحو ١٣ عامًا. في هذا الوقت، كان ثمة طبيب نَشِط وطموح يُدعَى جيديون ألجيرنون مانتل (١٧٩٠–١٨٥٢) يعيش في مدينة لويس، يكرِّس كلَّ وقت فراغه في استكمال تقرير مفصَّل حول التكوين الجيولوجي والحفريات في مقاطعة ويلد مسقط رأسه (وهي منطقة تضمُّ جزءًا كبيرًا من سوري وساسكس وجزءًا من كِنت) في جنوب إنجلترا. انتهى عمله بكتاب ضخم مثير للإعجاب مزوَّد بقدر كافٍ من الصور الإيضاحية نُشِرَ عام ١٨٢٢، وقد احتوى هذا الكتاب على وصف واضح للعديد من أسنان وأضلاع الزواحف الضخمة غير المألوفة، التي لم يستطع تحديد هويتها جيدًا؛ فقد اشترى مانتل كثيرًا من هذه الأسنان من عمَّال المحجر، في حين جمعَتْ زوجتُه — ماري آن — مجموعةً أخرى. شهدت السنوات الثلاث التالية كفاحَ مانتل من أجل تحديد نوع الحيوان الذي ربما تنتمي له هذه الأسنان الضخمة المتحجرة، وعلى الرغم من عدم تدرُّبه في مجال التشريح المقارن (تخصُّص كوفييه)، فإنه أجرى اتصالات مع العديد من الرجال المتعلمين في إنجلترا، على أمل الحصول على بعض المعلومات عن وجود نماذج مشابهة لحفرياته، كما أنه أرسل بعضًا من عيناته الثمينة إلى كوفييه في باريس ليتعرَّف عليها. في البداية، رُفِضت اكتشافاتُ مانتل — حتى من جانب كوفييه — بوصفها أجزاءً من حيوانات حديثة (ربما تكون أسنانًا قاطعةً لحيوان وحيد القرن، أو لإحدى الأسماك العظمية الكبيرة الحجم الآكِلة للشُّعب المرجانية). لم يثبِّط هذا من عزيمة مانتل واستمرَّ في بحث مشكلته، وفي النهاية توصَّلَ إلى حلٍّ محتمَلٍ؛ فقد عُرِض عليه في المجموعات الموجودة بالكلية الملكية للجراحين في لندن هيكلٌ عظمي لسحلية الإجوانا؛ وهي سحلية آكلة للعُشب عُثِر عليها حديثًا في أمريكا الجنوبية. كانت الأسنان تشبه في شكلها العام حفريات مانتل؛ ممَّا أوضح له أن هذه الحفريات تنتمي لحيوان ضخم منقرض آكِل للعُشب، تربطه صلةُ قرابة بالإجوانا التي تعيش في وقتنا الحالي. نشر مانتل تقريرًا عن اكتشافه الجديد في عام ١٨٢٥، ولا عجبَ أن الاسم الذي اختاره لهذا الكائن المتحجِّر كان «إجواندون»؛ إذ يعني هذا الاسم حرفيًّا «سِن الإجوانا»، لكنه ابتُكر بناءً على اقتراحٍ من كونيبير (من الواضح أن تدريب كونيبير وطريقة تفكيره الكلاسيكية منحَاه قدرةً فطريةً على تسمية كثير من هذه الاكتشافات المبكرة).

ليس من الغريب أن هذه الاكتشافات المبكرة — في ظلِّ المقارنات المتاحة في هذا الوقت — أكَّدَتْ وجودَ عالَمٍ قديمٍ عاشت فيه سحالٍ ضخمة على نحوٍ لا يُصدَّق؛ على سبيل المثال: يوضِّح قياسٌ بسيطٌ للأسنان الصغيرة الحجم للإجوانا التي تعيش بيننا (التي يبلغ طولها مترًا واحدًا)، مع أسنان الإجواندون الذي اكتشفه مانتل؛ أن طول جسم الإجواندون يزيد عن ٢٥ مترًا. شعر مانتل بالحماس والشهرة الشخصية بعد وصف الإجواندون؛ ممَّا دفعه إلى بذل مزيد من الجهود من أجل اكتشاف المزيد عن هذا الحيوان والكائنات المتحجرة التي عاشت في مقاطعة ويلد القديمة.

طوال عدة سنوات بعد عام ١٨٢٥، لم تُكتشَف إلا أجزاء من حفريات ويلد، ثم في عام ١٨٣٤ اكتُشِف هيكل عظمي جزئي مفكَّك (الشكل ١-٥) في محجر في بلدة ميدستون في مقاطعة كِنت، وفي النهاية اشتراه مانتل وأطلق عليه اسمَ «قطعة مانتل»، واتضح أنه كان مصدرَ الإلهام وراء كثير من أعماله التالية، ونتج عنه بعض من التصورات الأولى التي ظهرت عن الديناصورات (الشكل ١-٦). استمر مانتل في دراسة تشريح الإجواندون وتكوينه الحيوي في السنوات التالية، لكن معظم هذه الجهود — مع الأسف — غطَّى عليه ظهورُ عدوٍّ شخصي واسع القدرة، وصلاته جيدة، وطَمُوح وقاسي القلب؛ وهو ريتشارد أوين (١٨٠٤–١٨٩٢) (انظر الشكل ١).
fig8
شكل ١-٥: صورة فوتوغرافية ورسم توضيحي ﻟ «قطعة مانتل»؛ وهي عبارة عن هيكل عظمي جزئي اكتُشِف في بلدة ميدستون بمقاطعة كنت في عام ١٨٣٤.
fig9
شكل ١-٦: رسم مانتل التخطيطي الذي يعيد فيه بناءَ شكل الإجواندون (١٨٣٤ تقريبًا).

«اختراع» الديناصورات

كان ريتشارد أوين أصغرَ من مانتل بأربعة عشر عامًا، وقد درس أيضًا الطب، لكنه ركَّز تحديدًا على التشريح. اشتهر أوين بكونه عالِمَ تشريحٍ ماهرًا، وتقلَّدَ منصبًا في الكلية الملكية للجراحين في لندن، وهو ما أتاح له الوصول إلى كمٍّ كبير من المواد المُقارَنة، وسمح له — بكثيرٍ من الجهد والمهارة — بالحصول على لقب «كوفييه الإنجليزي». طوال أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، تمكَّنَ من إقناع الجمعية البريطانية للعلوم بمنحه أموالًا من أجل إعداد تقرير مفصَّل حول جميع ما كان يُعرَف في هذا الوقت باسم حفريات الزواحف البريطانية؛ وقد أدَّى هذا في النهاية إلى نشره سلسلةً من المجلدات الضخمة المزوَّدة بقدرٍ كافٍ من الصور الإيضاحية، على غرار الأعمال ذات الأهمية الكبرى (التي من أبرزها كتابُه «العظام الحفرية» المكوَّن من عدة مجلدات) التي نشرها كوفييه في أوائل هذا القرن، كما أنها قدَّمَتْ دعمًا أكبرَ لسُمعة أوين العلمية.

نتج عن هذا المشروع إصداران مهمَّان: أحدهما في عام ١٨٤٠ عن معظم الحفريات البحرية (الزواحف البحرية المنقرضة «إيناليوصوريا»، على حدِّ تسمية كونيبير)، والآخَر في عام ١٨٤٢ يتحدَّث عن بقية الحفريات، بما في ذلك الإجواندون الذي اكتشفه مانتل. كذلك، فإن تقرير عام ١٨٤٢ هو وثيقة جديرة بالملاحظة بسبب ابتكار أوين تسميةً جديدة، وهي: «القبيلة أو الفئة الفرعية … التي … أَطلقتُ عليها … ديناصوريا». عرَّفَ أوين ثلاثةَ أنواع من الديناصورات في هذا التقرير: إجواندون وهيليوصورس، وكلاهما اكتُشِف في ويلد، وأطلق مانتل عليهما هذين الاسمين؛ وميجالوصور، وهو نوعٌ من الزواحف عملاقٌ من أكسفورد. وأوضح أوين أن الديناصورات أعضاء في مجموعة فريدة وغير معروفة حتى الآن على أساس العديد من الملاحظات التشريحية المفصَّلة والمميزة؛ ومن هذه الملاحظات عظمُ العجز المتضخِّم (جزء بالغ القوة يربط الأردافَ بالعمود الفقري)، والأضلاعُ الثنائية الرأس في منطقة الصدر، وتكوينُ الأرجل الذي يشبه الدعامة (انظر الشكل ١-٧).
fig10
شكل ١-٧: نموذج أُعِيدَ بناؤه لديناصور الميجالوصور لأوين (١٨٥٤ تقريبًا).

عندما راجَعَ أوين كلَّ ديناصور على حدة، اقتطع أبعادَه كثيرًا؛ إذ اقترح أنها كانت ضخمةً، لكنها تراوحت بين ٩ أمتار و١٢ مترًا، بدلًا من الأطوال المبالَغ فيها التي اقترحها كوفييه ومانتل وباكلاند في أوقات سابقة. بالإضافة إلى هذا، فكَّرَ أوين أكثر في تشريح هذه الحيوانات وتكوينها الحيوي، باستخدام مصطلحات لها وقْعٌ استثنائي في ظلِّ التفسيرات الحالية للتكوين الحيوي للديناصورات وطريقة حياتها.

من بين تعليقاته الختامية في التقرير، لاحَظ أن الديناصورات:

بلغت أكبر الأحجام، ولا بد أنها لعبت أبرزَ الأدوار — كلٌّ بحسب طبيعته كأنواع ملتهمة للحيوانات وأخرى آكِلة للخضراوات — التي شهدتها هذه الأرض على الإطلاق، في الكائنات التي تبيض وتندرج ضمن ذوات الدم البارد.

(أوين ١٨٤٢)
وكذلك قوله:

إن الديناصورات ذات التكوين الصدري المماثِل للتمساح، يمكن استنتاج أنه كان بها قلب ذو أربع حجرات … يقترب إلى حدٍّ كبير من القلب الذي يميِّز حاليًّا الثدييات ذوات الدم الحار.

(المرجع نفسه)

من ثمَّ، تَصوَّر أوين كائنات ضخمة شديدة الاكتناز، لكنها تبيض ولديها حراشف (لأنها ما زالت من الزواحف)، تشبه أكبرَ الثدييات الموجودة في المناطق الاستوائية على الأرض في وقتنا الحالي؛ ومن ثمَّ كانت ديناصوراته في الواقع أبرزَ الكائنات على سطح الأرض في وقتٍ كانت فيه السيادةُ للزواحف التي تبيض وجلدها مغطًّى بالحراشف. لقد كانت ديناصورات أوين النظيرَ المكافئ في العالَمِ القديم للأفيال وحيوانات وحيد القرن وفرس النهر في عصرنا الحالي. وعند النظر إلى هذه الفكرة بمنطق الاستنتاج العلمي المحض، استنادًا إلى هذه الآثار القليلة، نجد أن هذه الفكرة لم تكن حاسمةً على نحو رائع فحسب، بل كانت أيضًا في مجملها رؤيةً جديدةً ومبتكَرةً لكائنات من الماضي السحيق. إن مثل هذه الرؤية المذهلة تكون أكثرَ جاذبيةً وتشويقًا عند مقارنتها بنماذج «السحالي العملاقة»، على الرغم من أن هذه النماذج كانت تمثِّل تفسيراتٍ عقلانيةً ومنطقيةً تمامًا، قامت على مبادئ كوفييه المتعارَف عليها والمُحترِمة للتشريح المُقارَن.

كان لابتكار فئة «ديناصوريا» أهداف أخرى مهمة في هذا الوقت؛ فقد قدَّمَتِ التقاريرُ أيضًا تفنيدًا شاملًا لحركتَيِ الارتقاء والتحوُّل داخل مجالات الأحياء والجيولوجيا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. أشار مؤيِّدو حركة الارتقاء إلى أن السجل الحفري بَدَا أنه يشير إلى أن الحياة أصبحت تدريجيًّا أكثرَ تعقيدًا؛ إذ أظهرت أقدمُ الصخور أبسطَ صور الحياة، بينما أظهرَتِ الصخورُ الأكثر حداثةً أدلةً على كائنات أكثر تعقيدًا. أما مؤيِّدو حركة التحوُّل، فقد أشاروا إلى أن أفراد النوع الواحد ليسوا متماثلين، وفكَّروا فيما إذا كان هذا التنوُّع قد يسمح أيضًا للأنواع بالتغيُّر بمرور الوقت. اقترح جان بابتيست دي لامارك — زميل كوفييه في باريس — أن أنواع الحيوانات قد تتحوَّل، أو تتغيَّر، في شكلها بمرور الوقت عن طريق توارث الصفات المُكتسَبة. تحدَّتْ هذه الأفكارُ المعتقَدَ السائد والمستمَد من الإنجيل بأن الله قد خلق كل الكائنات الموجودة على سطح الأرض؛ وخضعَتْ لمناقشة حادة على نطاق واسع.

قَدَّمت الديناصورات — وفي الواقع، كثيرٌ من مجموعات الكائنات الموضَّحة في تقارير أوين ذات الطابع الورِع — دليلًا على أن الحياة على الأرض لم تزدَدْ تعقيدًا بمرور الوقت، بل إن العكس هو الصحيح في حقيقة الأمر؛ فقد كانت الديناصورات من الناحية التشريحية نوعًا من الزواحف (بمعنى أنها تنتمي للفئة العامة من الفقاريات الواضِعة للبيض ذات الدم البارد والحراشف)، لكن الزواحف التي تعيش حاليًّا هي فئة أبسط من الكائنات عند مقارنتها بديناصورات أوين الضخمة، التي عاشت خلال حقبة الحياة الوسطى. باختصار، حاوَلَ أوين قمْعَ المذهب العقلي المتطرِّف المدفوع بالآراء العلمية في هذا الوقت، من أجل إعادة ترسيخ فهْمٍ لتنوُّع الحياة يقترب في الأساس الذي يستند إليه من وجهات النظر التي تبنَّاها القَسُّ ويليام بيلي في كتابه «اللاهوت الطبيعي»، الذي أظهر فيه أن الله هو صاحب الدور المحوري بوصفه خالِقَ كلِّ الكائنات الموجودة في الطبيعة وصانِعَها.

ازدادت شهرةُ أوين باطرادٍ خلال أربعينيات القرن التاسع عشر وخمسينياته، وأصبح مشاركًا في اللجان المَعنيَّة بالتخطيط للمعرض الكبير الذي نُقِل من مكانه في عام ١٨٥٤. ومن الحقائق المثيرة للاهتمام أن أوين — على الرغم من كل شهرته المتزايدة — لم يكن الاسمَ الأول المرشَّح لمنصب المدير العلمي المشرف على تركيب الديناصورات، وإنما كان المُرشَّحُ الأول هو جيديون مانتل. رفضَ مانتل المنصبَ لاعتلال صحته المستمر، وأيضًا لأنه كان حَذِرًا للغاية من المخاطر المرتبطة بتعميم النشاط العلمي، لا سيَّما مخاطر العرض المغلوط للأفكار غير المكتمِلة.

انتهت قصة مانتل بمأساة؛ فقد أدَّى انشغالُه بالحفريات وإنشاءُ متحف شخصي، إلى انهيار مهنته كطبيب، وتفكَّكت أسرته (تركَتْه زوجته، وهاجَرَ أبناؤه الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة، بمجرد بلوغهم السنَّ التي تخوِّل لهم ترْكَ المنزل). إنَّ قراءةَ مذكراته التي واظَبَ على كتابتها على مدى وقت طويل من حياته، تبعث الحزنَ في النفس؛ فقد عاش وحيدًا في السنوات الأخيرة من عمره، وعانى من ألمٍ مزمنٍ في ظهره، وتُوفي إثرَ تناوُلِه جرعة زائدة من صبغة الأفيون.

على الرغم من تفوُّق أوين — العالِم الطموح الذكي الذي يخصِّص كامِلَ وقته لهذا العمل — عليه، فإن مانتل قضى جزءًا كبيرًا من العقد الأخير في حياته في إجراء أبحاثٍ على ديناصور الإجواندون الذي اكتشفه، فأصدر سلسلةً من المقالات العلمية وكُتبًا شهيرةً للغاية تلخِّص كثيرًا من اكتشافاته الحديثة، وكان أول مَن أدرَكَ (في عام ١٨٥١) أن وجهة نظر أوين بشأن الديناصورات (أو على الأقل بشأن الإجواندون) بوصفها زواحفَ ضخمةً قوية، هي على الأرجح وجهةُ نظر خاطئة. هذا وقد أظهرَتِ الاكتشافاتُ الأخرى لفكوك بها أسنان، والمزيدُ من التحليل للهيكل العظمي الجزئي (قطعة مانتل)؛ أن الإجواندون كان يتمتع بأرجلٍ خلفية قوية وأطرافٍ أمامية أصغر حجمًا وأضعف؛ ونتيجةً لهذا، استنتج مانتل أن وضعية هذا الديناصور ربما تحمل أوجُهَ تشابُهٍ كثيرةً للغاية مع الوضعية «المنتصِبة» الظاهرة في إعادة تجميع حيوانات الكسلان الأرضية العملاقة (للمفارقة، استوحى هذا من وصف أوين المفصَّل لحفرية حيوان كسلان أرضي، يُعرَف باسم ميلودون). للأسف، لم يلتفت أحدٌ إلى هذا العمل، ويرجع السبب في هذا — إلى حد كبير — إلى الحماس والدعاية التي أحاطت بنماذج ديناصورات أوين في القصر البلوري. ولم تتضح حقيقةُ شكوك مانتل وقوةُ تفكيره إلا بعد ٣٠ سنة أخرى، وعن طريق مصادفة أخرى عجيبة.

إعادة تجميع الإجواندون

في عام ١٨٧٨ حدثَتِ اكتشافات مهمة في منجمٍ للفحم في قرية صغيرة في برنيسارت في بلجيكا؛ فعُمَّالُ المنجم، الذين كانوا ينقِّبون في طبقة من الفحم على عُمق يزيد عن ٣٠٠ متر تحت سطح الأرض، ارتطمَتْ أدواتُهم فجأةً بطَفْل في طبقة الفحم (طين ناعم صفائحي)، ثم ما لبثوا أن عثروا على ما بَدَا مثل قِطَع كبيرة من الخشب المتفحِّم، وقد جُمِعت هذه القطع بشغف شديد؛ لأنها بَدَتْ مليئةً بالذهب! وعند فحصها عن قرب، اتضح أن هذا الخشب ما هو إلا عظام متحجرة، وأن الذهب ما هو إلا «ذهب الحمقى» (بيريت الحديد). اكتُشِف أيضًا قليلٌ من الأسنان المتحجرة بين العظام، وتحدَّد أنها تشبه الأسنان التي وصفها مانتل قبل سنوات عديدة وأشار إلى أنها تنتمي للإجواندون؛ فما اكتشفه عُمَّال المنجم بالمصادفة لم يكن ذهبًا، بل كان كنزًا دفينًا حقيقيًّا من هياكل مكتمِلة لديناصورات.

على مدار السنوات الخمس التالية لذلك، استخرج فريق من عُمَّال المناجم والعلماء من المتحف البلجيكي الملكي للتاريخ الطبيعي في بروكسل (الذي أصبح حاليًّا يُعرف باسم المعهد الملكي للعلوم الطبيعية)، نحوَ ٤٠ هيكلًا عظميًّا لديناصور الإجواندون، بالإضافة إلى عدد هائل من الحيوانات والنباتات الأخرى التي حُفِظت بقاياها في الصخور الطينية نفسها. كانت هياكل كثيرة لهذا الديناصور مكتمِلةً ومترابطةً بالكامل، وكانت تمثِّل أروعَ اكتشاف ظهر في أي مكان في العالم في ذلك الوقت. ولعب حُسْنُ الحظِّ دورًا كبيرًا في حياة عالِم شاب في بروكسل، يُدعَى لويس دولو (١٨٥٧–١٩٣١)؛ حيث تمكَّنَ من دراسة هذه الثروات الاستثنائية ووصفها، وقد عكف على هذا من عام ١٨٨٢ حتى تقاعده في عشرينيات القرن العشرين.

fig11
شكل ١-٨: لويس دولو (١٨٥٧–١٩٣١).
أخيرًا، أظهرت هياكلُ الديناصورات المكتمِلة التي استُخرِجت من برنيسارت، أن نموذج أوين للديناصورات، مثل الإجواندون، لم يكن صحيحًا؛ فكما اعتقد مانتل لم تكن الأطرافُ الأمامية في نفس قوةِ وكِبَرِ حجم الأرجل الخلفية، في حين كان للحيوان ذيل ضخم (انظر الشكل ١-٩)، وأبعادُ جسمه بوجه عام تشبه أبعادَ جسمِ كنغر ضخمٍ.

إنَّ ترميم الهياكل العظمية، والطريقة التي يُنفَّذ بها، يكشفان عن دلالات خاصة؛ إذ إنهما يُظهِران مدى تأثير التفسيرات المعاصرة لشكل الديناصورات وأوجه الشبه بينها، على عمل دولو. وُجِّهت شكوكٌ إلى تصوُّر أوين للديناصورات على أنها «زواحف هائلة الحجم» في وقت مبكر في عام ١٨٥٩، بسبب بعض الاكتشافات المثيرة لديناصورات غير مكتمِلة في ولاية نيوجرسي درسها جوزيف ليدي، الذي كانت له المكانةُ العلمية نفسها التي كانت لأوين، وكان مقرُّ عمله في أكاديمية العلوم الطبيعية في فيلادلفيا. إلا أن أوين سيتعرَّض لنقد أكثر حدةً بكثير من عالِم شاب طموح منافِس له يعيش في لندن، وهو توماس هنري هكسلي (١٨٢٥–١٨٩٥).

fig12
شكل ١-٩: رسم لهيكل عظمي يخص ديناصور الإجواندون.
في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر ظهرت اكتشافاتٌ جديدة زادت كثيرًا من الجدل الدائر حول العلاقات القائمة بين الديناصورات والحيوانات الأخرى؛ فقد اكتُشِفت أول حفرية محفوظة جيدًا لطائر (يُسمَّى أركيوبتركس أو «الجناح العتيق») في ألمانيا (الشكل ١-١٠)؛ اشتراه في النهاية من مكتشِفه الخاص متحفُ التاريخ الطبيعي في لندن، وقدَّمَ ريتشارد أوين وصفًا له في عام ١٨٦٣. كانت هذه العينة استثنائيةً؛ إذ وُجِدت بها آثار محفوظة جيدًا للريش الذي هو العلامة المميِّزة الأساسية لأي طائر، وكانت هذه الآثارُ تشكِّل هالةً في التكوين الصخري حول الهيكل العظمي، إلا أنها لم تكن تشبه أيَّ طائر على قيد الحياة، وإنما كانت تشبه — على نحوٍ مُربِكٍ — الزواحفَ الحديثة؛ فقد كان لدى الهيكل أيضًا ثلاث أصابع طويلة في كل يد، تنتهي بمخالب حادة، وكانت لديه أسنان في فكَّيْه، وذيل عظمي طويل (ربما تمتلك بعض الطيور التي تعيش في الوقت الحالي ذيولًا طويلة، لكن ليس هذا سوى شكل الريش الملتصق بجزء قصير من الذيل).
fig13
شكل ١-١٠: عينة لحفرية أركيوبتركس محفوظة جيدًا، اكتُشِفت عام ١٨٧٦ (يبلغ طولها ٤٠ سنتيمترًا تقريبًا).
لم يمضِ وقت طويل على اكتشاف أركيوبتركس حتى عُثِر على هيكل عظمي آخَر صغير محفوظ جيدًا في المحاجر نفسها بألمانيا (الشكل ١-١١)؛ لم تكن به أيُّ آثارٍ لريش، وكانت ذراعاه قصيرتين للغاية بحيث يصعب استخدامهما كجناحين على أية حال، وكان من الواضح من الناحية التشريحية أنه ديناصور مفترِس صغير، وسُمِّيَ «كومبسوجناثز» (بمعنى الفك الجميل).
fig14
شكل ١-١١: الهيكل العظمي لديناصور كومبسوجناثز (يبلغ طوله ٧٠ سنتيمترًا تقريبًا).

ظهر هذان الاكتشافان في وقت حساس على وجه الخصوص من الناحية العلمية؛ ففي عام ١٨٥٩، قبل عام تقريبًا من اكتشاف الأركيوبتركس، نشر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع». قدَّم هذا الكتاب عرضًا مفصَّلًا للغاية للأدلة المؤيِّدة للأفكار التي طرحها مؤيِّدو حركتَيِ الارتقاء والتحوُّل المشار إليهما آنفًا، وأهم من ذلك أن داروين اقترح آليةً — هي الانتقاء الطبيعي — تعبِّر عن الطريقة التي ربما تحدث بها هذه التحوُّلات، والطريقة التي تظهر بها الأنواع الجديدة على كوكب الأرض. أثار الكتاب الاهتمام في ذلك الوقت؛ لأنه قدَّم تحديًا مباشرًا لسلطة التعاليم الإنجيلية المعترَف بها عالميًّا تقريبًا، من خلال الإشارة إلى أن الله لم يخلق كلَّ الأنواع المعروفة في العالَمِ مباشَرةً. عارضت الشخصياتُ البارزة في المؤسسات الدينية، أمثال ريتشارد أوين، أفكارَ داروين، وفي المقابل، كان ردُّ فعل المفكرين الثوريين إيجابيًّا للغاية تجاه أفكار داروين؛ فيقال إن توماس هكسلي صرَّحَ — عقب قراءة كتاب داروين — قائلًا: «إنه لَغباءٌ مني للغاية ألَّا أفكِّر في هذا!»

على الرغم من عدم رغبة هكسلي في التورُّط كثيرًا في المسائل الداروينية، فإن ما حدث هو أنه تعرَّض إلى الاكتشافات الخاصة بالديناصورات في بعض المناقشات؛ إذ أدرك هكسلي سريعًا أن هيكلَيِ الأركيوبتركس والديناصور المفترس الصغير كومبسوجناثز متماثِلان تشريحيًّا، وفي أوائل السبعينيات من القرن التاسع عشر، اقترح هكسلي أن الطيور والديناصورات ليست متماثِلةً من الناحية التشريحية فحسب، وإنما استخدَمَ هذا الدليل من أجل دعم نظرية أن الطيور قد تطوَّرت من الديناصورات. كانت الساحةُ ممهِّدةً في كثير من النواحي لظهور اكتشافات في بلجيكا، وفي أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، أدرك لويس دولو — الطالب الشاب الذكي — تمامًا العداواتِ بين أوين-هكسلي وداروين، وكان لا بد من طرح سؤال مُلِحٍّ في هذا السياق، وهو: هل كانت لهذه الاكتشافات الجديدة أية صلة بالجدل العلمي الكبير القائم في ذلك الوقت؟

أظهرت الدراسة التشريحية الدقيقة للهيكل الكامل للإجواندون أن تكوين الورك لديه يجعله ينتمي إلى المجموعة المعروفة باسم طيريات الورك. بالإضافة إلى هذا، كانت رجلاه الخلفيتان طويلتين وفي نهاية كلٍّ منهما قدمٌ ضخمة، لكنها تشبه بالتأكيد أقدام الطيور التي تكون بها ثلاثُ أصابع (تشبه في شكلها كثيرًا أقدامَ بعضٍ من أكبر الطيور المعروفة التي تعيش على الأرض، مثل طائر الإيمو). كذلك، كانت رقبة هذا الديناصور مقوَّسةً تشبه رقبةَ الطيور، وكان طرفَا فكَّيْه العلوي والسفلي خاليَيْن من الأسنان ومغطَّيَيْن مجددًا بمنقار قرني يشبه منقار الطيور. وفي ظل مهمة الوصف والتفسير التي وجد دولو نفسه أمامها عقب هذه الاكتشافات المثيرة مباشَرةً، يجدر بنا أن نشير إلى أنه أمكَن رؤية هيكلين لكائنين أستراليين؛ هما: الولب — أحد أنواع الكنغر — وطائر ضخم لا يطير يُعرَف باسم الشبنم، بجوار الهيكل العظمي الضخم للديناصور، وذلك في الصور الفوتوغرافية الأولى التي الْتُقِطت في وقت إعادة تجميع الهيكل العظمي الأول في بروكسل.

لا شك أن الجدل المحتدم في إنجلترا كان له تأثيره؛ فقد اتضحَتْ من هذا الاكتشاف الجديد الحقيقةُ المتضمنةُ في حُجج هكسلي، وتبيَّنَ أن مانتل كان يسير على النهج الصحيح في عام ١٨٥١؛ فلم يكن الإجواندون وحيد قرن مغطًّى بالحراشف، يمشي متثاقلًا، مثلما صوَّره أوين في نماذجه عام ١٨٥٤، بل كان كائنًا ضخمًا يشبه في وضعيته كنغرًا مضجعًا، لكنه يتَّسِم بعدد من صفات الطيور، تمامًا كما تنبَّأَتْ نظريةُ هكسلي.

fig15
شكل ١-١٢: إعادة تجميع هيكل الإجواندون في متحف التاريخ الطبيعي في بروكسل عام ١٨٧٨. لاحِظْ هيكلَيِ الشبنم والولب المُستخدَميْن في المقارنة.

أثبتَ دولو بسهولة أنه يتمتع بحسِّ ابتكارٍ لا ينضب في أسلوب تعامُله مع حفريات الكائنات التي وصفها؛ فقد شرَّحَ تماسيح وطيورًا من أجل التوصُّل إلى فهمٍ أفضل للتكوين الحيوي والجهاز العضلي المفصَّل لهذه الحيوانات، ولكيفية استخدام هذا في التعرُّف على الأنسجة الرخوة للديناصورات التي كان يعمل عليها. كان يستخدم بالتأكيد أسلوبَ الطبِّ الشرعي في كثيرٍ من النواحي من أجل فهم هذه الحفريات الغامضة. اعتُبِر دولو مبتكِرَ أسلوب جديد في علم الحفريات؛ وهو ما أصبح يُعرَف باسم علم الدراسة الحيوية للحفريات. أثبتَ دولو أن علم الحفريات يجب أن يتوسَّع ليشمل دراسةَ التكوين الحيوي، وبالتبعية دراسة بيئة هذه الكائنات المنقرضة وسلوكها، وكان آخِرَ إسهاماته في قصة الإجواندون بحثٌ نشره في عام ١٩٢٣ تكريمًا لمئوية اكتشافات مانتل الأصلية؛ إذ لخَّصَ باختصارٍ مفيدٍ وجهاتِ نظره عن هذا الديناصور، وعرَّفَه على أنه النظيرُ البيئي من فئة الديناصورات المكافِئُ للزرافة (أو هو في الواقع حيوان الكسلان الأرضي الضخم الذي قدَّمَه مانتل). استنتج دولو أن وضعية جسمه مكَّنتْه من الوصول إلى أعالي الأشجار لجمع طعامه، الذي كان يستطيع إدخالَه في فمه باستخدام لسان عضلي طويل، وكان يستخدم منقارَه الحاد في قطع جذوع النبات القوية، في حين كانت الأسنان المميزة تُستخدَم في طحن الطعام قبل بلعه. أُقِرَّ هذا التفسيرُ البالغ الدقة بشدة؛ نظرًا لاعتماده على هياكل عظمية مكتمِلة ومتَّصِلة؛ لذا ظلَّ راسخًا — حرفيًّا ومجازيًّا — دون الطعن فيه على مدى السنوات الستين التالية لذلك. وممَّا دعم هذا توزيعُ نُسَخٍ طِبْق الأصل من هياكل مركَّبة للإجواندون من بروكسل، على كثيرٍ من المتاحف الكبرى حول العالَم خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، وكذلك توزيع كثير من الكتب الشهيرة والمؤثِّرة التي كُتِبت حول الموضوع.

تدهور علم حفريات الديناصورات

من المفارقة أن اكتمالَ عمل دولو المميَّز عن هذا الديناصور، والاعترافَ العالمي به بوصفه مبتكِرَ عِلْمِ الدراسة الحيوية للحفريات في عشرينيات القرن العشرين؛ قد شكَّلَا بدايةَ تدهورٍ خطيرٍ في الأهمية الملحوظة لهذا المجال البحثي على ساحة العلوم الطبيعية الأشمل.

في الفترة ما بين منتصف العشرينيات ومنتصف الستينيات من القرن العشرين، شهد علم الحفريات — لا سيَّما دراسة الديناصورات — ركودًا غير متوقَّع. كان حماس الاكتشافات المبكرة، خاصةً تلك التي حدثت في أوروبا، قد تبعَتْه «حروبُ الأحافير» الأكثر إثارةً التي استحوذَتْ على أمريكا طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد تمحورت هذه الحروب حول سباق محتدم — وأحيانًا عنيف — لاكتشاف ديناصورات جديدة وتسميتها، واتَّسَم هذا السباق بكل السمات التي جعلت منه النظيرَ الأكاديمي لصراعات «الغرب المتوحش»؛ وكان في صدارة هذه الحروب إدوارد درينكر كوب (تلميذ الأستاذ المهذَّب والمتواضِع جوزيف ليدي)، و«معارِضه» أوثنيل تشارلز مارش من جامعة ييل؛ فقد استأجرَا عصابات من قُطَّاع الطرق للتجوُّل في وسط غرب أمريكا من أجل جمع أكبر عددٍ ممكن من العظام الجديدة التي تخصُّ ديناصورات؛ ونتجَ عن هذه «الحرب» ثورةٌ عارمة في الإصدارات العلمية التي تطلق أسماءً على عشرات من الديناصورات الجديدة، وما زال الكثير من هذه الأسماء يتردَّد صداه حتى عصرنا الحالي، مثل البرونتوصور والستيجوصور والتريسيراتوبس والديبلودوكس.

ظهرت اكتشافاتٌ أخرى على القدر نفسه من الإثارة والتشويق — بالمصادفة إلى حدٍّ ما — في أوائل القرن العشرين في أماكن أجنبية؛ مثل منغوليا على يد روي تشابمان أندروز من المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك (وهو البطل/المُستكشِف الحقيقي الذي قامت عليه قصةُ «إنديانا جونز» الخرافية)، وكذلك في شرق أفريقيا الألمانية (تَنْزانيا) على يد فرنر يانينش من متحف التاريخ الطبيعي في برلين.

توالى اكتشاف المزيد من الديناصورات الجديدة وتسميتها في أماكن مختلفة حول العالم، وعلى الرغم من أنها كانت تمثِّل قِطعًا محوريةً مُبهِرةً في المتاحف، فقد بَدَا أن ما يفعله علماء الحفريات لا يزيد عن إضافة أسماء جديدة إلى قائمة الكائنات المنقرضة. ساد شعورٌ بالفشل، لدرجة أن البعض استخدم الديناصورات كأمثلةٍ على نظرية الانقراض استنادًا إلى «كهولة العِرق»؛ فتمثَّلت الأطروحة العامة في أنها عاشت لفترة طويلة للغاية جعلت ببساطة تكوينَها الوراثي يُستنفَد، ويصبح غيرَ قادر على إحداث التجدُّد الضروري لبقاء الفئة بأكملها على قيد الحياة. وقد دعم هذا الأمر فكرةَ أن الديناصورات كانت مجرد تجربة في عملية تصميم الحيوانات وتطوُّرها، وقد تخطَّاها العالَمُ في النهاية.

لا عجبَ إذن أن كثيرًا من علماء الأحياء والمُنظِّرين بدءوا في النظر إلى هذا المجال البحثي على نحوٍ أكثر استياءً، كما أن الاكتشافات الجديدة — على الرغم ممَّا كان بها من إثارة لا يمكن إنكارها — لم تكن تقدِّم أيةَ معلومات بإمكانها إرشادنا في اتجاه بعينه. كان الاكتشاف يتطلَّب إجراءاتٍ شكليةً تتمثَّل في وصف هذه الكائنات وتسميتها، لكن فيما وراء هذا بَدَا الاهتمامُ كلُّه مُنْصَبًّا على تنظيم المتاحف وتنسيقها؛ بصراحةٍ أكبرَ كان يُنظَر إلى هذا العمل على أنه لا يختلف أبدًا عن «جمع الطوابع»؛ فقد أمَدَّتْنا الديناصورات — وكثير من اكتشافات الحفريات الأخرى — بلمحات عن تنوُّع أشكال الحياة داخل السجلِّ الحَفري، لكن بخلاف هذا بَدَتْ قيمتُها العلمية موضعَ شكٍّ.

برَّرت عواملُ كثيرةٌ هذا التغيُّرَ في وجهة النظر؛ فقدَّم عمل جريجور مِندل (الذي نُشِر عام ١٨٦٦، لكنه أُهمِل حتى عام ١٩٠٠) عن قوانين الوراثة الجُسيمية (علم الوراثة)، الآليةَ الأساسية لدعم نظرية داروين عن التطوُّر عن طريق الانتقاء الطبيعي. اندمج عمل مندل على نحو رائع مع نظرية داروين من أجل ابتكار «الداروينية الجديدة» في ثلاثينيات القرن العشرين، وبضربة واحدة، استطاع علمُ الوراثة لمِندل أن يقدِّم حلًّا لواحدة من أكثر المخاوف الأساسية لدى داروين بشأن نظريته؛ وهي كيفية انتقال الصفات المستحسنة (الجينات أو الأليلات بلغة مِندل الجديدة) من جيل إلى جيل. ففي ظل عدم وجود أية آلية أفضل لفهم الوراثة في منتصف القرن التاسع عشر، افترض داروين أن الصفات أو السمات — وهي الخصائص المعرَّضة للانتقاء وفقًا لنظريته — تمتزج عندما يرثها الجيلُ التالي؛ إلا أن هذا كان خطأً فادحًا؛ لأن داروين أدرك أن الصفات المستحسنة سيقلُّ وجودها في حال امتزاجها أثناء عملية التكاثُر من جيل إلى جيل. أوضحَتِ الداروينية الجديدة الأمورَ كثيرًا، فقدَّمَ علمُ الوراثة لمِندل قدرًا من الدقة الرياضية للنظرية، وسرعان ما أنشأ هذا الحقل المُعاد إحياؤه سبلًا بحثية جديدة؛ فأدى إلى العلوم الجديدة المتمثِّلة في علم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي، واكتمل بنموذج كريك وواطسون للحمض النووي المنقوص الأكسجين «دي إن إيه» في عام ١٩٥٣، بالإضافة إلى تطورات هائلة في مجالَيِ التطوُّر السلوكي وعلم البيئة التطوري.

للأسف، لم يكن هذا الأساس الفِكري الخصب متاحًا بمثل هذا الوضوح لعلماء الحفريات. من البديهي أن الآليات الوراثية لا يمكن دراستها في الكائنات المتحجِّرة؛ لذا بَدَا أنها لا تستطيع تقديمَ أيِّ دليل ماديٍّ للاتجاه الفكري للدراسات التطوُّرية خلال قدرٍ كبير من الفترة المتبقية من القرن العشرين. وقد توقَّعَ داروين بالفعل القيودَ المتعلِّقة بعلم الحفريات في سياق نظريته الجديدة؛ إذ أشار — باستخدام منطقه الفريد — إلى الإسهام المحدود الذي يمكن أن تقدِّمَه الحفرياتُ في أي مناقشاتٍ تتعلَّق بنظريته الجديدة عن التطوُّر؛ ففي فصلٍ في كتابه «أصل الأنواع» — مخصَّصٍ لموضوع «عيوب السجل الحفري» — أشار داروين إلى أنه على الرغم من أن الحفريات قدَّمَتْ دليلًا ماديًّا على التطور خلال تاريخ الحياة على الأرض (مشيرًا إلى حُججِ مؤيِّدي نظرية الارتقاء القديمة)، فإن التسلسلَ الجيولوجي للصخور والسجلَّ الحفري المتضمَّن داخلها غير مكتمِلين للأسف. ومن خلال تشبيه السجلِّ الجيولوجي بكتابٍ يسجِّل تاريخَ الحياة على الأرض، كتبَ يقول:

… من هذا المجلد، لم يُحفَظ إلا فصلٌ قصير هنا وهناك، ومن كل صفحة لا يوجد إلا سطورٌ قليلة هنا وهناك.

(داروين، ١٨٨٢، الطبعة السادسة)

الدراسة الحيوية لحفريات الديناصورات: بداية جديدة

لم تعاوِد دراسةُ الحفريات الظهورَ مرةً أخرى بوصفها موضوعًا يستحوذ على اهتمامٍ أكثرَ شمولًا وأوسعَ نطاقًا، إلا في فترة الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين؛ وكان الدافع الأساسي لإعادة إحياء هذه الدراسة جيلٌ من العلماء الشباب أصحاب الفِكر التطوري، الذين كانوا يرغبون بشدة في إثبات أن الدليل المستمَد من السجل الحفري لم يكن على الإطلاق «سرًّا خفيًّا» داروينيًّا. استند هذا العمل الجديد إلى افتراضٍ مفادُه أنه بينما يكون علماء الأحياء التطوريون مقيَّدين بالعمل مع الحيوانات الحية في عالَمٍ ثنائيِّ الأبعاد في الأساس — إذ يستطيعون دراسةَ الأنواع لكنهم لا يشهدون ظهورَ أنواع جديدة — فإن علماء الحفريات، في المقابل، يمارسون عملَهم في البُعْد الثالث المتمثِّل في الزمن. والسجل الحفري يوفِّر الوقتَ الكافي الذي يسمح بظهورِ أنواع جديدة وانقراضِ أنواع أخرى، ويسمح هذا لعلماء الحفريات بطرح أسئلة تتعلَّق بمشكلات التطوُّر، مثل: هل يقدِّم الجدولُ الزمني الجيولوجي منظورًا إضافيًّا (أو مختلفًا) لعملية التطوُّر؟ وهل يحتوي السجلُّ الحفري على معلومات كافية تُمكِّننا من دراسته منفصِلًا، من أجل الكشف عن بعض الأسرار التطوُّرية؟

بدأت الدراسات المفصَّلة للسجل الجيولوجي في إظهار تتابعاتٍ غنية من الحفريات (خاصةً الكائنات البحرية الصَّدَفية)، وبَدَتْ تلك الحفريات أكثرَ ثراءً بكثيرٍ ممَّا تخيَّله تشارلز داروين على الإطلاق؛ نظرًا للحداثة النسبية لعمل علماء الحفريات في منتصف القرن التاسع عشر. وانبثقت عن هذا العمل ملاحظاتٌ ونظرياتٌ تتحدَّى وجهاتِ نظر علماء الأحياء عن أساليب التطوُّر الحيوي، على مدار فترات طويلة من الزمن الجيولوجي؛ فقد وُثِّقت أحداثٌ وعصورٌ من الانقراض العالمي الضخم المفاجئ للحيوانات، لم يكن من الممكن توقُّعها من نظرية داروين. بدا أن مثل هذه الأحداث تعيد ترتيبَ الجدول الزمني التطوُّري للحياة في لحظة افتراضيةٍ، وتُرجِعه إلى وضع البداية؛ وحثَّ هذا بعضَ المُنظِّرين على تبنِّي وجهةِ نظرٍ أكثر «عَرَضيةً» أو «تصادُفيةً» لتاريخ الحياة على الأرض؛ فبَدَا من الممكن إثبات التغيُّرات الواسعة النطاق — أو التي نتجت عن التطوُّر الكلي — في التنوع الحيواني العالمي بمرور الوقت، ومرةً أخرى لم نتوقَّع هذه التغييرات بناءً على نظرية داروين؛ ومن ثمَّ تطلَّبَتْ تفسيرًا.

مع هذا، من الجدير بالذكر أن نايلز إلدريدج وستيفن جاي جولد وَضَعا نظريةَ «التوازن المتقطِّع»؛ فقد اقترحَا أن النسخ البيولوجية الحديثة من نظرية التطوُّر بحاجةٍ إلى التوسُّع، أو التعديل، حتى تتلاءَمَ مع أنماط التغيُّر التي يتكرَّر ظهورُها بين الأنواع في السجل الحفري. اشتملت هذه الأنماط على فترات طويلة من الركود (فترة التوازن)، لم يُلحَظ خلالها إلا تغيراتٌ طفيفة نسبيًّا في الأنواع، وتخلَّلَتْها فتراتٌ (فاصلة) قصيرةٌ للغاية من التغيُّر السريع. لم تتناسب هذه الملاحظات جيدًا مع تنبُّؤات داروين عن التغيُّر البطيء والتدريجي في شكل الأنواع بمرور الوقت (المُسمَّى «التطوُّر التدريجي»). حثَّت هذه الأفكار أيضًا علماءَ الحفريات على التشكيك في المستويات التي قد يكون فيها الانتقاءُ الطبيعي فعَّالًا؛ فربَّما يكون مؤثِّرًا فوق مستوى الفرد في بعض الحالات.

نتيجةً لهذا، أصبح مجال الدراسة الحيوية للحفريات بأكمله أكثرَ نشاطًا وفاعليةً، وأكثرَ طرحًا للتساؤلات، وأكثرَ بحثًا في الأمور الخارجية، كما أصبح مستعِدًّا لدمج عمله على نحوٍ أكثرَ شموليةً مع مجالات أخرى من العلوم؛ فحتى أكثر علماء الأحياء التطوريين تأثيرًا — من أمثال جون ماينارد سميث، الذي لم تكن له أية علاقة بالحفريات على الإطلاق — كانوا مستعِدِّين لتقبُّل أن الدراسة الحيوية للحفريات لها إسهاماتٌ قيِّمةٌ في مجالهم.

في حين كان المجال العام للدراسة الحيوية العلمية للحفريات يُعِيد إثباتَ جدارته، شهدت أيضًا فترةُ منتصف الستينيات من القرن العشرين اكتشافاتٍ مهمةً لديناصورات جديدة، وقُدِّرَ لهذه الاكتشافات أن تكون السببَ في ظهور أفكارٍ لا تزال مهمةً في عصرنا الحالي. وكان مركز هذه النهضة متحف بيبودي في جامعة ييل، وهو مقر العمل الأصلي «لمحارِب الأحافير» أوثنيل تشارلز مارش، إلا أن النهضة هذه المرة كانت على يد جون أوستروم، وهو أستاذ شابٌّ في علم الحفريات لديه اهتمام شديد بالديناصورات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤