الفصل العاشر

١

قُبيل الصباح، ودون سابق إنذار، تحوَّل الجو الحار الخانق الذي لا نسمة فيه إلى عاصفة هائلة ملأت السماء كلها بضوءٍ يُعمي الأبصار وأحاطت الريفَ بأكمله بهدير جامح ناجم عن هبوب الرياح والرعد، ليطلع بعدها الفجر كاشفًا عن حقولٍ مُدمَّرة ومنكوبة وتتناثر فيها أغصان مكسورة، والحديقة المُشرقة صارت مُتضرِّرة ومقصوفة بفعل البرَد.

على الإفطار بدا آنسون أنيقًا حليق الذقن هادئ النفس، كما لو أنه لم يَحدُث أي صراع قبل بضع ساعاتٍ في غرفة الجلوس، كما لو أنَّ الموقف لم يترك أي انطباعٍ على السطح الخارجي الهادئ الذي يُواجه به العالم. صبَّت أوليفيا قهوته في هدوء وسمحت له أن يُقبِّلها كما يفعل كل يومٍ طيلة عشرين عامًا — قُبلةً غريبة وباردة تُطبَع بذهنٍ شارد — ووقفت عند مدخل المنزل تُشاهِدُه ينطلق مبتعدًا بالسيارة إلى محطة القطار. لم يحدث أي تغيير؛ بدا لها أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند صارت عاجزةً عن أي تغيير.

وعندما استدارت موليةً ظهرها للباب، استدعاها بيترز إلى الهاتف لتَستقبِل برقيةً من جان وسيبيل؛ مفادها أنهما تزوَّجا الساعة السابعة بمدينة هارتفورد.

فانطلقَت على الفور تبحث عن جون بينتلاند وبعد بحثٍ عثرَت عليه في ساحة الإسطبل يتحدَّث إلى هيجينز. وقف الثنائي الغريب بجوار الفرس الحمراء، التي أخذت تُراقبهما بعينَين حمراوَين خبيثتَين صغيرتَين؛ كانا يَتبادلان الحديث بتلك الطريقة الحميمية الغريبة التي كانت معهودة منهما عند ذكر الخيول، وبينما كانت تقترب منهما، فوجئت، كما يحدث لها دومًا، بالجمال المتوهِّج للفرس، وبالأَنَفَة البادية من رأسها المنحني، واهتِزاز فتحتي أنفها البديعتَين وهي تتنفَّس، والشراسة في عينَيها. كانت فرسًا غريبةً وجميلةً وخبيثةً بعض الشيء. سمعت أوليفيا هيجينز يقول إنه لا جدوى من محاولة استيلادها … فهذا لن يُجدي نفعًا مع فرسٍ كهذه ترفس وتزعق وتعضُّ لمجرَّد رؤية حصانٍ آخر …

كان هيجينز أول من رآها، ورفع قبَّعته، وحيَّاها، وعندما التفت الرجل المُسنُّ إليها، قالت: «لديَّ أخبار لكَ، يا سيد بينتلاند.»

بدت في عينَيه نظرةُ فطنة غريبة وسألها: «هل هي بخصوص سيبيل؟»

«أجل … قُضي الأمر.»

لاحظت الحيرة على وجه هيجينز، وتحرَّكت بداخلها رغبة لإخباره. بالتأكيد يجِب أن يكون هيجينز من بين أوائل المطَّلعين على الخبر. فأضافت قائلة: «الأمر بخصوص الآنسة سيبيل. لقد تزوجت السيد الشاب دي سيون هذا الصباح في مدينة هارتفورد.»

كان للخبر وقع السِّحر على السائس الضئيل البنية؛ إذ تهلَّل وجهه القبيح المتغضِّن بابتسامة واسعة ولطم فخذه في حماس. وقال: «هذا عظيم يا سيدتي … أريدكِ أن تَعرفي أنني كنتُ مؤيدًا للأمر منذ البداية. لقد أحسَنَت فعلًا … وهو أيضًا.»

متأثرةً مجددًا بحماسِه، قالت: «إذن تظنُّ أنه أمر جيد؟»

«بل عظيم يا سيدتي. فهو شخص نادر الوجود. هو الشخص الوحيد الذي أعرف أنه كان مُناسبًا بالقدْر الكافي. كنت أخشى من أن تُحاول قصارى جهدها جذْب انتباه السيد أوهارا … ولكن كان يجب أن تَرتبِط برجل أصغر سنًّا.»

تحوَّلت عنه، فَرِحةً وقد زال شعور القلق الذي لم يكن قد بارَحَها مُطلقًا منذ اللحظة التي انطلقا فيها بالسيارة وسط الظلام. ظلَّت تقول في نفسها: «هيجينز مُحقٌّ دومًا في حُكمه على الناس. فهو يمتلك حاسةً سادسة.» نوعًا ما، كان أكثر مَن تثِق في حُكمه من بينهم جميعًا.

اقتادها جون بينتلاند، بعيدًا عن نطاق فضول هيجينز، بمحاذاة السياج الذي يُحيط بالحدائق. بدا أن الخبر أثَّر فيه تأثيرًا غريبًا؛ إذ اعتلى وجهه الشحوب، ولفترةٍ طويلة ظلَّ واقفًا ينظر من فوق السياج في صمت. وأخيرًا سألها: «متى فعلاها؟»

«الليلة الماضية … خَرجتْ بالسيارة معه ولم يَعُودا.»

قال: «آمُل أننا كنَّا مُحقِّين. آمُل ألا نكون قد تستَّرنا على حماقة.»

«لا … أنا واثقة من أننا لم نفعل.»

شيءٌ في توهُّج أشعة الشمس، وفي حقيقة هروب سيبيل وسعادتها، في الهواء المُنعِش المتأثر بعد هبوب العاصفة باللمسات الأولى لفصل الخريف، ملأها بالشعور بالدوار، حتى إنها نسيَت متاعبها؛ ونسيت حتى أن هذا كان يومَ عيد ميلادها الأربعين.

سألها قائلًا: «هل ذهبا بسيارة سابين؟»

«أجل.»

وهو يبتسِم فجأة ابتسامة عريضة، قال: «ربما ظنَّت أنها تُؤذينا بذلك.»

«كلَّا، هي تَعرف أنني مُوافِقة. كانت هي أول مَن فكَّر في الأمر. واقترَحَته فعلًا …»

وعندما تحدَّث مرةً أخرى، كان ثمة أثر طفيف للمرارة في نبرة صوته. إذ قال: «أنا واثق من أنها فعلت ذلك. كل ما آمُلُه أن تكفَّ عن أذاها عند هذا الحد. فعلى أيِّ حال، لقد حقَّقت انتصارًا على كاسي … وهذا ما كانت تَرغب فيه، أكثر من أي شيء …» والتفت إليها بحدة، وبنبرةٍ يشوبها القلق. أردف قائلًا: «أظنُّ أنه سيَأخُذها معه، أليس كذلك؟»

«أجل. سيذهبان إلى باريس أولًا، ثم إلى الأرجنتين.»

فجأة مسَّ كتفَها بلفتةِ مودَّة غريبة وخَجِلة. وقال: «سيكون الأمر صعبًا عليكِ عزيزتي أوليفيا … بدونها.»

جعلها هذا التصرُّف المفاجئ تَشعُر بغُصَّة في حلقها، لكنها لم ترغب في أن تكون موضع شفقة. كانت تكره الشفقة، لأنها كانت تُوحي بضعف من جانبها.

سارعت بقولها: «أوه، سيأتيان من وقتٍ إلى آخر … وأظن أنهما ربما يعودان يومًا ما للعيش هنا.»

«أجل … ومنزل عائلة بينتلاند سيئول إليهما ذات يوم.»

وحينئذٍ تذكَّرت لأول مرة أن ثمة شيءٌ كان يجب عليها أن تُخبره به، شيء بدا أشبه باعتراف. يجب أن تُخبره الآن، ولا سيما أن جان سيَمتلك يومًا ما منزل عائلة بينتلاند وكل ثروتها.

بدأت حديثها قائلة: «ثمَّة شيء لم أُخبرك إيَّاه من قبل. إنه شيء كتمتُه في نفسي لأنني أردتُ أن تحظى سيبيل بسعادتها … رغم كل شيء.»

قاطعها قائلًا: «أعرف ما هو.»

«لا يُمكن أن تعرف ما أقصده.»

«بلى، أعرف؛ لقد أخبرني الفتى بنفسه. ذهبتُ إليه لأتحدث معه عن سيبيل لأنني أردتُ أن أتيقَّن منه … وبعد برهة أخبرني. كان تصرفًا جديرًا بالاحترام أن يفعل ذلك. لم يكن بحاجة إلى أن يفصح عن الأمر. فما كانت سيبيل لتُخبرَنا به مطلقًا … ما كانت لتفعل مطلقًا إلا بعد فوات الأوان.»

جعلها الحديث تشعر بحالةٍ من الضعف والاضطراب؛ لأنها كانت قد توقَّعَت منه غضبًا واستنكارًا. لقد كانت تخشى من أن يعتبر صمتَها خيانة له، وربما أدَّى هذا في النهاية إلى تدمير علاقة الثقة الطويلة بينهما.

وشرع يقول: «لا يدَ للصبيِّ في هذا. إنه أمر لا يستطيع المرء أن يَشرحه كما ينبغي. لكنه فتًى لطيف … وكانت سيبيل مُصمِّمة عليه. أظنُّ أنها تتمتَّع بتفكيرٍ جيدٍ وعقلاني مع حداثة سنها.» تنهَّد والتفت نحوَها مرةً أخرى، ثم أضاف قائلًا: «لن أُخبر الآخرين بالأمر … ولا حتى آنسون. ربما لن يعرفوا أبدًا، وإذا لم يعرفوا، فما لا يَعرفونه لن يَسُوءهم.»

بدا أن الغموض الذي يُحيط به يزداد عمقًا أكثر فأكثر في كل مرةٍ يتحدَّثان فيها هكذا، بحميمية، ربما لأن ثمة أغوار داخل الرجل المسن لم تتصوَّر أبدًا أنها ممكنة. وربما، في أعماق روحه تحت كل هذا التحفظ الشديد في طبيعته، كان يوجَد قدْر من الإنسانية أعظم بكثير من أي قدْرٍ لاقَتْه من قبل. قالت في نفسها: «وأنا التي كنتُ أراه شخصًا قاسيًا وفاترًا وانتقاديًّا.» بدأت تتفهَّم القوة البالغة الكامنة في عُزلته الشديدة، قوة رجل كان بمفرده دائمًا.

بعد قليل سألها: «وأنتِ يا أوليفيا؟ هل أنتِ سعيدة؟»

«أجل … أخيرًا، أشعر بالسعادة هذا الصباح … بسبب سيبيل وجان.»

قال بنبرة حزن رقيق: «هذا صحيح. هذا صحيح. لقد فعَلا ما عجزنا أنا وأنتِ عن فعله يا أوليفيا. سيحظيان بما لم نحظَ به قطُّ ولا يمكن أن نحظى به أبدًا لأن الأوان قد فات. وقد ساعدناهما على تحقيق ذلك … وهذا جانبٌ جيد من الأمر. فقط أردتكِ أن تعرفي أنني أتفهم الأمر.» ثم أردف قائلًا: «من الأفضل أن نذهب ونُخبر الآخرين. ستُفتح علينا أبواب الجحيم حين يسمعون بالخبر.»

كانت على وشك أن تذهب، ولكن خطرت لها فكرة غريبة، بصيص أمل، أمل ضئيل جدًّا، ولكن ربما يَمنحه قدرًا قليلًا من السعادة. كانت قد فوجئت من طريقة حديثه؛ إذ كان كما لو أنه اقترب جدًّا من الموت أو قد مات بالفعل. بدا من مظهره هَرِمًا ومرهقًا جدًّا.

قالت: «ثمة شيء واحد أردتُ أن أسألك عنه منذ فترة طويلة.» تردَّدت ثم غامرت بقوله. «هو بخصوص سافينا بينتلاند. هل أنجبَت أكثر من طفل؟»

نظر إليها بحدة بعينَيه السوداوَين اللامعتَين وسألها: «لماذا تُريدين معرفة ذلك؟»

حاولت أن تخدعه بأن هزَّت كتفَيها وقالت مُتظاهرةً بالعفوية: «لا أعرف … صرت مهتمَّة مؤخرًا، ربما بسبب كتاب آنسون.»

«أنتِ … مهتمَّة بالماضي يا أوليفيا؟»

«أجل.»

«أجل، كان لديها طفل واحد فقط … وغرقت حين كان يَبلغ من العمر عامًا واحدًا. كان هذا جدِّي.» ثم نظر إليها بحدة مرة أخرى. وأردف قائلًا: «أوليفيا، يجب أن تُخبريني بالحقيقة. لماذا سألتِني هذا السؤال؟»

تردَّدت أوليفيا مرةً أخرى، قائلةً: «لا أعرف … بدا لي …»

«هل وجدتِ شيئًا؟ هل أخبرتْكِ بأي شيء؟» سألها وهو يُشير نحو الجناح الشمالي.

حينئذٍ فهمتْ أنه، الرجل المسن الرائع، لا بدَّ أنه يَعرف بأمر الخطابات. قالت بصوت مُنخفض: «أجل. وجدتُ شيئًا … في العلية.»

تنهد وأشاح بنظره مرة أخرى، ناحية المروج الرطبة. وأردف قائلًا: «إذن، أنتِ أيضًا تعرفين … كانت هي أول مَن عثر عليها، ثم خبَّأتها مرة أخرى. ما كانت لتُعطِيَني إيَّاها لأنها كانت تكرهني … منذ ليلة زفافنا. لقد أخبرتكِ بذلك. ثم لم تَستطِع أن تتذكَّر أين خبَّأَتْها … تلك المخلوقة المسكينة. ولكنها أخبرتني عنها. اعتادت إغاظتي أحيانًا بقولها إنني لستُ من نسل آل بينتلاند على الإطلاق. أظنُّ أن الأمر جعل عقلَها أكثر سوداويةً من ذي قبل. انتابتها بعض الهواجس المريعة بخصوص الخطيئة في عائلتي والتي يجِب عليها أن تُكفِّر عنها …»

قالت أوليفيا برقَّة: «هذا صحيح. لا شك في ذلك. لقد كتب توبي كاين نفسه هذا … بخطِّ يده. لقد ضاهيتُه بخطاباته الموجودة بحوزة آنسون.» وبعد لحظةٍ سألته: «وأنت … هل كنت تعرف ذلك دومًا؟»

قال بنبرة حزينة: «دومًا. هذا يفسر أشياء كثيرة … أحيانًا أظنُّ أن أولئك الذين عاشوا منَّا منذ ذلك الحين تعيَّن عليهم أن يُكَفِّروا عن خطيئتهما. عندما تُفكرين في الأمر برمَّته تستوعبين فجأة أن كل شيء دُبِّر بطريقةٍ قاسية …»

خمنت مقصده من الكلام. ورأت مرة أخرى أنه يؤمن بفكرة الخطيئة، وأن الإيمان بها مُتأصِّل بعُمق في كيانه.

سألها: «هل الخطابات في حوزتِكِ يا أوليفيا؟»

أجابته قائلة: «كلَّا … أحرقتُها … الليلة الماضية … لأنني كنت خائفة منها. خشيتُ أن أفعل شيئًا مُخجلًا بها. وإذا أُحرِقَت، فلن يُصدق أحد هذه القصة المنافية للعقل ولن يوجَد أي دليل.» ثم أضافت بهدوءٍ قائلة: «وخشيتُ أيضًا مما كان فيها … ليس مما كان مكتوبًا فيها، وإنما من الطريقة التي كُتب بها.»

أمسك يدَها في تصرُّفٍ بالِغ الغرابة والإحراج، وقَبَّلها برفق. وأردف قائلًا: «كنتِ محقَّة يا عزيزتي أوليفيا. هذا كل ما لديهم … أعنى الآخرين … الذين يُؤمنون بالماضي. لا نجرؤ على أن نَنتزعه منهم. الأقوياء لا يجرُءون على قمع الضعفاء. سيكون هذا قاسيًا للغاية. سيكون من شأنه أن يُدمِّر الشيء الوحيد الذي كرَّس له آنسون حياته كلها. في الواقع يا أوليفيا، يوجَد أناس … أناس مثلكِ … ممَّن يجب أن يكونوا أقوياء جدًّا من أجل أن يعتنوا بالآخرين. إنها مهمة صعبة … وأحيانًا تكون قاسية. ولولا هؤلاء الأشخاص لَتَصَدَّع العالم ولرأيناه مكانًا قاسيًا لا يُحتَمَل، كما هي حقيقته. ولهذا السبب عهدتُ إليكِ بكل شيء. هذا ما كنتُ أحاول أن أخبركِ به في تلك الليلة. في الواقع يا أوليفيا، أنا أعرفكِ … أعرف أن ثمة أشياء يعجز أمثالنا عن فعلِها … ربما لأننا ضعفاء أو حمقى — مَن يدري؟ ولكن هذا حقيقي. عرفتُ أنكِ من نوعية الأشخاص الذين سيُقْدِمون على شيء كهذا.»

وبينما كانت تستمع إليه، شعرت مرة أخرى بأن عزيمتها تُسلَب منها. كان شعورًا غريبًا، كما لو أنه سيطر عليها، تاركًا إيَّاها عاجزةً عن التصرف، ليَحبسها مرة أخرى وراء ذلك الجدار الرهيب من الصواب الذي كان يؤمن به. كان الطابع المألوف لقوَّتِه يُخيفها، لأنها بدت قوة لا تُقاوم. كانت قوة رجل يتعدَّى أمره أنه على صواب؛ كانت قوة رجل يؤمن بما يفعله.

كانت لدَيها رغبة جامحة في أن تتحوَّل عنه وتركض بسرعةٍ وبتهوُّر عبر المروج الرطبة نحو مايكل، تاركة وراءها المنزل القديم الجميل الهادئ تحت أشجار الدردار.

كان يقول لها: «ثمة أشياء يستحيل فعلها … على أناس مثلنا، يا أوليفيا. هي مستحيلة لأن مجرد فعلها سيُدمرنا إلى الأبد. هي ليست أشياء يُمكننا القيام بها بأريحية.»

وأدركت مرةً أخرى ما كان يعنيه، مثلما أدركت على نحوٍ غامض حين وقفت بمفردها في الظلام أمام جسدَي هيجينز والآنسة إيجان اللذَين ظهرا وسط ضباب الأهوار.

«حريٌّ بكِ أن تذهبي الآن وتُهاتفي آنسون. أظنُّه سيَنزعِج بشدة، ولكني سأضع حدًّا لذلك … وكاسي، أيضًا. لقد خطَّطَتْ لكل شيء بخصوص فتى عائلة مانرينج.»

٢

تَعَذَّر الاتصال بآنسون في المكتب طوال الصباح؛ لأنه كان قد ذهب، على حدِّ قول سكرتيره، لحضور اجتماع «جمعية حماة الشابات العاملات المُشرَّدات» وترك رسالةً واضحة مفادها أنه لا يُريد مقاطعته. ولكن العمَّة كاسي سمعت بالخبر حين وصلت في زيارتها الصباحية إلى منزل عائلة بينتلاند. أخبرتها به أوليفيا بلُطف بقدر الإمكان، ولكن ما إن استوعبت العجوز ما حدث، حتى انهارت تمامًا. ظهر الهياج في عينَيها، وصار شَعرُها أشعثَ تمامًا. اعتبرت مُتيقنةً أن سيبيل تعرضت للإغواء وصارت الآن امرأةً ضائعة ميئوسًا منها تمامًا. وظلَّت تُردِّد وسط عبارات التعاطف الشديد مع أوليفيا في مُصابها الأَلِيم، أن هذا الأمر لم يسبق أن حدث مُطلقًا في عائلة بينتلاند؛ إلى أن ذكرتها أوليفيا، التي غشيَتْها حالة الهدوء المخيف المعهودة بها، بهروب جاريد بينتلاند وسافينا دالجيدو، وطلبت منها باقتضاب أن تكفَّ عن التفوُّه بترَّهات.

عندئذٍ أظهرت العمة كاسي من نبرة صوتها أن مشاعرها قد جُرِحَت جرحًا عميقًا، وتعيَّن إرسال بيرترز لإحضار كربونات النشادر في نفس اللحظة التي وصلت فيها سابين، بابتسامة عريضة ومُنتصِرة على وجهها. كانت سابين هي مَن ساعد في وضع كربونات النشادر بطريقةٍ كئيبة وكأنها تضع جمرًا. وعندما هدأت السيدة العجوز قليلًا عادت تُردِّد مرارًا وتكرارًا: «سيبيل المسكينة … طفلتي البريئة المسكينة سيبيل … ما كان ينبغي أن يحدُث لها هذا!»

وعلى هذا القول جاء أخيرًا رد أوليفيا: «جان شاب رائع. وأنا مُتأكِّدة من أنها قد أحسنت صنعًا.» ثم، لكي تُخفِّف قليلًا من وطأة معاناة العمة كاسي، أردفت: «وهو غني جدًّا، يا عمة كاسي … أغنى بكثير من أي زوجٍ كان يُمكن أن تعثر عليه هنا.»

كان لهذه المعلومة تأثير أفضل حتى من تأثير كربونات النشادر نفسها؛ ومن ثم هدأت السيدة العجوز بما يكفي لأن تهتمَّ بالتفاصيل وسألت من أين حصلا على سيارة للهروب بها.

قالت سابين بجفاء: «إنها سيارتي. أقرضتُهما إياها.»

كان الأثر الناتج من هذه العبارة هو ما كانت تَرغب فيه سابين بالضبط. انتصبت السيدة العجوز في جلستها، وانتفخت أوداجها، وصرخت، بنبرة مختنقة. قائلة: «يا إلهي، أيتها الحية الخبيثة! لا أعرف لماذا ابتلاني الربُّ بهذه البلية. لقد كنتِ دومًا تتمنَّينَ الشر لنا وأظنُّكِ الآن راضية! عسى أن يرحم الربُّ روحكِ الخبيثة!» وانخرطَتْ من جديدٍ في نوبة بكاء، وأخذت تُكرِّر مرة أخرى: «طفلتي البريئة المسكينة سيبيل … ماذا سيقول الناس؟ ماذا سيظنُّون أنه كان يحدث؟»

قالت سابين بحدة: «لا تكوني سيئة الظن يا عمة كاسي.» ثم أردفت بنبرة أهدأ: «سيكون صعبًا عليَّ ذلك … لن أستطيع الذهاب إلى نيوبورت إلى أن يعودا بالسيارة.»

وشرعت العمة كاسي تقول: «أنتِ! … أنتِ! …» ثم هوت جالسةً، امرأةً محطمةً.

واصلت سابين حديثَها بلا هوادة: «أظنُّ أننا يَنبغي أن نُخبر فتى عائلة مانرينج.»

هتفت العمة كاسي، وقد استفاقت مرةً أخرى: «أجل، أجل! ذلك هو الفتى الذي كان يجب أن تتزوَّجه …»

قالت سابين: «والسيدة سومز. ستسعد بالخبر.»

تكلمت أوليفيا لأول مرة منذ ما يقرب من نصف ساعة. فقالت: «لا جدوى من ذلك. لقد ذهب السيد بينتلاند لزيارتها، ولكنها لم تَستوعِب ما أراد أن يُخبرها به. كانت في حالة خدَر … غائبة عن الوعي تقريبًا … ويظنُّون أنها ربما لن تستفيقَ منها هذه المرة.»

وبصوتٍ هامس، طغى عليه الاهتياج الأعلى صوتًا لنحيب العمة كاسي، قالت لسابين: «الأمر أشبه بنهايةِ كل شيء بالنسبة إليه. لا أعرف ما الذي سيفعله.»

•••

بدا أن الاضطراب الذي ساد اليوم كان يزداد حدةً بدلًا من أن يزول. طُلب من العمة كاسي البقاء لتناول الغداء، لكنها قالت إنه يستحيل أن تُفكِّر في ابتلاع ولو حتى كسرة خبز. وصرخت بنبرةٍ ميلودرامية: «من شأنها أن تخنقني.»

ألحَّت عليها أوليفيا، قائلة: «إنه غداء ممتاز.»

«كلَّا … كلَّا … لا تَطلُبي مني ذلك!»

ولكن، نظرًا لعدَم رغبتها في مغادرة مسرح الأحداث، استلقت على الأريكة الكلاسيكية من طراز ريجنسي الخاصة بهوراس بينتلاند واستعادت عافيتَها قليلًا بأخذ غفوةٍ بينما كان الآخرون يتناولون الطعام.

أخيرًا، اتصل بهم آنسون، وحين أُبلِغ بالخبر، تردَّد في سماعة الهاتف صدى تهديداته. قال إنه سيَستأجِر سيارة (وهي مبالغة تعكس مدى عُمق انفعاله وغضبه) ويأتي على الفور.

ثم، مباشرةً تقريبًا، اتَّصل مايكل. وقال: «لقد وصلتُ توًّا.» وطلب من أوليفيا أن تأتي لتركب معه الخيل. وأردف قائلًا: «يجب أن أتحدَّث إليكِ فورًا.»

رفضت أن تركب الخيل معه، ولكنها وافقت أن تُقابله في منتصف الطريق بينهما، عند أيكة أشجار الصنوبر حيث كان هيجينز قد اكتشف جِراء الثعالب. وقالت له: «لا يُمكنني أن أغادر الآن ولا أظن أنه من المناسب لك أن تأتي إلى هنا في الوقت الحالي.»

ولسببٍ ما، لم تُخبره بشيءٍ عن مسألة الهروب، ربما لأنها على نحوٍ غامض ظنَّت أنه قد يستغل هذه المعلومة سلاحًا لكسر إرادتها. ففي خضمِّ الاضطراب الذي ساد اليوم، ووراء كل الاهتياج الذي ساد مشهد الأحداث، والانفعالات والمكالمات الهاتفية، أخذت تُفكِّر، وتفكر، وتفكر، لدرجة أنها في النهاية تأثرت باللغط تأثرًا طفيفًا. كانت قد باتت تُدرك أنه لا بد وأن جون بينتلاند قد عاش حياته هكذا، عامًا تلو الآخر، مُتحركًا دومًا في إطار حياةٍ سرية خاصة به، وبعد قليل كانت قد توصَّلت إلى أنها يجب أن تهجر مايكل نهائيًّا.

وبينما كانت تتحرك عبر المروج، لاحظت أن أشجار البتولا كانت قد بدأت تذبل وتتحول إلى اللون الأصفر وأن المروج في المنخفَض بحذاء النهر قد تلوَّنت باللونَين الذهبي والأرجواني بفعل أكوامٍ من نبات عصا الذهب ونبات عصا الراعي الأرجواني. ومع كل خطوة كانت تخطوها بدا أنها تضعف أكثر فأكثر، وعندما اقتربت من السور الأسود المائل إلى الزُّرقة المكوَّن من أشجار الصنوبر انتابتها رعشة عنيفة، كما لو أن الإحساس بوجوده استطاع أن يصِل إليها بشكلٍ أو آخر ويغمرها حتى قبل أن تراه. حاولت أن تتخيَّل أن الرجل المسن يقف بجوارها عند السياج الشجري، ولكن شيئًا أقوى من إرادتها جعلها لا ترى سوى رأس مايكل بشعره الأسود المجعَّد وعينَيه الزرقاوين. بدأت حتى تدعو في سرها … وهي (أوليفيا) التي لم تَدْعُ قط لأن الورع الزائف للعمة كاسي وآنسون وأسقف الطبقة الأرستقراطية حال دومًا بينها وبين الدعاء.

ثم رفعت بصرها ورأته واقفًا شبهَ متوارٍ بين أشجار الصنوبر الأقصر طولًا يُراقبها. بدأت تركض نحوَه، خشية أن تخذلها ركبتاها وتسقط أرضًا قبل أن تصِل إلى كنف الأشجار.

وفي ظلمة الأجمة، التي نادرًا ما تخترقها أشعة الشمس، أحاطها بذراعَيه وقبَّلها بطريقة لم يفعلها من قبل، ولم يؤدِّ هذا التصرف إلا إلى ازدياد خوفها. لم تَنبِس ببنت شفة؛ وإنما بكت في هدوء، وأخيرًا، عندما تمالكت نفسها، جاهدت لتتحرَّر من ذراعَيه وقالت: «لا تفعل، يا مايكل … أرجوكَ لا تفعل … أرجوكَ.»

جلسا على جذع شجرة ساقط، وهو لا يزال ممسكًا بيدِها، وسألها: «ما الأمر؟ ماذا حدث؟»

«لا شيء … أنا مُتعَبة فحسب.»

«هل أنتِ مُستعدَّة للمُغادَرة معي؟ الآن؟» ثم أضاف بنبرة حنونة منخفضة قائلًا: «لن أدعكِ تتعبين مرةً أخرى أبدًا … أبدًا.»

لم تُحِره جوابًا، لأنه بدا لها أن ما كان يجب عليها أن تُخبره به سيجعل كل تصرفاتها في السابق تبدو رخيصة وبلا تفسير. غمرها شعور بالخزي، وحاولت أن تُؤخِّر اللحظة التي يتحتَّم عليها فيها الحديث.

كان يقول لها: «لم أعُد منذ ثلاثة أيام بسبب مُشكلة في بوسطن جعلت ذلك مستحيلًا. لم أنَمْ سوى ساعة أو ساعتَين في الليل. إنهم يُحاولون النيل مني … بعض الرجال الذين وثقتُ بهم دومًا. لقد كانوا يَخدعونني منذ البداية وتعيَّن عليَّ البقاء لمُحاربتهم.»

قصَّ عليها قصةً طويلة ومُعقَّدة عن الخيانة، وعن الأموال التي تَنتقِل بين الرجال الذين عرفهم ووثق فيهم دومًا. كان حزينًا ولكنه كان أيضًا غير هيَّاب للمَوقف، وتملَّكتْه رغبة في خوض المعركة حتى النهاية. عجزت عن فَهم القصة؛ وفي الواقع لم تسمع حتى قدرًا كبيرًا منها: كل ما عرفَتْه أنه كان يُخبرها بكل شيء، ليُفضي إليها بكل أحزانه ومشاكله كما لو كانت الشخصَ الوحيد في العالَم بأسرِه الذي يستطيع أن يُخبرَه بمثل هذه الأمور.

وحين انتهى من حديثه، انتظر لحظةً ثم قال: «والآن، أنا على استعدادٍ لأن أُلقي هذه المسألة القذِرة بأكملها وراء ظهري وأرحل … وأقول لهم جميعًا أن يَذهبوا إلى الجحيم.»

أجابت بسرعة: «كلَّا، يجب ألا تفعل ذلك. لا يُمكنك فعل ذلك. رجل مثلك يا مايكل، لا يجرؤ على فعل هذا الأمر.» وذلك لأنها كانت تعرف أنه بدون معركةٍ ما، ستَفقِد الحياة معناها عنده.

«لا … أنا أعني ما أقوله. أنا على استعدادٍ للابتعاد. أريدكِ أن تذهبي معي.»

قالت في نفسها: «يقول هذا … ومع ذلك، مكَثَ ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في بوسطن ليُقاتل!» لاحظت أنه لم يكن ينظر إليها، وإنما كان جالسًا ورأسه بين يدَيه؛ كان ثمَّة شيء مُنكسِر، ويكاد يكون مثيرًا للشفقة، في سلوكه، وخطر ببالها أنه ربما للمرة الأولى يكتشف أن حياته كلها عبارة عن كتلة متشابكة ميئوس من فكِّها. قالت في نفسها: «لو لم أكن قد تعرفت عليه، ربما ما كان حدث هذا. كان سيتمكَّن من أن يخوض المعركة دون حتى أن يُفكِّر فيَّ.»

جهرًا قالت: «لا أستطيع يا مايكل … لا فائدة من ذلك. لا أستطيع.»

رفع بصرَه سريعًا، وقبل أن يتمكَّن حتى من الرد عليها وضعت يدَها على شفتَيه، قائلةً: «مهلًا يا مايكل، دعني أتكلم أولًا. دعني أقول ما كنتُ أردتُ قوله منذ فترة طويلة جدًّا … لقد فكَّرت … لم أفعل شيئًا سوى التفكير ليلًا ونهارًا على مدار الثلاثة أيام الماضية. وبلا طائل يا مايكل … بلا طائل. بلغتُ الأربعين اليوم، وما الذي يُمكنني أن أُقدِّمه لكَ وسيُعوِّضك عن كل ما ستخسره؟ لماذا تتخلَّى عن كل شيءٍ من أجلي؟ كلَّا، ليس لديَّ ما أُقدمه لكَ. يُمكنك أن تعود وتخوض معركتك وتفوز بها. هذا أكثر ما تُحبه في العالم كله … أكثر من أيِّ امرأةٍ أخرى … حتى أنا.»

حاول أن يتحدَّث مرةً أخرى، ولكنها أسكتَته. وتابعت حديثها: «أوه، أعرف أنه حقيقي … ما أقوله. لو أنني حظيتُ بك نظيرَ هذا المقابل، فلسوف تكرهني في النهاية فحسب. لا أستطيع أن أفعل ذلك يا مايكل، لأن … لأن في النهاية، مع رجال مثلكَ، يأتي العمل، والحياة المهنية، في المقام الأول … لا يُمكنكَ أن تتحمَّل الاستسلام. لا يُمكنكَ أن تتحمَّل الفشل … وفي النهاية، لا يصحُّ إلا الصحيح. هذا ما يجعل العالَم يَستمر.»

كان يُراقبها بنظرة افتتانٍ في عينَيه، وعرفت — بل أيقنت — أنه لم يكن مغرمًا بها إلى هذا الحدِّ من قبل؛ ولكنها عرفت، أيضًا — من التعبير الذي علا وجهَه في لمحة عابرة (بدا لها أنه أجفل تقريبًا) ولأنها كانت تعرفه جيدًا — أنه كان يُدرك صِدق ما قالته.

«هذا ليس صحيحًا يا أوليفيا … لا يُمكنكِ أن تتخلَّي عني الآن … حين أكُون في أمسِّ الحاجة إليكِ.»

أجابتْه قائلة: «ستكون خيانة لكَ يا مايكل، لو فعلتُ غير ذلك. أنت لا تحتاجُ إليَّ بقدْر ما تحتاج إلى ذلك الشيء الآخر. أوه، أعرف أنني محقة. ما ينبغي أن تحصل عليه في النهاية هو امرأة شابَّة … امرأة ستمدُّ إليك يدَ العون. لا يهمُّ كثيرًا إن كنتَ مُغرمًا بها بشدة أم لا … ولكن امرأة يمكن أن تكون زوجتَكَ وتُنجِب لك أطفالًا وتُقيم حفلات العشاء وتُساعد في جعلك رجلًا شهيرًا كما عزمت دومًا أن تكون. أنت بحاجةٍ إلى امرأة تُساعدك في تأسيس أسرة، تملأ مَنزلك الجديد بالأطفال … امرأة تُساعدك أنتَ وأولادكَ على أن تحلُّوا محلَّ عائلاتٍ مثل عائلتنا التي وصلت إلى نهايتها. كلَّا يا مايكل، أنا مُحقَّة … انظر إليَّ»، قالتْها فجأة بنبرة آمرة. «انظر إليَّ وستَعرف أن هذا ليس لأنني لا أُحبكَ.»

كان حينئذٍ جاثيًا على ركبتَيه، على بساط من إبر الصنوبر العِطرية، يُحيطها بذراعَيه بينما تُمسِّد شعره الأسود الكثيف بطريقةٍ تَنطوي على انفعالٍ هيستيري.

«أنت لا تَعرفين ما تقولينه يا أوليفيا. إنه غير صحيح! إنه غير صحيح! أنا على استعدادٍ لأن أتخلَّى عن كل شيء … أنا لا أُريد أي شيء آخر. سأبيع مزرعتي وأرحَل مِن هنا إلى الأبد معكِ.»

«أجل يا مايكل، أنت تُفكِّر هكذا اليوم، الآن فقط … وغدًا كل شيء سيتغيَّر. تلك واحدة من الحِيَل الدنيئة التي تَلعبها الطبيعة معنا. الأمر ليس بهذه البساطة. نحن لَسْنا مثل هيجينز و… وخادمة المطبخ … على الأقل ليس من بعض النَّواحي.»

«أوليفيا … أوليفيا، هل تُحبينني بما يكفي لأن …؟»

أدركت ما كان ينوي أن يسأل عنه. وقالت في نفسها: «وماذا يُهم؟ ولما لا ينبغي أن أفعل، وأنا أُحبُّه كل هذا الحب؟ لن أؤذي أحدًا … لا أحد سوى نفسي.»

ثم، فجأة، رأت، وسط سيلٍ من الدموع المُنهمِرة من عينَيها، عبر فتحةٍ في الأجمة موكبًا صغيرًا يعبُر المروج نحو المنزل الكبير لعائلة بينتلاند. رأته بوضوحٍ مُريع وشديد … موكب صغير يتألَّف من البستاني ومُساعده يَحملان فيما بينهما على لوحٍ خشبي جسدًا ممدَّدًا مُرتخيًا وهامدًا، وفي إثرهما جاء هيجينز سيرًا على قدَمَيه، وهو يسوق حصانه ويتحرك بالمشية الغريبة العرجاء التي تعتريه عندما تطأ قدماه الأرض. عرفت هوية صاحب الجسد الهامد. كان جون بينتلاند. لقد أوْدَت الفرس الحمراء بحياته أخيرًا. وسمعته يقول: «ثمة أشياء يعجز أمثالنا عن فعلها، يا أوليفيا.»

•••

لم تستطع أبدًا أن تتذكَّر بوضوح بالغ ما حدث بعد ذلك مباشرة. وجدت نفسها تنضمُّ إلى الموكب الصغير؛ وأدركت أن مايكل كان معها، وأنه لا شكَّ في أن المأساة قد وقعت … مات جون بينتلاند، بعدما انكسرت رقبته. كان ممدَّدًا على اللوح الخشبي، هامدًا ومُطمَئِنًّا، وقد تلاشت جميع الخطوط المريرة من على الوجه الصارم المتجهِّم، كما كان حين التقتْه في المكتبة التي تفوح منها رائحة الكلاب ودخان الخشب والويسكي. ولكن هذه المرة كان قد هرب بلا رجعة. …

ولاحقًا تذكرت أنها أخبرت مايكل، أثناء وقوفهما بمُفردهما في الردهة البيضاء الكبيرة، أن سيبيل وجان قد تزوَّجا، وصرفته بقولها: «الآن يا مايكل، صار الأمر مُستحيلًا. بينما كان حيًّا ربما كنتُ قد فعلتُها … ربما كنت سأهرب. ولكن الآن، صار الأمر مُستحيلًا. لا تطلُبه مني. أرجوك، ارحل عني ودعْني وشأني.»

بينما كانت تقف تحت صورة سافينا بينتلاند بنَظرتها العابثة، راقبَتْه وهو يرحل، في هدوء، ربما لأنه فهم أن كلَّ ما قالته كان صحيحًا.

٣

في خضمِّ المأساة، صارت حادثة الهروب نسيًا منسيًّا. تردَّد الأطباء على المنزل ذهابًا وإيابًا؛ وحتى المراسلون الصحفيون وُضِعوا في موقف مُحرج؛ إذ كانوا مُتلهِّفين لمعرفة تفاصيل الوفاة والزواج في عائلة بينتلاند، وبطريقةٍ ما أنزل الاضطراب حالةً من السكينة على أوليفيا. لقد نسوا أمرَها، باستثناء كونها الشخص الذي يُدبِّر كل شيءٍ في صمت؛ لأنهم كانوا بحاجة إلى شخصٍ لا ينهار في نوبات حزنٍ جامحة أو يَهيم على وجهه مَهِيضَ الجناحِ. وفي حضرة الموت، نسِيَ آنسون غضبَهُ بسبب حادثة الهروب، وفي ساعةٍ متأخِّرة من فترة ما بعد الظهيرة، رأته أوليفيا لأول مرةٍ حين جاءها مَغلُوبًا على أمْرِه يسألها: «لقد جاء الرجال لتصوير لوحات الصور الشخصية. ماذا يَنبغي أن نفعل؟»

أجابته قائلة: «اصرفهم. يُمكننا التقاطُ صور للأجداد في أيِّ وقتٍ آخر. سيكونون معنا دائمًا.»

تطوَّعت سابين بإرسال الخبر إلى سيبيل وجان. ففي مثل هذه الأوقات، كان انفصالُها المُنعدِم الشعور عن الأحداث يَجعلها شخصًا ذا قيمة كبيرة، وأدركت أوليفيا أنه يُمكن الوثوق بها لأداء مهمة البحث عنهما لأنها أرادت بشدة استرداد سيارتها. وتذكَّرت أوليفيا وعدَها للرجل المُسن، وذهبت لزيارة السيدة سومز، لكنها كانت زيارة بلا طائل؛ إذ دخلت السيدة العجوز في حالةٍ من فقدان الوعي التام. وقيل لأوليفيا إنها ربما تُفارق الحياة دون أن تعرف أن جون بينتلاند قد فارقها قبلها.

تربعت العمة كاسي على عرشها في غرفة الجلوس المعتمة، وهناك، وسط الرائحة النفاذة للمحصول الخريفي الأول من زهور الأقحوان، استقبلت الوفود القادمة من المناطق الريفية المحيطة بعينَين مُحمرَّتين وتَودُّدٍ بخَنفرَة. مرة أخرى بدت شامخةً لبعض الوقت في حالة من الانتصار والقوة، لدرجة أنها تغلَّبت على ضعفها بما يكفي لأن تتردَّد على منزلها الشبيهِ بمقصورة المراقبة جيئةً وذهابًا سيرًا على قدمَيها، لتصلَ مُبكرًا وتُغادر في وقتٍ مُتأخِّر من الليل. وأصرت على استدعاء الأسقف سمولوود ليقود القداس، واكتشفت بعدَ كثيرِ عناء أنه يحضر مُؤتمرًا كنسيًّا في منطقة الغرب. وردًّا على تلغرافها، لم تتلقَّ سوى ردًّا مفاده أنه يستحيل عليه العودة، حتى ولو أجَّلوا موعد الجنازة … فنظرًا لتبوُّئه دور المدافع البارز عن عقيدة الولادة العُذرية للمسيح، لم يكن بوسعه أن يترك الميدان في لحظةٍ يتعرَّض فيها نفوذ جماعته للتهديد.

بدا لبعض الوقت أن صرح العائلة بأكمله كان، كما كانت تأمُل سابين، ينهار من حولهم ويتحوَّل إلى أنقاض.

أما أوليفيا، فكانت ستَنعم بالسكينة لولا أنها وصلتها رسائل من مايكل ثلاث مرات في غضون يومَين — فأعادتها إلى مُرسلها دون أن تفتحها لأنها كانت تخشى من أن تقرأها؛ إلى أن كتبت في النهاية ردًّا على إحداها تقول: «لم يَعُد يُوجَد ما يُقال. دعني وشأني.» وبعد ذلك، لم يكن هناك سوى الصمت، الذي بدا لها غير مُحتمَل أكثر من رؤية رسائله. واكتشفت أن شخصَين كانا قد شهدا المأساة — هما هيجينز الذي كان يَركب حصانًا مع الرجل المسن، وسابين التي كانت تسير بمُحاذاة النهر — تسير فقط لأن جان وسيبيل استعارا سيارتها. لم يكن هيجينز يعرف شيئًا سوى أن الفرس قد انطلَقَت في جموح وقتَلَت سيده؛ أما سابين فكان لدَيها رواية مختلفة بغرابة للأحداث، وقَصَّتْها على أوليفيا أثناء جلوسهما في غرفتها، في اليوم التالي.

إذ قالت: «رأيتهما، قادمان عبر المروج … ابن العم جون، يَتبعه هيجينز. وفجأة، بدت الفرس خائفةً من شيء ما وأخذت تركض … في خط مُستقيم نحو مقلَع الحجارة. كان مشهدًا مذهلًا … مشهدًا مروعًا … لأنني كنت أعرف — كنتُ مُتيقِّنة — مما سيحدث. للحظة، بدا ابن العم جون يُصارع الفرس، ثم فجأة مال إلى الأمام على عنقها وأطلق لها العنان. انطلق هيجينز خلفه؛ ولكن لم تكن ثمة فائدة من مُحاولة الإمساك بها … وكأن أحدًا كان يُحاول السيطرة على زوبعة. بدا وكأنهما يَطيران عبر الحقول مباشرةً في اتجاه خط أشجار الخمان التي كانت تُخفي وراءها مقلع الحجارة، وعرفتُ طوال الوقت أنه لا سبيل إلى إنقاذهما إلا إذا استدارَت الفرس. وعند الشجيرات، قفزت الفرس … أروع قفزة رأيت حصانًا يقفزها في حياتي، مباشرةً فوق الشجيرات إلى الهواء الطلق …»

وللحظة، أشرق وجه سابين بحماسٍ مُخيف. وارتعش صوتها قليلًا. وقالت: «كان مَشهدًا مروعًا وجميلًا. للحظة بدَوَا يَكادان يَرتفعان في الهواء كما لو أن الفرس كانت تطير، ثم سقطا دفعةً واحِدةً … إلى قاع مقلع الحجارة.»

لاذت أوليفيا بالصمت، وبعد برهة، كما لو أن سابين كانت تنتظر لتستجمع شجاعتها، واصلت حديثها بصوتٍ منخفض قائلة: «ولكن ثمة شيء رأيته يقينًا. فعند حافة مَقلع الحجارة، حاولَتِ الفرس أن تستدير. كان يمكن أن تستدير، ولكن ابن العم جون رفع سوطَه وضرَبها بوحشية. لم يكن ثمة شكٌّ في هذا. لقد أجبر الفرس على القفز فوق أشجار الخمان …» ومجددًا، بعد توقفٍ قصير، استأنفَت الحديث مرة أخرى قائلة: «لا بد أن هيجينز، هو الآخر، رأى ذلك. إذ تبعهما إلى حافة مقلع الحارة. سأراه هناك دائمًا، مُمتطيًا حصانه والسماء في الخلفية. كان ينظر إلى أسفل نحو مَقلع الحجارة وللحظة كان الحصان وفارسه معًا يَبدوان بالضبط مثل القنطور، الكائن الخرافي … كانت صورةً مذهلةً انطبعت في ذهني.»

تذكَّرَتْه على هذه الصورة؛ ولكنها تذكَّرَتْه أيضًا كما رأته ليلة الحفل الراقص، وهو يتسلَّل عبر زهور الليلك مثل شبح. قالت سابين وهي تقوم من مكانها: «جان وسيبيل سيعودان غدًا، ثم سأُغادر إلى نيوبورت. ظننتُ أنكِ تودِّين أن تَعرفي ما عرفتُهُ أنا وهيجينز، يا أوليفيا.» ثم تردَّدت للحظة، وهي تتطلَّع من النافذة إلى البحر. وأخيرًا قالت: «كان رجلًا غريبًا. كان آخِر البيوريتانيين العظماء. لم يعُد يوجَد المزيد. لا أحد من بقيتنا يؤمن بأي شيء. نحن فقط نتظاهر …»

ولكن أوليفيا كانت لا تكاد تسمعها. فهمت الآن لماذا تحدَّث إليها الرجل المُسنُّ وكأنه على شفير الموت، وقالت في نفسها: «لقد فعلها بطريقةٍ ما كان لأحد أن يَكتشفها. كان يثِق في هيجينز، ووجود سابين في المشهد كان مُصادَفة. ربما … ربما … فعلها ليُبقيني هنا … لأُنقِذ الشيء الذي كان يُؤمن به طوال حياته.»

كانت فكرة مُروِّعة حاولت أن تُخمِدها، ولكنها ظلَّت باقية، جنبًا إلى جنبٍ مع الشعور بالندم على أنها لم تُنهِ ما كانت قد بدأت تُخبره به بينما كانا واقِفَين بجوار السياج يتحدَّثان عن الخطابات — وهو أنه يومًا ما ربما يَحمل جان اسم جون بينتلاند. ففي نهاية المطاف، كان حقُّه في حمل الاسم بقدْر الحق الذي كان يَملكه في حمل اسم دي سيون؛ سيكون مجرَّد تغيير طفيف؛ ولكنه سيَسمح لاسم بينتلاند أن يظلَّ باقيًا. الأرض كلها، والأموال كلها، والعادات كلها، ستَنتقِل إلى أبناء بينتلاند، ومن ثَمَّ ستَجعل لوجودهم سببًا؛ وفي النهاية سيكون الاسم أكثر من مجرد شيء مُحَنَّط في كتاب «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس». سيكون الأحفاد، في نهاية المطاف، مِن نسل آل بينتلاند، أو على الأقل من نسل سافينا دالجيدو وتوبي كاين، الذي بات منذ زمنٍ بعيد نسل آل بينتلاند.

وقالت في نفسها مُتجهِّمة: «كان محقًّا، في نهاية المطاف. أنا في النهاية واحدة منهم … رغم كل شيء. وأنا الآن مَن يَحمل لواء العائلة.»

•••

في صباح يوم الجنازة، بينما كانت واقفةً في الشرفة الأمامية تَنتظِر قدوم جان وسيبيل، جاءها هيجينز، وهو يَرتدي أفضل بدلة سوداء لدَيه ويبدو عليه الانزعاج والاضطراب الشديدان، ليقول وهو يُشيح بنظره عنها: «سيرحل السيد أوهارا. وضعوا يافطة «للبيع» على بوَّابته. ولن يعود.» ثم أضاف، وهو ينظر إليها في جرأة، قائلًا: «ظننتُ أنكِ ربما تودِّين أن تعرفي يا سيدة بينتلاند.»

للحظة، انتابتها رغبة مُفاجئة وعارمة في أن تصرخ قائلةً: «كلَّا، يجب ألا يَرحل! يجب أن تُخبره أن يبقى. لا يُمكنني أن أتركه يرحل هكذا!» أرادت فجأة أن تركض عبر الحقول في اتجاه المنزل الجديد الساطع المبتذل، لتُخبره بنفسها. قالت في نفسها: «إذن كان يعني ما قاله. لقد تخلَّى عن كل شيء هنا.»

ولكنها كانت تَعرف، أيضًا، أنه رحل ليخوض معركته، بعدما تحرَّر وصار لا يُحرِّكه سوى شغفه للنجاح والنصر.

وقبل أن تتمكَّن من الرد على هيجينز، الذي وقف راغبًا في أن تُرسله إلى مايكل، ظهرت الآنسة إيجان، مُتصلِّبة وجامدة ووجهها يكتسي بالتعبير الاحترافي المُوحي بالرزانة والوقار والذي كانت تتَّخِذه في حضور العائلات المكلومة. وقالت: «جئت بخصوص المرأة التي في الجناح الشمالي يا سيدة بينتلاند. تبدو مشرقة جدًّا هذا الصباح وسليمة العقل. تُريد أن تعرف لماذا لم يأتِ السيد بينتلاند لزيارتها لمدة يومَين كامِلَين. ظننت …»

قاطعتها أوليفيا بهدوء. وقالت: «لا بأس. سأَذهَب إليها وأُخبرها. سأُوضِّح لها. من الأفضل أن أفعل أنا ذلك.»

وغادرَت إلى داخل المنزل، وهي تعلم بمرارة أنها تركت وراءها الآنسة إيجان وهيجينز يُشفقان عليها.

وبينما كانت تصعد على السجادة البالية لدرَج السُّلَّم، أحسَّت فجأة بشعورٍ عميقٍ بالسكينة لم تعرف مثلَه طيلة سنوات. لقد انتهى كل شيء الآن، وستستمرُّ الحياة على نفس الوتيرة كما كانت تسير دومًا، مِلؤها النفاق والملل والخداع؛ ولكنها سائغة، أيضًا، رغم كل شيء، ربما، كما قال جون بينتلاند، لأن: «المرء مُضطرٌّ أحيانًا إلى التظاهر.» وعلى أيِّ حال، لقد هربَت سيبيل وسعدت بحياتها.

أدركَتِ الآن أنها، هي نفسها، لن تَهرب أبدًا؛ فقد صارت منذ زمن طويل جدًّا جزءًا من عائلة بينتلاند، وعرفت أن ما قاله الرجل المُسنُّ كان هو الحقيقة. لم تتصرَّف على هذا النحو من منطلق الواجب أو الوفاء بالوعود أو النبل أو الكبرياء أو حتى من منطلق الفضيلة. … ربما كان السبب هو أنها لم تتحلَّ بالقوة الكافية لأن تفعل خلاف ذلك. ولكنها عرفت أنها تصرَّفت هكذا؛ لأنه كما قال: «ثمة أشياء، يا أوليفيا، يعجز أمثالنا عن فعلها.»

وبينما كانت تسير في الردهة الضيقة، رأت من إحدى النَّوافذ الغائرة في الحائط سابين وهي تتحرَّك على الطريق وسط سحابة من الغبار، وعلى مسافة أقرب، عند مدخل ممرِّ السيارات المحفوف بأشجار الدردار، كانت العمة كاسي، مُتشحة بالسواد الشديد، مُقبلة بسرعة وخفة وعلى وجهها غلالة من قماش الكريب. كلَّا، لم يتغيَّر أي شيء. سيستمر كل شيء كما هو …

فُتِح الباب وتدفَّقت الرائحة الكثيفة للأدوية إلى الردهة. ومن الظلام، خرج صوت واهنٌ أشبه بصوت المزمار، مُزعج حتى في تعقُّله، قائلًا: «أوه، هذا أنتِ يا أوليفيا. كنتُ أعرف أنكِ ستأتين. كنت في انتظاركِ …»

كولد سبرينج هاربور،
لونج آيلاند
٤ يونيو، ١٩٢٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤