الفصل الخامس

١

عندما كان آنسون بينتلاند يعود من المدينة مساءً، كانت أوليفيا دومًا موجودة تؤدي واجب انتظاره وتسأله عما حدث في يومه. وكان يُجيبها دائمًا بالردود ذاتها: «لا، لم يكن ثمَّة أحداث كثيرة في البلدة»، و«كان الجو شديد الحرارة»، أو «اكتشفت اليوم اكتشافًا مهمًّا سيكون ذا نفع كبير في الكتاب».

وبعد الاستحمام يظهر مُرتديًا ملابس من قماش التويد ليُؤدِّي تمارينه في الحديقة، ودون جهدٍ كبير ينظر عن كثب بعينَيه الزرقاوين الحسيرتَين إلى بطاقات صغيرة تحمل أسماء مثل: «جنرال بيرشينج» أو «كارولين تيستاوت» أو «بوانكاريه» أو «جورج واشنطن» ربطها بعناية على نباتات الداليا الجديدة والزهور والشجيرات الأصغر. وفي أغلب الأحيان، كان البستاني يقضي نصف صباح اليوم التالي في إزالة البطاقات ووضعها في مكانها على النباتات الصحيحة؛ فحقيقة الأمر أن آنسون لم يكن يهتمُّ بالزهور ولا يعلم عنها إلا القليل. ولم يكن وضع البطاقات إلا جزءًا من هوَسِه بتسمية الأشياء؛ إذ كانت تجعل حديقة آل بينتلاند تبدو مكانًا أكثر هدوءًا وترتيبًا. أحيانًا كان يبدو لأوليفيا أنه أمضى حياته في وضع البطاقات وتصنيف كل ما يصادفه في طريقه: الأخلاق، والمشاعر، والأفكار، وكل شيء. كانت عادة تتنامى لدَيه مع بلوغه منتصف العمر.

وجرت العادة بتأخير وجبة العشاء لأنَّ آنسون كان يُفضل استغلال أيام الصيف الطويلة وتأخُّر الغسق، وبعد تناول العشاء اعتاد جميع أفراد العائلة، باستثناء جاك، الذي كان يأوي إلى فراشه بعد العشاء مُباشَرةً، على الجلوس في غرفة الجلوس المصمَّمة على الطراز الفيكتوري، فكانوا يقرءون الرسائل ويكتبونها أو يَلعبون لعبة سوليتير أحيانًا، بينما يجلس آنسون في ركنِه على مكتب السيد لويل عاكفًا على كتابه: «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس»، ويتابع عددًا هائلًا من المراسلات المُتبادلة مع أمناء المكتبات وكبار السن من الرجال والنساء المنشغلين بالأنساب. ونادرًا ما تغيَّر روتين المساء، فآنسون لم يكن يُحب الخروج وأوليفيا لا تُحبِّذ الخروج بمفردها. ولم يتبدَّل الحال ويتغيَّر روتين العائلة إلا مع بداية فصل الصيف، عندما كبرت سيبيل وبدأت في الخروج من وقت لآخر لتناول العشاء وحضور الحفلات، وبعد أن عادت سابين المزعجة، المعروفة بعِشقها للعبة البريدج، إلى الحي. وقلَّت الآن الأمسيات التي كانت تُمضيها أوليفيا وسيبيل في لعب لعبة سوليتير والعجوز جون بينتلاند جالس يقرأ على ضوء مصباح السيد لونجفيلو أو مُكتفٍ بالجلوس صامتًا محدقًا في الفراغ أمامه، شاردًا مع أفكاره.

وفي تلك الأمسيات الطويلة، أحيانًا ما كانت أوليفيا ترفع بصرها فجأة دون سبب على الإطلاق، لتجد سيبيل جالسة بالطريقة ذاتها تَنظر إليها، فتَعرف كلتاهما أنهما، مثل العجوز جون بينتلاند، كانتا جالستَين طوال الوقت مُمسكتين بكتابَيهما دون أن تَعِيا كلمة مما قرأتا. كان الأمر يبدو وكأن تعويذةً سحرتهم، وكأنهم يَنتظرون شيئًا. ولكن هذا الصمتَ كان يُقطَع مرةً أو مرتَين بحدة حين يعلو صوت تأوُّهات لا تُطاق آتية من الجناح الشمالي حين تُباغِت إحدى نوبات العنف المرأة العجوز وتستحوذ عليها.

كانت المُقاطعات الوحيدة تتمثَّل في تعليقات آنسون العابرة وتفقُّد أوليفيا لغرفة جاك للتأكُّد من أنه لم يُصبْهُ مكروه. كانتا تتحدَّثان دائمًا بأصواتٍ خفيضة وهما تلعبان لعبة سوليتير حتى لا تزعجا آنسون أثناء عمله. وأحيانًا كانت تصادفه معلومة كان قد ظل يبحث عنها طويلًا وعندئذٍ كان يلتفت إليهما ويُخبرهما عنها.

في إحدى الليالي توصَّل لاكتشافه المتعلق بسافينا بينتلاند. …

وحينها صاح قائلًا: «كنتُ محقًّا بشأن سافينا بينتلاند. كانت ابنة عمِّ تُوبي كاين من الدرجة الأولى، وليس من الدرجة الثانية.»

فأبدت أوليفيا اهتمامًا بأن قالت: «أكان ذلك ما راسلتَ صحيفة ترانسكربت بخصوصِه؟»

فأجابها قائلًا: «أجل … وكنت واثقًا من أن المُحرِّر المُختَص بعلم الأنساب كان مخطئًا. انظري … الأمر مذكور هنا في أحد الخطابات التي كتبها جاريد بينتلاند وقت غرقها … كان جاريد زوجها … وهو يُشير إلى تُوبي كاين بصفتِه ابن عمها الوحيد من الدرجة الأولى.»

قالت أوليفيا: «سيُساعدك ذلك كثيرًا، أليس كذلك؟»

رد قائلًا: «سيُساعد في إزالة الغموض عن الفصل المتعلِّق بأصول عائلتها.» وبعدما صمتَ للحظة، أردف قائلًا: «أتمنى أن أتمكن من العثور على أثرٍ ما للمُراسَلات المُتبادلة بين سافينا بينتلاند وكاين. أنا مُتأكِّد من أنها ستُوضِّح الكثير من الأشياء … ولكنها تبدو غير موجودة … فقط رسالة أو رسالتان لا تُوضِّحان شيئًا.»

ثم عاد مرةً أخرى إلى صمتٍ عميق، غارقًا في حفيف الكتب القديمة والرسائل المُصفرة، تاركًا أسطورة سافينا بينتلاند تَستحوِذ على أذهان الموجودين في الغرفة.

كانت لذكرى هذه السيدة طريقة في التسلُّل إلى أفراد العائلة دون وعيٍ منهم، أو بالأحرى دون رغبة منهم. كانت حاضرةً دومًا في المنزل، نابضة بالحياة أكثر من أي سلَف من أسلافهم الأكثر رصانة، ربما لأنها الوحيدة من بينهم التي أحاطتها هالة من العظمة؛ فهي الوحيدة التي كانت بطريقتها الطائشة سيدة عظيمة. كان لطيشها وبذخها سطوة، حجبت في النهاية، جميع الزوجات الأخريات اللاتي اتَّسمنَ بالبساطة والتدبير والملامح الجادة، واللاتي زيَّنت صورهنَّ المرسومة ردهة منزل عائلة بينتلاند، مثلما تَطغى شمس مشرقة بنورها على ضوء النجوم الواهن. وأحاطت بأصولها الغامضة هالةٌ رومانسيةٌ دائمة؛ إذ لم يكن أحد يعرف من كانت والدتها أو من أين جاءت بالضبط. لعل الأم تَنحدِر من أصل لا يقلُّ تواضُعًا عن أصلِ البينتلاندي الأول صاحب الحانوت حين نزل على أرض الخليج، ولكنَّها كانت تَحمِل سُمرة العِرق البرتغالي؛ وقال البعض إنها كانت ابنة صياد سمك. أما سافينا نفسها فكانت تتمتَّع بسحرٍ كان كافيًا لإغواء أحد أفراد بينتلاند الحذِرين ليفرَّ معها مخالِفًا نزعة الشك والارتياب المُتغلغلة في عِظام وَلَحْم عائلة بينتلاند.

برزت صورة سافينا بينتلاند بين باقي صور الرَّدهة البيضاء، فاتنة وجميلة ليس فقط لسُمرتها وحسنِها، وإنما لأنها رُسمت بفرشاة الرسام دومينيك آنجر في روما خلال السنوات التي قضاها في رسم السائحين ليَقي نفسه من شر الموت جوعًا. كانت الصورة الزيتَية لامرأةٍ صغيرة الحجم ولكن ممتلئة القوام ذات عينَين داكنتَين مُغريتين وشعر أسود ناعم يُكلِّل جبينَها المشرق كزهرة كاميليا بيضاء وينتهي بعقدة صغيرة على مؤخِّرة عُنقِها الناصع البياض؛ امرأة أطلَّت من صورة قديمة بنظرة برَّاقة نابضة بالحياة لامرأة عاشت حياتها بجرأة وشغف. كانت ترتدي ثوبًا مخمليًّا بلون بُرتقالي زهري وتزينت بطقم حُلي اللؤلؤ والزمرد الشهير الذي أهداه لها جاريد بينتلاند الولهان، مما تسبَّب في فضيحة لعائلة كان البخل والإقتار دَيْدَنها. وعند المرور عبر المعرض الطويل من الصور المعلقة في الردهة دائمًا ما كانت صورة سافينا بينتلاند هي التي تَجتذِب الانتباه. كانت ذات نفوذ وهي معلقة فوق الجدران ولا بد وأنها كانت كذلك في حياتها، وبدت جريئة ورائعة الجمال وإن بدت أيضًا سوقية بعض الشيء، لا سيما في عالَمٍ يتَّسم أفراده بالرصانة والاتزان كهؤلاء، ومع ذلك كانت جميلة ومفعمة بالحيوية لدرجة أنها جعلت بقية الصور المتراصة بجوارها غير جديرة بأن تؤخَذ في الاعتبار.

حتى في الموت ظلَّت «دخيلة»؛ إذ كانت الوحيدة من بين أفراد العائلة التي لم تَرقد بسلام بين الأشجار المتقزمة أعلى التل الأجرد حيث دَفن آل بينتلاند الأوائل مَوتاهم. كان كل ما تبقى من رُفات الجسد الدفِيء الغَضِّ يرقُد في الرمال البيضاء بقاع المحيط على مرمى بصر آل بينتلاند. بدا الأمر وكأن القدَر كان قد أسلَمَها بالموت إلى أن تُدفن في قبرٍ تكتنفه العواصف والشدائد مثلما كانت تُلاقي وهي على قيد الحياة. وفي مكانٍ قريب منها في الرمال البيضاء المضطربة رقد توبي كاين، الذي كانت قد خرجت معه للإبحار في أحد أيام الصيف المُشرقة فحَوَّلَتْ عاصفةٌ مفاجئةٌ النزهة المبهجة إلى فاجعة.

وحتى العمة كاسي، التي لم تَكن تثِق في أي امرأة ذات نظرة جريئة ومُتحرِّرة كتلك التي رسمها آنجر بفرشاته، عجزت عن إبطال سحر أسطورة سافينا. كانت تجد ذكرى أُخرى أكثر إيلامًا، ذكرى تكمن في معرفتها بأنَّ طقم اللؤلؤ والزمرد وجميع المجوهرات الأخرى التي كانت سافينا قد انتزعتها من زوجها البخيل مدفونة في مكانٍ ما تحت الرمال البيضاء بين عظامها وعظام ابن عمها. لم تكن العمة كاسي ترى سافينا بينتلاند أكثر من مجرَّد مخلوقة طائشة وسفيهة. كانت معاديةً لثروة آل بينتلاند وكل مُثُل العائلة.

شكَّلت الصور الشخصية لأفراد العائلة قيمة كبيرة لآنسون في تأليفه لكتابه، لأنها كانت تُمثل مجموعة الأسلاف الأكثر اكتمالًا في سائر أمريكا. فبدءًا من صورة البينتلاندي المهاجر، المرسومة على لوح خشبي رسمَهُ رسام رحالة من رسامي لافتات الحانات، وانتهاءً بصورة جون بينتلاند الوسيم، والتي رُسمَت له وهو في منتصف العمر مُرتديًا معطفًا ورديًّا بفُرشاة الرسَّام سارجنت، وصورة آنسون الرديئة والكئيبة إلى حدٍّ ما، التي رسمَها له أيضًا السيد سارجنت، كانت المجموعة مكتملةً ولم يكن ينقصها إلا شخصان؛ جاريد بينتلاند المتخاذل زوج سافينا، والبينتلاندي الذي يتوسط والد جون العجوز ومالك السفينة الشراعية السريعة، الذي كان قد تُوفي في الثالثة والعشرين من عمره، وهو أمرٌ من المُشين أن يحدث لأي بينتلاندي.

عُلِّقت الصور في صفٍّ مُزدوَج مُنمَّق في الردهة العالية السقف، مُرتَّبة زمنيًّا دون الاكتراث بالإضاءة، بحيث عُلِّقت الصور الجيدة، مثل تلك التي رسَمَها آنجر وسارجنت للعجوز جون بينتلاند والصورة غير المُكتمِلة لآشور بينتلاند التي رسمها جيلبرت ستيوارت، في أماكن مُعتمة، أما الصور الرديئة مثل الصورة المرسومة على لافتة الحانة للبينتلاندي الأول فكانت مُعرَّضة لوهج ضوء ساطع.

كانت صورة هذا الأب الأكبر لجميع أفراد العائلة قد رُسِمَت عندما كان في التاسعة والثمانين، وبدا على هذه الخلفية الخشبية شيخًا عبوسًا، مُتجهمًا ذا شعر أبيض وعينَين ثاقبتَين قريبتَين جدًّا من بعضهما. كان له وجهٌ يُشبه الوجوه التي يُمكن للمرء أن يراها بين الإخوة بليموث، من قرية ساسكس النائية الشبه المنسية، وجه رجل لافت للنظر فقط لقوة جسده وصلابة عقلٍ خالَفَ كل شيء. ففي سن الرابعة والثمانين، كان منبوذًا بسبب انشقاقه عن الكنيسة التي كان قد صار يعتبرها ملكيته الخاصة.

وبجواره عُلِّقت صورة بينتلاندي آخر كان شخصًا عاديًّا ولم يُخَلِّف وراءه ولو حتى أسطورة غامضة؛ وإلى جواره يظهر الوجه الوقح والبغيض، للبينتلاندي الذي عذَّب النساء العجائز الغريبات الأطوار بغمرهنَّ في الماء زعمًا بأنهنَّ ساحرات، وقطع آذان الكويكرز المُسالِمين في المُستعمَرة التي تأسست إعلاءً ﻟ «حرية عبادة الرب».

أما البينتلاندي الثالث فكان أعظم مُبشِّري زمانه، رجل خاض في نيو إنجلاند حاملًا شعلة التبشير عاليًا، واعظًا في جموع أهل القرية الغلاظ بلُغة فظَّة ذات نبرة حماسية، لدرجة أن نساءً عجائز فارقن الحياة إثر الإصابة بسكتة دماغية وأنجبتِ الشابات أطفالًا مبتسرين. أظهرت العظات التي بقيَت حتى يومنا هذا أنه كان رجلًا غير مثقَّف، بل وفي بعض الأحيان أقرب إلى كونه أُمِّيًّا، ومع ذلك كان قد أسَّس بطاقتِهِ الهائلة مدرسةً عُليا وذاع صيتُهُ بصفته واعظًا و«سيف الرب الملتهِب» حتى وصل إلى الإخوة الجهَلة والبسطاء في الريف الإنجليزي الداخلي.

أما البينتلاندي التالي فكان الابن الأكبر من بين عشرين طفلًا من أطفال المبشر (من أربع زوجات)، وهو رجل كان من الواضح قد أهمل وصايا والده وظهر في صورته، مثالًا للرجل الشهواني، سمينًا جدًّا ويبدو ودودًا، وذا شفتَين حمراوين مكتنزتين. كان هذا البينتلاندي هو المؤسس للثروة التي أتاحت للعائلة أن تخطو خطوتها الأولى صعودًا نحو الطبقة الأرستقراطية التي انتهت بآنسون المنكبِّ على كتاب «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس». كان قد حقَّق ثروةً كبيرة بتجهيز سفن القراصنة وممارسة ما يُشبه القرصنة على التجار البريطانيين؛ وكانت هناك أيضًا شائعة رائجة غامضة (كان آنسون يَنوي تجاهُلها) بأنه حقَّق أرباحًا تصل إلى ثلاثمائة بالمائة من سفينةٍ واحدة محملة بالزنوج بغرض الاتِّجار بالرقيق من الأفارقة.

تليه صورتان لاثنين من البينتلانديين كانا قد شاركا في الثورة، وبعدها تأتي فجوة أخرى من الأشخاص العاديين، بما في ذلك الفجوة التي مثَّلَها جاريد المفقود، ثم يظهر أنتوني بينتلاند الذي زاد ثروة العائلة زيادة مَهولة من تجارة السفن الشراعية السريعة. كانت صورةً لرجل قوي داكن البشرة (أول البينتلانديين ذوي البشرة السمراء، ممَّن يُمكن تتبع نسبهم مباشرةً وصولًا إلى الأصول البرتغالية لسافينا)، رسَمَها له فنان من الدرجة الثانية مُخلِص للأسلوب الواقعي في الرسم، وكان قد صوَّر ببراعة الثآليل التي أفسدت وجه الرجل العجوز الموقَّر. وفي الصورة كان يقف في الحديقة أمام منزل عائلة بينتلاند في دورهام، وخلفه الأهوار وسفينته الشراعية الفاخرة سميراميس، تمخر، بأشرعتها المفتوحة كلها، المحيط البعيد.

وإلى جواره تظهر صورة والد العجوز جون بينتلاند؛ وهو رجل يظهر على ملامحه الورع، يَرتدي زيًّا أسودَ بالكامل، بياقة سوداء عالية وشعر أسود غزير مموج، وهو الذي زاد ثروة العائلة حتى صارت ثروة كبيرة حقًّا من خلال عمله في تعاقُدات توريد الأحذية والأغطية للجنود في جيتيسبيرج وبول رَن وريتشموند. وبعده اندحرت الطبقة الأرستقراطية تمامًا، وتظهر الصورة التي رسمها سارجنت للعجوز جون بينتلاند وهو في منتصف العمر رجلًا كان خبيرًا في استخدام كلاب الصيد وعاش حياة رجلٍ ريفي نبيل، رجلًا يتجلَّى نفوذُه وشخصيته، تحوَّلت ملامحه القوية تدريجيًّا إلى ملامح قاسية تكسوها المرارة للرجل المُسن الذي كان جالسًا الآن يقرأ على ضوء مصباح السيد لونجفيلو أو يَكتفي بالتحديق أمامه في الفراغ، بينما ابنه جالس يُدوِّن التاريخ الطويل للعائلة.

كان الغرباء يُفتَنون بمعرض الصور هذا؛ لأنه كان يُمثِّل سجلًا مرئيًّا لعائلة لم تَفقِد مطلقًا أيًّا من أموالها (باستثناء الأموال المُهدرَة على ترف جواهر سافينا بينتلاند)، عائلة كانت بمَثابة العمود الفقري لمُجتمَع محلي، عائلة تزوَّج فيها الرجال زوجاتهن لحُسن تدبيرهن ومزاياهن كربَّات بيوت وليس لجمالهنَّ، عائلة مُتماسكة جديرة بالاحترام ومحاطة بالإجلال. كانت عشيرة تتميَّز بعظمة مناقبها ونفوذها، بل وفي بعض الأحيان بعظمة تعصُّبها وريائها. وكان يُمثلها الآن العجوز جون بينتلاند وآنسون، والفتى الذي يرقد طريح الفراش في الطابق العلوي في الغرفة المجاورة لغرفة أوليفيا، يُحتضر ببطء.

•••

في الساعة العاشرة من كل ليلة، كان جون بينتلاند يتمنَّى لهم ليلة سعيدة ثم يأوي إلى الفراش، وفي الحادية عشرة كان آنسون يتركهم ويَختفي، بعد أن يُرتِّب مكتبه بدقة ويضع أوراقه في ملفاتها، ويقول لأوليفيا: «لو كنتُ مكانكِ، لما أطلتُ السهر، وأنتِ متعبة بشدة.» وبعده بقليل، تُقبِّل سيبيل والدتها وتصعد الدَّرَجَ مُرورًا بجميع الأسلاف.

وحينها فقط، بعد أن يَنصرفوا عنها جميعًا، تنعم أوليفيا ببعض السكينة. فتزُول عنها الأعباء، والهموم، والمخاوف، والأفكار التي أثقلَت دومًا كاهلها، وتجلسُ لبعض الوقت مُسندةً ظهرها على الكرسي ذي المسندَين ومُغمضةً عينَيها، مُصغيةً إلى أنغام الليل؛ همهمات النسيم الخافتة بين زهور اللَّيْلَك‏ الذابلة خارج النافذة، والصرير الصادِر عن المنازل العتيقة ليلًا، وأحيانًا الصوت المشئوم لخطوات الآنسة إيجان الصادرة من بعيد وهي تَجتاز الجناح الشمالي العتيق. ثم في إحدى الليالي سمعت مرةً أخرى صوت هيجينز الصادر مِن بعيد وهو يسُبُّ الفرس الحمراء أثناء جولة تفقُّده للإسطبلات قبل خلوده إلى النوم.

وبعدما انصرف الجميع، فتحت كتابها وانهمكت في القراءة. «لم تُحِر السيدة كليف جوابًا، وفكرت بخزيٍ في أنها كانت ستأخُذ كل ما قيل عن التغيير الذي اعترى الأمير علامات دالة على عاطفته، لو لم تكن قد تحرَّرت من الأوهام. كانت تشعر ببعض المرارة تجاه زوجة وريث العرش. …» كانت تشعر في هذا العالم لسببٍ تجهلُه ببعض السكينة، كما لو أنها كانت قد عاشت فيه سابقًا وعادت إليه في سكون الليل.

وعند حلول مُنتصَف الليل كانت تُغلق الكتاب، وتتفقَّد الغُرَف السُّفلية، وتُطفئ المصابيح وتصعد الدَّرج الطويل لتقف عند باب غرفة ابنها مُنصتةً إلى صوت أنفاسه، الخافتة المضطربة.

٢

كانت أوليفيا مُحقَّة في اعتقادها بأن آنسون شعَر بالخجل من تصرُّفه ليلة الحفل الراقص. لكنه لم يعتذِر لها ولم يأتِ على ذكر الأمر. واكتفى بعدم الحديث عنه ثانيةً. ولأسابيع بعد الواقعة لم يَذكر اسم أوهارا، ربما لأنَّ الاسم كان يُثير حتمًا ذكرى حديثه المباغت المُهين؛ غير أن شُعوره بالخجل منعه من مضايقتها بالحديث في الموضوع. ما لم يَعرفه مطلقًا هو أن أوليفيا، رغم استيائها من الإهانة التي وُجِّهَت إلى والدها، شعرت أيضًا بالسرور النابع من فساد أنثوي؛ لأنه أظهرَ ولو للحظة نوبةً مفاجئة من الغضب الحقيقي. للحظة أوشك أن يَصير الزوج الذي قد يُثير اهتمام زوجته.

ولكنه في النهاية غاص من جديدٍ في بحر من اللامبالاة التامَّة حتى إن حمْلةَ تلميحات العمة كاسي ومقترحاتها الخفية عجزت عن استثارته للإقدام على أي تصرُّف. تمكنت المرأة العجوز من الانفراد به مرة أو مرتَين، قائلة له: «آنسون، والدك يَكبُر في السن ولا يمكنه تدبير أمر كل شيء أكثر من ذلك. يجب أن تشرع في اتخاذ موقف بنفسك. فلا يُمكن للعائلة أن تَعتمِد على امرأة. بالإضافة إلى أن أوليفيا دخيلة حقًّا. ولم تَفهم عالَمنا قط.» وبعد ذلك كانت تهز رأسها بأسًى، وتُتمتِم قائلة: «ستَقع مشاكل يا آنسون، حين يموت والدك، إن لم تُصبح سندًا للعائلة. وستواجِهُ مشكلة مع سيبيل؛ فهي غريبة وعنيدة بطريقتِها الهادئة، تمامًا مثلما كانت أوليفيا في مسألة إلحاقها بمدرسة في باريس.»

وبعد فترةِ صمت، تُعاود الحديث قائلة: «أنا آخر شخص في العالم يتدخَّل في شئون الآخرين؛ ولكنَّني أتحدث فقط من أجل مصلحتك ومصلحة أوليفيا ومصلحة جميع أفراد العائلة.»

ولكي يتخلَّص منها، كان آنسون يمنحها وعودًا، مُواجهًا إياها بعينَين تَتحاشيان النظر إليها في إحدى زوايا الحديقة أو المنزل القديم حيث كانت قد حاصرته بذكاءٍ حتى لا يتمكَّن من الهروب منها. وكان يتركها، مُضطربًا وقلقًا؛ لأن العالم وهذه العائلة التي أثقلت كاهله دون قصد، لن يَدَعاه ينعم بالسلام ليُكمل كتاباته. كان يَمقُت العمة كاسي بشدة لأنها لم تَتركه يَنعم بالسلام مطلقًا، منذ كان صغيرًا حين جعلتْه يرتدي بنطالًا من القطيفة وتركت شعره مُجعَّدًا فبدا أشبه باللورد الصغير فنتلوري مما أثار سخرية سابين الصغيرة الصهباء القبيحة. ولم تتوقَّف أبدًا عن توبيخه على «عدم كونه رجلًا يُدافع عن حقوقه.» وبدا له أن العمة كاسي كانت تحوم دائمًا في الجوار، كثورة غضب خفية مُلحَّة، تُزعجه دائمًا؛ ومع ذلك كان يعرف، من مُنطلَق الغريزة أكثر من أيِّ عملية استدلال منطقي، أنها كانت حليفته في مواجَهة الآخرين، حتى في مواجهة زوجته ووالده وابنَيه. فهو والعمة كاسي كانا يَعبُدان نفس الإله.

لذلك لم يفعل شيئًا، أما أوليفيا، فأوفتْ بكلمتِها، وتحدَّثت مع سيبيل عن أوهارا في أحد الأيام وهما جالستان بمُفردهما يَتناولان وجبة الإفطار.

كانت الفتاة قد امتطَت فرسها برفقته ذاك الصباح، وجلست وهي مُرتدية زيَّ ركوب الخيل، وقد تورَّد وجهها بفعل النشاط البدني الذي بذلته في الصباح الباكر، وكانت تُخبر أمها عن جمال ريف دورهام، وعن جِراء البيجل الوليدة، وعن وفاة سميث «العنيد»، الذي كان آخر مزارع في المقاطعة يَنحدِر من نسل سكان نيو إنجلاند القدامى. وقالت إن ابنَه الأبله، سُيرَحَّل إلى ملجأ. وقالت إن أوهارا سيشتري قطعة الأرض الصخرية التي كانت ملكًا له.

وعندما أنهت حديثها، قالت والدتها: «وماذا عن أوهارا؟ أنتِ مُعجبَة به، أليس كذلك؟»

كانت لدى سيبيل طريقة في النظر إلى الأشخاص، وكأنَّ عينَيها البنفسجيتَين كانتا تُحاولان أن تخترقا كل الادعاءات المزيفة وتكشفا النقاب عن الحقيقة. كانت تَتسلَّح بقوة نابعة من الصدق والبساطة كانت كفيلة بتبديد أي شُكوك تمامًا، واستخدمت هذه القوة في تلك اللحظة، مُبتسمةً لوالدتها، بصدق.

وقالت: «أجل، أنا مُعجَبة به كثيرًا … ولكن … ولكن …» وضحكت برقة. ثم قالت: «إن كنتِ قلقة بشأن زَواجي منه، ووقوعي في حبِّه، فلا داعي لذلك. فأنا مُولعة به لأنه الشخص الوحيد هنا الذي يُحبُّ الأشياء التي أُحبها. إنه يحب ركوب الخيل في الصباح الباكر، بينما لا تزال قطرات الندى على العشب، ويحبُّ أن يتسابق معي عبر المرج السُّفلي إلى جانب مقلع الحجارة، ولا أُنكر أنه رجل مُثير للاهتمام. فعندما يتحدث، يكون كلامه منطقيًّا. ولكن لا تقلقي؛ فلن أتزوَّجه.»

قالت أوليفيا: «شغَلني الأمر، لأنكِ تُقابلينه أكثر مما تُقابلين أي أحدٍ آخر هنا.»

فضحكت سيبيل مرةً أخرى. وقالت: «ولكنه كبير في السن يا أمي. إنه يتجاوَز الخامسة والثلاثين. إنه كهل. وأنا أعرف أي نوع من الرجال أريد الزواج منه. أعرف بالضبط. سيكون في مثل عُمري.»

فقالت أمها: «لا يستطيع المرء دائمًا أن يجزم بهذا الأمر. فالأمر ليس بتلك السهولة.»

فقالت سيبيل: «أنا واثقة من أنني أستطيع أن أجزم بذلك.» وارتسم على وجهها تعبيرٌ جادٌّ. وقالت: «لقد فكَّرت في الأمر مليًّا ورأيت الكثير من الرجال الآخَرين.»

أرادت أوليفيا أن تبتسم، ولكنها كانت تعلم أنها لن تجرؤ على ذلك إن أرادتها أن تأتمنها على أسرارها اللطيفة والساذجة.

وتابعت سيبيل حديثها: «وأنا واثقة من أنني سأتعرَّف على الرجل المناسب عندما أراه، على الفور. سيكون الأمر أشبه بشرارة، كصداقتي مع أوهارا، لكنه سيكون أعمق من ذلك.»

فسألتها أوليفيا: «هل سبق لكِ أن تحدثتِ مع تيريز عن الحب؟»

فأجابتها: «لا، لا يُمكن التحدُّث معها في مثل هذه الأمور. فهي لن تَفهمها. تيريز تنظر إلى كل شيءٍ من ناحية عِلمية، وبيولوجية. وحين تتزوَّج تيريز، أظنُّها ستتزوَّج رجلًا تختاره ليكون أبًا مُناسبًا لأولادها، من الناحية العلمية.»

«ليست بفكرة سيئة.»

«يمكنها أن تُنجِب منه دون أن تتزوَّجه، بالطريقة التي تُربي بها الضفادع. أرى ذلك بغيضًا.»

ومرةً أخرى، استولت على أوليفيا رغبةٌ مُلِحَّةٌ في الضحك، وتمالكت نفسها بجهد بطولي. وظلت تُفكر في مدى سذاجتها، وجهلها، حين كانت في نفس عمر سيبيل، وكانت ساذجة وجاهلة رغم نوعية الخبرات الفاسِدة التي اكتسبتها في أروقة فنادق كونتيننتال. وظلَّت تُفكِّر في أن لدى سيبيل فرصة أفضل بكثير لنَيل السعادة … سيبيل، الجالسة أمامها بملامح جادة، تُدافع عن أفكارها الحماسية عن الرومانسية في مواجَهة الهجمات العلمية لتيريز السمراء، المتحمسة.

واستطردت سيبيل قائلة: «سيكون شخصًا مثل أوهارا. شخصًا مُفعَمًا بالحياة؛ لكنه لن يكون كهلًا مثل أوهارا.»

(إذن كانت سيبيل ترى أوهارا كهلًا، وكان أصغر بأربع سنوات مِن أوليفيا، التي شعرت بأنها في أوج شبابها وبدَتْ هكذا. ظلت الفتاة تتحدث عن أوهارا كما لو أن حياته قد انتهت؛ ولكن ربما كان ذلك فقط لأنها هي نفسها كانت لا تزال صغيرة جدًّا).

حينئذٍ تنهدت أوليفيا، رغمًا عنها. وقالت: «يجب ألا تتوقَّعي الكثير من العالَم يا سيبيل. لا شيء مثالي، ولا حتى الزواج. يتعيَّن على المرء دومًا أن يُقدم تنازلات.»

فأجابتها: «أجل، أعي ذلك. لقد فكرتُ كثيرًا في الأمر. ومع ذلك، أنا واثقة من أنني سأتعرف على الرجل الذي سأتزوَّجُه متى وقعت عيناي عليه.» ومالت إلى الأمام وقالت بحماس: «ألم تكن لديكِ تلك القُدرة حين كنتِ فتاة؟»

أجابتها أوليفيا برقة: «أجل، كنتُ قادرة على ذلك.»

ثم، حتمًا، طرحت سيبيل السؤال التي ظلَّت أوليفيا تدعو الرب ألا تسأله. حتى إنه كان بإمكانها سماع سؤال الفتاة قبل أن تتفوَّه به بالفعل. كانت تعرف بالضبط ما ستقوله.

فسألتها سيبيل: «ألم تشعُري بذلك فور لقائكِ بأبي؟»

وعلى الرغم من كل مُحاولاتها، أفلت من أوليفيا صدى تنهيدة خافتة. وقالت: «أجل، شعرتُ به.»

ورأت سيبيل ترمقها بإحدى نظراتها الثاقبة الخاطفة الموحية بالتساؤل، ثم أحنتْ رأسها فجأة، وكأنها تتظاهر بتفحُّص النقش على طبقها.

وحين تحدثت مرةً أخرى، غيَّرت الموضوع فجأةً، فعلمتْ أوليفيا بأن الفتاة تشكُّ في صدق ما قالته، وهو ما ظلَّت تكتمُه بسريةٍ شديدة لوقتٍ طويل.

وسألتها: «لماذا لا تُعاودي ركوب الخيل يا أمي؟ أودُّ الذهاب معكِ. يُمكننا الذهاب مع أوهارا في الصباح، وحينئذٍ لن يكون لدى العمة كاسي ما تقوله عن اختلاطي به.» ثم رفَعَت رأسها. وقالت: «ستُعجبين به. لن تستطيعي منع نفسكِ من ذلك.»

لاحظت أن سيبيل كانت تُحاول أن تساعدَها بطريقةٍ ما، أن تَصرف انتباهها وتُبدِّد التعاسة.

فقالت أوليفيا: «أنا مُعجَبة به بالفعل، مُعجَبة به كثيرًا.»

ثم نهضت، وقالت: «لقد وعدتُ سابين أن أذهب معها بالسيارة اليوم إلى بوسطن. سنُغادر في غضون عشرين دقيقة.»

انصرفت بسرعة لأنها علمت أن الجلوس وقضاء المزيد من الوقت في الحديث عن مثل هذه الأمور، بينما كانت سيبيل تُراقبها بعينين تفيضان بحماس الشباب الذي ما تزال الحياة أمامه، سيكون أمرًا محفوفًا بالمخاطر.

ومن كل هذا الحديث الذي دار بينهما، علق في ذهن أوليفيا أمران مُميزان؛ الأول أن سيبيل كانت ترى أوهارا كهلًا، بل يكاد يكون مسنًّا، لم تَعُد أمامه أيُّ فرصة للرومانسية؛ والأمر الثاني هو الاحتمال الكبير لمأساةٍ تَنتظِر فتاة كانت واثقة جدًّا من أن الحب من شأنه أن يكون علاقةً رومانسية رائعة، وواثقة بشدة من الرجل المثالي الذي ستَجدُه ذات يوم. ماذا يتعين عليها أن تفعل مع سيبيل؟ وأين ستجد رجلًا كهذا؟ وحين تجده، ما الصعوبات التي سيتعيَّن عليها مواجهتها مع جون بينتلاند وآنسون والعمة كاسي وجميع أبناء العم والأقارب الذين سيُنظِّمُون صفوفهم في مواجهتها لهزيمتها؟

وذلك لأنها رأت بوضوحٍ كافٍ أن هذا الشاب الذي تَنتظرُه سيبيل لن يُجسِّد أبدًا فكرتهم عن الزوج المناسب. سيكون رجلًا بصفات أوهارا، أو حتى هيجينز، سائس الخيل. وتجلَّى لها بوضوح السبب الذي جعل سيبيل مُولعة بهذَين الدخيلَين؛ كانت قد اتضحت لها الصورة أكثر فأكثر مؤخرًا. كان السبب أنهما يتمتَّعان بقوة غريبة غامضة، يفتقر إليها الآخرون الذين يعيشون في منزل عائلة بينتلاند كلهم، ويتمتَّعان بحماس متَّقد وحيوية. فلا النسب، ولا الظروف، ولا التقاليد، ولا الثروة، جعلتْهما ينظران إلى الحياة على أنها فارغة لا معنى لها، لا تتطلَّب منهما أي جهد، أو صراع، أو كفاح. فلم يَضِلَّا طريقهما في متاهات مُبهَمة. كان أوهارا، بعمله وجهده، وهيجينز بعلاقاته الغرامية الخاطفة وقربِه من كل ما هو تُرابي، لا يزالان يحملان في نفسَيهما زهوة الاستمتاع بلذة الحياة. توصَّلا بطريقةٍ ما إلى بواطن الأشياء حيث لا يزال لكل شيءٍ طعم ومذاق خصب.

وبينما كانت تسير في الردهة، وجدت نفسها تَضحك بصوتٍ عالٍ على عناوين الكتب الثلاثة الوحيدة التي أنتجتها عائلة بينتلاند حتى ذلك الحين؛ «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس»، وكتابَي السيد سترازرس: «أفاريز منازل بوسطن القديمة» و«جولات ومحادثات في باحات كنائس نيو إنجلاند.» فكَّرت فجأة فيما قالته سابين بطريقة لاذعة عن نيو إنجلاند؛ أنها مكان من المرجَّح أن تُصبح فيه الأفكار «أعلى وأقل».

ولكنها أيضًا كانت خائفة؛ لأنه في ظلِّ فتنة الحياة المحيطة بها، بدا لها أنَّ فضائل أوهارا وهيجينز هي الأمور الوحيدة في العالم التي تستحق حيازتها. كانت تتُوق إلى الشعور بأنها حية، وهو ما لم تشعر به مِن قبل، وعرفت أيضًا أن هذا ما كانت تَطمح إليه سيبيل، وهي تتحسَّس طريقها في سنوات الشباب نحو الرومانسية بأعينٍ شبه مُغمَضة. كان شيئًا استشعرته الفتاة ولم تَعِهِ بوضوحٍ أبدًا، شيئًا علمت بوجودِه وبأنه في انتظارها.

٣

أخذت سابين تُراقب أوهارا وهو يَجتاز الحقول أثناء الشفق، وشعرت فجأةً أنها تمكَّنت بحدسها من التغلغل إلى أعماق شخصيتِه. لعلَّ وحدته الشديدة كانت المفتاح الذي يفتح أقفال روحه بأكملها ويطلق لها العنان، مفتاح عرفته سابين جيدًا؛ لأن هذا الشعور لم يفارقها قط طوال حياتها، باستثناء لحظة أو لحظتَين من اللحظات العاطفية المفاجئة في مسار حياتها مع كاليندار، عندما تحرَّرت من شعور مؤلم بأنها وحيدة. حتى وهي برفقة ابنتها، تيريز الغريبة الأطوار، كانت وحيدة. كانت تُراقب الحياة بالشغف ذاته الذي كانت تراقب به أوهارا وهو يَبتعِد في مُواجهة الأفق، وكانت قد أدركت منذ وقتٍ طويل أن الوحدة كانت لعنة تُلازم الأحرار، حتى أولئك الذين ارتقوا قليلًا فوق مُستوى الإنسانية العادية. وتأملت الحياة حولها، فوجدت أن العجوز جون بينتلاند كان وحيدًا، وأوليفيا، وحتى ابنتها تيريز، التي كانت تتجوَّل بمُفردها عبر الأهوار بحثًا عن الحشرات والنباتات الغريبة. ورأت أن آنسون بينتلاند لم يكن وحيدًا مُطلقًا؛ إذ كان لدَيه أصدقاء يُشبهونه لدرجةٍ حالت دون التمييز بينه وبينهم، وكان يَتشارك مع العمة كاسي كل التقاليد والهوس ذاته. كانا جزءًا من نسيج، رقعة صغيرة من نسيج الحياة الكامل، لا يَنفصِلان عنه.

بدا لها أن مِن بينهم جميعًا، كما اتَّضح لها شيئًا فشيئًا عن أوهارا، كان هو أكثرهم شعورًا بالوحدة. كان لدَيه أصدقاء، عشرات، بل مئات، في عشرات الدوائر، بدءًا من الموانئ التي قضى فيها صباه وحتى العالم المحيط بدورهام الذي قابل فيه آخرين عامَلُوه بودٍّ وليس بالفتور الذي لقِيَه من جانب عائلة بينتلاند. حظيَ بالأصدقاء لتمتُّعه بخصلة مميزة لا تُقاوم. ففي أعماق عينَيه الزرقاوين المَرِحتَين وفي زوايا فمه المكتنز، الشهواني نوعًا ما، كان يَكمُن نوع من التعاطف الشامل الذي جعله متفهمًا لمخاوف الآخرين وآمالهم وطموحاتهم ومواطن ضعفهم. وكانت تلك الصفة، التي لا تُقدَّر بمال في مجال السياسة، هي ما دفع أعداءه إلى التشهير به زورًا عند كل الناس. لا بدَّ أنه كان يَمتلك موهبة تكوين صداقات، وهذا يُفسِّر وجود قطاعاتٍ كاملة من بوسطن مُستعدَّة لأن تَتبعه أينما ذهب؛ ولكن خلف هذه الروابط الوثيقة غير المتكلفة كان يُوجَد دائمًا ستار من نوع ما يَفصلُه عنهم. كان يتصرَّف بأريحية في الحانات المُتواضِعة أو في ولائم جولات الصيد الصباحية بنفس القَدر من البساطة، ولكن كان هناك جانب منه — الجانب الذي كان يُمثل شخصية أوهارا الحقيقية — لم ينكشف لأحد على الإطلاق، الجانب الذي كان يمثل شخصية رجل أيرلندي شديد الحميمية، رومانسي، حالم، تُحرِّكه العاطفة، طائش، غير مُتقيِّد بشيء، وهذه الشخصية كانت متوارية في موضع لا يُمكن لأحد اختراقه. عرفت سابين هذا الجانب من أوهارا؛ إذ كان قد انكشف لها في لمحةٍ خاطفة سريعة عند الإتيان على ذكر أوليفيا بينتلاند. وبعد ذلك حينما فكَّرت في الأمر، استسلمت له، هي (سابين كاليندار)، التي تتَّسم بالصلابة، والقسوة البالغة، والتشكُّك، مثلما فعل أناسٌ كُثرٌ قبلها.

وبينما كان واقفًا في غرفة الجلوس الخاصة بها، ضخمًا وقويًّا ومُستقلًّا، بدا فجأة كصبيٍّ صغير، كالصبي الذي صادفته ذات مرة منذ فترة طويلة في وقت مُتأخِّر من الليل، جالسًا وحيدًا وصامتًا على حافة الرصيف أمام منزلها في شارع دي تيلسيت. فتوقَّفت للحظة وراقبتْه، وبعد قليل اقتربت منه وسألته: «ماذا تفعل على الرصيف في هذه الساعة من الليل؟» فرفع الصبيُّ ناظرَيه، وقال بجدية: «ألعب.»

حدث ذلك قبل سنوات — ولا بد أن الصبي صار شابًّا الآن — ولكنها تذكَّرت الصبي فجأةً خلال اللحظة التي التفت فيها أوهارا وقال لها: «سيعني لي ذلك الكثير، أكثر مما يُمكنكِ أن تتخيلي.»

أدركت أن تلك كانت هي حقيقة أوهارا؛ رجل حزين ووحيد بعض الشيء، وكأنه في خِضمِّ كل النجاحات التي حقَّقها، وحياته المهنية المزدهرة ومنزله الجديد الكبير وكلابه وخيوله وكل الأشياء الأخرى مما كان يَمتلكُه من عتاد مُبهر يخصُّ رجلًا نبيلًا، تطلَّع إليها وقال بجدية: «ألعب.»

كانت سابين قد أدركت منذ وقتٍ طويل أن المرء بإمكانه أن يتذوَّق طعم الحياة حين يُنحِّي جانبًا كل القواعد الصغيرة التي تُربك كيانه، وكل الروابط، والمعتقَدات والتقاليد التي كانت قد دُرِّبَت عليها تدريبًا مكثفًا وقاسيًا حتى انتهى بها الأمر إلى أن صارت مُتمرِّدة عليها. ووراء كل اللامبالاة البادية على ملامحها والتعقيدات الذهنية، تستقرُّ ركيزة من الصدق والإخلاص الشديدَين اللذَين دفعاها إلى البحث عن رفاقها، فكانت تتعرَّف إليهم بطريقة مباشرة كما يبلُغ السهم هدفه، فقط من بين الأشخاص الذين أسمتهم «كاملين». كانت تسميةً لم تكلف نفسها جهد تعريفها لأي أحد، ربما لأنها كانت تشكُّ في أن أحدًا غيرها سيَلتفِت إلى معنى هذه التسمية؛ بل كانت هي ذاتها ترى أن تلك التسمية تفتقر إلى الدقة. وعلى نحو مُبهَم، كانت تقصد بكلمة «الكمال» الأشخاص الذين يُعوِّلون على أنفسهم، والذين لدَيهم كيان قوي بما يكفي للصمود أمام أي اعتداءٍ أو انهيار يُصيب أي بيئة يكونون فيها، أشخاص يُمكنهم العيش مُستقلين عن أي عالَم مادي، يفتخرون بامتلاكهم إحساسًا بالفردية، ويُمكنهم أن يثبتوا أقدامهم ويُقرِّرون مصائرهم بنجاح أينما شاء القدر أن يضعهم. كانت قد اكتشفت أن وجودهم شيء نادر، ومع ذلك كانوا موجودين في كل مكان، وهؤلاء أمثال جون بينتلاند وأوهارا وأوليفيا وهيجينز.

لذا، كانت قد خلصت إلى أن تبحث عن حياتها بينهم، مُجتذبةً إياهم بهدوء حولها أينما يتصادف في هذا العالم أن تتوقف لتستريح لبعض الوقت. فعلت ذلك بهدوء ودون هتافات عالية منادية ﺑ «الحرية» و«الحب المتحرر» و«حق المرء في أن يعيش حياته»؛ لأنها كانت مُتحضِّرة بما يكفي لأن تُدرِك عبثية لفت أنظار العالم إليها، وكانت تتَّسم بانفعالية مُفرطة وبنزعة فردية لدرجة أنها لم تحاول مطلقًا تغيير الآخرين. لعلَّ هنا تكمن قوتها الناعمة ومصدر ذلك الغموض الذي يجعل وجودها مربكًا ومزعجًا لأناس مثل آنسون والعمَّة كاسي. كان أمرًا لا يُطاق للعمة كاسي أن تظنَّ أن سابين حقًّا لم تعبأ حتى باحتقارها، لا يُطاق لامرأةٍ عجوز أمضت حياتها كلها في ترتيب حياة الآخرين أن تجد أن شابَّةً طائشة مثل سابين لا تنظر إليها إلا باعتبارها مثيرة للسخرية والشفقة. ولم تحتمِل عدم قدرتها على إخراج سابين من لامبالاتها الهادئة المتغطرسة، ولم تحتمل معرفتها بأنها كانت تُراقبها دائمًا بعينَيها الخضراوين، وتتفحصها ببصرها مرارًا وتكرارًا وكأنها حشرة لتكتشف أنها حشرة من نوع متدنٍّ. فأولئك الذين شاركوا في اكتشاف سرِّها كانوا مُغرَمين بها، أما أولئك الذين لم يفعلوا فكانوا يبغضونها. وعلى أيِّ حال، كان سرًّا شديد البساطة، مفاده ضرورة تحلي المرء بالبساطة والودِّ والإنسانية و«الكمال». فلم يكن لديها صبر على المبالَغة في إظهار العواطف، والتكلف وتصنُّع التقوى.

وهكذا، بدأ حضور سابين يُشكل تدريجيًّا صدعًا غير محدَّد المعالم في عالمٍ قانعٍ وراضٍ بل وفخور بذاته. شيء ما في عينَيها الخضراوَين الباردتَين، في صوتها الرنان، في الملاحظات المباغِتة الحصيفة، المحررة من الأوهام التي كانت تُعلنها في لحظاتٍ مربكة، ملأ أناسًا مثل العمة كاسي بالقلق وأثار في نفوس أناسٍ مثل أوليفيا شعورًا مُتَّقِدًا بالتبرُّم والتمرُّد. ازدادت أوليفيا نفسها وعيًا بالفارق مع مرور الأيام، وتشكَّكت أحيانًا في أن حماها، العجوز القاسي، كان واعيًا بالأمر. كان الأمر بيِّنًا ومُفحمًا لأن سابين لم تكن دخيلة؛ فمن شأن سخرية الدخلاء أن ترتدَّ عن عالم دورهام دون تأثير مثلما ترتدُّ الأسهم عن ظهر حيوان المُدرَّع. لكن سابين كانت واحدةً منهم؛ وكان ذلك ما أحدث الفارق؛ إذ كانت دومًا داخل القوقعة.

٤

في إحدى ليالي صيف يونيو الحارة التي خلت من أي نسمات، تغلَّبت سابين على شعورها بالخمول الباعث على الملل وجهَّزت وجبة عشاء في منزل «بروك كوتيدج»؛ عشاءً فاخرًا، به ما لذ وطاب من طعام، وربما قيل إنها أعطت لضيوفها إيحاءً بلامبالاة هائلة من الكرسي الذي على رأس المائدة، حيث جلستْ تُغطي وجهها الأصباغ، وترتدي ملابس قبيحة ومُبهرجة، تُراقبهم جميعًا بمتعة مُنحرفة. فشلَ هذا العشاء فشلًا ذريعًا في ضيافة المدعوِّين؛ لأنه كانت قد مرت سنوات طويلة منذ أقامت سابين عشاءً لم يكن فيه الضيوف الحاضرين بارعين بما يَكفي لأن يؤدُّوا واجبات الضيافة بأنفسهم، والآن بعد أن عادت مرةً أخرى إلى عالم تعدَّدت فيه أسباب دعوة الناس إلى العشاء عدا سبب الرغبة الحقيقية في صُحبتهم، تقاعسَت عن بذلِ أي جهد. وفشل العشاء أيضًا، لأن تيريز، التي أُقيم العشاء من أجلها، تصرَّفت تمامًا كما تصرَّفت في ليلة الحفل الراقص. سرت حالة من الاضطراب والتوتُّر، وشعور بالحرج بين الشباب الغرِّ أما سابين وأوليفيا فشعرتا بالملل. كان أوهارا حاضرًا؛ إذ كانت سابين قد أوفتْ بنصف وعدها؛ ولكن حتى هو جلَس بهدوء، واختفت جُرأته واندفاعه وحلَّ محلهما خجل صبياني. وبدا أنه سيطَرت على الوضع كله حالةٌ من التراخي، تلك اللعنة التي أحاطت بالبيت القديم على الضفة الأخرى من النهر.

كانت أوليفيا قد جاءت، رغمًا عنها تقريبًا، وسيطرت عليها حالة من الإرهاق بعد زيارةٍ طويلة دار فيها حوار بينها وبين العمة كاسي حول موضوع الشائعات بوجود علاقة غرامية بين سيبيل وجارهم الأيرلندي. وحين نهضوا، تسلَّلت بهدوء إلى الحديقة؛ لأنها لم تستطع تحمُّل فكرة إجراء محادثة مُتوتِّرة ومُصطَنعة. أرادت، بشدة، أن تُترَك وحدها في سلام.

كانت ليلة رائعة، حارة كما ينبغي لليلةٍ صيفية أن تكون، ولكنها كانت ليلة صافية أيضًا، فبدت السماء بأكملها وكأنها قبة ياقوتية مرصَّعة بماسات. وعند مقدمة المنزل، خلف حدود الحديقة الصغيرة ذات الشرفات، امتدَّت الأهوار كسجادة داكنة صوب الكثبان الرملية البعيدة، التي كانت قد صارت مع حلول الظلام معتمة وزرقاء قبالة الخط الفاصل الأبيض الأكثر نقاءً الذي صنعته الأمواج ذات الزَّبَد. ودفعها إحساسها بالعشب الرطب الكثيف تحت نعلِ صندلها الفضِّي إلى أن تتوقَّف للحظة، وتتنفَّس بعمق، وملأها برغبة لطيفة، شبه غامضة، في الامتزاج بكل هذا الجمال المُحيط بها، بأجواء الهواء الساخن، وعبير الزهور المتفتِّحة والسيقان الخضراء المُنبثقة، بالعشب والبحر والأهوار ذات الرائحة النفَّاذة، لتنساق إلى حالةٍ من العدم وفي الوقت نفسه من الكمال، لتسبح نحو الخلود. انتابها فجأة إحساس غريب، ومُحيِّر بسرمدية كل هذه القوى والأحاسيس، بسرمدية البحر والأهوار، والسيقان الخضراء المُنبثقة والقبة الياقوتية المرصعة بالماسات فوق رأسها. رأت لأول مرة في حياتها كلها قوة شيء استمرَّ ودام، مُتجاهلًا المخلوقات الصغيرة المُثيرة للشفقة مثلها ومثل الآخرين الموجودين في المنزل خلفها، قوة تجاهَلَت المدن والجيوش والأمم، قوة ستدُوم زمنًا طويلًا بعد أن يكون العشب قد غطَّى أطلال المنزل القديم في أرض عائلة بينتلاند. كانت هذه القوة تجتاحها، تاركةً إيَّاها عالقة في مكانٍ ما في المياه الراكدة. وانتابتها رغبة مفاجئة مُلِحة، للمشاركة في هذا المشهد العظيم للخصوبة السرمدية، التي كانت لغزًا أقوى من أيٍّ منهم وأقوى منهم مجتمعين، قوة من شأنها أن تسحقَ في النهاية كل ما كان لدَيهم من كبرياء تافهٍ زائل ومُعتقَدات وتقاليد عارضة ضئيلة.

ثم فكرت في نفسها، وكأنها كانت تُدرك ذلك لأول مرة: «أنا متعبة، متعبة بشدة، وغضبى قليلًا.»

بينما كانت تَسير عبر العشب الرطب، جلست على مقعدٍ حجَريٍّ كان أوهارا قد وضعه أسفل إحدى أشجار التفاح العتيقة المتبقية من البستان الذي كان يُغطي جميع الأراضي المحيطة بمنزل «بروك كوتيدج» أيامَ كانت سافينا بينتلاند لا تزال على قيد الحياة؛ ولفترةٍ طويلة (لم تُدرك قط كم استغرقت) ظلَّت هناك تائهة في إحدى ثغرات الوعي حينما لا يكون المرء في حالةٍ من اليقظة أو النوم وإنما عند الحد الغامض الذي يخلو من الأفكار، والهموم، والمشاكل. ثم شيئًا فشيئًا أدركت أن شخصًا ما يقف قريبًا جدًّا منها، تحت الشجرة العتيقة، الملتوية الأغصان. وكأنما كان وجوده حلمًا تجسَّد بطريقةٍ ما فصار حقيقة، لاحظت أولًا رائحة دخان السيجار الذكورية تمتزج بعبير الزهور النامية في حديقة سابين، وحين التفتَت رأت جسدًا أسود أدركت فورًا أنه أوهارا. لم تتفاجأ برؤيته؛ إذ بدا بطريقة غريبة وكأنها كانت تتوقَّع قدومه.

وحين استدارت، سار نحوها وبدأ الحديث. سألها: «ازدهرت حديقتنا، أليس كذلك؟ لا يُمكنكِ أن تظنِّي أن عمرها عام واحد فقط.»

أجابته قائلة: «أجل، لقد ازدهرت بشكلٍ رائع.» وبعد فترة صمت قصيرة، سألته: «منذ متى وأنت واقف هنا؟»

فأجابها: «منذ لحظة فقط. رأيتكِ تخرُجين من المنزل.» وأنصتا لبعض الوقت إلى الصوت الحزين للأمواج النائية وهي تتكسَّر على الشاطئ، وبعد قليل قال برقة، وبصوت خالطته الرهبة: «إنها ليلة رائعة … ليلة مليئة بالجمال.»

حاولت جاهدة أن تردَّ عليه، ولكنها لم تُحِر جوابًا. فقد أدهشَها التعليق الذي قاله أوهارا بكل هدوء؛ لأنه لم يخطر ببالها أن يكون أوهارا مُنتبهًا لجمال هذه الليلة. كانت العتمة حالكة فلم تستطع تمييز ملامحه، ولكنها كانت تراه كما تتذكره، ورأته أيضًا، كما تراه عيون الآخرين؛ صارمًا وقويًّا ولكنه مألوف قليلًا، بالجرح في صدغه وعينَيه الزرقاوين الثاقبتين، وخطوته السريعة، بخفة ورشاقة غير متوقعة من رجلٍ بحجمِه. كلَّا، قد يتوقَّع المرء من هيجينز السائس الصغير الحجم أن يقول: «إنها ليلة رائعة … ليلة مليئة بالجمال.» فالرجال الذين كانت تعرفهم — أصدقاء آنسون — لم يكونوا يتفوَّهون مُطلقًا بمثل هذه العبارات. بل إنها كانت تشكُّ في أنهم من المُستحيل أن يلاحظوا ليلة كهذه، وإن فعلوا، فسيخجلون من أن يكونوا قد فعلوا شيئًا غير عادي.

تحدث إليها: «لم يُحقِّق هذا الحفل نجاحًا كبيرًا.»

فأجابته: «لا.»

فقال: «لا أحد يبدو منسجمًا مع أي أحدٍ آخر. كان يجدُر بالسيدة كاليندار ألا تطلُبَ منِّي الحضور. ظننتُها أكثر فطنة من ذلك.»

ضحكت أوليفيا برقَّة. وقالت: «لعلها فعلت ذلك عن قصد. فلا يسعك أبدًا معرفة السبب الحقيقي وراء أيٍّ من أفعالها.»

ظل صامتًا لبعض الوقت، وكأنه يتأمَّل ما قالته، ثم قال: «ألا تشعرين بالبرد هنا في الخارج؟»

فأجابته: «لا، ليس في ليلة كهذه.»

ساد بينهما صمت طويل جدًّا وغامض جدًّا ينذر بالخطر لدرجة أنها شعرت بالحاجة إلى قول شيءٍ ما، بأدب وتكلُّف، كما لو كانا غريبَين جالسَين في غرفة الاستقبال بعد العشاء لا في الحديقة التي كانا قد زرعاها معًا تحت أشجار التفاح العتيقة.

قالت: «لا أنفكُّ أتساءل، كم سيستغرق الأمر حتى تزحف بيوت دورهام وتُغطي هذه الأرض.»

فأجابها: «لن يحدث، ما دمتُ أملك أرضًا بين دورهام والبحر.»

وابتسمَت في الظلام لفكرة وجود سياسي أيرلندي يتبع طائفة الروم الكاثوليك حامٍ لريف نيو إنجلاند القديم هذا، وقالت جهرًا: «طباعك تزداد شيئًا فشيئًا شبهًا بالآخرين. تُريد أن تجعل العالم يقف ساكنًا.»

فقال: «أجل، بوسعي أن أرى أن الأمر يبدو لكِ بلا ريب مُضحكًا.» لم تكن ثمة مرارة تُخالط صوته، وإنما نوع من التأذِّي في مشاعره، وهو ما أذهلها مجددًا؛ لأنه كان من المستحيل أن تفكر في أن أوهارا شخص يمكن أن تتأذَّى مشاعره.

فقالت: «سيبقى منزل آل بينتلاند دائمًا كما هو، ولكن، بالطبع، سنمُوت جميعًا يومًا ما ثم ماذا بعد؟»

فقال: «سيكون أبناؤنا موجودين دائمًا.»

كانت تُدرك تدريجيًّا أنها تَنزلِق عائدةً إلى ذاك العالم من الهموم والمتاعب التي تركتها وراءها، العالم الذي كانت قد فرَّت منه قبل قليل. فقالت: «إنك تتطلَّع إلى مُستقبَل بعيد.»

قال: «ربما، ولكنني أنوي أن يكون لديَّ أبناء يومًا ما. وفي منزل آل بينتلاند لديهم دائمًا سيبيل، التي ستُقاتل بشراسة للحفاظ على المنزل. لن تتخلَّى عنه أبدًا.»

فقالت أوليفيا: «ولكنه سيكون ملكًا لجاك، وأنا لستُ واثقة بشأنه.»

تنهدت دون وعي، لعِلمها الآن بأنها كانت تتظاهر مجددًا، وبأنها كانت غير صادقة. كانت تتظاهر مجددًا بأن جاك سيعيش حتى يأتي اليوم الذي يرِث فيه منزل عائلة بينتلاند وحده، وأنه يومًا ما سينجب أطفالًا يُواصلون مسيرته. وظلت تقول لنفسها: «وحدها الحقيقة قادرة على إنقاذنا جميعًا.» وعلمت أن أوهارا فهم لعبة التظاهر الواهنة التي كانت تلعبها. علمت لأنه ظل واقفًا هناك صامتًا، وكأن جاك قد مات بالفعل، كما لو أنه فهم سبب التنهيدة المريرة الخافتة واحترمها.

فسألته: «أنت ترى في سيبيل آمالًا عريضة، أليس كذلك؟»

فأجابها: «أجل، إنها فتاة رائعة. يُمكن للمرء الاعتماد عليها.»

فقالت: «ربما لو كانت لديها بعض من خصال تيريز أو السيدة كاليندار، لكانت أكثر أمنًا من التعرُّض للأذى.»

لم يُجِبها على الفور، لكنها كانت تَعرف أنه كان يقف هناك في الظلام، يُراقبها.

فتمتمت قائلة: «لكن كان من السخافة قول ذلك. فلا أظنُّك تفهم ما أعنيه.»

فأجابها بسرعة. «بل أعرف بالضبط ما تعنيه. أعرف وواثق في أن السيدة كاليندار تعرف. لقد تعلَّم كِلانا إنقاذ نفسه؛ لم نتعلم في المدرسة ذاتها، ولكنه يظلُّ الدرسَ المستفاد ذاته. أما فيما يخص سيبيل، فأظنُّ أن ذلك منوط بهوية الشخص الذي ستتزوَّجه.»

(قالت أوليفيا في نفسها: «الآن إذن، ها هو يُوشك أن يعترف. إن سيبيل هي من يُحبها. ويرغب في الزواج منها. لذلك تبِعني إلى هنا.») ها هي مِن جديد، تعود لتتورَّط بقوة في تعقيدات الحياة. شعرت بغيرة مُفاجئة مُخجِلة على سيبيل، التي كانت لا تزال في ريعان شبابها، والتي كانت قد دفعتها بالكامل إلى تذكُّر ماضيها مع الآخرين في عائلة بينتلاند.

قالت: «كنتُ أتساءل عما إذا كانت تُقابلك أكثر مما ينبغي، عما إذا كانت تُشكِّل لك إزعاجًا.»

فأجابها: «لا، لن تكون كذلك أبدًا.» ثم أضاف بلهجة خالطها المرح: «أعلم أنكِ بعد لحظة ستَسألينَني عن نواياي.»

فقالت: «لا، لا»، ولكنها لم تستطع التفكير في أي شيء آخر لتقوله. وشعرت فجأةً بالخجل والحرَج والغباء قليلًا، كفتاة صغيرة ترقص رقصتها الأولى.

قال لها: «سأُطلعكِ على نواياي»، ثم توقف فجأة عن الحديث. وقال: «لماذا يستحيل علينا أن نتحلَّى بالصدق في هذا العالَم، في حين أنه ليس أمامنا وقتٌ طويل لنعيشَه؟ سيَختلِف عالَمنا بالكامل لو تحلَّى الجميع بالصدق، أليس كذلك؟»

تردد، مُنتظرًا إجابتها، فقالت دون وعي منها: «بلى، سيَختلِف كثيرًا.»

عندما أجاب كانت في صوته مسحة باهتة من الحماس. فخفَّف منها أكثر وتحدث بسرعة أكبر. لم تستطع رؤيته في الظلام، ورغم ذلك كانت واعية جدًّا بهذا التغيير.

قال لها: «سأُخبركِ إذن. كنتُ أرى سيبيل كثيرًا على أمل أن أرى أُمَّها ولو قليلًا.»

لم تُجبه. كل ما فعلته أنها ظلت جالسةً في مكانها، عاجزةً عن الكلام، يُسيطر عليها الارتباك، كما لو كانت فتاة صغيرة في مقابلة مع أول عشاقها. حتى إنها شعرت بالدوار قليلًا لسماع صوته.

فاعتذر لها: «لقد أسأتُ إليكِ. أنا آسف. ولكنَّني لم أقل غير الحقيقة. ولا ضير في ذلك.»

وبجهد بطولي للتحدُّث بذكاء، نجحت في قول: «كلَّا، لستُ مُستاءة.» (وتملَّكها شعور لطيف، وسخيف، بالعجز.) «لا، لستُ مُستاءة. لا أدري …»

كانت واثقة من شيءٍ واحد فقط؛ هو أنها لم تَختبر هذه الحالة الغريبة من الدوار، والنشوة من قبل. كانت حالة خبيثة وغامرة بطريقة لاذعة وحلوة. وظلَّت تُفكِّر: «بدأت أفهم الآن كيف يمكن لفتاة أن تتعرَّض للإغواء، وكيف يُمكن أن تعجز عن إدراك ما تفعله.»

قال لها: «أظنكِ تحسبينَني مُجتَرِئًا.»

فقالت: «لا، أفكر فقط في أن هذا مُستحيل، إنه جنون.»

فقال لها: «تفكرين في أنَّني همجي، مُتشرِّد، أيرلندي، روماني كاثوليكي، شخص لم تَسمَعي عنه من قبل.» وتمهل، ثم أضاف: «أنا كل ذلك، من وجهة نظر البعض.»

فأجابته: «لا، لا أظن ذلك؛ لا أظن ذلك.»

جلس بجانبها على المقعد الحجري صامتًا. ثم تابع بنعومة: «لكِ كل الحق في أن تفكري في ذلك. لكِ كل الحق في ذلك، ومع ذلك فأمور كتلك لا تشكل فارقًا، لا شيء يُشكِّل أي فارق.»

فقالت له برقة: «كان والدي يُشبهك كثيرًا. اعتاد أعداؤه مناداته في بعض الأحيان ﺑ «الأيرلندي الهمجي» …»

كانت تعلم طوال هذا الوقت أنه كان ينبغي عليها النهوض والبحث عن ملجأ تلوذ به داخل المنزل. كانت تعلم أن تصرفها ربما كان سخيفًا، ولكنها مكثت في مكانها بكل هدوء. كانت مُرهَقة بشدة وكانت قد انتظرت وطال انتظارها لشخصٍ يُحادثها بهذه الطريقة (أدركت ذلك الآن فقط في لحظة خاطفة)، أن يُحادثها كامرأة. كانت في أمسِّ الحاجة، إلى شخصٍ تتَّكئ عليه.

وسألته بدافعٍ من شعور غامض بقلة الحيلة: «وكيف لك أن تَعرفني؟ كيف لك أن تَعرف أي شيء عني؟»

لم يَلمسها. لم يفعل شيئًا سوى الجلوس في الظلام، مُشعرًا إياها بنوع من القوة التي كانت تتجاوز قُدرتها، فكل ما قاله للأسف كان حقيقيًّا.

قال: «أعرف، أعرف كل شيء عنكِ، كل شيء. لقد كنتُ أراقبكِ. ولقد فهمتكِ، أكثر حتى مما فهمكِ الآخرون. فرجل عاش حياةً كحياتي يرى ويفهم الكثير مما لا يَنتبه إليه الآخرون مُطلقًا؛ لأنه يعتمد على بصيرته في إدراك كل شيء. إنه أقوى سلاح يَمتلِكه مُنتهز الفرص.» مرَّت لحظة من الصمت وبعدها سألها: «هل يُمكنكِ أن تفهمي ذلك؟ ربما يكون صعبًا؛ لأن حياتكِ كانت شديدة الاختلاف.»

فأجابته: «لم تكن شديدة الاختلاف، كما قد تظنُّ، ولكن ربما أكون فقط قد أفسدتها أكثر.» ثم استقامت في جلستها، وتمتمت قائلة: «من الحماقة أن أسمح لك بالتحدُّث إليَّ بهذه الطريقة.»

فقاطعها سريعًا بحماس شبه صبياني. «ولكنَّكِ مسرورة، أليس كذلك؟ أنتِ مسرورة، على أي حال، سواء كنتِ تَكترثين لأمري أم لا. أنتِ تَستحقِّين ذلك منذ وقتٍ طويل.»

بدأت تَنخرِط في البكاء بهدوء، في عجزٍ تامٍّ، دون صوت، وسالت الدموع على خدَّيها، وفكرت في نفسها قائلة: «الآن صرتُ مُغفَّلةً تمامًا. إنني أرثي لحالي.» ولكنها لم تستطع التوقف عن البكاء.

ورغم الظلام بدا أنه كان واعيًا بدموعها؛ لأنه اختار ألا يُقاطعها. وظلَّا جالسَين على هذا الحال وقتًا طويلًا في صمت، وأوليفيا تشعر بألمٍ حادٍّ يَعتصرُها، وبجمال الليل وكانت تجد الأمر برمَّته غريبًا وغير حقيقي ومُربكًا.

قال لها بهدوء: «أردتكِ أن تَعلمي أن شخصًا بالقُرب منكِ، مُتيَّمٌ بكِ، ومستعدٌّ للتخلِّي عن أي شيء لأجلكِ.» وبعد قليل قال: «لعلَّ من الأفضل أن ندخل الآن. يُمكنكِ الدخول عبر الفناء وضبط مساحيقكِ. وسأدخل أنا عبر الباب من الحديقة.»

وبينما كانا يَسيران فوق العشب الرطب، العطِر، قال: «سيكون من الممتع أن تُشاركيني أنا وسيبيل ركوب الخيل في الصباح.»

فقالت أوليفيا: «ولكنَّني لم أمتطِ حصانًا من سنوات.»

وطوال ما تبقى من الأمسية، وبينما جلست أوليفيا تلعب البريدج مع سابين وأوهارا وفتى عائلة مانيرينج، ظلَّ ذهنُها يشرد عن اللعبة في مسارات جانبية غير مألوفة. وقالت لنفسها إنها لم تكن حتى تُكِنُّ لأوهارا أي مشاعر حب، ولو من بعيد؛ وكل ما في الأمر أن أحدًا — رجلًا لا يتمتَّع بجاذبية استثنائية — اعترف لها بإعجابه بها، ومِن ثَمَّ شعرت بأنها شابة ومُتهوِّرة ومُبتهِجة. كان الأمر كله سخيفًا … ولكنه مع ذلك، وبطريقة غريبة، لم يكن سخيفًا على الإطلاق. وظلت تفكر في تعليقات آنسون عن أبيه والسيدة سومز العجوز، «إنها علاقة سخيفة»، وتعليق سيبيل وهي تقول بجدية «لكنه لن يكون كهلًا، مثل أوهارا»، وشعرت في نفس الوقت لأول مرة في حياتها بأنها في ريعان شبابها. لقد كانت شابَّة وهي تجلس على المقعد الحجري تحت شجرة التفاح العتيقة، شابة على الرغم من كل شيء.

وقالت جهرًا: «أربعة بستوني»، وأدركت في الحال أنه لم يكن ينبغي أن تُزايد في رهان كهذا.

كانت تشعر أيضًا بالتوتر، لعِلمها أن أعينًا كانت منشغلة بمراقبتها، طوال الوقت، أكثر من انشغالها باللعبة؛ عينَي سابين الخضراوين وعينَي أوهارا الزرقاوين البرَّاقتَين. فلم تستطع رفع بصرها دون مواجهة نظرةِ هذه أو ذاك؛ ولتحمي نفسها واجهتهما بابتسامةٍ صفراء مُتكلَّفة خفيفة كالابتسامة الآلية التي كانت تصطنعها الآنسة إيجان. كان هذا النوع من الابتسام هو الذي يجعلها تبدو متعبة الملامح، ولأول مرةٍ شعرت بلمحة شفقة مُثيرة للسخرية لحال الآنسة إيجان. فلا بد وأنَّ وجْهَ الممرضة كان يؤلمها بشدة في بعض الأحيان.

•••

كان الدوار لا يَزال يُلازمها وهي تصعد إلى السيارة بجانب سيبيل وتَنطلقان في الطريق الذي يُؤدي من منزل «بروك كوتيدج» إلى منزل عائلة بينتلاند. كان الطريق جزءًا من طرق مزيَّنة بالكامل بالأشجار، تحدوها أسيجة وأشجار عتيقة، كانت تربط منازل الريف معًا، وفي الليل كانت مُتنزَّهًا ومكانًا لاجتماع الخدم الذين يعملون في هذه المنازل الكبيرة. كان المرء يصادفهم في مجموعات صغيرة من ثلاثة أو أربعة أفراد، واقفين بجانب البوابات أو الجدران الحجرية، يتبادلون أحاديث النميمة ويَضحكُون معًا في الظلام، ويتبادلون حكايات الحياة التي تدور داخل منازل أسيادهم، وقصص ما فعله الرجل العجوز بالأمس، وكيف أن السيدة فلانة تَستحمُّ مرة واحدة فقط في الأسبوع. كان ثمة عالَم كامن أسفل السطح المصمت الهش الرتيب الذي كان يحمي حياة الأثرياء، عالم مليء بالزيف والأسرار الغامضة والقيل والقال في توافه الأمور، عالَم ربما كان أكثر صدقًا لأنه كان مخفيًّا بعيدًا عن الأعين — ربما باستثناء العمة كاسي، التي كانت تعرف كمَّ الأسرار المذهلة التي لدى الخدم — ولهذا السبب ظهرت الحاجة إلى هذا النوع من التظاهُر الذي وجدته أوليفيا مأساويًّا للغاية. كانت تلك الأسرار تتردَّد في الممرَّات المُظلمة ليلًا بعد انتهاء العشاء في الحي، وفي بعض الأحيان كانت أصداء السخرية الصاخبة تتصاعَد من هذه الأسرار في ضحكاتٍ أيرلندية جامحة كان صداها يتردَّد في أرجاء المروج التي يعلوها بالضباب.

تردَّد أيضًا على الممرات ذاتها العشاق، الذين كانوا يَذهبون أزواجًا لا في مجموعاتٍ من ثلاثة أو أربعة أفراد، وفي بعض الأحيان كانت تتردَّد أصداء لنوع مختلف من المرح؛ الضحك الجامح نصف الهيستيري لخادمة مَطبخ يتودَّد إليها سائس أو خادم منزل في زاوية مظلمة بخشونة وحماس جامح. كان عالَمًا كامنًا لا يتفتح إلا تحت أستار الظلام. وأحيانًا في عتمة الليل، كان السادة، وهم يقودون سياراتهم عائدين إلى المنزل من حفلٍ راقص أو عشاء، يُصادفُون زوجًا من العُشاق، يغمرهما الوهج اللامع المفاجئ لمصابيح السيارة، وهما جالسان متعانقان أسفل إحدى الأشجار، أو مُستلقيان شبه مُختبئين بين شجيرات الزعرور المتشابكة أو الشجيرات الأقدم.

والليلة، بينما كانت أوليفيا وسيبيل تَمضيان بالسيارة في صمت طوال الطريق، امتلأ الهواء الساخن برائحة قوية من أزهار الزعرور والرائحة القوية الخبيثة للماشية، التي هبَّت باتجاههما عبر المروج بفعل النسمات المالحة الضعيفة القادمة من ناحية الأهوار. كان الوقت مُتأخرًا ولم ترصد أضواء السيارة أي عشاقٍ ضالِّين حتى بلغتا سفح التل بجانب الجسر القديم، وهناك كشف الوهج فجأةً عن ظلِّ رجلٍ وامرأة جالسَين معًا مُستندين إلى الجدار الحجري. وحين اقتربتا منهما، انسلت المرأة بسرعة خلف الجدار، ثمَّ تبعها الرجل وقفز بخفة مثل الماعز إلى الأعلى ومنه إلى الحقل المجاور. ضحكت سيبيل وتمتمت: «إنه هيجينز مجدَّدًا.»

كان هذا هيجينز. كان من السهل تمييز جسده البدين الرشيق، وملابسه؛ سروال ركوب الخيل وقميص قطني بلا أكمام، وأثار مشهده وهو يقفز فوق الجدار، انطباعًا خاطفًا مُبهمًا في نفس أوليفيا أشبه بذكرى شِبه منسية. وقالت في نفسها إنَّ الغزال الصغير، حين يفزع، لا بد أنه يتوغَّل بين الأجمات بالطريقة ذاتها. وانتابها فجأة نفس الشعور الغريب اللاذع بالرعب الذي كان قد انتاب سابين في الليلة التي اكتشفته فيها مختبئًا بين أشجار الليلك يشاهد الحفل الراقص.

وأصابتها قشعريرة، فسألتها سيبيل: «ألا تشعرين بالبرد؟»

فأجابتها: «نعم.»

كانت تُفكِّر في هيجينز وتأمُل ألا تكون هذه بداية لمشاكل جديدة. فقد أتتها مرة قبلئذٍ فتاة في ورطة؛ فتاة بولندية، ساعدتها وصرفتها لأنها رأت أن إجبار هيجينز على الزواج منها ما كان سيَجلب لهما أي شيء إلا الشقاء. وكان سعي نصف فتيات الريف للظفر برجل مُغضَّن وقبيح للغاية، مثل هيجينز الضئيل الوحشي المُشعر، لا ينفك يذهلها.

•••

وداخل غرفتها أنصتت في الظلام حتى سمعت صوت أنفاس جاك الخافتة، ثم، بعد أن بدَّلت ثيابها، جلست طويلًا تُطلُّ من النافذة عبر المروج باتجاه الأهوار. تملَّكتها إثارة مكبوحة بدا أنها تسري في سائر جسدها وتُؤرِّقها. وفارقها تعب الروح الذي كان قد جعلها تنساق خلال الأشهر المنصرمة إلى نوع من الخمول. شعرت بالحياة تدبُّ فيها، أكثر مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى، حتى حينما كانت فتاة صغيرة؛ فتورَّدت وجنتاها واتَّقدتا، فوضعت يديها البيضاوين على وجنتيها لتشعر ببعض البرودة التي كانت تَفتقر إليها نسمات الليل؛ لكن يديها أيضًا كانتا متقدتَين مُفعمتين بالحياة.

وبينما كانت جالسة هناك، تلاشت الأصوات الآتية من غرفة سيبيل عبر الردهة وفي النهاية ساد سكون الليل إلا مِن صوت الأنفاس الخافتة لابنها والصرير الغامض المألوف للمنزل العتيق. باتت وحدها الآن؛ إذ كانت الوحيدة التي لم تنمْ، وصارت أكثر هدوءًا، وهي جالسة مُطلة على المروج التي يُغطيها الضباب. تسلَّلت روائح الليل الدافئة العبقة عبر النافذة، ومرةً أخرى أحسَّت بنشوةٍ تَسري في الهواء تُشبه النشوة التي أحسَّتها وهي جالسة، قبل ساعات، في شُرفة سابين المطلة على البحر. وهاجمتها مرةً أخرى أثناء قيادتهما للسيارة على الطريق عبر مَراعي الأهوار المُنخفِضة على ضفاف النهر. وبلغت انفعالاتها ذروتها، حين رأت هيجينز، وهو يَقفز فوق الجدار مثل الماعز، حتى إن حدَّة المُفاجأة أرعبتها. كان هذا الشعور لا يزال يُلازمها إلى حدٍّ ما، الشعور الغريب بقوة هائلة جبارة تُحيط بها من كل جهة، وتتحرَّك بسرعة وهدوء، وتُقصي أولئك الذين عارضوها وتقضي عليهم.

قالت في نفسها ثانية: «لقد مسَّني قليل من الجنون هذه الليلة. ماذا دهاني؟» زاد خوفُها، رغم أنه كان نوعًا مُختلفًا عن الرعب الذي أصابها في تلك اللحظات الغريبة التي كانت تَشعر فيها بحضور الموتى الذين عاشوا في منزل عائلة بينتلاند وبأنهم حولها في كل مكان. فالشُّعور الذي كان يُخالِجها الآن لم يكن فزَعًا من الموتى؛ بل كان رعبًا من حياة يَملؤها الدفء والعاطفة. قالت في نفسها: «لا بدَّ أن هذا ما حدث للآخرين. لا بد أن هذا ما شعروا به قبل وفاتهم.»

لم يكن ما تَقصدُه هو موت الجسد، بل موت الروح بطريقةٍ ما، موت يترك خلفه أناسًا ذابلين مثل العمة كاسي وآنسون، والمرأة العجوز في الجناح الشمالي، وحتى رجل شديد الصلابة والقوة مثل جون بينتلاند، الذي ناضل بشدة أكثر من الآخرين. وشعرت فجأة بأنها عالقة بين قوتَين غامضتَين، تتصارَعان في قتال شرس. كان أمرًا مُربكًا وغامضًا، لكنه جعلها تشعر فجأةً باعتلالٍ جسدي. تلاشى الإحساس الدافئ بالحياة والإثارة، تاركًا إيَّاها باردة وهادئة، ومُرهقة في آنٍ واحد، يملؤها شعور واهن بالإعياء، وهي لا تزال تُحدق في الليل، ولا تزال قادِرةً على تمييز رائحة الماشية الكثيفة وأزهار الزعرور.

•••

لم تَعرف مُطلقًا إن كانت قد غفت فوق الأريكة بجوار النافِذة أم لا، لكنها أدركت أنها استيقظت فجأةً على صوت خطوات. خارج باب غرفتها، في الردهة الطويلة، كان شخص ما يَمشي، بخفة، وحذر. وهذه المرة لم يكن الصوت مجرَّد صرير مُنبعث من المنزل العتيق؛ كان صوت خطوات، منتظمة، ذات إيقاعٍ ثابت، مُتكرِّر، خطوات شخص لا وزن له تقريبًا. أنصتت، وببُطء، وبحذَر، وكأن هذا الشخص كان أعمى ويتحسَّس طريقه في الظلام، تقدَّمت الخطوات حتى وصلت بعدَ قليل أمام بابها وأحاط خيط رفيع من الضوء بالباب الذي يُؤدي إلى الردهة. نهضت بهدوء، وهي لا تزال مُستغرقة في شعور غامض بأنها تتحرَّك داخل كابوس، وتوجهت إلى الباب وفتحته. ولمحت من بعيد في الردهة الطويلة، عند الباب الذي يُفتَح على السلَّم المُؤدي إلى عليةِ المنزل، دائرة صغيرة من الضوء منبعثة من مصباح كهربي. صنع الضوء ظلًّا غامقًا لامرأةٍ عجوز ذات شعر أبيض تعرفت عليها أوليفيا في الحال. تبيَّن أن العجوز قد هربت من الجناح الشمالي. وبينما وقفت تُراقبها، فتح الجسد المترنِّح الباب واختفى بسرعة في اتجاه الدرج.

لم يكن هناك وقتٌ لتُضيِّعه، ولا وقت حتى للذهاب بحثًا عن الآنسة إيجان المتيبِّسة. فلربما ألقت المسكينة بنفسها من النوافذ العليا. لذلك، ودون أن ترتدي روبًا، اجتازت أوليفيا بسرعة الردهة المظلمة وصعدت الدرج حيث اختفَت المخلوقة الغريبة الأطوار المُتدثِّرة بالروب المزخرف بالأزهار.

كانت العليةُ غرفةً ضخمة غير مُكتمِلة البناء تُغطي المنزل بالكامل، أشبه بكهفٍ شاسع، فارغة من كل شيء باستثناء بعض الصناديق القديمة وقِطَع الأثاث المحطم. كان قد اختُزن بها حطام وبقايا حياة عائلة بينتلاند، مفقودًا ومنسيًّا في أعماق الغُرفة الكبيرة لأكثر من قرنٍ من الزمان. لم يكن يدخلها أحد. فكادت أن تُنسى، منذ كبر جاك وسيبيل. إذ كانا يَلعبان فيها في الأيام المُمطرة عندما كانا طفلَين صغيرَين، ومن قبلهما سابين وآنسون اللذان لعبا في الأركان المُظلِمة والغامضة ذاتها بين الصناديق والأرائك والكراسي المحطمة.

وجدت أوليفيا المكان غارقًا في ظلام دامس باستثناء بُقَع من ضوء الليل الأزرق المُتسلِّل عبر زوج من النوافذ الناتئة، وفي أقصى الغرفة، بجوار مجموعة من الصناديق القديمة، ظهرت دائرة الضوء المنبعثة من المصباح والتي ظلَّت تتحرَّك في هذا الاتجاه وذاك، كما لو كانت السيدة بينتلاند العجوز تبحث عن شيء ما. وفي عجلة هروبها وفرارها، كان شعرها الأبيض الرقيق قد انفك وانسدل فوق كتفيها. وانبعثت منها رائحة الدواء البغيضة.

لمستها أوليفيا بلطف وقالت: «ماذا فقدتِ يا سيدة بينتلاند؟ أيُمكنني مُساعدتكِ؟»

استدارت العجوز، ووجهت ضوء المصباح بالكامل إلى وجه أوليفيا، وحدَّقت فيها بعينَيها الزرقاوين المستديرتين، وهي تُتمتِم: «أوه، هذا أنت يا أوليفيا. لا بأس إذن. ربما يُمكنكِ مُساعدتي.»

فسألتها أوليفيا: «ماذا فقدتِ؟ لعلَّ بإمكاننا البحث عنه في الصباح.»

فأجابتها: «لقد نسيتُ الآن ما كان. أفزعتِني، وأنت تعرفين أن عقلي ضعيف، حتى في أحسن الأحوال. لم يكن جيدًا أبدًا منذ زواجي.» ونظرت بحدة إلى أوليفيا. وسألتها: «لم يُصبكِ ما أصابني، أليس كذلك؟ هل حدث وشعرتِ بأنك تَنجرفين في الأوهام وأنك تزدادين خفوتًا يومًا بعد يوم؟ هذا غريب. لعلَّ الأمر مختلف مع زوجكِ.»

رأت أوليفيا أن المرأة العجوز كانت تمرُّ بلحظة نادرة من لحظات التعقل والصفاء الذهني والتي كانت أسوأ بكثير من جنونها لأنها كانت تجعلك لبعض الوقت ترى أنها، في نهاية المطاف، مثلك، إنسانة وقادرة على التفكير. كانت أوليفيا في هذه اللحظات تشعر وكأنها شهدت بعث الموتى.

قالت أوليفيا: «لا. لعلكِ تتذكرين في الصباح، إذا أويتِ إلى فراشكِ الآن.»

هزَّت السيدة بينتلاند العجوز رأسها نفيًا بعنف. وقالت: «لا، لا، يجب أن أجدَهم الآن. ربما يختلف كلُّ شيء في الصباح وحينها لن أعيَ شيئًا ولن تدَعني تلك المرأة الأيرلندية أخرج. سأظلُّ أُكرِّر بعض الأسماء مثل الخوخ، والمناشر، وثمرة الكاكي. فهذا ما اعتاد السيد ديكنز على فعله مع أطفاله عندما لم يتمكَّن من التفكير في كلمة واحدة.»

قالت أوليفيا: «أعطيني المصباح؛ ربما أتمكَّن من العثور على ما تُريدينه.»

وبوداعة طفلة، أعطتها العجوز المصباح اليدويَّ الكهربي، فأمسكت به أوليفيا ووجهته في هذا الاتجاه وذاك، بين الصناديق والقمامة القديمة، وتظاهرت بالبحث بين بيوت الدُّمى وأطباق الألعاب المُتناثِرة في أركان العلية حيث لعب الطفلان لعبة المنزل آخر مرة.

وبينما هي تَبحث، واصلت المرأة العجوز تَرديد عبارة واحدة، وكأنها تُذكر نفسها: «إنه شيء أردتُ العثور عليه بشدة. سيُحدِث فارقًا كبيرًا هنا في حياتنا جميعًا. ظننتُ أنني قد أجد سابين هنا لتساعدني. كانت هنا صباح أمس، تَلعب مع آنسون. هطلت الأمطار طوال اليوم فلم يتمكَّنا من الخروج. وأخفيتها هنا بالأمس حين صعدتُ لتَفقدهما.»

حاولت أوليفيا مُهادنتها مرةً أخرى.

فقالت: «لقد تأخَّر الوقت الآن يا سيدة بينتلاند. يَفترض بنا الآن أن نخلد إلى النوم. حاولي أن تتذكَّري ما تَبحثين عنه، وفي الصباح سأصعد لأجدَه لكِ.»

للحظة فكرت العجوز في هذا الاقتراح، وقالت أخيرًا: «لن تُعطيني إيَّاه إن عثرتِ عليه. أنا واثقة من أنكِ لن تُعطيني إياه. فأنتِ أيضًا تخشَينهم جميعًا.»

قالت أوليفيا: «أعدكِ أنني سأُعطيكِ إياه. يمكنكِ أن تَثقي بي، ألا يُمكنكِ ذلك؟»

فأجابتها: «بلى، بلى، أنتِ الوحيدة التي لا تُعامِلُني على أنني غبية. أجل، أظن أنَّ بإمكاني الوثوق فيكِ.» ثم خطرت لها فجأة فكرة أخرى. فقالت: «ولكنَّني لن أتذكَّر مرةً أخرى. ربما أنسى. بالإضافة إلى أنني لا أظنُّ أن الآنسة إيجان ستأذن لي.»

أمسكت أوليفيا بإحدى يدي العجوز النحيلتَين، وقالت وكأنها تتحدَّث إلى طفل صغير: «أعرف ما علينا فعله. غدًا ستُدوِّنينه في ورقة صغيرة ثم سأجدُه وأُحضره لكِ.»

قالت العجوز: «أنا واثقة من أن سابين يُمكنها أن تجده، إنها بارعة في مثل هذه الأمور. إنها طفلة ذكية جدًّا.»

فقالت أوليفيا: «سأَذهب وأحضر سابين لتساعدني.»

فنظرت إليها العجوز بحدة. وسألتها: «أتعدينني بذلك؟ أتعدينني؟»

فأجابتها أوليفيا: «أجل، بالطبع.»

فقالت لها: «لأنَّ الآخرين يَخدعونني دائمًا.»

ثم بوداعة شديدة سمحت لأوليفيا بأن تقودَها عبر رقع الأرضية المغبَّرة التي أضاءها نور القمر، وهبطت الدَّرج عائدةً إلى غرفتها. وفي ردهة الجناح الشمالي صادفتا فجأةً الآنسة إيجان بملامحها المُتيبِّسة، وقد ذهب عنها التيبُّس والجمود، وامتُقع وجهها فزعًا.

قالت مخاطبة أوليفيا: «لقد بحثتُ عنها في كل مكان، يا سيدة بينتلاند. لا أعلم كيف تَمكنَتْ من الهرب. كانت نائمة حين تركتُها. نزلتُ إلى المطبخ لأحضر لها عصير البرتقال، واختفت أثناء غيابي.»

كانت العجوز هي مَن أجابتها. قالت، وهي تنظر بحدة إلى أوليفيا، بنبرة تشوبها الثقة: «أنت تَعرفين أنني لا أتحدَّث إليها مُطلقًا. إنها وضيعة. إنها خادِمة أيرلندية وضيعة. يُمكنهم أن يَحبسوني معها، ولكنَّهم لن يُجبروني على مُخاطبتها.» ثم بدأت تَنساق مرة أخرى عائدةً إلى الحالة الميئوس منها التي كانت معهودة منها جدًّا. بدأت تغمغم وأخذت تُردِّد مرارًا وتكرارًا سلسلة من الكلمات والأسماء غير المفهومة.

تجاهلتها أوليفيا والآنسة إيجان، وبدا وكأنَّ جزءًا منها — العجوز العاقلة الغامضة — قد اختفى، ليتبقَّى هذه المخلوقة الثرثارة المثيرة للشفقة الغريبة الأطوار.

أوضحت أوليفيا أين عثرت على العجوز وسبب ذهابها إلى هناك.

فقالت الآنسة إيجان: «إنها لم تنفكَّ تتحدَّث عن هذا الشأن لأيام. أظنُّها تبحث عن رسائل، ربما لا وجود لها من الأساس. إنها تخلط الأمور خلطًا مريعًا.»

كانت أوليفيا تَرتجف في ثوب نومها، من التعب والتوتُّر أكثر من شعورها ببرودة الليل.

وقالت: «ما كنتُ لأذكر الأمر لأحدٍ من الآخرين يا آنسة إيجان. فلن يُصيبهم هذا إلا بالقلق. ولا بد أن ننتبه لها أكثر فيما بعد.»

كانت العجوز قد تركتهما، وعادت إلى الغرفة المُظلمة التي أمضت فيها حياتها بأكملها، وكانت الممرضة قد بدأت في استعادة القليل من ثقتها المستفزة. حتى إنها ابتسمت، تلك الابتسامة الجامدة البراقة التي تقول: «لا يُمكنكم الاستغناء عني، مهما حدث.»

قالت جهرًا: «لا أستطيع أن أتخيَّل ما حدَث يا سيدة بينتلاند.»

فقالت أوليفيا: «كان حادثًا عارضًا، لا عليكِ، طابت ليلتكِ. ولكن أرى أنه مِن الأفضل عدم التحدُّث عما حدث. لا فائدة من وراء ذلك إلا إثارة القلق في نفوس الآخرين.»

لكن أوليفيا كانت في حيرة مِن أمرها؛ لأنه أسفل الروب الذي وضعته الآنسة إيجان على كتفيها، رأت أنَّ الممرضة لم تكن ترتدي ملابس النوم ولا زيَّها المُعتاد، وإنما كانت تَرتدي حلَّتها الزرقاء الصوفية التي كانت ترتديها في المناسبات النادرة حينما تذهب إلى المدينة.

٥

لم تتحدَّث مع أحد عما حدث، سواء ما حدث في الشرفة أو ما حدث في الردهة أو في أعماق العلية القديمة، وتوالت الأيام وعادوا إلى رتابة حياتهم القديمة مرةً أخرى، كما لو أنَّ الليلة الغريبة والحارة والمُزعجة لم تكن سوى حلم. ولم تُقابل أوهارا، ومع ذلك سمعت بأخباره، باستمرار، من سيبيل، ومِن سابين، وحتى من جاك، الذي بدا أقوى مما كان عليه في أي وقتٍ مضى وكان قادرًا لبعض الوقت على التجوُّل في المزرعة مع جدِّه في العربة التي يجرُّها حصان أبيض مُسن. مرت لحظات بدا فيها لأوليفيا أن الصبيَّ قد يُشفى ذات يوم ويَبْرأ حقًّا من علته، ومع ذلك لم يكن في تلك اللحظات أي فرحة حقيقية مطلقًا، لأنَّ الحقيقة كانت دومًا ماثلة أمامها. كانت تعلم أن هذا لن يحدث أبدًا، رغم كل ذلك النضال الشرس الذي استمرَّت فيه على الدوام هي والرجل المُسن في مواجهة الشيء الذي كان أقوى من أيٍّ منهما. بل إنها في الواقع وجدت نوعًا جديدًا من الحزن في مشهد الصبي النحيل الشاحب والرجل المُسن الصارم وهما يَمضيان بالعربة في الطريق، وعينا الجد مُتألِّقتان بنظرة أملٍ خادعة. وجدتها نظرة لا تُطاق؛ لأنها كانت المرة الأولى منذ أعوام، تقريبًا منذ اليوم الأول الذي جاء فيه جاك إلى العالم، طفلًا صغيرًا لم يكن يَبكي كثيرًا، التي يتبدَّل فيها تعبير الخضوع والاستسلام على ملامح الرجل المُسن.

وفي بعض الأحيان حينما كانت تُشاهدهما معًا، كانت تملؤها رغبة عارمة في الذهاب إلى جون بينتلاند وإخباره أنه لم يكن خطؤها أنها لم تُنجب المزيد من الأطفال، ورثة آخرين يحلُّون محلَّ جاك. أرادت أن تُخبره أنها ودَّت أن تُنجب عشرة أطفال لو كان ذلك ممكنًا، وأنها حتى حينئذٍ كانت لا تزال شابَّة بما يَكفي لإنجاب المزيد من الأطفال. أرادت أن تبوح له ببعض ذلك التوق للحياة الذي كان قد اجتاحها في تلك الليلة في حديقة سابين تحت شجرة التفاح، وهي بُقعة زاخرة بالخصوبة. ولكنها أدركت أيضًا مدى استحالة مناقشة مسألة كان العجوز جون بينتلاند في أعماق رُوحه يؤمن بأنها «غير لائقة». فمثل هذه الأمور كانت كلها مُتوارية خلف حجابٍ مَنَعَ ظهور الكثير من الحقائق في حياتهم. مرَّت أوقات ظنَّت فيها أوليفيا أنه فهم كل شيء، تلك الأوقات التي أمسك فيها بيدِها وقبَّلها بمودة. تخيَّلت أنه فهم وأن المعرفة تضرب بجذورها بطريقةٍ ما في شعور الرجل العجوز بالازدراء المُستتر تجاه ابنه.

لكنها رأت جيدًا جدًّا المأساة المتأصِّلة جذورها في المسألة برمتها. فهمت أن آنسون لم يكن هو المُلام. كانت حقيقة الأمر أنهم جميعًا كانوا قد وقعوا في شراك شيء أقوى من أيٍّ منهم، قوة أجبرتها بإجحافٍ قاس على عيش حياة جافة رتيبة عقيمة في حين كان بإمكانها الأخذ بِأسْبابِ الحياة بشغف، قوة أجبرتها على أن تُشاهد ابنها يموت ببطء أمام عينَيها.

كانت تعود دائمًا إلى الخاطرة ذاتها، وهي أنَّ الصبي يَجب أن يبقى على قيد الحياة حتى يموت جده؛ وأحيانًا، وهي واقِفة في الشرفة، تطلُّ عبر الحقول، كانت أوليفيا ترى أن السيدة العجوز سومز، مُرتدية ملابس وردية غير مُتناسقة، وقبَّعة ذات حافة كبيرة، كانت تركب في العربة مع الرجل المُسن وحفيده، كما لو كانت في حقيقة الأمر هي جدة جاك وليس تلك العجوز المَعتوهة الراقدة في الطابق العلوي.

توالت الأيام لتَستأنف جولة جديدة من الروتين المُمل، ومع ذلك كان ثمَّة فارق، فارق غريب وغير مُحدَّد، كما لو أنَّ الشمس صارت أكثر إشراقًا مما كانت عليه، كما لو أنَّ تلك الأيام، التي بدا فيها المنزل حتى في ضوء الشمس الساطع مكانًا كئيبًا مملًّا، قد انقضت. لم تَعُد قادِرة على النظر عبر المروج نحو المَداخن الجديدة الساطعة لمنزل أوهارا دون أن تتسارَع أنفاسها بغتة، وتشعر بإحساسٍ حميمي لطيف بأنها لم تَعُد تقف بمُفردها تمامًا.

بلغ بها الأمر أنها حتى لم تَعد تَنزعِج من زيارات العمة كاسي اليومية المُرهِقة، ولا من هوَس المرأة العجوز بالرثاء لحالها وتلميحاتها الجامحة عن سابين وأوهارا والتذمُّر مِن ركوب سيبيل الخيل معه في الصباح عبر الحقول المكسوَّة بقَطرات الندى. كانت ببساطة قادرة الآن على الجلوس هناك بأدب كما كانت تَفعل من قبل، مُكتفيةً بالإنصات إلى المرأة العجوز بينما كانت تُتابع حديثها بلا توقف؛ كل ما في الأمر أنها لم تَعُد تَكترث لأيٍّ مما تقولُه. بدا لها في بعض الأحيان أن العمة كاسي كانت تُشبه بعض الحشرات، التي تستمر بضرب رأسِها بشدة في لوح من الزجاج، محاوِلةً هباءً مرارًا وتكرارًا دون توقُّف الدخول إلى مكانٍ يستحيل عليها دخوله.

كانت سابين هي التي أعطتها لمحة تغلغل مُفاجئة إلى طبيعة العمة كاسي، سابين التي قضت حياتها كلها في اكتشاف البشر. ففي صباح أحد الأيام تلاقَتْ سحابتا الغبار، تلك التي مِن صُنعِ العمَّة كاسي مع الأخرى التي أحدثتها سابين، حين التقَتا في بداية الطريق الطويل المُؤدي إلى منزل عائلة بينتلاند، ووصلت المرأتان معًا — ارتدت إحداهما ملابس شديدة السواد، وخلا وجهها من أيِّ مساحيق تجميل، وارتدت الأخرى ملابس باهظة الثمن اصطلح بعض صانعي الملابس في باريس على تسميتِها بدلةً رياضية، وتزيَّنت بمساحيق تجميل جعلتها تُشبه امرأة باريسية — وصلَتَا معًا وجلسَتا في ساحة منزل عائلة بينتلاند وتبادَلَتا الإهانات ببراعة لساعة كاملة. وعندما نجَحَت سابين أخيرًا في التغلُّب على العمة كاسي في التحمُّل (كانت بينهما منافسة دائمة؛ لأنَّ كلًّا منهما كانت تَعرف أن الأخرى ستُهاجمها فور أن تُوليها ظهرها) التفتت إلى أوليفيا وقالت فجأة: «كنتُ أفكر في العمة كاسي، وصرت مُتأكِّدة الآن من شيءٍ واحد. وهو أن العمة كاسي عذراء!»

كان في كلامها شيء قاسٍ ومُفاجئ دفع أوليفيا إلى الضحك.

وأكدت سابين بلهجة جادة: «أنا واثقة من ذلك. انظري إليها. إنها تتحدَّث دائمًا عن مأساة ضعفها الذي لازمها وحال دون إنجابها لأطفال. إنها لم تُحاول قط. تلك هي الإجابة. إنها لم تُحاول قط.» ألقت سابين ما تبقى من السيجارة التي كانت قد أشعلتها لإغاظة العمة كاسي، وتابعت حديثها: «أنت لم تَعرفي عمي نيد سترازرس قَطُّ حينما كان شابًّا. لم تَعهديه إلا رجلًا مُسنًّا بلا روح. لكنه لم يكن دومًا على تلك الحال. هذا ما فعلته هي به. لقد دمَّرته. كان رجلًا كريم المَحتِد يُحبُّ الشرب والخيل، ولا بد أنه كان يُحب النساء أيضًا، لكنها أبرأته من ذلك. كان سيُحب الأطفال، لكنه لم يحظَ بزوجةٍ وإنما بامرأة لم تَستطِع تحمل فكرة العنوسة ومع ذلك لم تحتمِل ما يَعنيه الزواج. ابتُلِيَ بمخلوقةٍ كانت تَفقِد وعيها وتبكي وهي ترقد على الأريكة طوال اليوم، ولكنَّها ظهرت عليه لأنه كان رجلًا لطيفًا، أحمقَ، نبيلًا.»

انطلقت سابين في الحديث بكل الحماس الذي استولى عليها حينما كشفت عن رقعة صغيرة من الحياة وفحصتها بدقة.

«لم يجرؤ حتى على خيانتها. فإذا نظر إلى امرأةٍ أخرى غابت هي عن الوعي ومرضَت بشدة وتحوَّل الوضع إلى مشهدٍ مأساوي مريع. أستطيع تذكُّر بعضٍ من هذه المشاهد. أتذكر أنه ذات مرة زار السيدة سومز عندما كانت شابة وجميلة، وعندما عاد إلى المنزل قابلَتْه العمة كاسي وهي في حالةٍ هستيرية وأخبرته أنه إذا حدث ذلك مرةً أخرى، فستُغادر، «مع ضعفها والبؤس الذي كانت فيه»، وترتكب الزنا. أتذكر القصة لأنني سمعتُ والدي يَرويها عندما كنت طفلة وكنت بائسة حتى اكتشفتُ ما يَعنيه «ارتكاب الزنا». وانتهى الحال بتدميرها إيَّاه. أنا متأكِّدة من ذلك.»

كانت سابين جالسة، بوجهٍ كأنما قُدَّ من صخر، تُراقب بعينَيها سحابة الغبار التي كانت تتحرَّك على الطريق بينما كانت العمَّة كاسي تتقدَّم في جولة زياراتها الصباحية، وكأنها بطريقةٍ ما رمز لجميع القوى التي أفسدت حياتها.

تمتمت أوليفيا: «هذا جائز.»

التفتت سابين نحوها، بحركة سريعة ومُفاجئة. وقالت: «ولهذا السبب تهتمُّ دائمًا بحياة الآخرين. لم تحظَ بحياةٍ خاصة بها أبدًا. دائمًا ما كانت خائفة. هذا هو السبب وراء حُبها لمصائب الآخرين، لأنها لم تكن لدَيها أبدًا مصائبها الخاصة. حتى موت زوجها لم يكن مصيبة. فقد صارت بعدَه حرة، مُتحرِّرة تمامًا من المتاعب مثلما أرادت دومًا.»

ثم حدث شيء غريب لأوليفيا. بدا وكأن عمة كاسي جديدة قد ولدت، كما لو أنَّ القديمة، التي تفيض عيناها بالدمع وتُظهر تعاطفها سريعًا لمن حولها والتي تُظهر بصورة عجيبة متى وقعت مصيبة في الحي، العمة كاسي المعروفة بأعمالها الصالحة ودموعها ونصائحها الدينية، قد مضت عبر هذا الطريق لآخِر مرة، ولن تعود مرةً أخرى أبدًا. صباح الغد ستَصِل عمة كاسي جديدة، واحدة تُشبه القديمة ظاهريًّا؛ أوليفيا وحدَها ستراها بشكلٍ مُختلِف، ستراها امرأة جُردت من كل تلك الحجب من التظاهُر والعواطف التي غلفت بها نفسها، عجوز قُبحها بادٍ للعيان، وفهمت أوليفيا في لمحةِ تجلٍّ خاطفة أنها مثل حشرة تضرب لوح زجاج في محاولة عقيمة للدخول إلى مكان يَستحيل عليها دخوله. ولم تَعُد الآن تخشى العمة كاسي. لم تكن حتى تكرهها؛ كانت فقط تُشفق على المرأة العجوز لأنه كان قد فاتها الكثير؛ لأنها ستموت دون أن تعيش يومًا. ولا بد أنها كانت ذات يوم شابةً وجميلة، وخفيفة الظل جدًّا. ما زالت هناك لحظاتٌ تتجرَّد فيها تمامًا السيدة العجوز من سحرها ومزاحها ولسانها السليط.

عادت سابين تتحدَّث، بلهجةٍ قاسية، لا هوادة فيها. فقالت: «كانت مُستلقيةً هناك طوال تلك السنوات على الأريكة مغطاة بشال، تُحاول لترتيب حياة جميع من حولها. قضت على استقلالية آنسون ودمرت سعادتي. وأرهبت زوجها حتى مات في النهاية هربًا منها. كان رجلًا دمث الخلق، تُرعبه الفضائح وإثارة الجَلَبة.» أشعلت سابين سيجارة وألقت بالثقاب بحركة همجية مُفاجئة. وتابعت: «والآن صارت تحوم في الأرجاء مثل ملاك الرحمة، ملاك رحمة نشيط جدًّا، مثل أفَّاك في زيِّ ملاك. لقد برعت في أداء دورها. الجميع يَعتقدُون أنها امرأة ضعيفة، وصالحة، وتعيسة. لا بد وأن بعض القديسين كانوا يشبهونها جدًّا. لا بد وأن بعضهم كان يُزعج العانسات العجائز.»

نهضت، ولفَّت وشاحًا شفافًا حول عنقها، وفتحت مظلتها الصفراء، قائلةً: «أعرف أنني على حق. فيما يخصُّ كونها عذراء. على الأقل.» وأضافت: «بالمعنى التِّقني للكلمة، هي عذراء. ولكني لا أعرف شيئًا بخصوص حالتها العقلية.»

ثم غيَّرت مسار الحديث فجأةً قائلةً: «هل ستذهبين معي إلى بوسطن غدًا؟ سأفعل شيئًا بشأن شعري. بدأ الشيب يظهر فيه.»

لم تَرُد أوليفيا عليها في الحال، ولكن حين تحدثت، قالت: «أجل؛ سأعاود ممارسة ركوب الخيل وأريد شراء بعض الملابس. فثيابي القديمة ستبدو الآن مُثيرة للسخرية. لقد مرَّت سنوات عديدة على آخِر مرة امتطيتُ فيها حصانًا.»

نظرت سابين إليها بحدة، وأشاحت بوجهِها مرةً أخرى، وقالت: «سآتي لاصطحابكِ حوالي العاشرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤