الفصل السادس

حَلَّ على مدينة دورهام جوٌّ حار رطب ومحمَّل برائحة كثيفة للحشائش النضرة ورائحة شبه نَتِنة للأهوار المالحة، فاختزل الحياة بأكملها في حالة استرخاء مُميِّز للمناطق الاستوائية. حتى في أوقات الصباح عندما كانت سيبيل تَخرج مع أوهارا ليركبا الخيل عبر المروج، لم تكن أي نسمات باردة تَهبُّ ولم تكن أيُّ قطرات ندى تتساقَط على العشب. ولم يُقاوم أحد الطقس الحار الرطب سوى العمة كاسي، بجسدها النحيل الضامر، وآنسون، مَدفوعًا دومًا بالشعور بالواجب الذي لا يلتفت لأشياء تافهة مثل حالة الطقس. واصلت العمة كاسي، التي لم تكن تُبالي بالحر ولا بالبرد، ولا بالعاصفة ولا الهواء العليل، جولاتها التي لا تَعرف الكلل أو الملل. أما سابين، التي علقت بأنها كانت تعرف دومًا أن نيو إنجلاند هي أحر مكان في هذا الجانب من الجحيم، فقد تعوَّدت على حالة من الكسل التام، فلا تبرح المنزل إلا بعد مغيب الشمس. وحتى حينئذ، كان النشاط الوحيد لها هو الخروج إلى منزل عائلة بينتلاند لتَجلِس في حجرة الكتابة للعب البريدج بفتور مع أوليفيا وجون بينتلاند والسيدة سومز العجوز.

يومًا بعد يوم بدتِ السيدة العجوز أكثر ارتباكًا ونسيانًا وإثارة للإزعاج أثناء اللعب باعتبارها اللاعبة الرابعة في لعبة البريدج. ومع ذلك، كان جون بينتلاند يصرُّ دومًا على اللعب معها كفريقٍ ثنائي، قائلًا إنَّ أحدهما يفهم طريقة لعب الآخر؛ بيد أنه لم يخدع أحدًا بذلك، عدا السيدة سومز، التي لم تكن تتمتَّع بذكاءٍ كبير حتى في أفضل حالاتها؛ إذ عرَف الآخرون أنه كان يفعل ذلك لحمايتها. إذ كانوا يَرونه يجلس بهدوء وصبر بينما تطرح هي رهانات تَعجز عن تحقيقها، وتُفسد أوراقه الرابحة وتتحجَّج بضعف النظر. كانت تتمتَّع بجمال رائع فيما مضى وكانت لا تزال امرأة مُختالة بنفسها، بكل مساحيق الزينة التي تضعها. وما كانت لترتدي نظارة طبية أبدًا ولذلك كانت تلعب من خلال النظر عبر نظارة يَدوية، وهو ما كان يُبطئ إيقاع اللعبة بالكامل ويزيد الارتباك. وأحيانًا، في خضمِّ الأخطاء الفادحة التي كانت ترتكبها السيدة المسنَّة، كانت عينا سابين الخضراوان تعكسان نظرة غضب شديد، لكن أوليفيا كانت تتمكَّن بطريقةٍ ما من كبت أي نوبة غضب؛ بل إنها كانت تستطيع أن تُجبر سابين على مُواصَلة اللعب، ليلة تلو أخرى. تأثَّرت أوليفيا كثيرًا بمعاملة العجوز للسيدة سومز بصبرٍ ورقَّة، وخُيِّل إليها أن سابين أيضًا — سابين القاسية والساخرة والجزوعة — تأثَّرت بذلك. كان في شخصية سابين جانب رقيق لافت للنظر وغير متوقَّع، كما لو أنها بطريقةٍ ما فهمت الرابطة التي جمعت بين العجوزَين. الآن أصبحت سابين، التي لم تكن تسمح بأن يُشعرها أحد بالملل، على استعداد لأن تَجلس ليلةً تلوَ الأخرى وتتحمَّل هذا الملل الشديد بصبرٍ وأَناة.

وذات مرة حين قالت لها أوليفيا: «سنكون جميعًا كبارًا في السن يومًا ما. وربما سنكون في حالٍ أسوأ من حال السيدة سومز المسنَّة»، ردَّت سابين بأن هزت كتفَيها في مرارة قائلة: «كِبَر السن أمر مُثير للضجر. وهذه هي مُشكلتنا، يا أوليفيا. لن نَستسلِم ونُصبح سيداتٍ مسنَّات. جرت العادة على أن تتشبَّث الجميلات بمرحلة الشباب، والآن نحن جميعًا نفعل الشيء نفسه. وعلى الأرجح سنكون عجائز بَشِعات نضع مساحيق التجميل … مثلها.»

أجابتها أوليفيا: «ربما»، بينما استحوذ عليها شعور بالرعب مِن فكرة أنها ستُتِم الأربعين في عيد ميلادها القادم، وليس أمامها شيء، ولو في المُستقبَل القريب، سوى أمسيات مثل هذه، تلعب فيها البريدج مع أشخاص مُسنِّين إلى أن تَصير هي نفسها بعد قليلٍ مُسنةً، دومًا في الأجواء الكئيبة للمنزل الكبير لعائلة بينتلاند.

وأردفت سابين قائلةً: «ولكن لن ألجأ إلى تَعاطي المُخدِّرات. على الأقل لن أفعل هذا.»

نظرت إليها أوليفيا بحدة. وسألتها: «من الذي يتعاطى المُخدِّرات؟»

«يا إلهي، هي تتعاطاها … السيدة سومز العجوز. تتعاطى المخدرات منذ سنوات. ظننتُ أن الجميع يَعرفون ذلك.»

قالت أوليفيا بنبرة حزينة: «كلَّا، لم أعرف بهذا قط.»

ضحكت سابين. وردَّت قائلة: «أنتِ ساذجة.»

وبعد أن غادَرت سابين إلى بيتها، غشِيَتها سحابة من الكآبة استمرَّت لساعات. وفجأةً شعرت بأن آنسون والعمة كاسي ربما يكونان مُحقَّين، في نهاية المطاف. كان ثمة شيء خطير بخصوص امرأة مثل سابين، التي هتكت كل الأستار، والتي ضحَّت بكل شيءٍ في سبيل شغفِها بالحقيقة. بطريقةٍ ما أربك هذا عالَمًا لم يكن، حتى في أفضل حالاته، مُبهجًا للغاية.

•••

في بعض الأمسيات كانت السيدة سومز تبعث برسالة تقول فيها إنها تشعر بتعبٍ شديد يَمنعها من اللعب، وفي تلك المناسبات كان جون بينتلاند يَمضي بسيارته ليعودَها، وعندئذٍ كانت مباراة البريدج تُقام في منزل «بروك كوتيدج» مع أوهارا ولاعب رابع أحضره أحدٌ ما من الريف. ولم تكن سابين تَكترِث بهوية الشخص المُختار ما دام يستطيع اللعب جيدًا.

وحدث في هذه المُناسبات أن لعِب أوهارا وأوليفيا معًا، ليُكوِّنا بشكلٍ أو آخر فريقًا، كان ناجحًا على نحوٍ مُثير للإعجاب. كان يَلعب بطريقةٍ عرفتْ أنه سيَتَّبِعُها في اللعب، بشراسة وذهن متَّقد، وبتركيز شديد وتصميم على الفوز. أذهلها أنَّ رجلًا أمضى جُلَّ حياته في دوائر لا تعرف لعبة بريدج قد أتقن هذه اللعبة المُعقدة إتقانًا كاملًا. تخيلته يأخذ دروسًا خاصة في اللعبة بنفس الحماس الذي انكبَّ به على مساره المهني.

لم يتحدَّث معها ثانيةً عن الأشياء التي تطرق إليها أثناء وقوفهما في الفناء الأمامي في تلك الليلة الحارة الأولى، وحرصتْ على ألا يَنفرِد بها مُطلقًا. خجلت من اللعبة التي كانت تَلعبها؛ أن تُقابله دومًا مع سابين أو وهي تركب الخيل مع سيبيل وألا تُعطِيَه فرصة للحديث؛ بدا لها أنَّ ذلك السلوك رخيص وغير نزيه. ولكنَّها لم تستطع أن تَحمل نفسها على رفض رؤيتِه، لأسبابٍ منها أن الرفض من شأنه أن يُثير الشكوك لدى سابين المهتمَّة بالموضوع بالفعل، ولكن السبب الأهم هو أنها كانت ترغب في مُقابلته. كانت تجِد في نفسها نوعًا من البهجة في الطريقة التي ينظر بها إليها، وفي الإتقان الذي صار به أحدهما يفهم طريقة لعب الآخر؛ وعلى الرغم مِن أنه لم يُقابلها على انفراد، ظلَّ يُخبرها بمئات الطرق الخفية بأنه عاشق مُتيَّم بها.

كانت تقول في نفسها إنها تتصرَّف كتلميذةٍ حمقاء، ولكنها لم تستطع أن تحمل نفسها على التخلِّي عنه تمامًا. بدا لها أنَّ إضاعتها لهذه الأمسيات السعيدة النادرة كانت أمرًا لا يُحتَمَل. وكانت أيضًا تخشى من أن تصفَها سابين بالحماقة.

•••

ومع توديع أوائل الصيف واستقبال شهر يوليو، قلَّت زيارات السيدة سومز المسنَّة للعب البريدج أكثر فأكثر، وفي أوقات كانت سابين تَتناول العشاء بالخارج أو تأوي إلى الفراش مُبكرًا، فتحرمهم من لعب البريدج ويُخيم الهدوء المعتاد والمعهود على أجواء غرفة الجلوس في منزل عائلة بينتلاند … وفي تلك الأمسيات كانت أوليفيا وسيبيل تَلعبان لعبة السولتير في حين يَنكفئ آنسون على مكتب السيد لويل مُتحسِّسًا طريقه عبر مَتاهات تاريخ عائلة بينتلاند المحير.

وفي إحدى هذه الأمسيات، عندما أجهدت القراءة عينا أوليفيا، أغلقت كتابها، والتفتَت إلى زوجها، ونادته. وحين لم يُجبها على الفور تحدثت إليه ثانيةً، وانتظرت حتى رفع نظرَه إليها. ثم قالت: «آنسون، لقد عدتُ إلى ركوب الخيل مرةً أخرى. أظنُّ أنه نشاط مفيد لي.»

ولكن آنسون، الذي كان مُستغرقًا في تأليف الفصل الخاص بسافينا بينتلاند وصداقتها مع آنجر، لم يُبدِ أي اهتمامٍ ولم يرُدَّ بكلمة.

كررت قولها ثانية: «أذهب في الصباح، قبل تناول الإفطار، مع سيبيل.»

رد آنسون قائلًا: «حسنًا»، ثم أردف: «أظن أنها فكرة رائعة؛ لونكِ صار أفضل»، وعاد إلى عمله.

هكذا نجحت في أن تُخبره بأن الأمور تسير على خير ما يرام فيما يخص سيبيل وأوهارا. واستطاعت أن تُخبره دون أن تقول له صراحةً بأنها ستَذهب معهما وتمنع حدوث أي تطوُّرات. لقد أخبرته أيضًا دون أن تُلمح إلى موقف المواجهة الذي أشعره بالخجل. بالطبع، كانت تَعرف حينها أنه ليس هناك خطورة من حدوث أيِّ تعقيدات، على الأقل أي تَعقيد يمسُّ سيبيل.

وبينما كانت جالسةً والكتاب المُغلق في حجرها، ظلَّت لبعض الوقت تُراقب مؤخرة رأس زوجها؛ الشعر الرمادي الخفيف، والعروق البارزة بوهَنٍ تحت الجلد المجعد، والأذنان الصغيرتان جدًّا المُلتصقتان بالجُمجمة؛ في الواقع كانت ترى طوال الوقت رأسًا آخر مُرتكزًا على عنق مفتولة العضلات، والبشرة السمراء المشرقة المُتدفِّقة بالنضارة، والشعر الكثيف القصير واللامع؛ وشعرت برغبة غريبة، وبلا تفسير، في أن تَبكي، وفي الوقت نفسه كانت تقول في نفسها: «أنا امرأة شريرة. أنا حتمًا سيئة.» وذلك لأنها لم تكن قد عرفت مُطلقًا ماهية الوقوع في الحب، وعاشت عشرين عامًا تقريبًا ضِمن أسرة يشغل الحبُّ فيها مكانة ضئيلة ومنسية.

كانت جالسة على هذا النحو عندما وصل جون بينتلاند أخيرًا، بادي الشحوب والإنهاك أكثر مما كان طيلةَ أيام. سألتْه بصوتٍ خفيض، حتى لا تُزعج آنسون، عما إذا كانت السيدة سومز مريضة فعلًا. أجابها العجوز قائلًا: «كلَّا، لا أظنُّ ذلك؛ تبدو بخير، مُرهقة قليلًا، هذا كل ما في الأمر. نحن جميعًا نتقدَّم في العمر.»

جلس وبدأ يقرأ مثل الآخرين، مُتظاهرًا بكل وضوح باهتمام لم يكن يشعر به؛ إذ ضبطتْه أوليفيا فجأة يُحدِّق أمامه في نقطة تتخطَّى حدود الصفحة المطبوعة. لاحظت أنه لم يكن يقرأ على الإطلاق، وظلَّت تتردَّد في ذهنها مجموعةٌ صغيرةٌ من الكلمات — «مُرهقة قليلًا، هذا كل ما في الأمر، نحن جميعًا نتقدَّم في العمر؛ مُرهقة قليلًا، هذا كل ما في الأمر، نحن جميعًا نتقدَّم في العمر» — تردَّدت الكلمات مرارًا وتكرارًا بوتيرة رتيبة، كما لو أنها تُنوِّم نفسها مغناطيسيًّا. ووجدت نفسها، هي الأُخرى، تُحدِّق في الفراغ بنفس الطريقة المفتونة التي يُحدِّق بها الرجل المسن. ثم، فجأة، استفاقت على شخصٍ يَقِف عند مدخل الباب يُومئ برأسه إليها، وركَّزت نظرها، فأدركت أنها المربية، مرتدية روبًا، واكتسى وجهها المسن بتعبير قلق. كان لدَيها سبب لعدم إزعاج الآخرين؛ إذ إنها لم تنبس بِبِنْتِ شَفَة. وقفت في الظل، وأومأت برأسها؛ فنهضَت أوليفيا في هدوء، وخرجت إلى الردهة وأغلقت الباب خلفها.

هناك، تحت الإضاءة الخافتة، رأت أن المرأة العجوز كانت تَبكي وترتجف من الخوف. قالت: «لقد حدث شيء ما لجاك. شيء مُروِّع.»

كانت قد عرفت ما هو قبل أن تتفوَّه المُربية بكلمة. بدا لها أنها كانت تَعرف طوال الوقت، وفي تلك اللحظة لم تشعر بصدمةٍ وإنما بخدر مُميت لأيِّ مَشاعر.

قالت بنبرة هادئة مُخيفة نوعًا ما: «اتصلي بدكتور جينكينز»، واستدارت لتصعد درج السُّلَّم الطويل.

•••

وفي عتمة غرفتها، لم تَنتظِر حينئذٍ حتى تَسمع صوت الأنفاس. لقد أتت أخيرًا … اللحظة التي ستدخل فيها الغرفة، وتُنصت إلى الصوت، ولا تجد سوى سكون الليل. وعلى الجانب الآخر، في الغرفة التي كان يَشغلها جاك منذ كان طفلًا صغيرًا، كان ضوء الليل الخافت المعتاد في الزاوية، وعلى وهجِهِ الباهت استطاعت أن تُحدِّد مكان السرير الضيق وجسده مُمدًا فوقه كما بقِيَ دائمًا مُستلقيًا، نائمًا. لا بدَّ أنه نائم، هكذا قالت في نفسها؛ لأنه مِن المُستحيل أن يكون قد مات بهدوء شديد، بلا أدنى حركة. ولكنَّها أدركت، بالطبع، أنه كان ميتًا، ورأت كم كان قريبًا من الموت دومًا، وأن الأمر كان مسألة انتقالٍ تَدريجي، بكل بساطة وهدوء.

لقد هرب أخيرًا منهما — منها هي وجَدِّه — في لحظة لم يكن خاضعًا فيها لمراقبتِهما؛ وفي الطابق السُّفلي بغرفة الجلوس كان جون بينتلاند جالسًا، واضعًا كتابًا في حِجره إلى جوار مصباح السيد لونجفيلو، ومحدقًا في الفراغ، ولم يعرف شيئًا بعد. وجلس آنسون يخطُّ بقلمه تاريخ عائلة بينتلاند ومستعمرات خليج ماساتشوستس، بينما في الغرفة التي كانت واقفةً فيها حينئذٍ كانت نهاية نسلِ عائلة بينتلاند قد كُتِبَت.

لم تنتحب. عرفت أن البكاء سيأتي في وقتٍ لاحق، بعد أن يُجري الطبيب زيارته السخيفة غير المُجدية ليُخبرها بما كانت تعرفه بالفعل. والآن بعدما حدث الأمر الذي كانت قد قاومته طويلًا، كانت واعية بحالة سكينة شديدة. بدا لها حتى أنَّ الصبي، ابنها، صار الآن أكثر سعادة؛ لأنه كان يراودها شعور بالخوف، يُخالِطه شعور بالندم، من أنهم كانوا يُبقونه على قيد الحياة كل تلك السنوات رغمًا عنه. بدا هادئًا وساكنًا في تلك اللحظة، على عكس ما بدا عليه في تلك الليالي الطويلة المفزعة التي كانت تجلس فيها على نفس هذا الكرسي وإلى جوار نفس السرير، والتي كان فيها يستند إلى الوسائد؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يتنفَّس وهو مُستلق، ويُقاتل من أجل النفَس ومن أجل الحياة، وكان يفعل ذلك بدافع إرضائها هي وجدِّه أكثر من كونها رغبةً منه في الحياة. رأت أنه يُمكن أن يوجَد جمال رائع في الموت. لم يَبدُ الأمر كما لو أنه مات بمُفرده. وإنما خلد ببساطة إلى النوم.

لقد غمرها أيضًا شعور غريب ومُرضٍ بالواقع، بالحقيقة، كما لو أنَّ الأجواء من حولها أصبحت بطريقةٍ ما صافية ومنعشة. فالموت ليس أمرًا يستطيع المرء إنكاره بالتظاهر. الموت حق. فهو يمثل نهاية شيءٍ ما، على نحوٍ واضح وقاطع إلى الأبد. لا وجود للخداع بشأن الموت.

تمنَّت الآن لو أنها كانت قد طلبت من المربية ألا تتحدَّث مع الآخرين. أرادت أن تَبقى هناك بمُفردها في الغرفة الخافتة الإضاءة حتى تستحيل السماء الممتدَّة إلى ما وراء الأهوار رمادية.

•••

لم يتركُوها وحدَها في سلام مع ابنها. جاءت أولًا طرقة على الباب لتدخل بعدَها المربية العجوز، وهي لا تزال تَرتجِف وفي حالة هيستيرية، تَتبعها الآنسة إيجان المتيبِّسة الكفء، التي تحركت هنا وهناك بهمَّةٍ وسرعة بأسلوب مِهني حازم، ثم أتت الأصوات الصاخبة المزعجة لسيارة دكتور جينكينز من طراز فورد أثناء قدومه من القرية، والصوت المزعج الصادر من بعيدٍ لبوق سيارة غريبة ووهج لامع لضوء مُنبعث من سيارة كبيرة تستدير عند منعطف الممر في بداية الطريق وتنهب الأرض مُبتعِدة نحو منزل «بروك كوتيدج». بدا أن الحياة دبت فجاءة في الرَّدهة بأناس، يتهامسون ويُتمتمون فيما بينهم، وتعالى صوت بكاء هيستيري من إحدى الخادمات المرتعدات. كان الموت، الذي من المُفترض أن يحدث في حالة من العزلة الجميلة الهادئة، تُسْلَب منه جميع مظاهر وقاره. سيتصرفون على هذا النحو لأيام. أدركت أنها الآن فقط، في خضمِّ كل ذلك الضجيج المُثير للشفقة، كانت قد فقَدَت ابنها. رغم ذلك، كان لا يزال، بطريقةٍ أو أخرى، ابنها، بينما كانت واقفة بمفردها في الغرفة.

وفجأةً، في خضمِّ الاضطراب، تذكَّرت أن ثمَّة آخرين يُشاركونها المُصَاب الأليم نفسه. مِن هؤلاء سيبيل، التي كانت قد دخلت الغرفة ووقفت بجوارها، في حالةٍ من الرهبة والتعاطف، تضغط على يد والدتها في صمت؛ وآنسون، الذي كان واقفًا بلا حول له ولا قوة في زاوية الغرفة، مُنزعجًا ويائسًا وخائفًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى في مواجَهة الموت. ولكن أهمهم جميعًا كان جون بينتلاند. لم يكن في الغرفة. ولم يُرَ له أثر.

ذهبت للبحث عنه؛ لأنها كانت تعرف أنه لن يأتي مطلقًا إلى هناك ليواجِهَ الآخرين جميعهم؛ وإنما كان سينزوي بعيدًا مثل حيوان جريح. عرفت أنه كان يُوجَد شخص واحد فقط يمكنه تحمُّل رؤيته. معًا كانا قد ناضلا من أجل حياة الصبي، ومعًا يجب أن يُواجِها الحقيقة الصعبة والقاسية لموته.

وجدته واقفًا في الشرفة، خارج النوافذ الطويلة لغرفة الجلوس، وحين اقتربت منه، رأته شاردًا في حسرتِهِ لدرجة أنه لم ينتبه إليها. كان أشبه برجلٍ واقع تحت تأثير تعويذةٍ ما. كان واقفًا هناك بكل بساطة، بقامته الطويلة عابسًا ومُتجهمًا، مُحدقًا عبر الأهوار صوب البحر، وحيدًا كما كان دومًا، مُحاطًا بدرع الوحدة المُفجِعة الذي لم يَنجح أحد منهم، ولا حتى هي نفسها، في اختراقه. رأت حينئذٍ حزنًا أفظع من حزنها. كانت قد فقدَت ابنها ولكن في حالة جون بينتلاند كانت تلك هي نهاية كل شيء. رأت أن العالَم بأكملِه قد انهار مِن حوله. كان الأمر وكأنه هو أيضًا قد مات.

في البداية، لم تتحدَّث إليه، وإنما ببساطة وقفت بجواره، وأخذتْ يده الضخمة النحيلة في يدها، وقد أدركت أنه لم ينظر إليها، وإنما ظل يُحدق عبر الأهوار صوب البحر. وأخيرًا، قالت له برفق: «قُضِيَ الْأَمْر، أخيرًا.»

ظل على حاله لا ينظر إليها، لكنه أجابها بنبرةٍ هامسة تكاد لا تكون مسموعة: «أعلم.» كانت دموع تسيل على وجنتيه المجعدتَين الهرمتَين. كان قد خرج في عتمة الحديقة المُعبقة بالروائح الذكية لينتحب هناك. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رأت فيها الدموع في العينين السوداوين المتَّقِدتَين.

•••

لم يهدأ الصخب المكبوح والدارج الذي يُحيط بالموت ليعمَّ الصمت مرة أخرى إلا بعد منتصف الليل بوقتٍ طويل، لتبقى أوليفيا بمفردها في الغرفة مع سيبيل. لم تتبادلا حديثًا؛ لأنهما كانتا تعرفان جيدًا عجز الكلمات عن التعبير، وفيما بينهما لم تكن ثمَّة حاجة إلى الكلام.

وأخيرًا، قالت أوليفيا: «يجب أن تنامي قليلًا يا عزيزتي؛ فغدًا سيكون يومًا مُرهقًا.»

عندئذ، أقبلت سيبيل، كطفلة صغيرة، وجلست على حجر والدتها وأحاطت عنقها بذراعَيها وقبَّلتها.

قالت الفتاة بصوت خفيض: «أنتِ رائعة يا أمي. أعرف أنني لن أكون أبدًا امرأةً رائعةً جدًّا هكذا. كان ينبغي علينا، جميعًا، أن نريحكِ الليلة، وبدلًا من ذلك، كنتِ أنتِ من توليتِ تدبير كلِّ شيء.» قبَّلتها أوليفيا وحسب، بل وابتسمت لسيبيل قليلًا قائلة: «أظنه أسعد الآن. لن يتعب ثانيةً أبدًا كما اعتاد.»

كانت قد نهضت لتَنصرِف حينها سمعتا، من مكانٍ ما على مسافة بعيدة، صوت موسيقى. وصل إليهما الصوت غامضًا ومُتقطعًا محمولًا مع النسائم الآتية من ناحية البحر، صوت موسيقى زاخرة بإيقاعٍ ثائر وجامح، يَرتفع ويهبط مصحوبًا بإحساسٍ متَّقد بالحياة. بدا لأوليفيا أن قوة خفية داخل أنغام الموسيقى اخترقت سكون البيت العتيق، وحطَّمَت الصمت المهيب الذي خيَّم في النهاية على المكان مع اقتراب شبح الموت. بدا وكأنَّ الحياة تَحتفِل بانتصارها على الموت، بظفرٍ شرس وجامح ومبهج.

كانت الموسيقى تبدو أيضًا غريبة وحماسية في ظلِّ الأجواء الخفيفة والصافية لليلةٍ من ليالي نيو إنجلاند، موسيقى لم يَسمع أحد منهم مثلها من قبل؛ وتدريجًا، مع تصاعد أنغامها الجامحة، تعرفت عليها أوليفيا؛ كانت الموسيقى الحماسية البربرية للرقصات القبائلية لأوبرا «أمير إيجور»، تُعزف عزفًا بارعًا بحسٍّ من بهجة متحررة.

في اللحظة نفسها، نظرت سيبيل إلى أمها وقالت: «إنه جان دي سيون … لقد نسيتُ أنه كان سيصل الليلة.» ثم أردفت بنبرةٍ حزينة: «بالطبع، لا يعرف.»

ظهر وميض مفاجئ في عين الفتاة، لمحة وميض خاطفة، تلاشت بسرعة مرة أخرى، كانت ذات صلةٍ غريبة وحميمية بالموسيقى الحماسية. مرة أخرى كان هذا انتصارًا للحياة على الموت. بعد ذلك بوقتٍ طويل تذكَّرت أوليفيا جيدًا ذلك البريق … وميض شيءٍ ظلَّ مستمرًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤