الفصل السابع

١

لم يصل الخبر إلى العمة كاسي إلا في صبيحة اليوم التالي في الساعة العاشرة صباحًا، وهو ما أتى بها، مُفعمة باللَّوم وتغلبُها الدموع، عبر الطرق الترابية المؤدِّية إلى منزل عائلة بينتلاند. شعرت بالاستياء، على حدِّ قولها؛ لأنهم لم يُخبروها في الحال. أخذت تُكرر قولها: «كان ينبغي أن أهبَّ من فراشي وآتي على الفور. كان نومي سيئًا للغاية، على أيِّ حال. كان بإمكاني أن أتولَّى أمر كل شيء. كان ينبغي أن تستدعوا العمَّة كاسي في الحال.»

ولم تستطع أوليفيا أن تُخبرها بأنهم لهذا السبب تحديدًا آثروا ألا يُخبروها؛ لأنهم عرفوا أنها ستقوم من فراشها وتأتي على الفور.

حملت العمة كاسي على كاهلها النحيل عبء الحزن. أخذت تَنتحِب على طريقة النادبات المُحترفات في المآتم. أسدَلَت الستائر في غرفة الجلوس؛ لأن من وجهة نظرها لن يكون الموت محلَّ احترام إلا إذا أُعتِمت الغرف، وجلست في زاوية الغرفة تستقبل الزائرين، كما لو كانت الأشدَّ فجيعةً بينهم جميعًا، كما لو أنها الوحيدة بينهم التي عانت أشدَّ المعاناة. لم تَعُد إلى مسكنها الخاص إلا في وقتٍ متأخِّر من الليل وتناولت جميع وجباتها في منزل عائلة بينتلاند، وهو ما أزعج شقيقَها، الذي التفت إليها في اليوم الثاني فجأةً وسط وجبة الغداء وقال: «كاسي، إذا كنتِ لا تستطيعين الكَفَّ عن هذا العويل الذي لا نهايةَ له، فأرجو أن تَتناولي طعامكِ في بيتكِ. هذا لن يُجدي نفعًا في أيِّ شيء.»

حينئذٍ قامت من على مائدة الطعام، في أوْج شعورٍ مُفاجئ بالحزن والاضطهاد، لتُغادر الغرفة مسرعةً، باكيةً ومُستاءة. بيد أنها لم تَشعُر بالإهانة بالقدْر الذي يجعلها تتناول وجباتها في بيتها. بل مكثَت في منزل عائلة بينتلاند؛ لأنهم على حدِّ قولها: «كانوا يحتاجون شخصًا مثلها ليُساعدهم …» وأسرَّت إلى الآنسة بيفي المُرتعِدة الواهنة، التي كانت تأتي وتذهب كأرنبٍ مذعور لإنجاز بعض المهام من أجلها، أنها مُندهِشة من أنَّ أخاها وأوليفيا يتعاملان مع الموت بهذا القدْر من اللامبالاة. فلم يَنتحبا؛ ولم تَبدُ عليهما أيُّ مظاهر للحزن. كانت واثقة من أنهما يفتقران إلى الإحساس المرهَف. وأنهما لم يَشعرا بالفجيعة. وانتحبت مرةً أخرى، وهي تستعيد ذكريات الأيام الخوالي التي كان الصبيُّ يَجيء فيها حين كان طفلًا صغيرًا، شاحبًا ضعيفًا، ليجلس عندها على أرضية غرفة الجلوس الخاوية، يُقلِّب صفحات الكتاب المقدَّس المصوَّر.

وقالت أيضًا للآنسة بيفي: «في أوقاتٍ كهذه يَظهر أصل المرء وتربيته. ولأول مرة تُخفِق أوليفيا. إنها لا تعي الأشياء التي يجب على المرء القيام بها في مناسباتٍ كهذه. ليتها نُشِّئت تنشئة سليمة، هنا بينَنا …»

كانت العمة كاسي ترى الموت شأنًا ذا طابع تلقائي يَكتسي بالرسميات يُراعِيه المرء بسلسلةٍ من الموروثات المتناقَلة بين الأجيال.

كان من الحظ السعيد جدًّا، حسب قولها، أن الأسقف سمولوود، ابن عم آل بينتلاند وسابين (والذي تُطلِق عليه سابين «أسقف الطبقة الأرستقراطية») كان لا يزال موجودًا في الحي وبإمكانه أن يُقيم قُدَّاس الجنازة. فمن الأصول أن يُدفَن سليل عائلة بينتلاند على يد واحدٍ تسري في عروقه دماء آل بينتلاند (كما لو أنَّ أيَّ شخصٍ آخر لا يَستحِق أن ينال هذا الشرف). وذهبت لمقابلة الأسقف لتُناقش معه مسألة إقامة القدَّاس. وخطَّطت لتلك النقطة المعقدة جدًّا المتعلقة بترتيب مقاعد جلوس الأقارب والمعارف — جميع أفراد آل كين وآل سترازرس وآل مانرينج وآل ساذرلاند وآل بينتلاند — في الكنيسة. وزارت سابين لتقول لها إنه أيًّا كانت مشاعرها تجاه الجنازات، فمن واجبها أن تحضر هذه الجنازة بالذات. يجب أن تتذكَّر سابين أنها عادت مرةً أُخرى إلى عالم الأناس المُتحضِّرين الذين يتصرَّفون كما يليق بالسادة والسيدات المُحترمين. وأسرَّت لكل زائر من الزوار الذين استقبلتهم في غرفة الاستقبال المعتمة بحقيقة أن سابين قطعًا مخلوقة قاسية وعديمة الشعور؛ لأنها حتى لم تُكلِّف نفسها بزيارة منزل عائلة بينتلاند.

إلا أنها لم تكن تَعرف ما كانت أوليفيا وجون بينتلاند يَعرفانه؛ وهو أن سابين كانت قد أرسلت رسالةً مُوجَزة وسريعة وغير مُترابطة تقريبًا، تفتقر إلى عبارات الورع البالية والمعهودة في مثل هذه المناسَبات، رسالة كانت تَعني لهما أكثر مما يَعنيه البكاء والتهامس والفوضى التي حدثت في الطابق السفلي؛ حيث توافَدَ على المنزل أهل الريف بأكمله ذهابًا وإيابًا في مَوكِبٍ مُتواصِل لا ينتهي.

وعندما لم تكن تجد الآنسة بيفي بالقُرب منها لتُنجزَ لها المهام، كانت تتَّخذ من آنسون مرسالًا لها … آنسون، الذي أخذ يَهيم على وجهه عاجزًا وتائهًا ومُضطربًا لأن الموت قد عرقل انسياب حياةٍ سَلِسةٍ خالية من الأحداث، يحدث فيها كل شيء وفقًا لخطة محدَّدة. كان الموت قد أربك جميع أفراد المنزل. كان من المُستحيل معرفة شعور آنسون بينتلاند حيال موتِ ابنه. فلم يتحدَّث مُطلقًا، وبعدما تأجَّل تأليف كتاب «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس» وسط كل هذا الاضطراب وطُمِر مكتب السيد لويل تحت باقات الزهور المُرسَلة للتعزية، لم يكن لدَيه ما يفعله سوى التسكُّع ليَعترض طريق كل شخصٍ يُقابله ويَستجلب لنفسه التوبيخات اللاذعة من العمة كاسي.

كانت العمة كاسي وآنسون هما مَن فتحا صندوق الورود الكبير الذي أرسله أوهارا. فتَحتِ العمة كاسي بيدِها النحيفة ذات العروق الزرقاء البارزة المظروف المرفق والموجَّه بصريح العبارة إلى «السيدة آنسون بينتلاند». كانت العمة كاسي هي مَن أرغمت آنسون على قراءة ما كان مكتوبًا بداخله:

عزيزتي السيدة آنسون،

تَعرفين ما أشعُر به. لا حاجة لقول المزيد.

مايكل أوهارا

علَّقت العمة كاسي قائلة: «الوقح! ولماذا يُرسل زهورًا من الأساس؟» وأخذت العمة كاسي تقرأ الرسالة مرارًا وتكرارًا، كما لو أنها ربما تجد بطريقةٍ أو أخرى معنًى مُستترًا وراء العبارتَين المبهمتَين. وكانت العمة كاسي هي مَن حملت الرسالة إلى أوليفيا وراقبتها وهي تقرؤها وتُنحِّيها جانبًا بهدوءٍ فوق التسريحة. وعندما عجزت عن اكتشاف أيِّ شيءٍ قالت لأوليفيا: «يبدو لي أنه من الوقاحة أن يُرسِل زهورًا ويكتب مثل هذه الرسالة. ما صِلَته بنا هنا في منزل عائلة بينتلاند؟»

نظرت إليها أوليفيا ببعض الإرهاق وقالت: «وما الذي يهمُّ إن كان وقحًا أو غير ذلك؟ علاوة على ذلك، كان صديقًا رائعًا لجاك.» ثم عدلت وضعية جسدِها المُرهق، ونظرت إلى العمة كاسي وقالت بنبرة متأنية: «كما أنه صديق لي.»

كانت هذه هي المرة الأولى التي يَنكشِف فيها انقسام القوى، حتى ولو لثانيةٍ واحدة، المرة الأولى التي تُظهِر فيها أوليفيا أيُّ مشاعر تجاه أوهارا، وكان ثمَّة شيءٌ مُنذر بالسوء في النبرة الهادئة التي نطقت بها العبارة على نحوٍ عابر جدًّا. وأنهت أي نقاش مُحتمل بمغادرة الغرفة بحثًا عن آنسون، تاركةً العمة كاسي منزعجة جراء الإحساس الوجِل الذي باغَتَها حين وجدت نفسها فجأة في مواجهة الهدوء الغامض والخطر الذي كان أحيانًا يُسيطر على أوليفيا. وعندما وجدت نفسها بمفردها في الغرفة، رفعت الرسالة مرةً أخرى من فوق التسريحة وقرأتها بتمحيصٍ للمرة العشرين. لم يكن فيها أي شيء … لا شيء يمكن أن يُلصِق به المرء على نحوٍ مقبول أيَّ شبهات.

وهكذا، في غمرة الموت، المُغلَّف برائحة زهور مسك الروم، وقفت السيدة العجوز مُنتصرة، بعد أن كادت تتكبَّد هزيمة نكراء. بطريقة ما عثرت، في هذه الفاجعة، على دورها المناسب واستطاعت أن تجتذب لنفسها أغلب الضوء من باقي المُمثلين. ولا بد أنها قد عرفت أن الزوار يُغادرون المنزل وهم يقولون: «كاسي تتصدَّى لمثل هذه المواقف بطريقة رائعة. لقد حملت كل شيء على عاتقها.» ونجحت في ترك انطباع مُزدوج بأنها عانت أكثر بكثيرٍ من أيٍّ من الآخرين وأنه لم يَكن بوسع أيٍّ منهم أن يَفعل أي شيءٍ من دونها.

ثم في غمرة انتصارها، حدث أسوأ ما يُمكن أن يحدث. كانت أوليفيا أول من عرف بالمُصيبة، نظرًا لأنها كانت دومًا أول شخصٍ يعرف قبل الآخرين جميعًا بما كان يعرفه العجوز جون بينتلاند؛ وما كان الآخرون سيَعرفون مُطلقًا حتى تنتهي المراسم الحزينة الخاصة بالجنازة لولا فضول العمة كاسي المُفرط.

ففي اليوم الثاني، استدعى جون بينتلاند أوليفيا إلى المكتبة، ووجدته هناك كما كانت تجِده في مراتٍ كثيرة من قبل، مُتجهمًا وصامتًا ومقهورًا، ولكن هذه المرة كان ثمة شيء مُفجع ومُنكسِر بشكلٍ لا يُوصف في سلوكه.

لم تتحدَّث إليه؛ وببساطة انتظرت، حتى رفع بصرَه أخيرًا، وقال بنبرة أقرب إلى الهمس: «جثمان هوراس بينتلاند وصل إلى محطة دورهام.»

ونظر إليها نظرةً خاطفة تَشي بعجز مُثير للشفقة، نظرة رجل قوي صار فجأةً ضعيفًا وهَرِمًا، كما لو أن قوَّتَه قد نفدت وكان الآن يلجأ إليها. كانت هذه هي المرة الأولى التي بدأت ترى فيها أنها كانت بطريقةٍ أو أخرى سجينة، ولكن مِن الآن فصاعدًا، ومع مرور الأيام يومًا تلو الآخر، صارت مسألة تدبير شئون الحياة بأكملها في منزل عائلة بينتلاند مُهمَّتها. لم يكن يُوجَد أحد يُمكن أن يحلَّ محل الرجل المُسن … لا أحد، عداها.

سألها بنفس النبرة الهامسة: «ماذا عسانا أن نفعل؟ أنا لا أعرف. أنا في حيرة من أمري.»

قالت أوليفيا برفقٍ: «يُمكننا أن ندفنهما معًا. يُمكننا أن نُقيم جنازة ثنائية.»

نظر إليها في ذهول. وسألها: «ألن تُمانعي ذلك؟» وعندما هزت رأسها نفيًا، أجاب قائلًا: «ولكن لا يُمكننا أن نفعل ذلك. يبدو لي أن ثمة خطبًا ما في هذه الفكرة … لا أستطيع أن أُوضِّح مقصدي … لا يَنبغي فعل ذلك … صبيٌّ مثل جاك وعجوز منبوذ مغضوب عليه مثل هوراس.»

كانا سيَعملان على تَسوية الأمر بهدوء فيما بينهما كما فعلا في الكثير من المشاكل في السنوات الأخيرة عندما كان جون بينتلاند يَلجأ إليها ليستمدَّ منها القوة، ولكن في تلك اللحظة انفتح الباب فجأة، وبلا طرقٍ عليه، لتظهر العمة كاسي، وعيناها تتَّقدان ببريقٍ غاضب وهيستيري، وحول وجهها النحيل تدلَّى شعرُها في كل اتجاهٍ في خصلات رمادية صغيرة.

سألتهما: «ماذا هناك؟ ما الخطب؟ أعرف أن ثمَّة خطبًا ما، ولا يحقُّ لكما أن تُخفِياه عني.» كانت تتحدَّث بصخبٍ وحدَّة، كما لو أن كل المتعة والنشاط المُحيطين بالموت خلال هذَين اليومَين قد أدخلاها في حالة مُفرطة من الإثارة. أجفل كلٌّ من أوليفيا وجون بينتلاند من وقع صوتها. كانت قد أثارت حفيظتهما على نحوٍ بالغ.

استمرَّ الصوت الحاد بنبرةٍ عالية. قائلة: «لقد كرَّستُ كلَّ وقتي لإجراء الترتيبات. أكاد لا أنام. أُضحِّي بنفسي من أجلكما ليلًا ونهارًا ومن حقِّي أن أعرف.» بدا كما لو أنها استشعرت الانهيار البطيء للعجوز جون بينتلاند وتسعى الآن إلى أن تُطيح به، وتَعزله من منصبه بصفته كبير العائلة، في انقلابٍ ساحق عليه، لتُنصِّب نفسها مكانه، طاغيةً شديدةَ الاستبداد هزيلة البُنيان؛ كما لو أنها تخلَّت أخيرًا عن طريقتِها القديمة الماكرة المتمثلة في محاولة استمالة رجال العائلة بالمكر والخداع. صارت الآن مستعدَّة لإرساء قواعد السُّلطة الأمومية، باعتبارها الملاذ الأخير لعائلةٍ وهنت قوتها. كانت قد ثارت بالطريقةِ نفسها مَرَّةً قبل ذلك، حسبما تتذكَّر أوليفيا، في تلك الشهور الطويلة التي استسلم فيها السيد سترازرس، الذي كان يحتضر ببطء، مانحًا إيَّاها زهوة الانتصار.

تنهد جون بينتلاند بعُمق وإرهاق، وتمتم قائلًا: «لا شيء مهم يا كاسي. إنه أمر سيُزعجكِ وحسب. أنا وأوليفيا نعمل على تسويتِه.»

ولكنها لم تتراجع. ظلَّت واقفة، مُتمسِّكة بموقفها واستمرت في وصلة التقريع، وارتفعت نبرة صوتِها لتصِل إلى درجة هيستيرية. قالت: «لن أُهَمَّش. لا أحد يُخبرني بأي شيءٍ مطلقًا. وعلى مدار سنوات الآن، أُستَبْعَد كما لو أنني محدودة الذكاء. رغم ضعفي ووهني، أبذل قصارى جهدي لخدمة العائلة ولا أتلقَّى ولو كلمة شكر واحدة … لماذا تُفضِّل أوليفيا دومًا على أختكِ؟» وانهمرت على وجهها دموع رثاءٍ حسِّي مُفرط على الذات. حتى إنها بدأت تُغمغم وتخلط كلماتها، واستسلمت تمامًا لحالةٍ من اللذَّة الحسية المُصاحبة للنوبات الهيستيرية.

رأت أوليفيا، التي كانت تُراقبها في هدوء، أن هذه لم تكن واقعة عادية. كانت هذه، في الحقيقة، هي العمة كاسي الجديدة التي كانت سابين قد كشفتها لها قبل أيام قليلة … العمة كاسي حديثة العهد جدًّا التي كانت قد وُلِدت في تلك اللحظة في الشُّرفة الأمامية لتحلَّ محلَّ العمة كاسي العجوز التي دائمًا ما كانت مُحاطة بهالة من الدموع والأعمال الصالحة والمشاركة الوجدانية. الآن فهمت ما لم تَفهمه من قبل مُطلقًا؛ وهو أن العمة كاسي لم تكن مجرَّد إنسانة مريضة بالوَهْم غير عقلانية غير مُؤذية ومُثيرة للشَّفَقة؛ وإنما قوة غاشمة ومعدومة الضمير. وعرفت أنه وراء هذا الانغماس العاطفي خطة مدروسة جدًّا. وتشكَّكت نوعًا ما في أن الخطة كانت تهدف إلى إخضاعها، أو إجبارها (أي أوليفيا) على أن تقع تمامًا تحت وصاية المرأة العجوز. مرةً أخرى رأت الحشرة تضرب بجناحيها باهتياج شديد نوافذ عالَم لن تستطيع دخوله أبدًا …

وبهدوء قالت أوليفيا: «بالتأكيد، يا عمة كاسي، لا داعي لإحداث جلبة غير مُبررة … لا داعي للسوقية والابتذال … في وقتٍ كهذا.»

نظرت العجوز إلى أخيها، وقد ألجمتها المُفاجأة، لكن لم تأتِ من جانبه أيُّ مبادَرة بالعون أو الغوث؛ لا بد أنها رأت، بوضوحٍ تامٍّ، أنه انحاز إلى جانب أوليفيا … الدخيلة، التي تجرَّأت على اتهام سليلة عائلة بينتلاند بالسوقية والابتذال.

«سمعتَ ما قالتْه، يا جون … سمعت ما قالته! وَصَفَتْ أختكَ بالسوقية والابتذال!» ولكن فجأة بدأت نوبتها الهيستيرية تَنحسِر، كما لو أنها رأت أنها اختارت، في نهاية المطاف، خطة هجوم خاطئة. لم تُجبها أوليفيا. جلست في مكانها وحسب، تَنتظِر، وقد بدت شاحبة وصبورة وجميلة في ملابسها السوداء. كانت لحظة غير مُنصفة في حقِّ العمة كاسي. فما كان أي رجل، ولا حتى آنسون نفسه، سينحاز ضد أوليفيا حينها.

قال الرجل المُسن بنَبرة متأنية: «إن كان يجب أن تَعرفي، يا كاسي. … الموضوع يخصُّ شيئًا لن ترغبي في سماعه. ولكن إن كان يجِب أن تَعرفي، فهو ببساطة أن جثمان هوراس بينتلاند وصل إلى محطة القطار في دورهام.»

انتاب أوليفيا شعور خاطف بأن قناع المُراءاة والنفاق بدأ يتصدَّع، ويتشقَّق ببطء إلى أجزاء صغيرة.

في البداية، أخذت العمة كاسي تُحدِّق فيهما وحسب، وهي تُخَنْفِر وتَمسح عينَيها الحمراوَين، ثم قالت بنبرةٍ هادئة على نحوٍ مُذهل: «كما ترى … أنتَ لا تُخبرني بأي شيءٍ مطلقًا. لم أعرف من قبل أنه تُوفي.» كان في مسلكها لمحة انتصار وتبرير لتصرُّفها.

قال الرجل المسن: «لم يكن ثمَّة داعٍ لإخباركِ يا كاسي. لم تَسمحي بأن يتلفَّظ أحد في العائلة باسمه لسنوات. أنتما — أنتِ وآنسون — اللذان جعلتماني توعَّدته ودفعته إلى العيش خارج البلاد. لماذا إذن تَهتمِّين حين يموت؟»

ظهرت على العمة كاسي علامات الانهيار مرةً أخرى. وأردفت تقول: «كما ترى، أنتَ تلُومني دومًا على كل شيء. كنتُ أُفكِّر في العائلة طوال هذه السنوات. ما كان بوسعنا أن نترك هوراس يجول طليقًا في بوسطن.» ثم توقَّفت فجأةً عن الحديث بإيماءة مُفاجئة ومرهفة من يدِها تنم عن الاشمئزاز، كما لو أنها تَنفِض يدَيها من الموضوع برمته. «كان يُمكنني أن أُدير الأمر بنفسي على نحو أفضل. ما كان يَنبغي له أبدًا أن يعود إلى أرض الوطن … ليُثير المتاعب مرة أخرى.»

ظلَّت أوليفيا ملتزمةً الصمت بينما جاء الرد على العمة كاسي من جانب الرجل المسن. إذ قال: «أراد أن يُدفَن هنا … كتب لي رسالة يطلب فيها ذلك، عندما كان يحتضر.»

«لم يكن له الحق في هذا الطلَب. لقد خسر جميع الحقوق بسبب سلوكه. أقولها مرةً أخرى وسأظل أقولها. ما كان ينبغي له أن يعود إلى هنا … بعدما نسِيَه الناس ولم يعودوا يذكرون إن كان حيًّا أم ميتًا.»

كانت قد تملَّكت أوليفيا حالة من الهدوء المُخيف … كانت تتطلَّع من النافذة عبر الأهوار البعيدة إلى الأفُقِ البَعِيد، وعندما التفتت تحدثت بهدوء مريع. قالت: «يُمكنكِ أن تفعلي بجثة هوراس بينتلاند ما تشائين. هذا الأمر يخصُّك أكثر منِّي؛ لأنَّني لم أُقابِله مُطلقًا في حياتي. ولكن ابني هو من مات … ابني، الذي ينتمي إليَّ أكثر من أيٍّ منكم. يُمكنكم دفن هوراس بينتلاند معه في اليوم نفسه … بمراسم القداس نفسها، بل وفي القبر نفسه. أمور كهذه لا تهمُّ كثيرًا بعد الموت. لا يُمكنكِ الاستمرار إلى الأبد في التظاهر … الموت أقوى كثيرًا من ذلك. إنه أقوى من أيٍّ منَّا نحن المخلوقات الضعيفة؛ لأنه الحقيقة الوحيدة التي لا يُمكننا تجنُّبها. فلا علاقة له بالتحيُّزات والكبرياء والجدارة بالاحترام. بعد مائة عام — أو حتى عام، أو شهر — ماذا ستكون أهمية ما فعلناه بجثة هوراس بينتلاند؟»

نهضت واقفة، والهدوء المُخيف لا يزال يُحيط بها، وقالت: «سأترك لكما أنتما الاثنان أمر هوراس بينتلاند. فدماؤه لا تسري في عروقي. أيًّا كان ما ستفعلانه، لن أعترض عليه … كل ما في الأمر أنني لن أتعامل بحقارة مع الموت.»

خرجت من الغرفة، تاركةً العمة كاسي مُستنزَفة ومبهورة ومُرتبكة. كانت العجوز قد فازت في معركتها بشأن دفن هوراس بينتلاند، ومع ذلك تجرَّعت هزيمة نكراء. لا بدَّ أنها رأت أنها قد خسرت حقًّا كل شيء؛ لأنَّ أوليفيا تعاملت مع الأمور الجذرية وأصابت كبد الحقيقة، في حضور جون بينتلاند، الذي كان هو نفسه على شفير الموت. (تجرَّأت أوليفيا أن تقول بفخر، كما لو أنها كانت في الواقع تَحتقِر اسم عائلة بينتلاند: «دماؤه لا تَسري في عروقي.»)

بيد أنها كانت هزيمة أدركت أوليفيا أنها لن تَعترِف بها قط: وتلك كانت إحدى الخصال التي جعلت التعامُل مع العمة كاسي مُستحيلًا. من المُحتمَل أنها، حتى بينما كانت جالسة تمسح عينَيها، كانت تَنتقي أسلحة جديدة لصراع كان قد خرج أخيرًا إلى العلن لأنه صار من المُستحيل الآن خوض المعركة عبر حليف ضعيف ومتقلب مثل آنسون.

كانت العمة كاسي بطبعها امرأة تتظاهر بأنها شهيدة ومُضحية. كان الاستشهاد السلاح الأنثوي العظيم على أيامها في الحقبة الفيكتورية وكانت هي مُتمرِّسة فيه؛ إذ كانت قد تعلَّمت جميع تفاصيله الدقيقة خلال السنوات التي استلقَت فيها مُتدثِّرة بالشال على أريكة تُخْضِع السيد سترازرس مكتمل الرجولة.

وأدركت أوليفيا أثناء مُغادرتها للغرفة أنها ستضطرُّ إلى التعامل في المستقبل مع عمة مسكينة ومريضة يُساء معاملتها، بذلت كل طاقتها للأعمال الصالحة ولم تَجْنِ في المقابل سوى القسوة والفظاظة من جانب امرأة دخيلة، ومُتطفلة، ونوعًا ما مُستهترة شقَّت طريقها بالمكر والخداع إلى قلب عائلة بينتلاند. بضربٍ من الفنون تُتقن أسراره، ستجعل العمة كاسي الأمر يبدو بهذه الطريقة.

٢

لم تهدأ حرارة الجو. بل ظلَّت السخونة عالقةً في الجو على هيئة سحابة مُنتشِرة فوق ربوع الريف بأكمله، تُحيط بالموكب الأسود الذي كان يتحرَّك عبر الطرق الترابية المؤدِّية إلى الطريق السريع ومنه عبر مجموعات أكواخ الجص القبيحة التي يسكنها عمَّال المصانع، في طريقِه مرورًا بالمصلَّى الكنسي المهجور الذي كان بينتلاند المصون مِن الإثم قد ألقى فيه ذات مرةٍ خطبةً عصماء شديدة اللهجة وانطلق منه القس جوسيا ميلفورد بجماعته إلى المحمية الغربية لمُستعمَرة كونيتيكت … أحاطت السحابة بالموكب الأسود البطيء حتى وصَل إلى أبواب الكنيسة الحجرية الباردة المُغطاة بأوراق اللبلاب (المبنية على أرضٍ مُرتفعة في محاكاةٍ لإحدى الكنائس الإنجليزية الريفية) حيث عبد آل بينتلاند آلهةً مُتواضِعة كانت محلَّ انتقاد واحتقار قاهر الساحرات. وفي الطريق، تحت أشجار الدردار في شارع هاي ستريت، وقفتْ نساء بولنديات وأطفال يُحدقون ويَرشُمون إشارة الصليب عند رؤية الموكب الضخم.

بدتِ الكنيسة الصغيرة مكانًا هادئًا يعمُّه السلام بعد حرارة الجو واضطراب شارع دورهام، مكانًا هادئًا وصامتًا ومزدحمًا عن آخره بأقارب العائلة ومعارفها. وحتى المقاعد الخلفية امتلأت بفلول العائلة من الفقراء شبه المنسيِّين الذين لم يملكوا ثروة تجعلهم ينعمون بالهناء ورغَد العيش. جلست السيدة فيذرستون العجوز (التي كانت تتَّخذ الغسيل اليدوي مهنةً لها) تجهش بالبكاء لأنها اعتادت على البكاء في جميع الجنازات، والآنسة هادون العجوز، ابنة العم الأرستقراطية من آل بينتلاند، التي كانت تَرتدي حتى في عز الصيف عباءتها الصوفية السوداء الثقيلة المعهودة، والسيدة مالسون، التي تُحاول الحفاظ على أرستقراطيتها البائدة رغم مظهرها الرث بقلنسوتِها الحريرية العالية، والآنسة مورجاترويد، صاحبة المنزل المُحاط بالأسوار العالية والذي كانت مُعلَّقة عليه الآن لافتة «حانة ويتشيز برووم» حيث كان المرء يَحصُل على كوبِ شايٍ سيئٍ وشطائر بشعة …

كان الأسقف سمولوود والعمة كاسي قد تعاونا معًا لإعداد قداس جنازة مدروس بمهارة ليُحرك المشاعر ويُطلق العنان للقدرات العاطفية الفياضة لجيلهما وخلفيتهما الاجتماعية.

اختارا أكثر الترانيم جياشةً وتحريكًا للمشاعر، وقال الأسقف سمولوود، المشهور بأثرِهِ على المسنَّات الوَرِعات والمُرهَفات الحس، بضع عبارات رنانة تفيض بالنفاق جعلت العمة كاسي والسيدة فيذرستون العجوز البائسة تدخلان في نوبة حزنٍ شديد جديدة. صار قداس الجنازة على روح الصبي أشبَهَ بطقسٍ بربري لم يكن مُكرسًا لحياته القصيرة المفجعة وإنما تمجيدًا للاسم الذي حملَهُ وجميع الخصال المرتبطة به — كضيق الأفق والخُيَلاء وتمجيد الشريحة الدُّنيا من الطبقة الوسطى للممتلكات — التي كانت قد تجلَّت في المأساة الدائمة المتمثلة في الحياة التي عاشها في مرض. ملأ الفخر آنسون والعمة كاسي في مقعديهما المتجاورين عند ذكر أسلاف عائلة بينتلاند. حتى إن نظر السيدات البولنديات العامِلات النشيطات السمينات، اللاتي كنَّ يُحدِّقن في موكب الجنازة بعيون مَذهُولة قبل قليل، تحوَّل إليهما الآن في موجةٍ من الفخر والاعتزاز المستتر. سرت موجة المشاعر نفسها بشكلٍ أو آخر عبر الكنيسة الصغيرة بداية من المنبر حيث وقَف الأسقف سمولوود (بالنبرة الشجية في صوته التي كان نال بها جوائز من معهد اللاهوت) تُحيطه زهور منتصف الصيف، عبر جميع الأقارب والمعارف، وصولًا إلى الجزء الخلفي بين المجهولين والأقارب من درجةٍ بعيدة حيث صارت مشاعر فخر واعتزاز بصلتِهم بإقليم نيو إنجلاند والقرية العريقة المحتضرة التي كانت آخِذة في الاضمحلال سريعًا تحت غزو عالَم أكثر نشاطًا وحركة. غمرهم جميعًا شيء من سحر عائلة بينتلاند، حتى السيدة فيذرستون العجوز، بظهرها الضعيف المُحَدَّب من العمل بالغسيل اليدوي لإعالة أحفادها الأربعة المرضى الذين ما كان ينبغي لهم أن يأتوا إلى هذه الحياة. وعبر دموعها الطيعة (كانت تبكي لأن البكاء كان المتعة الوحيدة الباقية لها في الحياة)، التمع بريق الفخر بالانتماء إلى هؤلاء الأشخاص، الذين اضطهدوا الساحرات وابتدعوا نزعة التعالي، وإلى السيد لويل ودكتور هولمز والسيد لونجفيلو الطيب اللطيف. رفعها هذا بطريقةٍ ما فوق مستوى أولئك الغرباء الوقِحين الذين كانوا يَتبعون كنيسة روما الكاثوليكية ويُزاحمونها على أرصفة شارع هاي ستريت.

وبداخل الكنيسة الصغيرة بأكملها، ربما لم ينجُ إلا شخصان أو ثلاثة فقط من تلك الموجة المفاجئة الغامرة من الشعور بالرضا عن الذات … كان هؤلاء هم أوهارا الذي كان دومًا خارج نظام الطبقات الاجتماعية، وأوليفيا وجون بينتلاند، اللذان جلسا مُتجاورَين يملؤهما الحزن والأسى لدرجة أنهما حتى لم يَستنكرا سُلوك الأسقف سمولوود الغريب. شعرت سابين (التي كانت قد جاءت، على أيِّ حال، لتحضر الجنازة) بحدَّة المشاعر الغامرة. وملأها هذا بشُعور من الغضب الكامن والمُبيَّت والمُضمر.

بينما كان المَوكب الصغير في سبيله إلى مغادرة الكنيسة، وأفراده يكفكفون دموعهم ويغمغمون بنبرات حزينة، بدأت السماء تكفهرُّ بالسُّحب التي كانت قبل قليلٍ قد انتشرت في الأفق البعيد. صار الهواء ساكنًا جدًّا حتى أن أوراق أشجار الدردار السامقة تدلَّت بلا حراك كأنها أوراق مرسومة في لوحة، ومِن مَسافة بعيدة، تَعالى هدير الرعد الآتي من بعيد، برفقٍ في البداية، ثم بوتيرة تدريجية مُتزايدة تُنذر بوقوع خطر وشيك. وفي حركة مُضطربة، اجتمع المُعزُّون في مجموعاتٍ صغيرة على درجات السُّلَّم، يُقَلِّبون أبصارهم بين السماء المنذرة بالخطر وعربة نقل الموتى المنتظرة، وبعد قليل، بدأ الأكثر جبنًا يتسلَّلون بعيدًا، واحدًا تلو الآخر، في خوفٍ ورعدة. وببُطء تبعهم آخرون وبحلول الوقت الذي حُمِل فيه التابوت خارجًا، كان الجمع الغفير قد تبدَّد ولم يتبقَّ إلا «أفراد الأسرة المباشرين» وواحد أو اثنان آخران. بقِيَت سابين وأوهارا والسيدة سومز (التي توكَّأت على ذراع جون بينتلاند كما لو كان الميت حفيدها)، والآنسة هادون بعباءتها السوداء، وحاملو التابوت، وبالطبع الأسقف سمولوود وكاهن أبرشية البلدة، والذي كانت قد توارَت أهميته في حضرة هذه الركيزة المَهيبة والجليلة من ركائز الكنيسة. بالإضافة إلى هؤلاء، كان هناك قريب أو اثنان آخران، مثل سترازرس بينتلاند، وهو رجل أصلع مُتأنِّق ضئيل البنية (ابن عم جون بينتلاند وهوراس المشين) الذي لم يتزوَّج أبدًا وإنما كرَّس نفسه بدلًا من ذلك لتنشئة صِبية فصوله الدراسية في هارفرد.

استقلت هذه المجموعة الصغيرة المُتبقية السيارات وأسرعت خلف عربة نقل الموتى في سباقها المحموم مع العاصفة الوشيكة.

•••

كانت مَقابر البلدة تقع أعلى قمة تلٍّ أجرد مُرتفع حيث كان مُستوطنو دورهام الأوائل قد اختاروا أن يتخلَّصوا من موتاهم هناك، وكان الدرب القديم المؤدِّي إلى التل صخري شديدَ الانحدار بحيث لم يكن يَسمح بمرور السيارات، ولذا عند الجزء العُلوي من التلِّ اضطرَّت المجموعة إلى النزول من السيارات واستكمال باقي الرحلة سيرًا على الأقدام. وبينما كانوا يَحتشدُون، في صمت وعجالة، حول القبر المفتوح والمنتظَر، كان هدير الرعد، الذي صحبه في تلك اللحظة ومضات برق جامحة، يقترب أكثر فأكثر، وبدأت أوراق الأشجار المتقزِّمة والشجيرات، التي كانت قبل لحظات ساكنة، ترقص وتهتز بجنون في الضوء الأخضر الذي سبق العاصفة.

وقف الأسقف سمولوود، وهو رجل هلوع بطبعه، بجوار القبر وفتح كتاب الصلوات الخاص به المُرصَّع بالجواهر (كان شديد التعلُّق بطقوس الكنيسة العُليا ومولعًا بالبخور والجواهر والأحجار الكريمة) وأخذ يُقلِّب بإصبعه الصفحات باضطراب، وفي تلك اللحظة ثبَّت نظره على الصفحات، مُتفحصًا حينئذٍ حافري القبور البولنديين المُتبلدي الحس الذين وقفوا مُنتظرين دفنَ آخِرِ ذرية آل بينتلاند. حدثت تأخيرات طفيفة مُزعجة، ولكن أخيرًا صار كل شيءٍ جاهزًا، وبدأ الأسقف القُدَّاس، وهو يتلو بأسرع ما يُمكنه، بصوتٍ أقل ترفًا وتصنُّعًا مِن المُعتاد.

«قَال الرب: أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ …»

وتبدَّد ما قيل بعد هذه العبارة وسط هزيم الرعد المُدوِّي حتى إن الأسقف استطاع أن يُغفِل سطرًا أو سطرَين دون أن يُفتضَح أمره. وبدأت الأشجار القليلة الموجودة على التلِّ الأجرد تهتز وتتمايل، وتنحني نحو الأرض، وأخذت الأوشِحة السوداء المصنوعة من القماش الكريب التي تَرتديها النساء تتلوَّى بجموح. ووسط هزيز الريح وهدير الرعد، لم يسمع الحضور سوى عبارة أو عبارتَين فقط من القداس. …

«لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ …»

ثم عادَت الطبيعة الجامحة والغاضِبة وسيطَرَت على القدَّاس، ليَعلو صوتُها فوق الصوت المُرتعِد للأسقُف والنحيب المتصنَّع الصاخب للعمَّة كاسي، وعاد صمتٌ مُفاجئ مبهور يُخيِّم على المكان وصوت الأسقف، الهزيل والضئيل وسط العاصفة، يتلو …

«إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ.»

ثم أردف مرةً أخرى:

«برحمة الرب العَليِّ القدير وبعنايتِه الإلهية يستردُّ رُوح أخينا المُتنيِّح من هذا العالَم.»

وأخيرًا، وبارتياح، كرَّر الصوت الواهن الشبيه بنغمة المزمار على نحوٍ أقلَّ رتابةً مِن المعتاد، قائلًا: «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ.»

سمعتْ سابين، التي كان يَكمُن في طبيعتها الصلبة شيء يَبتهِج في الجو العاصف، القداسَ بِشِقِّ النَّفْس. وقفت تتأمَّل الجمال الجامح للسماء والبحر البعيد والأهوار، وتُفكِّر في أنه لا بد وأن الأمور عند دَفن أول شخصٍ من عائلة بينتلاند كانت مُختلفة كثيرًا عن هذا الطقس المتهيِّب والمتعجِّل الذي اتَّسم به دفن آخر الراحِلِين من العائلة ذاتها. ظلَّت تتخيَّل أولئك البيورتانيين المتشدِّدين المُتعصِّبين المُتزمِّتين الأوائل واقِفين على أضرحتهم كأشباح تتأمَّل بسُخريةٍ الهيئةَ الأنيقة لأسقف الطبقة الأرستقراطية وكتاب الصلوات المُرصَّع بالجواهر الخاص به …

•••

بدأ حافرو القبور البولنديون عملَهم بتبلُّد غير مُبالين بالعاصفة، وقبل أن تتحرَّك السيارة الأولى نزولًا على الدرب الصخري المُنحدِر، انهمرت الأمطار بعنفٍ جنوني جامح، مُندفعة إلى الداخل مُشَكِّلةً جدارًا عبر البحر والأهوار المُعتمة. رفعت سابين، وهي تقف عند باب سيارتها، رأسها وأخذت نفسًا عميقًا، كما لو أن القوة الوحشية المدمِّرة للعاصِفة ملأتْها بنَوع مِن النشوة.

وفي اليوم التالي، وفي أجواءٍ باردة ومُشرِقة وصافية بعد هبوب العاصفة، شقَّ موكبٌ ثانٍ طريقه إلى أعلى التل الأجرد عبر الدَّرب الصخري، ولكن في هذه المرة لم يحضر الأسقف سمولوود، ولا ابن العم سترازرس بينتلاند؛ لأنَّهما كانا قد استُدعِيا على نحوٍ مُفاجئ وغامض. ولم يحضر آنسون لأنه لم تكن له صِلة بوغدٍ مثل هوراس بينتلاند، حتى في الموت. وفي مجموعة صغيرة حول القبر المفتوح، وقفت أوليفيا وجون بينتلاند والعمة كاسي، التي كانت قد جاءت، على أيِّ حال، لأنَّ المتوفَّى كان يحمل اسم بينتلاند، والآنسة هادون (بعباءتها الصوفية الثقيلة)، التي لم تكن تُفوِّت أبدًا أي جنازة وكانت قد علمتْ بهذه الجنازة من صديقها، الحانوتي، الذي كان يُطلِعها دومًا على آخِر أخبار الجنازات. ولم يحضر أيٌّ من الأصدقاء ليَحمل التابوت إلى القبر، ولذلك قُسِّم هذا العمل بين رجال الحانوتي وحافري القبور …

وبدأ القداس مرةً أخرى، ولكن هذه المرة تلاهُ الكاهن، الذي بدا أنه رسَّخ أقدامه في المكانة المقدَّسة منذ رحيل الأسقف …

«قَال الرب: أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ …»

«لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ …»

«إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا، هكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ.»

بكت العمة كاسي مرةً أخرى، رغم أن مستوى أدائها كان أقلَّ جودة من اليوم السابق، أما أوليفيا وجون بينتلاند فوقفا في صمتٍ بينما دُفن هوراس بينتلاند أخيرًا وسط تلك المُستعمَرة الصغيرة من الأموات المتجهِّمين والمُحترمين.

وقفت سابين هناك أيضًا، على مسافة قصيرة، كما لو أنها تكره جميع الجنازات. كانت تعرف هوراس بينتلاند وكانت قد زارته في منفاه الطويل كلَّما قادتها جولاتها إلى جنوب فرنسا، ولم يكن ذلك من مُنطلَق الحب بقدْر ما كان من منطلَق إثارة غيظ الأفراد الآخرين في العائلة. (لا بد أنه كان أسعد في ذلك البلد الثري الدافئ أكثر مما كان على هذه الأرض الصخرية الباردة.) ولكنها لم تأتِ اليوم لأسباب عاطفية، وإنما كان السبب أن حضورها منحها الفرصة لانتصارٍ على العمة كاسي. كان بوسعها أن تُراقب بعينَيها الخضراوَين الباردتَين العمة كاسي أثناء وقوفهم جميعًا لدفن مصدر الإحراج والخزي للعائلة. كانت سابين، التي لم تحضُر أيَّ جنازة منذ وفاة والدها قبل خمسة وعشرين عامًا، قد تسلَّقت التل الصخري المؤدي إلى مدافن بلدة دورهام مرتَين في أسبوع واحد …

كان الكاهن يتلو مكررًا …

«نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ.»

انصرف الرهط في صمت، وفي صمتٍ أيضًا اختفى أفرادُه عن الأنظار عند حافة التل أثناء نزولهم على الدرب المنُحدِر. انتهت مراسم الجنازة السرية وتُرك هوراس بينتلاند بمُفرده مع حفَّاري القبور البولنديين، بعدما عاد أخيرًا إلى أرض الوطن.

٣

عادت السكينة، التي كانت قد استحوذَت على أوليفيا أثناء جلوسها بمفردها إلى جوار جثمان ابنها المُتوفَّى، إليها تدريجيًّا مع انتهاء فورة الانفعال المصاحبة لمراسم الجنازة. بالطبع، شعرت لأول مرةٍ بالامتنان للأجواء العبثية والفاترة التي غزت هذا العالَم الهادئ القديم. وللحظةٍ هدَّأت تلك الأجواء من رُوعها حين أرادت أن تُترك وشأنها لتنعم بالسكينة، بعد أن فقدت كلَّ مظاهر الاهتمام بالحياة. أدركت يقينًا أن موت ابنها لم يكن مأساةً في حد ذاته؛ وإنما تمثلت المأساة الوحيدة في الحياة المضطربة والأليمة واليائسة التي عاشها. والآن، بعد سنواتٍ كثيرة جدًّا من القلق والتوتر، كان ثمة شعور بالسكينة بدا غريبًا ولكنه مُستساغ نوعًا ما … لحظات كان يغشاها فيها شعور بعزلةٍ عميقة وشافية أثناء استلقائها على كرسي المضجع بجوار النافذة المُطلة على الأهوار. وحتى زيارات العمة كاسي، التي كان من شأنها أن تشقَّ طريقها عنوة إلى غرفة أوليفيا من منطلق أداء «الواجب»، ما كانت تترك إلا انطباعًا مُبهمًا كالحلم. صارت السيدة المسنة يومًا بعد يوم أشبَهَ بذبابة طنانة نشطة، صار طنينها نائيًا ومُبهمًا أكثر، مثل طنين ذبابة تحوم عند زجاج نافذة يسمعها النائم من خلال الحُجُب التي يُسدِلها النوم.

من نافذتها، كانت أحيانًا ترى الرجل المُسنَّ من بعيد، يستقلُّ بمفرده عرَبةً يجرُّها الحصان الأبيض الطاعن في السن عبر الحقول، وأحيانًا كانت تلمح جسدَه المُنحني مُمتطيًا الفرس الحمراء الجامحة على الطرق الترابية. لم يعُد يركب الفرس بمفرده؛ إذ رضَخ إلى تحذيرات هيجينز الملحَّة من طباع الفرس الحادة، وسمح للسائس أن يرافقه، ليسير دائمًا إلى جواره أو خلفه قليلًا ليحرسه، ممتطيًا حصان البولو الصغير الحجم بسلاسة وخُيَلاء جعَلَتا الحصان وفارسه يبدوان كائنًا واحدًا … أشبه بالقنطور. وعلى صهوة حصان، بدا أن قبح الرجل النشيط الشَّهواني الضئيل البنية يتوارى. بدا الأمر وكأنه وُلِد هكذا، على صهوة حصان، وأنه يَشعر بالارتباك والقلق عندما يسير على قدمَيه.

وكانت أوليفيا تُدرك الفكرة التي تراود دومًا عقل حميها أثناء ركوبه الحصان عبر الحقول الجرداء الصخرية. كان يُفكِّر طوال الوقت في أن كل هذه الأراضي الشاسعة، وكل هذه الثروة الطائلة، وحتى الأكوام التي كانت العمة كاسي تُكدِّسها بحرص، ستئول ذات يوم إلى عائلةٍ تَحمل اسمًا آخر، ربما اسم لم يسمع عنه من قبل مُطلقًا.

لن يعود ثمة وجود لآل بينتلاند. ستكون سيبيل وزوجها أثرياء، بل وفاحشي الثراء، بأموال عائلة بينتلاند وأموال أوليفيا … ولكن لن يعود ثمة وجود لأفرادٍ يحملون اسم بينتلاند. لقد آل كل شيء إلى نهايته في هذا … العقم والاندثار. وبعد مرور مائة عام أخرى، سيبقى الاسم، إن ظلَّ قائمًا من الأساس، مجرَّد ذكرى، محفوظة في صفحات كتاب آنسون.

في النهاية أثَّرَت حالة الكآبة الجديدة، التي خيَّمت على المنزل، حتى على مَعنويات سيبيل، الشابة الغضَّة والمتشوِّقة جدًّا لخوض تجارب جديدة، وكأن تلك الحالة عفن فطري سام تغلغلَ في روحها. لاحظت أوليفيا هذا لأول مرةٍ في فتورٍ غامض مُعين بدا أنه يؤثر على كل تصرُّفٍ من تصرفات الفتاة، ثم في تنهيدة خافتة عابرة تنمُّ عن الإجهاد، وفي زيارات الفتاة لغرفتها، وفي الطريقة التي زهدت بها طواعيةً قضاء الأمسيات في منزل «بروك كوتيدج» لتَبقى في البيت مع والدتها. لاحظت أن سيبيل، التي كانت دومًا تتحلَّى بالحماس البالغ، قد مسَّتها نزعة من العقم الذي كانت (أوليفيا) قد قاوَمَته طويلًا. وكانت سيبيل، سيبيل من بينهم جميعًا، هي الوحيدة التي تمتلك فرصة النجاة.

كانت تقول في نفسها: «يجب ألا أضغط عليها. يجب ألا أكون مثل هذه النوعية من الأمهات اللاتي يُفسدن حياة أبنائهن.»

وعندما كان جون بينتلاند يأتي ليَجلس إلى جوارها فاتر الهمة، صامتًا أحيانًا، وفي أحيان أخرى مختلقًا أحاديث فارغة لم تكن تعني شيئًا، بُغية إخفاء يأسِه، لاحظت أنه، هو الآخر، كان يأتي ليستمدَّ منها القوة التي لا يستطيع أحدٌ سواها أن يمنحها له. فحتى السيدة سومز المسنة خذلته، إذ أصابها المرض مرةً أخرى ولم تتمكن من مقابلته إلا لبضع دقائق كل يوم. (كان رأي سابين، الذي عَبَّرَت عنه أثناء إحدى زياراته الصباحية، أن هذه النوبات المرضية المفاجئة الغريبة كانت بسبب تعاطي جرعاتٍ زائدة من المخدرات.)

لذا، أدركت أن تخلِّيها عن النضال الآن سيَجعلها تندرج في خانة الجبناء، واستيقظت ذات صباح عند الفجر تقريبًا لتَرتدي ملابس ركوب الخيل، وتخرج مع سيبيل عبر المروج الرطبة لتلتقي بأوهارا. عادت وقد اختفى بعضٌ من شحوبها واستعادت تقريبًا رُوحها المرحة، وارتفعت روحها المعنوية بفعل الهواء الطلق، والتواصُل مع أوهارا، والشعور بمُواصَلة النضال مرة أخرى.

ولاحظَت سابين، التي تتَّسم باليقظة دومًا، الفارق وأرجعته إلى وجود أوهارا وحدَه، وفي هذا لم يُجانبها الصواب كثيرًا؛ فنظرًا لاستقراره هنا في دورهام، أَثَّرَ وجوده على أوليفيا تأثيرًا بالغًا باعتباره شخصًا لم يكن له ماضٍ وإنما مُستقبَل. فمعه كانت تستطيع أن تتحدَّث عن أشياء مُستقبلية؛ عن خطته للمزرعة التي اشتراها، وعن مُستقبل سيبيل، وعن مساره المهني الرائع المُتَّسِم بالتهور.

•••

كان أوهارا نفسه قد وصل إلى حالةٍ ذهنية خطيرة. كان واحدًا من أولئك الرجال الذين يسعون وراء الشهرة والنجاح ليس من أجل المكافآت المادية في حدِّ ذاتها وإنما بقدْرٍ أكبر من أجل الشعور بالرضا النابع من خَوض النضال، والمتعة الشديدة للفوز رغم جميع الاحتمالات التي ضده. كان قد حقَّق نجاحات بالفعل. إذ كان لديه منزله الخاص وخيوله وسيارته وملابسه الأنيقة، وكان يُدرك قيمة هذه الأشياء، ليس فقط في عالَم دورهام؛ وإنما في عالَم الأحياء الفقيرة وعلى أرصفة موانئ بوسطن. لم تكن لدَيه أيُّ أوهام بخصوص الآليات المنقوصة للديمقراطية. وأدرك (ربما لأنه بدأ من القاع وشقَّ طريقه حتى اقترب من القمة) أن الفقراء يتوقَّعون من السياسي أن يكون شخصًا عظيمًا رائعًا نوعًا ما، وخاصة عندما يكون قد بدأ مشواره المهني كشخصٍ عادي جدًّا وفقير ذي خلفية اجتماعية متواضعة. لم يكن أوهارا يتصرف بحماقةٍ أو تهور. فعندما كان يزور الأحياء الفقيرة أو يحضر الاجتماعات السياسية، كان يتصرف باعتباره رجلًا عاديًّا شاملًا، أخًا للجميع. وعندما كان يخطب في جموع عريضة أو يترأَّس اجتماعًا ما، كان يصل بسيارةٍ لامعة ويظهر بملابس أنيقة تليق بُممثِّل عن الحكومة أو السلطة؛ ولذا كان يُرجِع الفضل إلى أولئك الرجال الذين لعبوا معه في صِباهم على رصيف ميناء إنديا وارف وأشبعوا الرغبة العارمة داخله في شيءٍ أروع من آليات الديمقراطية المثالية.

لقد استوعب قواعد اللعبة على أكمل وجهٍ ولم يَرتكِب أيَّ أخطاء؛ لأنه كان قد حظيَ بأفضل تدريبٍ مُمكن؛ ألا وهو التعرُّف على جميع أنواع البشر في مختلف الظروف. كان هو في حدِّ ذاته يُجسِّدهم جميعًا، إذا ما تغاضَينا عن البساطة والنزاهة واللطف التامِّين؛ نظرًا لأنه لم يكن حقًّا رجلًا بسيطًا ولا نزيهًا تمامًا، وكان لا يعرف الرحمة لدرجةٍ تتنافى مع أن يكون لطيفًا. وفهِم الناس (كما خمَّنَت سابين)، بما لدَيهم من قليلٍ مِن كِبر وزهو وفشل وطموح.

كانت العمة كاسي وآنسون، من منطلق تفكيرهما المتزمِّت والمحدود، مُجحفَين في اعتقادهما بأن عالَمهما كان هدف طموحات أوهارا. كانا، بطريقة أولئك الأشخاص الذين يَعتمدون على بيئتهم لتسويغ وجودهم، يضعان قيمةً لعالَمِهما لا تتناسب مطلقًا مع مكانة رجل مثل أوهارا؛ إذ إنهما يفكران. فبالنسبة إليهما كان عالَمهما هو كل شيء، أقصى ما يطمح إليه المرء على وجه الأرض، ولذلك كانا يفترضان أن الأمر حتمًا كان يبدو هكذا لأوهارا. وكان من المُستحيل في نظرهما أن يؤمِنا بأنه كان يعتبر هذا مجرد جزءٍ صغير من مُخططه الأكبر للحياة وأنه فرض حصارًا حول هذا العالَم من أجل المتعة التي يَجِدها في خوض المعركة؛ لأنَّ أوهارا في حقيقة الأمر لم يكن يعرف ما الذي سيَفعلُه بثمار انتصاره في هذه المعركة، بمُجرَّد الفوز بها.

وبالفعل كان قد بدأ يُدرك ذلك بنفسه. كان قد بدأ يُدرك أن الفوز كان سهلًا جدًّا لدرجة أن المعركة نفسها فقدت مُتعتَها عنده. كانت لحظات الشعور بالرضا عن الذات، كتلك التي غمرتْهُ أثناء جلوسه مع سابين، تزداد ندرة أكثر فأكثر … اللحظات التي من شأنه أن يتوقف فيها ويقول لنفسه: «ها أنا، مايكل أوهارا، النكرة … ابن العامل البسيط وربة المنزل، أستقرُّ وسط عالَم مثل دورهام، وأتحدَّث إلى امرأة مثل السيدة ريتشارد كاليندار.»

كلَّا، كانت المتعة قد بدأت تُفقَد، وينحسر وجودها في الصراع. وبدأ يتسلل إليه الملل، ومع تزايد شعوره بالملل، صار يشعر أيضًا بالقلق والتعاسة.

ومع أنه نشأ في ظلِّ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، لم يكن مُتدينًا مُتشدِّدًا ولا مؤمنًا بالخرافات. كانت تُساوره الشكوك بما يكفي لئلَّا يؤمن بجميع المعتقَدات التي كانت الكنيسة تسعى لفرضها عليه، إلا أن هذه الشكوك لم تبلغ مبلغًا عظيمًا لدرجةٍ تجعله يجد راحة البال إرادة مُتَذَرِّعة بالإيمان. فعلى مدار فترة طويلة جدًّا كان معتمدًا على ذاته تمامًا لدرجة أنه لم تخطر على باله فكرة التوكُّل على الرب أو الكنيسة حتى في أحلك اللحظات التي تسودها الوحدة والاضطراب. وظلَّ من الناحية الظاهرية مُعتنقًا لمعتقد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ لأنه بإنكاره للعقيدة، كان سيجلب لنفسه عداوة الكنيسة وعدة آلاف من الأيرلنديين والإيطاليين المتدينين. وهي بكل بساطة مشكلة لم تكن تشغله كثيرًا بشكل أو بآخر.

هكذا كان قد وصل، بعدما فقد في الوقت الحالي أي شغفٍ قوي يُرشده، إلى حالةٍ من ركود الارتباك والملل. حتى زملاؤه الساسة في بوسطن لاحظوا التغيير عليه واشتكوا من عدَم إبدائه اهتمامًا كبيرًا بالحملة التي تستهدِف أن يكون نائبًا بالكونجرس. كان يتصرَّف أحيانًا كما لو أنه لم يكن يُشكِّل له فارقًا على الإطلاق سواء انتُخب في الكونجرس أم لا … وهو، مايكل أوهارا، الذي كان يُمثل قيمة كبيرة لحزبه، الرجل الجذاب جدًّا والداهية، الذي بوسعه أن يفوز تقريبًا بأي شيء يختاره.

وعلى الرغم من أنه حرص على ألا يتكهَّن أحدٌ بحاله، فإن هذه الحالة النفسية الغريبة أزعجته كثيرًا وعلى نحوٍ أعمق من أيٍّ من أصدقائه. اجتاحه يقينٌ بأن شيئًا ما ينقصه في حياته، شيئًا أقرب إلى المقومات الأساسية. وبعدما انتابته حالة من الخمول والملل، بدأ يفكر في نفسه لأول مرة. كانت فورة مرحلة الشباب بوهجها البهي، التي يبدو فيها كلُّ شيءٍ جزءًا من لعبة رائعة، قد انتهت وزالت، وشعر بنفسِه يَنزلق إلى أعتاب الكهولة. ونظرًا لكونه رجلًا مُفعمًا بالطاقة والشغف، وحُبِّ الحياة، شعر بالتغيير على نحوٍ أشعره بحزن شديد. كان لدَيه نوع من الهلَع من فكرة تباطؤ إيقاع الحياة؛ خوف ملأه أحيانًا بشعورٍ مُرضٍ جدًّا بكآبة تليق برجُلِ أيرلندي.

في تلك اللحظات، كان يُفكر بنزاهةٍ شديدة في كل ما يَمتلكُه، ووجد بمرارة أن النتيجة التراكمية لم تكن مُرضية. كان لديه سجل جيد بما يكفي. كان قطعًا أكثر نزاهةً من أغلب الرجال المنخرطين في مجالٍ قذر كمَجال السياسة؛ وبالطبع أكثر نزاهة بكثير وأكثر تحررًا مِن الأحقاد والضغائن من كثيرٍ ممَّن خرجوا من عالم دورهام المقدس جدًّا هذا. كان قد جنى ما يَكفي من المال خلال مسيرته المهنية، وكان يفوز بمعركته في دورهام. غير أنَّهُ في سنِّ الخامسة والثلاثين، كان إيقاع الحياة قد بدأ يتباطأ، ويَفقِد بعضًا من تلك المتعة التي جعلته فيما مضى يستيقِظُ كل صباح مُتمتِّعًا بالصحة والنشاط، وذهنه متَّقد بخططٍ مدهشة.

ثم، وسط هذه الحالة الذهنية المُضطربة، اكتشف ذات صباح أن الشعور القديم بالابتهاج قد عاوده مرةً أخرى، ولم يكن ذلك راجعًا إلى أن ذهنه كان عامرًا بخططٍ مُذهلة. استيقظ ولدَيه اهتمام بالحياة؛ لأنه أدرك أنه بعد قليلٍ سيَلتقي بأوليفيا بينتلاند. استيقظ، متحمسًا لركوب حصانه والانطلاق عبر المُروج، ليَنتظِر إلى جوار مقلع الحجارة المهجور إلى أنْ رآها قادمة عبر الحقول المُغطاة بقطرات الندى، وبدتْ له متألقةً كتألُّق الصباح ذاته. وفي الأيام التي كانت لا تأتي فيها، بدا له أن وجوده بأكمله قد فقَدَ معناه فجأة.

لم يكن الأمر بالنسبة إليه أنه رجل يُواجِه فكرة وجود المرأة لأول مرة في حياته. كانت ثمة نساء في حياته دومًا، بدايةً من الفتاة الإيطالية الأولى المتَّسخة بالوحل التي التقى بها في صباه وسط أكوام الخشب المكدَّسة على أرصفة الميناء. كانت ثمة نساء دومًا في حياته لأنه من المُستحيل على رجل نشيط جدًّا ومفعم بالحيوية، وقاسٍ جدًّا وساخر للغاية، أن يكون قد عاش خمسة وثلاثين عامًا بلا نساء، ولأنه كان رجلًا جذابًا، مُفعمًا بالسحر والدهاء، حينما كان يختار أن يكون كذلك، وكان يصعُب على النساء مُقاومته. كان يُوجَد عدد كبير من النساء، اللواتي يُبقيهن دومًا في الخلفية، ويُعاملهن باعتبارهن ضرورة ملحَّة ويَمنعهن ببراعة من التدخُّل في الجانب الأهم من حياته ألا وهو صنع مساره المهني.

ولكن فيما يخصُّ أوليفيا بينتلاند، كان شيءٌ جديد ومُربك يحدث له … شيء كان، في خِضمِّ تلهُّفه لعيش الحياة وخوض التجارب كلها، يزخر بافتتانٍ حسِّيٍّ طاغٍ. لم تكن مجرَّد امرأة أخرى في طابور طويل للغاية. اكتشف أن أوليفيا بينتلاند امرأة مختلفة عن الأخريات … امرأة تتحلَّى بالنضج والاتزان والجمال والسحر والذكاء، وبالإضافة إلى كل هذه الأمور كان يرى أنها تتحلَّى بقدْر من النضارة العذبة والمتقلبة، نفس النضارة التي كانت لدى ابنتها الشابة، ولكن شابَها فحسب قليل من الحزن.

في البداية، عندما تَحدَّثا معًا أثناء تنسيقها لحديقة منزل «بروك كوتيدج»، وجد نفسه يُراقبها، مُستغرقًا في حالة مِن العجب، لدرجة أنه كاد ألا يَستوعب ما كانت تقوله. وفي نفس الوقت ظلَّ يُردِّد في نفسه: «يا لها مِن امرأة رائعة … أروع امرأة رأيتها أو سأراها في حياتي … امرأة بإمكانها أن تجعل الحياةَ مختلفة بالنسبة إليَّ، امرأة من شأنها أن تصنع من الحبِّ شيئًا يقول الناس أنه موجود.»

لقد حركت مشاعره بطريقةٍ جعلتْه يُنحي جانبًا كل ما كان لدَيه من غِلظة مبتذلة وسخرية من المرجح أن يتعامَل بهما رجل مثله يتمتَّع بهذا القدر من التجارب مع فكرة المرأة برمَّتها. حتى ذلك الحين، كان النساء يَبدون له أنهنَّ خُلقنَ ليُمتِّعن الرجال أو ليُنجبن لهم الأبناء، والآن كان يرى أنه كان ثمَّة شيء، في نهاية الأمر، في هذا الرأي الذي كان الناس يَحصُرون فيه العلاقات الغرامية. وظل طويلًا يبحث عن كلمةٍ تصِف أوليفيا وفي النهاية عاد إلى الكلمة العتيقة البالية التي كانت دومًا تَستحضرها في الذهن. كانت «سيدة راقية» — وبهذه الطريقة كان لها تأثير طاغٍ على مخيَّلته.

كان يقول لنفسِه إنه أمام امرأة يُمكنها أن تَفهمه، ليس بطريقة مُتحفظة وتحليلية لامرأةٍ ذكية مثل سابين كاليندار، وإنما بطريقة أخرى تمامًا. كانت امرأة بإمكانه أن يقول لها: «أنا كذا وكذا. وحياتي تَسير على هذا النهج. ودوافعي هي كذا»، ومن شأنها أن تفهمه، وتتقبَّله كما هو بمَساوئه ومحاسِنِه. من شأنها أن تكون الشخص الوحيد في هذه الدنيا الذي يُمكن أن يُفضي إليه بعبء أسراره كله، المرأة الوحيدة التي يُمكنها أن تقضي على الشعور المُجهِد بالوحدة الذي يُسيطِر عليه أحيانًا. جعلته يشعر بأنها، رغم كل ألمعيته ومُخططاته العنيدة، كانت هي أكثر حكمةً بكثيرٍ مما كان عليه في أي وقتٍ مضى، وبأنه نوعًا ما كان فتى صغيرًا ربما يأتي إليها ليَدفن رأسه في حجرها ويجعلها تُمسِّد شعره الأسود الكثيف. فمِن شأنها أن تَفهم أن ثمة أوقات يرغب فيها الرجل أنْ يُعامَل على هذا النحو. وبطريقتها الهادئة، كانت امرأة قوية، إيثارية، لا تَعتمِد على الإطراء والاهتمام الدائم، وكانت نوعًا من النساء له قيمة كبيرة عند رجل عازم على تحقيق مُستقبلِه المِهَني. ملأه التفكير فيها بشعور مرير بالحزن، ولكن في لحظاته الأقل رومانسية، رأى، أيضًا، أنها كانت تتمتع بالقدرة على إخراجه من حالة الملَل المُتزايد التي كانت تُخيِّم عليه. ستكون ذات قيمةٍ عظيمة له.

وهكذا، لم يُجانب الصواب سابين كثيرًا عندما فكرت فيه باعتباره الصبي الصغير الجالس على حافة الرصيف الذي كان قد تطلَّع إليها بجدية وقال: «ألعب». كان أحيانًا يُشبه كثيرًا هذه الصورة.

ولكن في النهاية، كان دومًا يستفيق فجأةً على الحقيقة القاسية المتمثلة في أنها مُتزوجة بالفعل من رجل لم يكن يَرغب فيها لنفسِه ومع ذلك لن يُطلق سراحها أبدًا، رجل قد يُضحِّي بكلِّ شيء في الدنيا ليقيَ عائلته شر فضيحة. وفيما وراء هذه الصعوبات القاسية والملموسة، أدرك أيضًا الشبكة الخبيثة المُتهاوية بأكملها، التي كانت خفية ومع ذلك قوية، التي كانت قد وقَعَت في أسرها.

إلا أن هذه العوائق لم تترك في الذهن إلا انبهارًا مُعقَّدًا جدًّا، وغير منطقي للغاية، لدرجة أنَّ في عزلته الذهنية وفي مرارة الصراع الطويل الذي أدركه، صار يَزدري العالم كله ولا يرى سببًا يمنع إقدامه على أخذ ما يُريد من عالَم دورهام هذا. قدمت له عوائق كهذه أساسًا لمَعركةٍ جديدة، محل اهتمامٍ جديد في ظلِّ الاضطراب الذي كان يسود حياته؛ ولكن هذه المرة كان ثمَّة اختلاف … وهو أنه كان يَبتغي الجائزة في حدِّ ذاتها أكثر من الصراع. كان يُريد أوليفيا بينتلاند، والأمر الغريب جدًّا أنه لم يكن يُريدها لدقيقةٍ أو حتى لشهر أو عام، وإنما للأبد.

انتظر لأنه عرف، بدهاء خبرته الطويلة، أنَّ الإلحاح لن يؤدي إلا إلى نفور امرأةٍ مثلها ويتسبَّب في أن يخسرها تمامًا، ولأنه لم يعرف خطة عمل يُمكن أن تتغلَّب على العوائق التي تُفرق بينهما. انتظر، مثلما فعل مراتٍ كثيرةً في حياته المِهَنية، أن تزول الظروف من تلقاء نفسها. وبينما كان ينتظر، كان في كل مرة يَلتقي فيها بها تزداد رغبته فيها أكثر فأكثر، ويضعف شعوره المنيع بالحذَر أكثر فأكثر.

٤

في تلك الأيام الطوال التي قضتها أوليفيا في غرفتها، أدركت شيئًا فشيئًا وجود الوافد الجديد بمنزل «بروك كوتيدج». كان ذلك قد بدأ ليلة وفاة جاك بصوت موسيقاه تنساب عبر الأهوار، وبعد انتهاء مراسم الجنازة تحدَّثت سابين عنه مع أوليفيا بحماس غير مَعهود منها على الإطلاق. وكانت قد لمحته مرةً أو مرتَين يَعبُر المروج مُتجهًا صوب مداخن أوهارا اللامعة أو ماضيًا في الطريق الذي يقود إلى البحر عبر الأهوار — كان شابًّا طويل القامة أصهب الشعر، في مشيته عرج طفيف. واكتشفت أن سيبيل كانت تلوذ بالصمت بخصوصه على نحوٍ غريب، ولكن حين كانت تسأل الفتاة عن خُططها لقضاء اليوم كانت، عادةً، تجد أن لتلك الخطط صِلة به. وعندما كانت تتحدَّث عنه، كان يبدو الخجل على سيبيل وتقول: «إنه لطيف جدًّا، يا أمي. سآتي به إلى هنا عندما تكون لديك رغبة في مقابلة الناس … كنتُ أعرفه في باريس.»

وبحكمة، لم تلحَّ أوليفيا عليها بالأسئلة. وعلاوة على ذلك، كانت سابين قد أخبرتها بكل ما يمكن معرفته تقريبًا … ربما بأكثر ممَّا كانت سيبيل نفسها تعرف.

قالت سابين: «إنه يَنتمي قطعًا إلى عائلة هامة … عنيد ومتهور ومُفعم بالحيوية. ربما تكون والدتُه هي أروعهم جميعًا. إنها امرأة ساحرة عاشت جُلَّ حياتها في ترفٍ بباريس … وليس في واحدة من المستعمرات الأمريكية. وهي لا تُقلِّد أحدًا وعاجزة عن التظاهر بأي شكل من الأشكال. لقد عاشت هناك، بمُفردها إلى حدٍّ ما، على المال … الكثير من المال … الذي يأتي فيما يبدو من مصانع الصلب في بلدة قذرة بالغرب الأوسط. إنها واحدة من أعز صديقاتي … امرأة تفتقر إلى الذكاء، لكنها جميلة للغاية ورُزِقَت جاذبية مُدمِّرة. إنها واحدة من النساء اللاتي خُلقن من أجل الرجال … فهم يَجدونها لا تُقاوَم، وأظنُّ أنه كان يُوجَد رجال في حياتها دومًا. لقد خُلقت من أجل الرجال، ولكن ذوقها مثالي، لذا أخلاقها لا تُهم.»

بدا أنَّ المرأة … بل وعائلة جان دي سيون كلها … تُثير إعجاب سابين أثناء جلوسها لتناول الشاي مع أوليفيا؛ لأنها واصلت الحديث عنهم، أكثر بكثيرٍ من المُعتاد، فوصفت منزل والدة جان، وأصدقاءها، والأشخاص الذين كان المرء يَلتقي بهم على العشاء عندها، وكل شيء يُمكنها أن تُخبرها به.

«إنها مِن نوعية النساء الموجودات منذُ الأزل. ثمَّة بعض الغموض الذي يُحيط بالمرحلة الأولى من حياتها. الأمر له علاقة بوالد جان. لا أظنُّ أنها كانت سعيدةً معه. لا يأتي ذكره مُطلقًا. بالطبع، تزوَّجت مرة أخرى من رجل فرنسي … أكبر سنًّا منها بكثير … رجل بارز جدًّا، عمل في ثلاثة مجالس وزراء. ومنه حصل الصبي على اسمه الفرنسي. لقد تبناه الرجل المُسن وعامله مثل ابنه. دي سيون هو اسم ذو سمعة طيبة في فرنسا، واحد مِن أفضل الأسماء؛ ولكن بالطبع لا تَجري في عروق جان أي دماء فرنسية. فهو أمريكي خالص، ولكنه لم يَكن قد رأى بلاده مُطلقًا حتى الآن.»

أنهت سابين تناوُل الشاي وبينَما كانت تضع فنجانها على الطاولة الكلاسيكية من طراز ريجنسي (التي ورثتها أوليفيا عن أُمِّها وشقَّت طريقها بأناقة إلى داخل منزلٍ يَزخر بالأثاث الأمريكي البدائي ذي الطابع الجامد) أضافت قائلة: «إنها عائلة بارزة … جامحة ومضطربة. كان لجان خالة توفيت في دير الرهبنة الكرملية ببلدة ليزيو الفرنسية، وابنة خالته تُدعى لِيلي بار … موسيقية رائعة حقًّا.» تطلَّعت من النافذة وبعد دقيقة قالت بصوت خفيض: «لِيلي بار هي السيدة التي تزوَّجها زوجي … ولكنها تطلَّقت منه، هي الأخرى، والآن نحن صديقتان … أنا وهي.» تردَّدت ضحكتها الرنانة الجامدة المألوفة، وأردفت قائلة: «يُخيل إليَّ أن تجربتَنا معه جعلتنا مُتعاطفتَين … حسنًا، أنا أعرف العائلة جيدًا. إنها سلالة تُخرِج للحياة أشخاصًا نوابغ … يعيشون في اللحظة الحالية.»

لم تَقُل إن جان وأمَّه وابنة خالته المُضطربة يُثيرون إعجابها لأنهم بطريقةٍ ما يُمثلون الحرية التي جاهدت لنَيلها خلال السنوات التي هربت فيها من دورهام. كانوا يَنعمون نوعًا ما بالتحرُّر من الدول، ومن المدن، ومن القوانين، ومِن الأحكام المسبقة، بل بشكلٍ أو آخر من القوميات. وكانت قد أمَلَت يومًا أن يُولي جان اهتمامًا بابنتها تيريز العنيدة والمستقلَّة والذكية، ولكن من مُنطلق خبرتها بالحياة كانت قد فقَدَت ذلك الأمل منذ وقتٍ طويل، لعِلمها بأن صبيًّا جامحًا ورومانسيًّا، مُتأثرًا جدًّا بنشأته وسط الفرنسيين، شابًّا مُتمتعًا برجولة تامة، كان من المؤكد أنه سيسعى وراء فتاة أرق وألطف وأكثر أنوثةً من تيريز. عرفت أنه لا مفر من وقوعه في حب فتاة مثل سيبيل، وكانت تشعر نوعًا ما بالسرور لأن هذا كان يتوافق على نحوٍ رائع مع خُططها المتأنية. كانت متأكدة من أن عائلة بينتلاند ستنظر إلى جان دي سيون باعتباره شخصًا غجريًّا، عندما يَعرف أفرادها الحقيقة الكاملة …

أدهشتها التكهُّنات. ثبت لها أن فصل الصيف، حتى مع شبح موتِ جاك الذي يحوم حول المكان، لم يكن مُروعًا كما كانت تخشى؛ وهذا التطور الجديد أثار اهتمامها باعتباره شيئًا لم تكن قد لاحظته من قبل أبدًا … قصة حُب شاعرية بين شابَّين بدا لها كل منهما شخصًا مثاليًّا وجذابًا.

٥

كان الأمر كله قد بدأ قبل عام تقريبًا في يوم احتفال مدينة باريس بأكملِها بالذِّكرى السنَوية للهُدنة، وفي صباح ذلك اليوم خرجت سيبيل مع تيريز وسابين ليضعنَ إكليلًا من الزهور إلى جوار شُعلة قوس النصر (لأنَّ الحرب كانت واحدةً من الأشياء التي اختارت سابين، بما لا يمكن تفسيره، أن تظهر المشاعر نحوها). وبعد ذلك لعبت في الحديقة مع الكلاب التي لم تكن المدرسة في بلدة سان كلو لتَسمح بالاحتفاظ بها، ثم عادت إلى المنزل لتجدَ امرأة جذابة وجميلة ربما في الخمسين من عُمرها — مدام دي سيون، التي كانت قد جاءت لتناول الغداء مع ابنها، الشاب ذي الأربعة والعشرين عامًا الطويل القامة والفارع والنحيل، ذي الشعر الأصهب والعينَين الزرقاوَين الداكنتين والصوت الرنان المُبهج. واحتفالًا بذلك اليوم، كان يَرتدي زي الفرسان الأسود والفضِّي الخاص به، وبسبب إصابة قديمة كان في مشيتِه عرج طفيف. وعلى الفور تقريبًا (تذكرت هذا حين كانت تُفكر فيه) نظر إليها بإعجابٍ واضح وهو ما منَحَها شعورًا بإثارةٍ مُمتعة كان جديدًا تمامًا عليها.

كان قد استحوذ عليها شيءٌ ما عندما رأت الزيَّ الرسمي، أو ربما تأثَّرت بالمشاعر السائدة في الأجواء، أو بصوت الموسيقى العسكرية، أو بأصداء أنغام النشيد الوطني الفرنسي وقصيدة «سامبغ إيه ميوز» الغنائية، أو مشهد الجنود في الشارع وقوس النصر بشُعلته المُتَّقِدة هناك … شيء في الأجواء الباريسية، شيء أحبَّته بشغف. كان شيءٌ قد أخذ يحتشد في تلك اللحظة، واستقر على الشاب الغريب الذي أخذ يَرمقها بعينَين تفيضان بالإعجاب.

أدركتْ على نحوٍ مُبهَم أنها وقعت حتمًا في الحب في اللحظة التي وقفَت فيها في صالون سابين كاليندار تَنحني لليلي دي سيون. وكانت شدة التَّجربة قد ازدادت عندما اصطحبته، بعد الغداء، إلى الحديقة لتريه كلابها ورأته يُمسِّد أذنَي كلب الدوبرمان «إمب» ويتحدَّث برِفق إلى الكلب بطريقة تجعلها تعرف أنه كانت لديه نفس المشاعر التي لديها تجاه الحيوانات. كان لطيفًا جدًّا في أسلوبه، ورقيق الحاشية جدًّا حتى مع ضخامته، ويسهل تبادُل الحديث معه، كما لو كانا صديقَين دومًا.

ثم على نحوٍ شِبه مُفاجئٍ سافر إلى الأرجنتين، دون حتى أن يَلتقي بها ثانيةً، في رحلةٍ لتعلُّم الأعمال الخاصة بتربية الماشية، لأنه كانت تُراوده فكرة أنه ربما يَنتهي به المطاف ذات يومٍ إلى أن يكون صاحب مزرعة. إلا أنه ترك وراءَه صورةً حيَّة ازدادت بمرور الوقت شدَّتُها في أعماق طبيعتها الرومانسية التي تمرَّدت على فكرة اختيار تيريز أبًا مُناسبًا لأطفالها من الناحية العلمية. كانت صورة صارت، على نحو غير واعٍ تقريبًا، تُقَيِّم على أساسها الرجال الآخرين، حتى في تفاصيل صغيرة مثل وضعية أكتافهم والطريقة التي يستخدمون بها أيديهم ونغمة أصواتهم. كانت هذه الصورة هي ما قصدته فعلًا حين قالت لأمها: «أعرف أيَّ نوعٍ من الرجال أريد الزواج منه. أعرف بالضبط.» كانت تَقصد، بقدْرٍ كبير دون أن تُدرك، أنه لا بد أن يكون رجلًا مثل جان دي سيون … رجلًا جذابًا ورومانسيًّا وجامحًا قليلًا.

لم تكن قد نسيَته، رغم أنه أتت عليها لحظات في المدرسة ببلدة سان كلود كانت قد اعتقدَت فيها أنها لن تراه مرةً أخرى مُطلقًا — لحظات غمرَها فيها إحساس مُمتع بكآبة يائسة اعتقدت خلاله أن حياتها كلها قد فسَدت، وهو ما قادها إلى كتابة تدوينات طويلة ورومانسية في المذكرات التي كانت تُخفيها تحت مرتبتِها. وهكذا مع شعورها المتزايد باليأس، صارت ألوان الهالة الرومانسية المحيطة به أكثر عمقًا وتنوعًا وحدَّةً. وازدادت شحوبًا لدرجةِ أن الآنسة فيرنويل عمدتْ إلى مُداواتها بالعقاقير، واتهمتْها تيريز فجأةً بالوقوع في شِباك الحب، وهو أمر أنكرَتْه على نحوٍ مُبهَم وبإيحاءات يشوبها غموض رومانسي.

ثم بمجرَّد العودة إلى منزل عائلة بينتلاند (وهي عودة نصَحَتها بها والدتها بسبب الوضع الصحي لجاك)، أعتمت الصورة قليلًا إيمانًا منها بأنه لم تكن أمامها فرصة لمقابلتِهِ ثانية ولو في أكثر شطحات الخيال جموحًا. صار الأمر أشبَهَ برغبةٍ حبيسة ميئوس منها؛ وأعدَّت نفسها لنسيانه، وكذلك، من مُنطلَق حكمةِ عقلها الغض، الاعتياد على فكرة الزواج من أحد الشباب المُملِّين الذين كانوا أكثر ملائمة لها والذين كانت عائلتها قد عرفتهم دومًا. وكانت قد أخذت تُراقب مُعجبيها بحرص، وتُقيِّمهم دومًا بالمقارنة بصورة الشاب الأصهب، الذي يرتدي زي الفرسان الأسود والفضي، ومقارنة بتلك الصورة بدَوا في نظرها — حتى فتى عائلة مانرينج الأشقر الوسيم — صِبيةً صغارًا، أشقياء نوعًا ما ولا يُضاهونها في السنِّ والحكمة. كانت قد روَّضت نفسها سرًّا وبجدية على فكرة القبول بزيجةٍ من الزيجات المناسبة في عالمها — زيجة تتحدَّد وفقًا للمُمتلكات وحقيقة أن خطيبها من شأنه أن يكون «شخصًا من النوعية المناسِبة».

وهكذا، اتخذت المسألة برمَّتها طابع قصة حب مأساوية، يجب أن تُحاط بالسرية. ربما عندما تصير عجوزًا، ستَحكي القصة لأحفادها. اعتقدت أنه مهما كان الشخص الذي ستتزوَّجه، ستظلُّ تُفكِّر دومًا في جان دي سيون. كان هذا واحدًا من أوهام الشباب المُضحكة التي ليس فيها مثقال ذرة من الحقيقة الكئيبة.

ثم فجأة وصلت أخبار زيارته إلى منزل «بروك كوتيدج». ظلَّت محتفظة بسِرِّها، ولكنها لم تحتفظ به جيدًا بالقدْر الكافي الذي لا يدع الشك يتسرَّب إلى والدتها وسابين. كانت تعبيراتها قد خانَتْها في الليلة الأولى لوفاة جاك حين قالت، ببريقٍ مُفاجئ في عينيها: «إنه جان دي سيون … لقد نسيتُ أنه سيَصل الليلة.» وكانت أوليفيا قد لاحظت البريق لأنه صار مُستمرًّا ومُتواصلًا.

•••

وفي منزل «بروك كوتيدج»، كان دي سيون الشاب، الذي كان مستاءً جرَّاء التأجيل الذي تسبَّبت فيه الجنازة وضرورة احترام الحداد المُعلن بمنزل عائلة بينتلاند، مُتجهمًا وتصرَّف بطريقةٍ كان من شأنها أن تتسبَّب في إزعاج أي شخصٍ باستثناء سابين، التي وجدت المشهد مُمتعًا. وإذ كان معتادًا على الاندفاع بتهوُّر نحو أيِّ شيء يرغبه (مثلما اندفع نحو الالتحاق بالجيش الفرنسي في السابعة عشرة مِن عُمره والسفر إلى الأرجنتين قبل تسعة أشهر مضت)، تعكَّر مزاجُه وأمضى أيامَه في الهواء الطلق، مُجدِّفًا في النهر أو سابحًا في عزلة الشاطئ الأبيض العظيم. وتشاجر مع تيريز، التي كان يعرفها منذ كانت فتاةً صغيرة، وحاوَلَ أن يكون متحضِّرًا قدْر الإمكان مع سابين المُستمتِعة بما كان يحدث.

أدركت منذ ذلك الحين أنه لم يأتِ إلى دورهام من مُنطلَق أي اهتمام بها أو بتيريز. وأدركت منذ ذلك الحين إلى أيِّ مدًى كانت تتحلى بالحكمة (لأغراض تخدم خُطتها) حين أدرجت في دعوتها إليه السطر الذي كتبت تقول فيه … «سيبيل بينتلاند تعيش في المزرعة المجاورة لنا. لعلك تتذكَّرها. لقد تَنَاوَلتْ معنا الغداء في احتفال يوم الهدنة العام الماضي.»

عرفت أنه بالأحرى يتخيَّل نفسه رجلًا مُحنكًا عركته الحياة وأنه بارع جدًّا في الحفاظ على أسراره. سألها عن سيبيل بينتلاند بطريقةٍ عرضية بدت مُصطَنعة على نحوٍ واضح، واستشارها بخصوص الفترة التي من اللازم انتظارها من باب اللياقة قبل أن يُقاطع الحداد في منزل عائلة بينتلاند ويزورهم، وهل أبدت الآنسة بينتلاند أي إعجاب تجاه الشباب في دورهام؟ ولو لم يكن جذابًا وعجولًا، لكان المَلَل قد تغلَّب على سابين.

كان الشاب يخشى شيئًا واحدًا فقط … وهو أنها ربما تكون قد تغيَّرت بشكلٍ أو بآخر، أو ربما لا تكون في الحقيقة جذَّابة بقدْر ما بدتْ له طوال أشهر غيابِه الطويلة. لم يكن بلا تجارب (في الواقع، اعتقدت سابين أنه سافر إلى الأرجنتين هربًا من إشكالٍ ما في باريس) وكان يُدرك أن مثل هذه الخيبات المأساوية يُمكن أن تحدث. وربما حين يعرفها على نحوٍ أفضل سيتلاشى افتتانه بها. ربما لا تتذكَّره هي مطلقًا. ولكنها بدت له، بعد شهورٍ من الاستغراق في التفكير الرومانسي الطويل، المرأة الأكثر جاذبيةً بين جميع النساء اللاتي وقعتْ عيناه عليهنَّ.

•••

كان عالَمًا جديدًا اكتشف فيه نفسَه، وكان بطريقةٍ ما عالَمًا أحدث وأكثر اختلافًا عن السهول الشاسعة المُغطَّاة بالحشائش التي كان قد أتى منها لتوِّه. وأدرك أن مِن عادة الناس في دورهام أن يقولوا إن بوسطن ودورهام تُشبهان إنجلترا، ولكنه اعتبر في صمتٍ أن هذا نوع من الكبر والغطرسة؛ لأنَّ بوسطن ودورهام لا تُشبهان إنجلترا مطلقًا، حسبما رأى؛ ففي بعض المواضع بدت بوسطن ودورهام عتيقتَين، ولكن لم يكن بهما نفس القدر من الثراء، ولا نفس الرونق. كان ينبغي أن تتحلَّيا بالرومانسية ولكنهما لم تكونا كذلك؛ وإنما بدَتا له أشبه بالصور الإيضاحية في أحد كتُب التاريخ المدرسية. كانتا جافتَين … فكَّر في أنَّ استخدام الكلمة الفرنسية (sec) التي تَعني «جاف» أفضل في هذه الحالة بسبب وقعها الصوتي.

لم يكن التشابه مع إنجلترا هو ما وجده مثيرًا للاهتمام، وإنما بالأحرى الاختلاف معها … طبيعة الريف الجرداء الباعثة على الكآبة وكان منظر مُستعمَراتٍ كاملة من شعوب غريبة وغير مألوفة، مثل التشيكيين والبولنديين، يُضفي خلفيةً غريبة على الصورة بأكملها.

كان قد انخرط في مهمةِ التعرف على بلاده بطريقةٍ دقيقة ومُفعَمة بالحيوية، ومشبعة بالإحساس بالألوان والأصوات وكل عناصر المنظر المذهل للحياة، وكان واعيًا تمامًا لذلك.

إذ قال لسابين: «تعرفين أن المُضحك هو أن هذا يبدو لي أشبه بالعودة إلى الوطن. وهو ما يجعلني أشعر بأنني أنتمي إلى أمريكا … ليس إلى دورهام، وإنما إلى نيويورك أو إحدى تلك المدن الصاخبة التي مررت بها.»

تحدَّث، بقدرٍ كاف من التلقائية، ليس مثل الأمريكيين على الإطلاق وإنما بطريقة الإنجليز المُقتضبة، مبتلعًا كلماته إلى حدٍّ ما، ومن وقتٍ لآخر كانت تظهر لُكنة فرنسية خفيفة. كان صوته أكثر عمقًا وثراءً من أصوات أهل منطقة نيو إنجلاند، بطريقة نُطقهم لشارع تشارلز «شارع تشالز» وهارفرد المقدسة «هافااد».

كان مشهد نيويورك المذهل هو ما أثار إعجابه أكثر من أي شيء آخر؛ لأنها تجاوزت كل ما حلم به عنها وكل الأوصاف التي ذكرها له الناس بخصوص قوتها الهائلة وفخامتها الجامحة والتنوع الرهيب للُّغات والأشخاص فيها. أخبرته سابين، وهي تَعي أن ما تقوله فيه خيانة مُطلَقة، أن نيويورك تمثل أمريكا، أكثر بكثيرٍ من نوعية الحياة التي سيُصادفها في دورهام.

وبينما كان يتحدَّث مع سابين عن نيويورك، كانت نبرة صوته تَرتفِع بالإثارة والحماس مثلما يحدُث للأشخاص المُفعَمين جدًّا بالحيوية. وأسَرَّ إليها بأنه كان قد هجَرَ أوروبا ولن يعود للعيش فيها أبدًا.

قال: «إنها بلاد عتيقة، وإذا نشأ فيها المرء، مثلما نشأتُ، فلن يكون لدَيه أي مُبرِّر للعودة والعيش فيها. إنها بطريقةٍ ما عالَم خامِل … خامل بالتأكيد مقارنةً بالأمريكتَين. والمستقبل هو ما يثير اهتمامي … لا الماضي. أريد أن أكون حيثما تدور معظم الأحداث … في قلب الأحداث.»

عندما لم يكن يَعزف البيانو بجموح، أو يتحدَّث مع سابين، أو يُجادل تيريز بخصوص ضفادع وحشرات المعمل التي جمعتها في الشرفة الزجاجية، كان يتجوَّل في الحديقة في حالةٍ من الإثارة المكبوتة، وهو يتفكَّر في ذهنه اليافع في مُشكلته والخطط التي يَعتزِم اتباعها ليتأقلم في هذا البلد المُفعَم بالنشاط. كان اكتشاف هذا البلد الآن، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، تجربةً مثيرة. بدأ يفهم أولئك الشباب الأمريكيين الذين كان يُقابلهم أحيانًا في أوروبا (مثل ابن خالته فيرجوس توليفر، الذي لقِيَ حتفه في الحرب)، الذين كانوا يَبدون مُفعَمين جدًّا بالحيوية وبإحساس متهور بالمغامرة … شباب لا يُقاوَمون في عالَمٍ عتيق ومُنهك؛ لأن الطبيعة نفسها كانت في صفِّهم.

ولكي يُخفِّف من حدة نفاد صبره، لجأ إلى نشاطٍ بدني عنيف، التجديف والسباحة والتجول بالسيارة مع سابين في أنحاء ريف دورهام. لم يكن بإمكانه السير لمسافاتٍ طويلة، بسبب المشكلة التي تسبب فيها جرحه القديم، إلا أنه سار كل المسافة إلى منزل أوهارا، حيث قابل الأيرلندي وصارا صديقَين. وأعطاه أوهارا زورق كانوي ومجدافًا وأخبره أنه وقتما يشعر بأن ساقَهُ في حالة أفضل يُمكنه أن يأخذ حصانًا من إسطبلاته.

ذات صباح بينما كان يُجدف بزورقه بحذاء الضفة الموحلة للنهر بعد ممارسة تمارينه المبكرة، سمع صوت وقع حوافر في الوحل السميك بالقُرب منه، وما إن التفت حتى رأى سيبيل بينتلاند تمتطي فرسها أندروماك تخرج من الأجمة التي كانت تقريبًا إلى جانبه.

كان صباحًا رائعًا — باردًا مقارنةً بطقس دورهام في منتصف شهر أغسطس — وعلى صفحة النهر الخامل نشرت زنابق الماء أزهارها البيضاء اللينة في مجموعاتٍ على شكل نجوم مفروشة على بساط من الأوراق الخضراء. كان صباحًا مفعمًا بالمسرَّات، تسقط فيه أشعة الشمس المشرقة على شباك العنكبوت، التي تربط الكتل المتشابكة لكرمات العنب البري، فتكسوها بلونٍ فضي؛ وغُمِر دي سيون الشاب، الواقف على حافة الدرب، مُفعمًا بالصحة بفضل التمارين الرياضية الصباحية، وقد تشابك شعره الأصهب الكثيف تمامًا، بشعورٍ مفاجئ بعافية وبقوة جسدية مهولتَين. كان أمامه عالَم كامل يَنتظِر مَن يغزوه؛ وإليه، من الأيكة المُتشابِكة أقبلت سيبيل بينتلاند، أكثر سحرًا وجاذبية على الطبيعة مما كانت تبدو في خياله في الليالي الطويلة التي سهرَها مُستيقظًا يفكر فيها على ضوء النجوم فوق السهوب.

ولثانيةٍ لم يَنبِس أي منهما ببنت شفة. أجفلت الفتاة وتورَّدت وجنتاها قليلًا؛ ولكن مُتَأَثِّرة، أيضًا، بإحساس صامت بالوقار، سحبت إليها فرسها؛ وتطلَّع إليها جان وقال بطريقةٍ عفوية مصطنعة (نظرًا لأن عروقه كانت تَنتفِض بالإثارة): «أوه! أهلًا! أنتِ الآنسة بينتلاند.»

«أجل.» ولكن فجأةً بدا عليها الإحباط، كما لو أنها حقًّا صدَّقت أنه كاد ينساها.

ونظرًا لأنه لم يكن يرتدي إلا سروالًا وقميصًا للتجديف، طأطأ رأسه ونظر إلى زيِّه، وقال مُبتسمًا: «لم أرتدِ ملابس تَليق باستقبال زوار.»

بطريقةٍ ما ساعد هذا في كسر الإحساس بالتحفُّظ، وانخرطا في حوار، تبادَلا فيه بضع تعليقات مُبتذلة عن جمال الصباح، ونظر جان، واقفًا بجوار أندروماك، يُمسِّد أنفها بنفس الرقة التي أبداها تجاه كلاب سيبيل، إليها بعَينَيه الزرقاوَين الصافيتَين وقال: «كان ينبغي أن آتي لرؤيتكِ في وقتٍ أبكر مِن ذلك، إلا أنني ظننتُ أنكِ ربما لا تَرغبين في رؤيتي.»

كانت نبرة دافئة مُرتعِشة تشوب صوته.

أجابته: «ما كان هذا سيُشكِّل أي فارق. والآن يجب أن تأتي كثيرًا … بقدر ما تشاء. كم مدة إقامتك في منزل «بروك كوتيدج»؟»

لثانيةٍ تردَّد. ثم أردف: «أسبوعين … ربما. وربما أطول من ذلك.»

وبينما كانت تتطلَّع إليه، قالت في نفسها: «يجب أن أجعله يبقى. إن فقدتُه مجددًا هذه المرة … يجب أن أجعله يبقى. أنا مُعجبة به أكثر من أي شخصٍ في العالَم. لا يُمكن أن أفقده هذه المرة.»

وبدأت تقول لنفسها إن القدَر في صفِّها، وأن النصيب أعاده إلى يدَيها مرةً أخرى. بدا وكأنه أمرٌ مُقَدَّر، وأن الحياة معه ستكون علاقة مُمتعة ومُثيرة. بدأ العناد الهادئ، الذي ورثته عن أوليفيا، يظهر ويستحوذ عليها. كانت مُصمِّمة على ألا تفقده.

ابتعدا عن النهر، وهما لا يزالان يتحدَّثان بتحفُّظ نوعًا ما، بينما كان جان يَسير إلى جوار أندروماك، وهو يعرج قليلًا. وأخذا يَتلفَّظان بكلمةٍ مُبتذلة تلو الأخرى بينما يتلمَّس كل منهما طريقه نحو الآخر، وكل منهما مُترفع ويخشى إظهار مشاعره، وكلٌّ منهما مُتردِّد ولكنه مُتحمِّس ونافد الصبر. كانت الإثارة الناتجة من تقاربهما هي ما أكسب الحوار قدرًا من الأهمية. لم يَعرف أيٌّ منهما حقًّا ما كانا يقولانه. من ناحية بدا كل منهما للآخر غريبًا ومُثيرًا؛ ولكن من ناحيةٍ أخرى لم يكونا غريبين على الإطلاق لأنه كانت بينهما تلك المشاعر القديمة، التي أدركَتْها سيبيل في حديقة شارع دي تيلسيت، كما لو أنَّ أحدهما يعرف الآخر منذ الأزل. لم يكن يُوجَد أي تردُّد أو شكوك أو شبهات.

كانت السماء مُشرقة؛ ورائحة النهر الموحل والأعشاب النامية غامرة. وراودت كل منهما أحاسيس متأجِّجة، ونوع من نشوة مُتزايدة، مما عزلهما عن بقية العالَم. كان نوعًا من السحر، ولكنه مختلف عن السحر الذي يُحيط بمنزل عائلة بينتلاند الخامد.

٦

في كل مرة كانت فيها أوليفيا تستيقظ عند الفجر لتركب الخيل مع سيبيل وتُقابل أوهارا عند مقلع الحجارة العتيق، كانت الرحلة البسيطة تَصير أروع في نظرها. كان ثمة شعور بحيوية الشباب ينبع من التعامُل مع سيبيل والأيرلندي، شعور كادت تنساه، شعور بالقوة كانت تتوق إليه طويلًا. وجدت أنها طريقة رائعة لبدء اليوم؛ تخرج في برودة الصباح، وتركب الخيل فوق الحشائش المُبلَّلة بقطرات الندى؛ فكان هذا يصنع تباينًا منعشًا مع بقية اليوم الذي كان يشغل الجزء الأكبر منه أشخاصٌ كبار السنِّ مثل حميها وآنسون (الذي كان حقًّا رجلًا مسنًّا) والعجوز التي تسكن في الجناح الشمالي من المنزل والهجمات المُهتاجة والمتواصلة للعمة كاسي. وبدأت أوليفيا، التي كانت تُخفي في نفسها خيلاء مُستترة، تلاحظ نفسها في المرآة … فرأت أن عينيها صارتا أكثر بريقًا وبشرتها أكثر صفاءً. ورأت أنها حتى ربما كانت جميلة، وأن عادة ركوب الخيل جعلتها ذات طابع رومانسي.

وأدركت، أيضًا، أثناء ركوب الخيل عبر الحقول بين سيبيل وأوهارا، أنه كان أحيانًا يُراقبها ببريقٍ فضولي في عينَيه الزرقاوين. لم يقل شيئًا؛ ولم يُفشِ بأي طريقةٍ الشعور الذي كان وراء كل ذلك الإفصاح المفاجئ والهادئ للمَشاعر في فناء منزل «بروك كوتيدج». بدأت تلاحظ (كما كانت سابين قد اكتشفَت على الفور تقريبًا) أنه رجل بارع وخطير جدًّا. لم يكن هذا بسبب التأثير الغريب، شِبه المادي، الذي يَتركه على في نفوس الناس وحسب — وهو تأثير أشبه بما لو كان وجوده يَستحوِذ عليك تمامًا — ولكن بسبب أنه كان يتمتَّع بالصبر ويعرف كيف يلتزم الصمت. فلو أنه اندفع، بطيشٍ وتهوُّر، لعُجل كل شيء وفسَد في الحال. وكان مِن شأن الأمر أن يَنتهي بمشهد طرده، وربما كان من شأن أوليفيا أن تتحرَّر؛ ولكنه لم يَلمس شعرة منها قط. كان الأمر بكل بساطة أنه موجود دومًا، يُؤكد لها بطريقةٍ غامضة أن عواطفه لم تتغيَّر، وأنه لا يزال راغبًا فيها أكثر من أي شيءٍ في هذه الدنيا. ولامرأة رومانسية بطبيعتها ولم تَعِش أي قصةِ حُب في حياتها من قبل، كان هذا أسلوبًا خطيرًا.

ثم في صباح أحد الأيام، بينما كان أوهارا مُنتظرًا بجوار مقلع الحجارة، رأى أن فارسةً واحدةً فقط آتية نحوَه عبر الحقول من ناحية منزل عائلة بينتلاند. في البداية، خطر على ذهنه أن هذه حتمًا سيبيل آتية وحدها، بدون أُمها، واستحوذ عليه بسرعة الشعور المعهود بالملل واليأس. ولم يُدرك أنها أوليفيا نفسها إلا عندما اقتربت منه أكثر ورأى النَّجمة البيضاء على جبين حصانها. اعتبر أن قدومها بمفردها، وهي تُدرك ما صرح لها به بالفعل، علامة بالغة الأهمية.

هذه المرة لم يَنتظِر أو يمضي على صهوة حصانه في تُؤَدة نحوها. وإنما انطلق على حصانه يعدو بفارغ الصبر كصبيٍّ عبر الحقول الرطبة ليستقبلها.

كان يبدو عليها الإشراق المعهود بها وأيضًا الخجل الذي جعلها تبدو لأول وهلة فاترةً قليلًا ومُنطوية. قالت له بنَبرة هادئة: «لم تأت سيبيل هذا الصباح. خرجَت في الصباح الباكر لصيد السمك مع جان دي سيون. بدأ سمك الماكريل يخرج للمياه المفتوحة بعيدًا عن الأهوار.»

ساد صمت غريب يَشُوبه التوتر، ثم قال أوهارا: «إنه شابٌّ لطيف … دي سيون.» ثم بمجهود بطولي للتغلُّب على الخجل الذي استطاعت دومًا أن تَفرضه عليه، قال بصوتٍ خفيض: «ولكنني سعيد بأنها لم تأتِ. أردت أن يكون الأمر هكذا منذ البداية.»

لم تَقُل بمَكر إنه يجب ألا يتحدَّث بهذا الأسلوب. لقد كان جزءًا من جاذبيتِها أنها تتمتَّع بصدقٍ وذكاء شديدَين يَمنعانها من أن تُوقِفه بهذا النوع من الدلال. كان قد اكتفى من دلال النساء الرخيصات وسئِمَه منذُ زمنٍ طويل. بالإضافة إلى ذلك، لقد أرادت هي نفسها الأمر أن يكون «هكذا» وأدركت أنه من الحماقة أن تتظاهَر بغير ذلك مع أوهارا؛ لأنه عاجلًا أم آجلًا سيكتشف الأمر دومًا. لم يكونا طفلَين، لم يكن أيٌّ منهما كذلك. كانا يَعرفان ما يفعلانه، ويعرفان أنه خطير، بل ومُتهوِّر؛ لكن الشعور بالإثارة كان ما يجعل المُغامرة لا تُقاوَم لكليهما على حدٍّ سواء.

لوقت قصير، ركبا حصانيهما في صمت، وأخذا يَرقبان الحوافر الداكنة للحصانَين وهي تُرسِل للأعلى زخَّات صغيرة من الندى المُتلألئ من العشب والنفل اللَّذين يَصِل طولهما إلى الركبة، وبعد قليل بينما كانا يَبتعدان عن الحقول ويمضيان في الدرب المؤدِّي إلى غابة أشجار البتولا، ضحك وهو يقول: «أدفع بنسًا مقابل أن تُطلعيني على أفكاركِ.»

أجابته مُبتسمةً: «لن أبيعها ولو بملايين.»

«لا بد من أنها ثمينة جدًّا.»

«ربما … ثمينة لي، وليس لأحد سواي.»

«لا أحد على الإطلاق …»

«كلَّا … لا أظنُّ أنها ستهمُّ أي أحد. فهي ليست مُبهجة للغاية.»

عند هذا، لاذ بالصمت مرةً أخرى، باديًا عليه التفكير العميق والإحباط.

لبعض الوقت أخذت تُراقبه، وبعد قليلٍ قالت: «يجب ألا تَعبس في صباح كهذا.»

«لست عابسًا … كنت فقط … أفكر.»

ضحكت. ثم قالت: «أدفع بنسًا مقابل أن تُطلِعني على أفكاركَ.»

لم يضحك. وإنما تحدَّث بحرارة مفاجئة: «هي أيضًا تستحق الملايين … بل أكثر من ذلك … لكني سأشاركها معكِ. ما كنت لأُشاركها مع أحد غيرك.»

وإثر سماعها لنغمة صوته، غمرت أوليفيا موجة سخيفة من السعادة. وقالت في نفسها: «أشعر بأنني شابَّة وأتصرَّف بسخافة وأستمتِع بوقتي.»

ثم قالت جهرًا: «ليس معي بنس، ولكن هل تَثِق بي حتى آتيك به غدًا؟»

عندئذٍ التفت إليها فجأة، وقد زالَ الخجل وحلَّت مكانه عاطفة أقرب إلى الانزعاج والغضب. ثم سألها: «ولماذا تَدفعي مقابلًا لها؟ أنت تعرفين جيدًا ماهيتها. لم تنسَي ما قُلته لكِ في الفناء بمنزل «بروك كوتيدج» … يزداد صدقُه يومًا بعد يوم … كل ما قلته.» وعندما لاحظ عليها الجدية المفاجئة، أردف قائلًا: «وماذا عنكِ؟»

«تعرف مدى استحالة الأمر.»

«لا شيء مُستحيل … لا شيء. بالإضافة إلى ذلك، أنا لا أقصد الصعوبات. فتلك ستأتي في وقتٍ لاحق … لا أقصد سوى المشاعر.»

«ألا ترى أنني مُعجَبة بكَ؟ … يجب أن أكون مُعجَبة بك وإلا ما كنت لآتي بمُفردي هذا الصباح.»

ردَّد عبارتها بمرارة قائلًا: «مُعجبة بي. لا يُهمني إعجابكِ بي!» وعندما لم يتلقَّ منها أي رد، أضاف بنبرة كادت أن تكون قاسية: «لماذا تُبقينني بعيدًا عنكِ؟ لماذا تضعين حولك سورًا صغيرًا دومًا؟»

سألته بغباءٍ وبشعور بالحزن: «وهل أفعل حقًّا؟»

«أنتِ تبدين باردة ومُنعزلة حتى عندما تضحكين.»

«لا أريد أن أكون كذلك؛ فأنا أكره الأشخاص الباردين.»

وللحظةٍ لمحت ومضة سريعة من العصبية المفاجئة التي تخونه أحيانًا. «هذا لأنكِ تتصرفين بالطريقة اللعينة التي تتصرَّف بها سيدة راقية. أحيانًا أتمنَّى لو كنتِ خادمة أو عاملة نظافة.»

«وحينئذٍ لن أكون نفس الشخص؛ أليس كذلك؟»

رفع عينَيه بسرعة، كما لو أنه سيرد ردًّا حاسمًا مُفاجئًا، ثم تمالك نفسه، وواصل السير في صمت. وحين اختلست أوليفيا النظر إليه، لمحت على خلفية الخضرة صورة سريعة للرأس العنيد الأسمر الداكن الشعر — يشبه رأس ثور جميل، هكذا ظنَّت في مخيلتها — منحنيًا قليلًا، غارقًا في التفكير وأقرب إلى الحزن؛ ومرةً أخرى هاجمها شعور واهن وضعيف؛ نفس الإحساس الذي استحوذ عليها ليلة وفاة ابنها حين جلست تَنظر إلى مؤخر رأس آنسون ولا تراه مُطلقًا. وتساءلت في نفسها: «لماذا هذا الرجل — الغريب — يبدو أقرب إليَّ ممَّا كان آنسون في أي وقت مضى؟ ولماذا أتحدث إليه بطريقة لم أتحدث بها قط مع آنسون؟» وتملَّكها شعور غريب بالشفقة عند مرأى الرأس الداكن الشعر. وفي لحظة فَهم خاطفة، رأته في هيئة صبيٍّ صغير يبحث بارتباك عن شيء لا يفهمه؛ أرادت أن تُمسِّد الشعر الداكن الكثيف مطمئنةً.

تحدَّث مرة أخرى. وكان يقول: «أنتِ لا تَعرفين شيئًا عني. وأحيانًا أظنُّ أنه يجب أن تَعرفي كل شيء.» سألها وهو ينظر إليها سريعًا: «هل يُمكنكِ تحمُّل سماع ما سأقوله … قدر منه؟»

ابتسمت له، مُتيقِّنة من أنها اخترقت حالته المزاجية بطريقة غامضة وتنطوي على استبصار، وقالت في نفسها: «كم أنا عاطفية … كم أنا عاطفية على نحوٍ مقيت!» لكنها كانت حالة مزاجية ثرية وممتِعة وجدت نفسها مُنغمسةً ومُسترخيةً فيها بكل ذرةٍ من كيانها. وعادت تقول في نفسها: «لماذا لا أستمتع بهذا؟ لقد كنتُ متحفِّظةً طوال حياتي.»

وإذ رأى ابتسامتها، بدأ يتحدَّث، ويُخبرها، وهما يسيران في اتجاه الشمس المشرقة، بقصة أصله المُتواضِع وتلك الأيام الأولى المريرة على رصيف ميناء إنديا وارف، وبين فينة وأخرى كانت تقول: «أفهم ذلك. طفولتي لم تكن سعيدة»، أو تقول: «تابع حديثك، من فضلك. إنه يأسرني … أكثر مما تتخيَّل.»

وهكذا، واصل حديثه، يُخبرها بقصة الندبة الطويلة الموجودة على صدغه، ويُخبرها كما كان مُتيقِّنًا من أنه سيفعل، عن قصة صعوده إلى النجاح، مُعترفًا لها بكل شيء، حتى بالأشياء التي كان قد صار يشعر بالخزي منها قليلًا، ويكشف من حينٍ لآخر عن الشعور بالمرارة الذي ينتاب أولئك الذين شقُّوا طريقهم رغم الصعاب الكبيرة. صار الرجل الداهية المُلغِز ساذجًا سذاجة طفل صغير، واستوعبت ما قاله، كما كانت مُتيقنة من أنها ستفعل. كان من المُذهِل كم كان مُحقًّا بشأنها.

مُستغرقَين في هذه الحالة المزاجية، واصلا ركوب الخيل طويلًا بينما طلع الصبح وازدادت حرارة الجو، وتُحيط بهما طوال الوقت رائحة الأيكة الكثيفة المُتنامية المُظلمة والرائحة العطرية النافذة لسراخس الأهوار الطويلة، إلى أن قالت أوليفيا، وهي تُلقي نظرة خاطِفة على ساعة يدها: «لقد تأخر الوقت جدًّا. سيَفوتني إفطار العائلة.» كانت تقصد في الحقيقة أن آنسون سيكون قد ذهب إلى بوسطن الآن وأنها سعيدة بذلك — ولكن كان من المُستحيل أن تقول شيئًا كهذا.

•••

وعند مَقلع الحجارة، ودَّعته، وبينما كانت تدير فرسها عائدةً إلى منزل عائلة بينتلاند شعرت بالتأثير الغريب لقُربِه منها يتفلَّت منها مع كل خطوة؛ وشعرت كما لو أنَّ الجو في صبيحة هذا اليوم الحار من أيام أغسطس كان يَصير باردًا. وعندما كان المنزل الكبير المبني بالطوب الأحمر، راسخًا بقوةٍ وسط أشجار الدردار العتيقة، على مرمى البصر، حدثت نفسها قائلة: «يجب ألا أفعل هذا ثانيةً أبدًا. لقد كنتُ حمقاء.» ثمَّ أردفت قائلة: «ولكن لِمَ يَنبغي ألا أفعل هذا؟ لِمَ ينبغي ألا أنعم بالسعادة؟ لا يحقُّ لهم مُطالبتي بأي شيء.»

ولكنها كانت تعرف أن ثمَّة حقًّا واحدًا؛ ألا وهو حق سيبيل. يجب ألا تجعل من نفسها أضحوكة من أجل سيبيل. يجب ألا تفعل شيئًا يتعارَض مع ما كان يحدث في زورق الصيد الصغير هذا الصباح على مسافة بعيدة فيما وراء الأهوار في مكان ما بالقُرب من الموضع الذي غرقت فيه سافينا بينتلاند. وكانت تَعرف جيدًا لماذا اختارت سيبيل الخروج لصيد الأسماك بدلًا من ركوب الخيل؛ كان من السهل جدًّا إلقاء نظرة على الفتاة والشاب دي سيون ومعرفة ما كان يجري هناك. هي نفسها لم يكن يحقُّ لها اعتراض طريق ذلك الأمر الآخَر الذي كان أكثر نضارة وشبابًا، وأقرب كثيرًا إلى الكمال.

وبينما كانت تَعقِل فرسها عند السور المُنخفِض بجوار الإسطبل، رفعت بصرَها وصادفت عيناها جسدًا مألوفًا متَّشحًا بالسواد الباهِت واقفًا في الحديقة، كما لو أنها كانت قد وقفَت هناك طوال ذلك الوقت تتطلَّع إلى المروج، وتُراقبهما. وحين اقتربت أكثر، أقبلت عليها العمة كاسي والقلق بادٍ على وجهها، قائلةً بصوتٍ هامس ضعيف، كما لو أنها تخشى مِن أن يَسمعها أحد: «ظننتُ أنكِ لن تعودي أبدًا، يا أوليفيا العزيزة. لقد كنتُ أبحث عنكِ في كلِّ مكان.»

أجابتْها أوليفيا، وقد أدركت من الطريقة المتَّسمة بالغموض الشديد أن كارثة جديدة قد وقعت: «كنتُ أركب الخيل مع أوهارا. ابتعدنا أكثر مما يَنبغي وكان الجو حارًّا للغاية فلم يكن من المُمكن أن نستحثَّ الخيل.»

قالت العمة كاسي: «أعرف. رأيتُكما.» (قالت أوليفيا في سرها: «بالطبع من شأنها أن ترانا. وهل يفُوتها أي شيءٍ مُطلقًا؟») وأردفت العمة كاسي تقول: «الأمر يتعلَّق بها. انتابتها نوبة عنيفة هذا الصباح والآنسة إيجان تقول إنكِ ربما تكونين قادِرة على التصرُّف. ظلَّت تهذي بخصوص شيءٍ مُتعلِّق بالعليَّة وسابين.»

«أجل، أعرف ما هو. سأَصعَد إليها حالًا.»

ظهر هيجينز، مُبتسمًا وفي عينَيه الحادتَين نظرة خاطِفة لامعة، كما لو أنه عرف كل ما كان يجري وأراد أن يقول: «آه، كنتِ مع أوهارا هذا الصباح … بمُفردكِ … حسنًا، أحسنتِ صنعًا، يا سيدتي. أتمنَّى أن يَجلب لكِ هذا السعادة. يَجدر بكِ أن تحظَي برجلٍ كهذا.»

وبينما كان يَأخُذ باللجام، قال: «يا له مِن حصان رائع ذلك الذي يَركبه السيد أوهارا يا سيدتي. أتمنَّى أن نَقتنيه في إسطبلاتنا. …»

غمغمت بشيءٍ ما ردًّا عليه ودون حتى أن تَنتظر تناول القهوة أسرعت تصعد الدرج المُظلم المؤدي إلى الجناح الشمالي. وفي الطريق المار أمام صف النوافذ الطويلة الغائرة في الحائط، لمحت بنظرةٍ خاطفة سيبيل، مُتأنِّقة للغاية في ملبسها وتُمسك بمظلة صفراء فاقعة اللون فوق رأسها، وتتهادى في مشيتِها على ممرِّ السيارات الطويل المؤدِّي إلى المنزل، ومرةً أخرى خالَجَها شعور مُفاجئ يتعذَّر تفسيره بقُرب وقوع حادث كئيب، بل وربما مأساوي. كانت هذه واحدة من نوبات الاكتئاب السريعة غير المُفسَّرة التي تتلبَّس المرء كشبح. قالت في نفسها: «أشعر بالاكتئاب الآنَ لأنَّني قبل ساعة كنت في غاية السعادة.»

وأردفت على الفور قائلةً في نفسها: «لكن التفكير بهذه الطريقة من شيَم العمة كاسي. يجب أن أحترس وإلا سأتحوَّل إلى بينتلاندية أصيلة … مُعتقدةً بأنني إذا كنتُ سعيدة، فستَعقُب ذلك كارثة تحلُّ قريبًا.»

في الآونة الأخيرة انتابتها لحظاتٌ بدا لها فيها أن ثمَّة شيئًا في الأجواء، قوة خفية ما في جنبات المنزل العتيق نفسه، تُغيرها ببطء، على نحوٍ لا يكاد يكون ملحوظًا، رغمًا عنها.

•••

التقت بها الآنسة إيجان على عتبة الباب من الخارج، بابتسامتها المُصطَنعة الدائمة التي بدت اليوم لأوليفيا كابتسامة القدر نفسه.

قالت لها: «لقد هدأت السيدة العجوز كثيرًا. ساعَدَني هيجينز واستطعنا أن نَربطها في الفراش لكيلا تتمكَّن من إيذاء نفسها. من المدهش مِقدار القوة الهائلة التي تملكها في هذا الجسد النحيل العليل.» وأوضحت أن السيدة بينتلاند العجوز ظلَّت تصرخ: «سابين! سابين!» مُنادية السيدة كاليندار وأنها أصرَّت على أنه مسموح لها بالذهاب إلى العليَّة.

وأردفت الآنسة إيجان قائلة: «إنه الهاجس القديم بأنها فقَدَت شيئًا بالأعلى. ولكنه ليس سوى شيءٍ تتخيَّله على الأرجح.» لاذت أوليفيا بالصمت لدقيقة. ثم قالت: «سأذهب وأبحث عنه. ربما يُوجَد شيء هناك، وإن استطعتُ أن أعثر عليه، فمن شأنه أن يضعَ نهاية لهذه الهواجس.»

•••

ووجدته بسهولة، في الحال تقريبًا؛ إذ كان ضوء النهار عندئذٍ يتسلَّل من نوافذ العلية الشبيهة بالكهف. كان مدسوسًا بعيدًا أسفل واحدة من العوارض الخشبية الضخمة … حزمة صغيرة من الخطابات المصفرَّة القديمة التي كانت قد رُبطت معًا بشريطٍ بنفسجي قبل أن يُمزقها أحدٌ ما في عجالة ويدسَّها في هذا المكان ليُخبِّئهم. كانت الحزمة قد فُتحت بإهمالٍ وفي عجالة؛ لأنَّ الورق المُهترئ كان مجعدًا ومُمزقًا من عند الحواف. وكان الحبر، الذي كان لونه بنفسجيًّا، قد تحوَّل إلى درجةٍ بُنية مُوحلة.

وبينما كانت تقف وسط الألعاب المُتناثرة التي تركها جاك وسيبيل آخِر مرة كانا يَلعبان فيها لعبة المنزل، رفعت أوليفيا الخطابات واحدًا تلوَ الآخر في مُقابل الضوء. كانت أحد عشرَ خطابًا وكان كلٌّ منها موجَّهًا إلى السيدة جيه بينتلاند، منزل آل بينتلاند. أُرسل ثمانية منها عبر مكتب بريد بوسطن وكانت الثلاثة الباقية لا تَحمل طوابع من أيِّ نوع، كما لو أنها أُرسلت عبر مرسال أو وسط باقة زهور أو بين صفحات كتابٍ ما. كانت الكتابة بخطِّ يد رجل، حروف كبيرة ومكتوبة على عجل ومُمتدة، وتظهر نزعة لطمس الحروف معًا بتسرع ونفاد صبر.

حدثت نفسها على الفور: «جميعها موجَّه إلى السيدة جيه بينتلاند، وهو ما يعني أنها مكتوبة إلى السيدة جاريد بينتلاند. سيفرح آنسون؛ لأنها حتمًا الخطابات المتبادلة بين سافينا بينتلاند وابن عمها توبي كاين. كان آنسون بحاجةٍ إليها ليَستكمِل تأليف الكتاب.»

ثم خطر ببالها أن ثمة شيئًا غريبًا بخصوص الخطابات؛ بخصوص كونها مخبَّأة وربما وجدتها السيدة العجوز بالطابق السُّفلي ثم خُبئت مرة ثانية. ولا بدَّ أن السيدة بينتلاند العجوز قد عثرت عليها قبل أربعين عامًا مضت تقريبًا، حين كانوا لا يزالون يسمحون لها بالتجوُّل في المنزل. ربما كان هذا في أحد تلك الأيام المطيرة عندما صعد آنسون وسابين إلى العلية ليلعبا في هذا الركن تحديدًا بنفس هذه الألعاب القديمة؛ الأيام التي رفضت فيها سابين أن تتظاهر بأن المياه المُوحلة كانت نبيذ. والآن تذكرت السيدة العجوز الاكتشاف بعد مرور كل هذه السنوات بسبب عودة سابين ولأن وقْع اسمها أثار سلسلة من الذكريات المنسية منذ وقتٍ طويل.

جلست على جذع خشب عتيق مكسور رثِّ الحال، وفتحت أول خطاب بحرصٍ شديد حتى لا تُمزق بقايا شمع البارافين الذي لا يزال متعلقًا بالحواف، وفي الحال قرأت وقد انتابتها صدمة سريعة:

انتظرتكِ الليلة الماضية في المنزل الريفي حتى الساعة الحادية عشرة وحين لم تأتي عرفتُ أنه لم يُسافر إلى مدينة سالم، في نهاية المطاف، وأنه لا يزال معكِ في منزل عائلة بينتلاند …

حبيبتي،

توقَّفَت عن القراءة. فهمت الأمر الآن … توبي كاين الحقير كان أكثر من مجرد ابن عم لسافينا بينتلاند؛ لقد كان عشيقها ولهذا السبب كانت تُخفي الرسائل أسفل العوارض الخشبية للعلية الشاسعة غير المكتملة البناء، ربما بِنِيَّة التخلُّص منها يومًا ما. ثم غرقت قبل أن يُمهلها الوقت لفعل ذلك وظلت الخطابات مخبَّأة في مكانها حتى اكتشفتها زوجة جون بينتلاند ذات يومٍ بالصدفة، ولم تفعل بها شيئًا سوى أنها أخفتْها مرةً أخرى، ونسِيَت في تلافيف عقلها المشوَّش المسكين ماهيتها أو أين خبأتها. كانت هذه هي الخطابات التي كان آنسون يبحث عنها.

لكنها أدركت على الفور أن آنسون لن يستعين أبدًا بهذه الخطابات في كتابه؛ لأنه لن يَكشف النقاب مُطلقًا عن فضيحة داخل عائلة بينتلاند، على الرغم من أنها كانت فضيحة انتهت، نهايةً مأساويةً، قبل قرن من الزمان تقريبًا وصارت الآن أقرب إلى قصة رومانسية خالصة. أدركت، بالطبع، أن علاقة حُبٍّ جمعت بين مخلوقة على قدْر كبير من التألق والإشراق مثل سافينا بينتلاند ووغدٍ مثل توبي كاين ستبدو غريبة جدًّا في كتاب بعنوان «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». ربما كان من الأفضل عدم الحديث عن الخطابات مطلقًا. فمن شأن آنسون أن يُدمِّر كل القيمة التي تحملها بين طياتها بطريقةٍ أو أخرى؛ فمن شأنه أن يُقدِّم الحقيقة قربانًا لآلهة الوقار والتظاهر.

دست الخطابات في جيبها، ونزلت على درج السُّلَّم المُظلِم، وفي الجناح الشمالي قابلتها الآنسة إيجان لتسألَها، بنَزعة يغلب عليها نفاد الصبر، قائلة: «أظنُّ أنك لم تَجِدي شيئًا، أليس كذلك؟»

أجابتها أوليفيا سريعًا بقولها: «كلَّا، لا شيء من المُحتمَل أن يُثير اهتمامها.»

أجابت الآنسة إيجان، وهي تنظر إلى أوليفيا بدا منها أنها تشكُّ في صدق ما قالته: «إنها فكرة غريبة تفتَّق ذهنها عنها.»

•••

لم تنزل إلى الطابق السُّفلي على الفور. وإنما توجَّهت إلى غرفتها وبعد الاستحمام، جلست على كرسي المُضطَجَع بجوار النافذة المفتوحة فوق الشرفة الأمامية، مُستعدة لقراءة الخطابات واحدًا تلو الآخر. ومن الأسفل، تصاعدت همهمة صوتَين، أحدُهما رنان وحاد؛ والآخر مُتوتِّر ورفيع وعالي النبرة — صوت سابين وصوت العمة كاسي — أثناء جلوسهما في الشرفة الأمامية تتجاذبان أطراف حديث لاذع، تتبارى فيه كل منهما في التفوُّق على الأخرى. وبينما كانت أوليفيا تسمع، قررت أنها سئمت من كلتَيْهما هذا الصباح؛ ولأول مرة يَخطر ببالها أن ثمة تَشابُهًا ما بطريقةٍ غريبة بين المرأتين اللَّتَين كانتا تَبدوان في غاية الاختلاف. كانت هاتان الفضوليتان، اللتان تبغض إحداهما الأخرى أشد البغض، تَتبعان نفس الطريقة في محاولتهما التدخُّل في شئون حياتها.

لم تحمل الخطابات أيَّ تواريخ، ولذا بدأت قراءتها بحماس بالترتيب الذي وُجدَت عليه، لتبدأ بالخطاب المكتوب فيه:

انتظرتكِ الليلة الماضية في المنزل الريفي حتى الساعة الحادية عشرة وحين لم تأتي عرفتُ أنه لم يُسافر إلى مدينة سالم، في نهاية المطاف، وأنه لا يزال معكِ في منزل عائلة بينتلاند …

حبيبتي،

وواصلت القراءة:

«ما لا أحتملُه هي فكرة قربه منكِ، بل وامتلاكه لكِ أحيانًا. أتخيله الآن جالسًا هناك في غرفة الاستقبال، ينظر إليكِ؛ يَلتهمكِ بعينَيه ويتظاهَرُ طوال الوقت بأنه يسمو فوق شهوات الجسد. الجسد! الجسد! أنا وأنتِ، يا عزيزتي، نعرف عَظَمَة الجسد. أحيانًا أظنُّ أنني جبان لأنني لا أقتُلُه على الفور.

بحق الرب، تخلَّصي منه الليلة بطريقةٍ ما. لا أستطيع أن أقضي ليلةً أخرى وحدي في المنزل الريفي الكئيب المظلم منتظرًا بلا جدوى. الجلوس هناك مُدركًا أن كل دقيقة، وكل ثانية، قد تحمِل معها وقع خطواتكِ وأنتِ قادمة هو أمر يتعدَّى حدود قُدراتي على الاحتمال. ارحميني. وتخلَّصي منه بطريقةٍ ما.

لم ألمس قطرةً من أيِّ شيءٍ منذُ آخر مرة رأيتكِ فيها. هل يُرضيكِ ذلك؟

أُرسل إليكِ هذا الخطاب داخل كتابٍ مع هانا الزنجية. وستَنتظِر لتأخذ ردكِ.»

شيئًا فشيئًا، بينما كانت تُواصل القراءة عبر متاهات الخطابات العاطفية المتهورة، أخذ الصوتان القادمان من الفناء بالأسفل، اللذان كان أحدهما الآن عاليًا وغاضبًا بعضَ الشيء، والآخر لا يزال رنانًا، وحادًّا وغير مُبالٍ، يبتعِدان أكثرَ فأكثرَ حتى لم تعُد بعدَ قليل تسمعهما على الإطلاق، ومحل الصوت استولى انطباع آخر على حواسِّها؛ توهُّج مادي غريب استولى تدريجيًّا على كامل جسدها. بدا وكأن في وسط هذه الخطابات البُنية الباهتة تتأجَّج نيران مُستعِرة لم تخمد بالكامل أبدًا ولن تُطفأ مُطلقًا إلا بعد أن تُحرَق الخطابات ذاتها وتصير رمادًا.

كلمةً تلو أخرى، وسطرًا تلو آخر، وصفحةً تلو أخرى، كانت الأسطورة المأساوية العاطفية تُعيد تشكيل نفسها من جديد، وقُربَ النهاية استطاعت أن ترى الأطراف الرئيسيِّين الثلاثة فيها مُتجسِّدين في الحياة الواقعية، كما لو أنهم لم يموتوا قط، وإنما واصلوا العيش في جنبات هذا المنزل العتيق، ربما في ذات هذه الغرفة التي كانت تجلس فيها … الغرفة التي لا بد وأنها كانت غرفة سافينا بينتلاند.

رأت الزوج، جاريد بينتلاند الذي لا تُوجَد له صورة شخصية لأنه ما كان لينفق المال أبدًا على مثل هذه الرفاهيات؛ إذ لا بد وأنه كان في الحياة الواقعية، رجلًا ماكرًا وداهيةً وورعًا وبخيلًا إلا حين حوَّله ولعُه الغريب الكئيب بزوجته إلى شخصٍ غير متَّزن. وكانت سافينا بينتلاند موجودة هناك أيضًا، كما كانت تبدو من الصورة الشخصية التي رسَمَها آنجر — امرأة سمراء مُمتلئة القوام وطائشة ذات عينَين مُغريتَين خبيثتَين — امرأة ربما يسهل أن تكون جالبة الخراب على رجل مثل جاريد بينتلاند. وبطريقةٍ ما استطاعت أن تَستحضِر صورةً واضحة ونابضة بالحياة لكاتب هذه الخطابات المستعرة — عشيق وغد وسيم، أسمر مثل ابنة عمِّه سافينا، استسلم لمعاقرة الخمر ولعب القمار. ولكن الأهم من ذلك كله أنها كانت واعية لذلك الغرام الصريح المتأجِّج والمُتبجِّح الذي لم يكن له جذور مُطلقًا في هذه التربة الصخرية لنيو إنجلاند فيما وراء نوافذ منزل عائلة بينتلاند. رجل كان يمجد صراحةً الجسد والرغبات الحسية! فاسق! مُغْوٍ! ومع ذلك كان رجلًا قادرًا على تأجيج هذه النيران العظيمة التي كانت تتقافز من الصفحات الصفراء وتُدفئ أواصرها. حينئذٍ خطر ببالها لأول مرة أنه كان ثمة شيء بطوليٌّ وسامٍ وجميل في غرامٍ عنيف كهذا. وللحظة تملَّكها الشعور بأن قراءة هذه الخطابات هو شكل من أشكال انتهاك الخصوصية.

كشفت الخطابات، أيضًا، كيف كان جاريد بينتلاند ينظر إلى زوجته الجميلة باعتبارها قطعة رائعة من الممتلكات، استثمارٌ كان يَمنحه إشباعًا حسيًّا وأيضًا يُضفي بهاءً على منزله وعلى مائدة العشاء. (ما كانت سابين تُطلق عليه «حسُّ الملكية لدى الطبقة الوسطى الدنيا.») لا بدَّ أنه أحبَّها وكرِهَها في آنٍ واحد، بنفس الطريقة التي أحبَّ بها هيجينز الفرس الحمراء الجميلة وكرهها. لا بدَّ أنه كان فخورًا بها ورغم ذلك كرهها لأنها كانت تتمتَّع بقدرة تامة على أن تجعله يظهر بمظهر غبي. كانت القصة برمَّتها تمضي على خلفية العائلة … عائلة بينتلاند. كانت تُوجَد إشارات مُستمرة إلى أبناء العمومة والأعمام والأخوال والعمات والخالات وشكوكهم وتداخلاتهم.

قالت أوليفيا في نفسها: «لا بدَّ أن هذا قد بدأ حتى في تلك الأيام.»

وعرفت من الخطابات أن الغرام كان قد بدأ في روما عندما جلست سافينا بينتلاند ليرسم آنجر صورتها الشخصية. وكان توبي كاين معها هناك وبعد ذلك ذهبَت معه إلى مسكنه: وعندما عادا إلى المنزل في دورهام (الذي كان جديدًا حينها وكان أكبر منزلٍ ريفي في نيو إنجلاند كلها) كانا يلتقِيان في الكوخ الريفي — منزل «بروك كوتيدج» — الذي كان لا يزال على مرمى البصر من نافذة أوليفيا — منزل «بروك كوتيدج» الذي كان جدُّ سابين قد اشتراه بعد حادثة الغرق ثم تحوَّل إلى أنقاض وجُدِّد مرةً أخرى بلمسة أوهارا الزاهية والمبتذلة واللامعة. كانت قصة مُعقَّدة ومتداخلة للغاية تعود جذورها إلى الماضي وبدا أنها أثرت فيهم جميعًا في دورهام.

حدثت أوليفيا نفسها قائلة: «الحياة في عائلة بينتلاند تَضرب بجذورها في أعماق الماضي. لا تُوجَد فروع جديدة ولا براعم شابة قوية.»

وصلت أخيرًا إلى آخِر الخطابات، الذي كانت قد طُمِرَت وسطه السطور الكاشفة للحقيقة المروعة:

•••

ليتكِ تعلَمين مدى سعادتي بخطابكِ الذي كتبتِ فيه أن الطفل دون أدنى شك هو ابننا، وأنه لا يمكن أن تُوجَد ذرة شك في ذلك! الطفل يَنتمي إلينا … إلينا وحدنا! ولا علاقة له به في شيء. لم يكن يُمكنني أن أتحمَّل فكرة أنه يظنُّ أنَّ الطفل ابنه لولا أن هذا يُؤمِّن موقفكِ. الفكرة تُعذبني ولكنني قادر على تحمُّلها لأنها تحميكِ وتضعكِ فوق الشبهات.

وبتروٍّ وتفكير عميق، كما لو أنها لم تكن قادرةً على تصديق عينَيها، أعادت قراءة السطور مرةً أخرى، ثم وضعت يدَيها على رأسها بحركةٍ تنمُّ عن شعور مُفاجئ بالوهَن وبأنها قد جُنَّت.

حاولت التفكير بصفاء ذهن. «لم تُرزَق سافينا بينتلاند إلا بابن واحد فقط، حسب علمي … واحد فقط. ولا بد أن ذلك الابن كان ابن توبي كاين.»

لا يُمكن أن يكون ثمة شك في ذلك. كل شيء كان مذكورًا هنا كتابةً. الطفل كان من صُلب توبي كاين والمرأة التي ولَدَته هي سافينا دالجيدو. لم يكن ينتمي إلى عائلة بينتلاند ولم يكن أي من أحفاده يَنتمي إلى عائلة بينتلاند … ولا واحد منهم.

لم يكونوا يمتُّون إلى آل بينتلاند بصِلَة على الإطلاق باستثناء أن أحفاد سافينا وعشيقها كانوا قد تزوَّجوا من نخبة بوسطن حيث كانت دماء عائلة بينتلاند تَسري في عروق كل أسرةٍ هناك. لم يكونوا ينتمون إلى آل بينتلاند بصِلَة الدم ومع ذلك كان انتماؤهم إلى عائلة بينتلاند لا جِدَالَ فِيهِ، من ناحية التصرُّفات ووجهة النظر والتقاليد. خطر على بال أوليفيا لأول مرة مدى فداحة وفظاعة تلك البيئة، تلك الأجواء التي سحرتْهم جميعًا … كل هذه الغمامة من الإجحاف والعادات والتقاليد ومظاهر الغرور والمخاوف الصغيرة. كان عالمًا راسخًا جدًّا، وقويًّا جدًّا، ومنيعًا جدًّا لدرجة أنه جعل عائلة بينتلاند قائمةً على أشخاص مثل آنسون والعمة كاسي، بل وعلى شخص مثل حميها. جعل هذا العالم عائلةَ بينتلاند قائمة على أشخاص لم يكونوا ينتمون إلى آل بينتلاند مُطلقًا. أدركت الآن القوة الكاسحة المفزعة التي كانت جزءًا من المنزل العتيق. كانت متغلغلة في سائر تربة الريف الذي امتدَّ فيما وراء نوافذها.

وفي خِضَمِّ هذا الوعي، انتابتها نوبة مُفاجئة للضحك، على نحوٍ هيستيري؛ إذ كانت قد خطرت على بالها فجأةً صورة آنسون … آنسون وهو يبذل نفسه بالكامل في ذلك العمل المجيد المهول الذي كان مِن المقرَّر أن يُعرَف باسم «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس».

وتدريجيًّا، ومع تلاشي الصدمة الأولى قليلًا، بدأت تعتقد أن قصاصات الورق المصفرة كانت أداةً شيطانية ما، وسيلة ذات قدرة على تدمير عالَمٍ بأكملِه. ما الذي كان يتعيَّن عليها فعله بهذا الشيء؛ هذا الشعار الغريب لقوة تربح دومًا في كل صراعٍ بطريقةٍ أو أخرى، مباشرةً كما في حالة سافينا وعشيقها، أو من خلال الأخذ بالثأر ماديًّا أو معنويًّا كما هو الحال مع عقل العمَّة كاسي المُتطفل الماكر البائس؟ وهناك أيضًا القصة المبهَمة لهوراس بينتلاند، وجنون العجوز المحبوسة في الجناح الشمالي، وحتى نوبات السُّكر المفاجئة الفظيعة تلك التي تُحوِّل رجلًا رائعًا مثل جون بينتلاند إلى شيء أقرب إلى وحش.

بدا وكأن ضوءًا ساطعًا يُعمي الأبصار قد سُلِّط على موكب الأسلاف الطويل. رأت الآن أنه لو كان من المقدَّر لكتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس» أن يحمل أيَّ قيمة بين طياته باعتباره حقيقةً فلا بد أن تُعاد كتابته في ضوء الصراع بين القُوى التي مجَّدها الوغد المخمور توبي كاين وهذه القوة الرهيبة الأخرى التي بدا أنها كانت في كلِّ مكانٍ من حولها، تُشكلها هي نفسها ببطء وفق قالبها. كان صراعًا قديمًا بين أولئك الذين اختاروا أن يجدوا مُتعتَهم في هذه الدنيا وأولئك الذين كانوا يبحثون عن الوعد المُبهَم بوجود مُستقبَل مجيد.

كان بوسعها أن تتخيَّل آنسون وهو يسطر في كتابه: «من الجيل الحالي، (١٩٢٠ وما بعده) كساندرا بينتلاند سترازرس (السيدة إدوارد كاين سترازرس)، أرملة تميزت بتفانيها للكنيسة الأسقفية الأمريكية وللأعمال الخيرية والأعمال الصالحة. وهي تقضي فصل الشتاء في بوسطن وفصل الصيف في منزلها الريفي بالقُرب من دورهام في أرض انتزعها من البرية البينتلاندي الأول، أحد المؤسِّسين المُميزين للعائلة الأمريكية.»

أجل، من شأن آنسون أن يكتب تلك الكلمات بالضبط في كتابه. ومن شأنه أن يصِف العجوز التي تجلس في الطابق السفلي آملةً أن تنزل أوليفيا وهي تحمِل أنباءً عن مأساة جديدة … تلك العجوز العَذراء التي أفسدت حياة زوجها بأكملها واحتفظت بالآنسة بيفي المسكينة البلهاء أسيرةً لها لما يربو على ثلاثين عامًا.

تلاشت همهمة الأصوات بعد قليل، ورأت أوليفيا، وهي تتطلع عبر النافذة، أن العمة كاسي كانت هي المُنتصرة هذه المرة. كانت تقف في الحديقة تنظر إلى ممرِّ السيارات بذلك التعبير الخبيث الذي يعلو وجهها أحيانًا في اللحظات التي تظنُّ فيها أنها بمفردها. وبعيدًا على ممر السيارات المُظلَّل على مسافاتٍ متفرقة، كانت سابين تتحرك مبتعدةً في تكاسُل صوب منزل «بروك كوتيدج». كانت سابين، هي الأخرى، تنتمي نوعًا ما إلى العائلة؛ إذ كانت قد نشأت تُحيط بها التقاليد المتشددة التي جعلت أناسًا لم يكونوا يَنتمُون إلى عائلة بينتلاند أفرادًا من العائلة. وربما كان (هكذا فكرت أوليفيا) يَكمن السبب الرئيسي وراء الحياة القلقة التعسة التي تحياها سابين في ذلك الصراع الكئيب نفسه. ربما إذا استطاع المرءُ أن يتعمَّق بالقدر الكافي في التاريخ العائلي الطويل، سيجد هناك الأسباب التي جعلت سابين تكره هذا العالَم الخاص بدورهام والأسباب التي جعلتها تعود إلى أشخاصٍ كانت تكرههم بكل الحماسة المريرة، شبه المتطرفة، المتأصلة في طبيعتها. كانت سابين تمتلك مقوِّمات القسوة البالغة.

وما إن رأت العمة كاسي أوليفيا تنزل الدرجات المؤدية إلى الحديقة، حتى استدارت واتجهت نحوها بسرعة وعلى وجهها نظرة توقع، وسألتها: «كيف حال المسكينة؟»

وعندما أجابت أوليفيا بقولها: «إنها هادئة الآن … نائمة. مر كل شيء على خير»، تغيرت النظرة إلى نظرة خيبة أمل.

قالت بتنهيدة عميقة: «أها، ستبقى إلى الأبد. ستظل على قيد الحياة بعد أن أكون قد لحقتُ بالسيد سترازرس العزيز بفترة طويلة.»

ردَّت عليها أوليفيا، وكأنها أرادت أن تقول شيئًا آخر: «هذا هو الحال مع المرضى طريحي الفراش. إنهم يَعتنون بأنفسهم عناية كبيرة.» وعلى الفور تقريبًا قالت في نفسها: «ها أنا ذا ألعب لعبة العائلة، وأتظاهَر بأنها ليست مجنونة وإنما مريضة طريحة الفراش فحسب.»

لم تَشعُر بالامتعاض من العجوز المشغولة؛ بالطبع بدا لها أحيانًا أنها كانت تشعُر مع العمة كاسي بما يُشبه الأُلفة؛ أُلفة من قبيل ما يَشعر به المرء تجاه حيوان أو قطعة أثاث موجودة منذ وقتٍ طويل بقَدر ما يستطيع المرء أن يتذكر. وفي تلك اللحظة، بدا جسد العمة كاسي، ومشهد سابين من بعيد، والحديقة البراقة المليئة بالزهور … بدت لها كل هذه الأشياء غير حقيقية، وكأنها جزء من مشهد ميلودرامي؛ لأنها كانت لا تزال تعيش في أجواء منزل عائلة بينتلاند في زمن سافينا وتوبي كاين. كان من المُستحيل عليها أن تُركز انتباهها على العمة كاسي وتوتراتها.

كانت العجوز تقول: «يبدو أنكم جميعًا صرتم مُولَعين جدًّا بهذا الرجل المدعو أوهارا.»

(ما الذي كانت ترمي إليه الآن؟) ثم جهرًا قالت أوليفيا: «ولِمَ لا؟ فهو لطيف وذكي … بل ومتميز بطريقته الخاصة.»

أجابت العمة كاسي قائلة: «أجل. كنتُ أتناقش مع سابين بشأنه، ولقد توصَّلت إلى استنتاج مفاده أنني ربما كنتُ مخطئةً بشأنه. هي تراه رجلًا ذكيًّا ذا مُستقبَل عظيم.» ساد صمتٌ وجيز ثم أضافت بطريقة من يُدلي بمُلاحظة عابرة: «ولكن ماذا عن ماضيه؟ أقصد من أين أتى؟»

«أعرف كل شيء عنه. لقد أخبرني بنفسه. لهذا السبب تأخرتُ هذا الصباح.»

لبعض الوقت لاذت العمة كاسي بالصمت، كما لو أنها تُقدر في ذهنها حجم مشكلة كبيرة. وأخيرًا قالت: «كنتُ أتساءل عن مسألة الإفراط في مقابلته. لديه سُمعة سيئة مع النساء … على الأقل، هذا ما قيل لي.»

ضحكت أوليفيا. ثم أردفت قائلة: «على أيِّ حال، أنا امرأة ناضجة يا عمة كاسي. أستطيع أن أعتني بنفسي.»

«أجل … أعرف ذلك.» ثم استدارت إليها بابتسامةٍ ورعة مُلطِّفة للأجواء: «لا أُريدكِ أن تظنِّي أنني أتدخل في شئونكِ يا أوليفيا. هذا آخر شيء أُفكِّر في القيام به. ولكني أفكر في مصلحتكِ مليًّا. أنا واثقة من أنه لا ضرر كبيرًا في ذلك. لن يُفكِّر أحد خلاف ذلك، من منطلق معرفته بكِ يا عزيزتي. ولكن المشكلة فيما سيقوله الناس. حدثت فضيحة حسبما أعتقِد قبل ثماني سنوات مضت … فضيحة في حانة!» قالت كلماتها الأخيرة متظاهرة بمُعاناة شديدة، كما لو أن عبارة «فضيحة في حانة» قد ختمت على فَمِها.

«أظنُّ ذلك. فأغلب الرجال … أقصد رجال السياسة … لديهم فضائح ترتبط بأسمائهم. هذا جزء من العمل يا عمة كاسي.»

وظلَّت تُفكِّر بذهول في المشقة التي تكبَّدتها العجوز؛ فلا بدَّ أنها كانت قد بذلت جهدًا جاهدًا حتى تصِل إلى ماضي أوهارا وتجد مأخذًا عليه. لم تُساورها أي شكوك بخصوص الحقيقة المطلقة في تلميح العمة كاسي. فالعمَّة كاسي لم تكن تكذب عن عمد؛ إذ كانت تُوجَد دومًا ذرة حقيقة في تلميحاتها؛ رغم أنه أحيانًا كانت الذرة الضئيلة تكمن مدفونة على عمقٍ سحيق جدًّا تحت المبالغات لدرجة أنه يكاد يَستحيل اكتشافها. فشيء كهذا ربما كان من السهل أن يكون صحيحًا في حق أوهارا. ففي حالة رجل مثله، لا يُمكنك أن تتوقَّع من النساء أن يُؤدين الدور نفسه الذي يؤدِّينه مع رجل مثل آنسون.

كرَّرت العمة كاسي قولها: «هذا بسبب ما سيقولُه الناس فحسب.»

«لقد كدتُ أتوصَّل إلى نتيجة مفادها أن ما يقوله الناس لم يعُد مهمًّا حقًّا …»

فجأة بدأت العمة كاسي تَقطِف باقة من الزهور من رقعة الأرض الموجودة بجوارها. «أوه، لستُ قلقة بشأنكِ يا عزيزتي أوليفيا. ولكن يتعيَّن علينا أن نضع الآخرين في اعتبارنا أحيانًا … تيريز، وسيبيل، وآنسون، بل واسم عائلة بينتلاند نفسه. لم تَلتصِق بهذا الاسم شُكوك من هذا القبيل أبدًا … أبدًا.»

كان من المذهل (هكذا قالت أوليفيا في نفسها) أن يقول أي أحد شيئًا كهذا، مُذهل في أي مكانٍ آخر في العالَم غير هذا المكان. وأرادت أن تسألها: «ماذا عن أخيكِ والسيدة سومز العجوز؟» وفي ضوء تلك الخطابات التي وضعتها في دُرج منضدة زينتِها وأغلقته عليها. …

عند تلك اللحظة كان موعد الغداء قد حان بظهور بيترز عند مدخل الباب. التفتَت أوليفيا إلى العمة كاسي قائلةً: «ستبقين معنا، بالتأكيد.»

«كلَّا، يجب أن أذهب. لم تتوقَّعُوا مجيئي.»

هكذا، بدأت أوليفيا اللعبة القديمة، التي ظلُّوا يلعبونها طوال سنوات عديدة، المتمثلة في الضغط على العمة كاسي لتبقى حتى تتناول الغداء معهم.

قالت: «هذا لا يُشكِّل فارقًا. طبق إضافي وحسب.» وواصلت قائمة الحجج التي كانت قد حفظتها عن ظهر قلبٍ منذ زمن بعيد. وأخيرًا، أذعنت العمة كاسي، مُتظاهرةً بأن الضغط قد فاق قُدرتها على الاحتمال، وقالت أوليفيا لبيترز، الذي كان قد شارك هو الآخر في اللعبة لسنوات: «ضع طبقًا آخر للسيدة سترازرس.»

كانت تَنوي البقاء لوقتٍ أطول. فالغداء بالخارج كان يُوفِّر المال وكذلك المشاكل؛ لأنَّ الآنسة بيفي لم تكن تأكُل أكثر مما تأكُلُه عصفورة، على الأقل ليس علانيةً؛ وعلاوة إلى ذلك، كانت ثمة أمور يجب أن تَكتشِفها في منزل عائلة بينتلاند، وأمور أخرى يجب أن تُخطط لها. في الواقع، ما من قوة كان يُمكن أن تجعلها تبرح مكانها ولو جُرَّت جرًّا.

وأثناء دخولهما المنزل، قالت العمة كاسي في مَعْرِضِ حديثها، وهي تحمل باقة الزهور التي قطفتها: «التقيتُ بفتى عائلة مانرينج على الطريق هذا الصباح وطلبتُ منه أن يأتي الليلة. ظننتُ أنكِ لن تُمانعي. إنه مولَع جدًّا بسيبيل، كما تعرفين.»

ردَّت أوليفيا قائلة: «كلَّا، بالطبع لا. لا أُمانع. ولكن يؤسفني أن أقول إن سيبيل لا تهتمُّ به كثيرًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤