الفصل الثامن

١

لم تكن وفاة هوراس بينتلاند حدثًا يمكن أن يبقى طي الكتمان بإجراء بسيط كإقامة جنازة كانت شِبه سرية؛ إذ تسرَّبت أخبارها وتناثرت هنا وهناك على ألسنة السيدات المتلهِّفات لنبش فضيحة قديمة لعائلة بينتلاند انتقامًا من العمة كاسي، الناشر الرئيسي لأخبار المصائب في المجتمع المحلي. ونفذ الخبر أخيرًا إلى داخل مكتب صحيفة ترانسكربت، التي أرسلت طلبًا بنَشرِ نعيٍ للرجل المُتوفَّى؛ لأنه على أيِّ حال كان فردًا من أفراد أحد أكثر عائلات بوسطن مَدعاة للفخر. ثم، فجأةً وبدون سابق إنذار، ظهر شبح هوراس بينتلاند مرةً أخرى في أكثر البقاع قلقًا وارتباكًا؛ ألا وهو منزل «بروك كوتيدج».

رافق الشبح سابين في ممرِّ السيارات الطويل صباح أحد الأيام الحارة بينما كانت أوليفيا جالسة تستمع إلى العمة كاسي. لاحظت أوليفيا أنَّ سابين كانت تقترب منهما بسرعةٍ غير مُعتادة، وأن كل مظاهر الكسل المألوفة كانت قد اختفَت. وحين بلغت حافة الشُّرفة، صاحت وفي عينَيها نظرة إشراق: «لديَّ أخبار … عن ابن العم هوراس.»

كانت مُستمتعة جدًّا باللحظة الحاضرة، ولا بد أن رؤيتها في حالة استمتاع تسبَّبَت في اضطراب العمة كاسي، التي كانت تعرفها جيدًا. أخذت وقتَها قبل أن تُفصِح عن الخبر، فاستفسرت أولًا عن صحة العمة كاسي، واتَّخذت جلستها على أحد الكراسي الخيزران. كانت تَعرف كيف تتفنَّن في تعذيب السيدة العجوز لأقصى درجة، والآن تمهَّلت لتَستخلِص التأثير الذي أحدَثه إعلانها عن هذا الخبر حتى آخر قطرة. ولم يكن يُمكن لأي شيءٍ أن يَستعجلها حتى ولو كان هذا الشيء هو التعبير الذي كسا وجه العمة كاسي رغمًا عنها عندما ذُكِر اسم هوراس بينتلاند؛ كان أشبه بالتعبير الذي يعلو وجه مَن يجد نفسه مُحاصرًا برائحة نَتِنة ويعجز عن الفرار.

وأخيرًا، وبعد أن أشعلت سيجارة وحركت كرسيها بعيدًا عن أشعة الشمس، أعلنت سابين بنبرةٍ خالية من المشاعر: «لقد ترك ابن العم هوراس لي كلَّ ما يملك.»

علت وجه العمة كاسي نظرة ارتياح شديد، نظرة كانت تقول: «أفٍّ! أفٍّ! أهذا كل ما في الأمر؟» ضحكت — كانت ضحكتها أقرب إلى ضحكة مكبوتة، يَشوبها الاستهزاء — وقالت: «أهذا كل ما في الأمر؟ أظنُّ أن ما تركه لا يجعلك وريثةً عظيمة الثراء.»

(قالت أوليفيا في نفسها: «ما كان ينبغي للعمة كاسي أن تمنح سابين فرصه كهذه؛ فقد قالت لتوِّها ما أرادت سابين منها أن تقوله.»)

ردَّت سابين عليها قائلة: «ولكنكِ مخطئةٌ في هذا يا عمة كاسي. لم يترك لي مالًا؛ وإنما ترك أثاثًا … أثاثًا وتُحفًا فنية … وهي مجموعة رائعة. لقد رأيتها بِأُمِّ عَيْنَيَّ عندما زُرته في مدينة منتون الفرنسية.»

«ما كان ينبغي لكِ أن تذهبي … لقد فقدتِ قطعًا أي حسٍّ أخلاقي يا سابين. لقد نَسيتِ كل ما علمتكِ إيَّاه في صغركِ.»

تجاهلتها سابين. وأردفَت قائلة: «حسنًا، كان مُتيمًا بهذه الأشياء، وأمضى عشرين عامًا من حياته في جمعها.»

«على الأرجح لا تبدو ذات قيمة كبيرة … بالمال القليل الذي كان هوراس بينتلاند يَملكه … فلم يكن يملك إلا ما كنَّا نُعطيه له ليعيش به.»

ابتسمت سابين مرةً أخرى، مُستهزئة، ربما لأنَّ الخلاف مع العمة كاسي حقَّق نجاحًا باهرًا. إذ تابعت حديثها قائلة: «أنتِ مخطئة مرة أخرى يا عمة كاسي … إنها ذات قيمة كبيرة جدًّا … أكثر بكثير مما دفعه فيها؛ لأنها أشياء من مجموعته لا يُمكنكِ شراؤها من أي مكانٍ مقابل أي مبلغٍ من المال. فقد أخذ يُبادل القطع ويقايضها إلى أن صارت مجموعته أقرب إلى الكمال.» توقفت عن الحديث لدقيقة، لتَسمح للسكين أن يستقرَّ في الجرح. ثم أردفت قائلة: «إنها مجموعة ذات قيمة هائلة. أنا أعرفها لأنني اعتدتُ زيارة ابن العم هوراس كل شتاء عندما كنتُ أسافر إلى روما. أعرف عنه أكثر من أيٍّ منكم. كان رجلًا يتمتَّع بذوقٍ مثالي في تلك الأشياء. كان يعرف حقًّا.»

جلست أوليفيا تُراقب المشهد باستمتاعٍ صامت. كان من الواضح أن النصر في هذه المناسبة كان حليف سابين، وأدركت سابين هذا. إذ جلست تستمتع بكل لحظة منه، وهي تُراقب العمة كاسي تتلوى في جلستها من فكرة خروج ميراثٍ قَيِّم كهذا من أفراد العائلة المباشرة ليذهب إلى شخصٍ من درجة قرابة بعيدة ويكنُّ لهم عداوةً شديدة. كان من الواضح أنها كارثة تُضاهي في أهميتها كارثة ضياع طقم عقد اللؤلؤ والزمرد الخاص بسافينا بينتلاند في قاع المحيط الأطلنطي. كانت مُمتلكات ضاعت إلى الأبد وكان ينبغي أن تئول إلى العائلة وتُضاف إلى ثروتها.

أخذت سابين تفتح الخطاب ببطءٍ شديد، لتجعل الورق يُصدِر خشخشةً مُزعجةً، كما لو أنها كانت تعرف أن كل خشخشة صادرة عن الورق كانت تَسري في العمود الفقري للعجوز مُحدِثةً آلامًا مُبرحةً لها.

قالت، وهي ترفع على حِدَةٍ كلَّ ورقة من الخمس ورقات الطويلة: «هذه الفاتورة الصادرة من مصلحة الجمارك. خمس صفحات طويلة … ربما تصلُ القيمة الإجمالية إلى خمسة وسبعين ألف دولار … بالطبع، لا تُوجَد حتى أي رسوم يتعيَّن دفعها؛ لأنها كلها أشياء قديمة.»

أجفلت العمة كاسي، كما لو أن نوبةً مفاجئة من الألم قد سيطرت عليها، وتابعت سابين حديثها. قالت: «بل إنه ترك بندًا بخصوص شحنها … كلها باستثناء أربع أو خمس قطع كبيرة مُحتجَزة في مدينة منتون الفرنسية. الإجمالي ثمانية عشر صندوقًا.»

بدأت تقرأ الأصناف واحدًا تلو الآخر … الدواليب، والمَنَاضِد، والكراسي، والشمعدانات، والطاولات، والصور، وقطع من البرونز والكريستال وحجر اليشم … وكل القائمة الطويلة للأشياء التي جمعها هوراس بينتلاند بعناية خبيرٍ مُحبٍّ للتُّحَف أثناء سنوات نفيه الطويلة؛ وبينما كانت تقرأ، قاطعَتْها العمة كاسي، التي عجزت عن تمالك نفسها لوقتٍ أطول من ذلك، قائلةً: «يبدو لي أنه كان رجلًا ناكرًا للجميل ومُثيرًا للاشمئزاز. كان من المُفترَض أن يئول هذا إلى أخي العزيز، الذي سانَدَه كل هذه السنوات. لا أفهم السبب وراء تركه كل هذا لابنة عمٍّ بدرجة قرابة بعيدة مثلكِ.»

أمعنت سابين البحث مرةً أخرى داخل المظروف. ثم أردفت قائلة: «انْتَظري، لقد شرح تلك النقطة بنفسه … في وصيته الخاصة.» فتحت نسخة من هذه الوثيقة، وأخذت تبحث للحظة، ثم قرأت: «إلى ابنة عمي، سابين كاليندار (السيدة كاين كاليندار)، القاطنة في شارع دي تيلسيت، باريس، فرنسا، ومدينة نيوبورت، رود آيلاند، أترك كل مجموعاتي من الأثاث وأقمشة النجود والتحف الفنية وما إلى ذلك، عرفانًا مِنِّي بلُطِفها معي طوال مدةٍ امتدَّت لسنواتٍ طويلة نظير ثِقتها وتفهُّمها في وقتٍ كانت بقية العائلة تُعاملني فيه باعتباري شخصًا منبوذًا.»

استشاطت العمة كاسي غيظًا. وقالت: «وكيف كان ينبغي التعامُل معه لو لم يُعامَل باعتباره شخصًا منبوذًا؟ كان صعلوكًا بغيضًا ناكرًا للجميل! كانت أموال عائلة بينتلاند هي ما دعمه طوال حياته البائسة.» توقَّفَت للحظة لالتقاط أنفاسها. ثم أردفت: «كثيرًا ما كنتُ أقول لأخي العزيز إن مائتين وخمسين دولارًا سنويًّا هو مبلغ أكبر بكثيرٍ مما كان يحتاجه هوراس بينتلاند. وهكذا أنفق المال، ليُسيء إلى مَن أحسنوا إليه.»

أعادت سابين الأوراق إلى المظروف، ورفعت بصرها، وقالت بنبرتها الحادة الرنانة: «المال ليس كل شيء، كما أخبرتكِ من قبل يا عمة كاسي. أقول دومًا إنَّ مشكلة آل بينتلاند … أو أغلب أهل بوسطن، في هذه المسألة … تكمن في حقيقة أنهم كانوا في مُستهلِّ حياتهم أصحاب متاجر ينتمون إلى الطبقة الوسطى الدُّنيا ولم يفقدوا أبدًا أيًّا من خصال هذه الطبقة الوسطى الدنيا … لا سيما فيما يخصُّ المال. لقد كانوا يَفخرون بأنهم يعيشون على عائد دخولهم الخاصة … كلَّا، لم يكن المال هو ما أراده هوراس بينتلاند. وإنما القليل مِن الذوق واللطف والتعقل. أظن أنكم حصلتم على ما يعادل قيمة مبلغ المائتين والخمسين دولارًا الذي كنتم ترسلونه له كل عام. كان أمر إخفاء الحقيقة بعيدًا عن الأنظار يستحق أكثر من ذلك بكثير.»

تبع هذا الحديث فترة صمت طويلة ومؤلمة، وحاولت أوليفيا، ملتفتةً إلى سابين، أن تلومَها بنظرةٍ سريعة على التحدُّث بهذه الطريقة إلى السيدة المسنَّة. أخذت العمة كاسي تتجرع مرارة الهزيمة على نحو مُثير للشفقة جدًّا، ليس على يد سابين وحسب، وإنما على يد هوراس بينتلاند أيضًا، الذي ثأر لنفسه بدهاء، حتى بعد موتِه بفترة طويلة، وأصاب شغف عائلة بينتلاند بالمُمتلكات والملكية في مقتل.

لمع بريق الانتصار في عينَي سابين الخضراوين. كانت، شيئًا فشيئًا، تُسدِّد الحساب الطويل لطفولتها التعيسة؛ ولم تكن قد انتهت بعد.

فجأةً غمر أوليفيا، التي كانت تراقب الصراع في عدم اكتراث، شعور بالشفقة تجاه السيدة المسنَّة. وكسرت حاجز الصمت الأليم بدعوتهما للبقاء لتناول الغداء، ولكن هذه المرة رفضت العمة كاسي، بكل صدق، ولم تُلحَّ عليها أوليفيا؛ إذ أدركت أنها لن تحتمِل مواجَهة ابتسامة سابين الساخرة إلا بعد أن تكون قد هدأت واستعادت رباطة جأشها. بدت العمة كاسي فجأةً مُرهَقة وطاعنة في السن هذا الصباح. بدا أن الروح المتطفِّلة التي لا تكلُّ ولا تملُّ قد ذبلت، ولم يَعُد في مقدورها أن تُحلِّق في شموخ في عكس اتجاه الريح.

فجأةً ظهرت السيارة الغريبة المكدَّسة في ممر السيارات، واحتلت الآنسة بيفي المقعد الخلفي بجسمها المُمتلئ البدين وأحاطت بها أربعة كلاب بيكنواه تَنبح في صخب. وتطايرت خلفها الأوشحة المتشابكة التي كانت ترتديها عند ركوب سيارة. نهضت العمة كاسي، وقبَّلت أوليفيا بتفاخُر، ثم التفتت إلى سابين وعادت مرةً أخرى إلى صلب الموضوع. وكررت قولها: «كثيرًا ما كنتُ أقول لأخي العزيز إن مائتين وخمسين دولارًا سنويًّا هو مبلغ أكبر بكثير مما كان يحتاجه هوراس بينتلاند.»

ابتعدت السيارة وهي تُقعقع، وقالت سابين وهي تضع الخطاب على الطاولة بجوارها: «بالطبع، لا أريد كل هذه الأشياء الخاصة بابن العم هوراس، ولكني مُصمِّمة على ألا تئول إليها. فلو حصلت عليها، لن يرتاح المسنُّ المسكين في قبره. علاوة على أنها لن تعرف ماذا تفعل بها في منزل يزخر بالشراريب وأغطية الكراسي وتذكارات العم نيد. فلن تفعل بها شيئًا سوى بَيعها واستثمار المال في سندات مالية مضمونة.»

قالت أوليفيا: «هي ليست على ما يرام … تلك العجوز المسكينة. ما كانت ستَطلب أن تأتيَ السيارة لتُقِلَّها لو كانت على ما يرام. إنها تتظاهَر طوال حياتها، ولكنها الآن هي مريضة فعلًا، وتهاب فكرة الموت. لا تستطيع تحمُّلها.»

أضاءت الابتسامة القاسية والعنيدة المعهودة وجه سابين. وقالت: «أجل، بعدما حانَت ساعتها ليس لدَيها يقينٌ في ملكوت السماوات الذي ظلَّت تَعِظ به طوال حياتها.» ساد الصمت لبرهة قصيرة ثم أضافت سابين بتجهُّم: «قطعًا ستُثير ضيق القديس بطرس.»

لم يكن في عينَي أوليفيا الداكنتين سوى الحزن؛ لأنها ظلَّت تفكر في أن حياة العمة كاسي كانت سطحية وعبَثية للغاية. لقد أدارت ظهرها للحياة منذ البداية، حتى مع زوجها الذي تزوَّجته زواج مصلحة. وظلَّت تُفكِّر في تلك الحياة كانت بائسة ومُجدِبة جدًّا؛ وفي مدى قلَّة رغدها، والذكريات فيها، وهي تكاد تَصِل إلى نهايتها.

عادت سابين تتحدَّث مُجدَّدًا. فقالت: «أعرف أنكِ تظنِّين أنني عديمة الرحمة، ولكنكِ لا تعرفين إلى أيِّ مدًى كانت قاسية معي … وما فعلته معي في طفولتي.» رقَّ صوتها قليلًا، ولكن شفقةً على نفسها، لا على العمة كاسي. بدا كما لو أن شبح الفتاة الصغيرة الغريبة الأطوار التعيسة الصهباء التي كانت عليها في مرحلة طفولتها جاء فجأةً ليقف هناك إلى جوارهما حيثُ كان يقف شبح هوراس بينتلاند قبل قليل. كانت الأشباح القديمة تتجمَّع مرةً أخرى، حتى في الفناء الأمامي تحت أشعة شمس أغسطس الحامية في ظلِّ حديقة أوليفيا المزهرة الجميلة.

تابعت سابين حديثها بنبرة حادة قائلة: «أخرجتني إلى الدنيا لا أفقه شيئًا فيها سوى ما هو زائف، مؤمنةً — وكم كان قليلًا ما كنت أؤمن به — بآلهة باطلة، مُعتقِدةً أن الزواج ليس إلا عقدَ شراكة تجارية بين شابٍّ وفتاة يمتلكان ثروة. كانت تُسمي الجهالة براءة وتستشهد بالكتاب المقدس والفيلسوف إيمرسون السخيف … «السيد إيمرسون العزيز» … في كل مرة أسألها سؤالًا مباشرًا ومنطقيًّا … والإنجاز الوحيد الذي حَقَّقَته كان أنها جعلتني مُتعطِّشة للحقائق — الحقائق القاسية الصريحة — السائغة أو البغيضة.»

اختلطت عاطفة محمومة نوعًا ما بنبرة الصوت الرنانة، مما أكسبها حرارةً وجمالًا غير مألوف. وأردفت قائلةً: «أنتِ لا تعرفين قدْر المسئولية التي تتحملها تجاه ما حدث في حياتي. فهي … ومن على شاكلتها جميعًا … اغتالوا حظي في السعادة والشعور بالرضا. جعلتني أخسر زوجي … ما الفرصة التي كنتُ أملكها مع رجلٍ أتى من عالَم أقدَم وأحكم … عالم يُنظر فيه إلى الأمور بإنصافٍ وأمانة باعتبارها حقيقة … رجل كان يتوقع من النساء أن يَكنَّ نساءً لا ألواح ثلج خجولة؟ كلَّا، لا أظن أنني سأُسامحها يومًا ما.» توقَّفت عن الكلام للحظة، متأملة، ثم أضافت قائلة: «وأيًّا كان ما فَعَلَته، وأيًّا ما كانت الفظائع التي ارتكَبَتْها، وأيًّا ما كان الهراء الذي كانت تَعِظ به، دائمًا ما كان باسم الواجب ودائمًا ما كان «من أجل مصلحتكِ يا عزيزتي».»

ثم فجأة، بابتسامة مرارة، تبدَّل أسلوبها بالكامل واتخذ مرة أخرى مسحة معهودة من الضجر المشوب باليأس. وأردفت تقول: «لا يسعني أن أخبركِ بكل شيء يا عزيزتي … فللقصة جذور عميقة جدًّا. نحن جميعًا فاسدون هنا … ليس فسادًا بقدْر ما هو تيبُّس؛ لأنه لم يكن يُوجَد ما يكفي من الدماء بداخلنا لنفسد … الجذور مُتوغلة بعمق … ولكن لن أزعجكِ مرة أخرى بكل هذا، أعدكِ بذلك.»

بينما كانت أوليفيا تُصغي إليها، أرادت أن تقول لها: «أنتِ لا تعرفين قدر الدماء التي هنا داخل منزل عائلة بينتلاند … أنتِ لا تعرفين أنهم لا ينتمون إلى عائلة بينتلاند على الإطلاق، وإنما هم نسلُ سافينا دالجيدو وتوبي كاين … ولكن حتى ذلك لم يكن مهمًّا … فأجواء نيو إنجلاند ذاتها، وتُربتها ذاتها، قد تغيَّرت، وأصابتهم بالتيبس.»

ولكنها عجزت عن قول ذلك؛ لأنها أدركت أن قصة تلك الخطابات يجب ألا تُصبح بحوزة سابين المجرَّدة من المبادئ أبدًا.

قالت أوليفيا بهدوء: «هذا لا يُزعجني. هذا لا يزعجني. أتفهَّمُه جيدًا.»

أشعلت سابين سيجارةً أخرى، وقالت بنَبرة تغيَّرت فجأةً: «على أيِّ حال، لقد أفسدنا ما يكفي من يوم رائع بالحديث عن هذا الأمر. أما بخصوص هذا الأثاث، يا أوليفيا … فأنا لا أريده. لديَّ منزل في باريس مليء بأشياء كهذه. ولن أعرف ما يتعيَّن فعله به ولا أظن أن لديَّ الحق في تقسيمه وبيعه. أريدك أن تأخُذيه وتضعيه هنا في منزل عائلة بينتلاند … سيكون هوراس بينتلاند راضيًا لو آل إليكِ أنتِ وابن عمه جون. وستكون حُجة للتخلُّص من بعض الخردة الفيكتورية وبعض الأغراض الأمريكية البائدة البَشِعة. كثيرون سيشترون الأغراض الأمريكية البائدة. فأفضلها ليس إلا نسخًا مُقلَّدة رديئة من التحف الأصلية التي جمعها هوراس بينتلاند، وحري بكِ أن تقتني التحف الأصلية.»

أبدت أوليفيا اعتراضها، ولكن سابين استمرت في ضغطها، ولم تُتِح لها وقتًا لتتكلم. وتابعت حديثها قائلة: «أريدكِ أن تقبلي. سيكون كرمًا منكِ تجاهي … وفي نهاية المطاف، يجب أن يكون أثاث هوراس بينتلاند هنا … في منزل عائلة بينتلاند. سآخذ شيئًا أو شيئين من أجل تيريز، ويجب أن تحتفظي أنتِ بالباقي، وفقط لا يَنبغي أن يذهب أي شيء … ولا حتى ميدالية أو علبة نشوق … إلى العمة كاسي. كانت تكرهه وهو على قيد الحياة. وسيكون من الجور أن تحتفظ بأي شيء يخصه بعد وفاته. علاوة على ذلك، يمكن لقطعة أثاث جديدة أن تُسهِم أيَّما إسهام في جعل المنزل مُبهِجًا. كان هذا المنزل خاليًا وباردًا دائمًا. إنه بحاجة إلى القليل من الأناقة وقدْرٍ من الفخامة. فلم يكن هناك أيُّ مظهر من مظاهر الفخامة في عائلة بينتلاند؛ أو في نيو إنجلاند بأكملها، فيما يخصُّ تلك المسألة.»

٢

في نفس اللحظة تقريبًا التي دخلت فيها أوليفيا وسابين إلى المنزل العتيق لتناول الغداء، ظهر سيبيل وجان عند الأُفقِ على حافة التلِّ الأجرد المهيب الذي تُتَوِّجه مقابر البلدة. بعيدًا عن عيون تيريز الفضولية اللحوحة، كانا قد صعدا إلى التلِّ ليتناوَلا الغداء في الهواء الطلق. كان نهارًا صافيًا على نحوٍ رائع، وامتدَّ المشهد المألوف أسفل منهما مثل خريطةٍ مُترامية الأطراف تمتدُّ على مسافة تُضاهي ثلاثين ميلًا تقريبًا. بدت الأهوار خضراء وداكنة، يقطعها على نحوٍ مُتكرِّر تُشابك مداخل المد والجذر التي تردَّدت عليها في فترةٍ الغسق زوارق صغيرة مُحمَّلة بالويسكي وشراب الروم آتية من البحر المفتوح. ومن بعيد، كانت أكوام من الصخور الحمراء ترتفع من شريط الشاطئ الأبيض المُتصل بلا نهاية، وبعيدًا على البحر الأرجواني تحرَّك قاربان من قوارب الصيد ذات الأشرعة البيضاء مبتعدَين صوب جلوستر. حملت الأشرعة البيضاء، المُتقارِب بعضها من بعض، قدرًا من الودِّ الحميمي في عالَمٍ مَهيب ولكنه مُوحِش وقاحل قليلًا.

وما إن وصلا إلى حافة التل، حتى أوقفهما للحظةٍ التكشُّف المفاجئ للمشهد الطبيعي. كان اليوم حارًّا، ولكن على هذا التل المهيب، بعيدًا عن المروج الرطبة المنخفضة، كانت تهبُّ رياح باردة منعشة، أقرب إلى عاصفة، آتية من البحر المفتوح. خلعت سيبيل قبَّعتها وألقتها على الأرض وتركت النسيم يداعب خصلات شعرها المُتشابك في كتلة داكنة تُحيط بوجهها اليافع الجادِّ الملامح؛ وفي اللحظة نفسها أمسك جان، الذي تملَّكَتْه رغبة عارمة ومُفاجئة، بيدها في هدوء. لم تُحاول أن تسحبها؛ وإنما بكلِّ بساطة وقفت في هدوء، كما لو أنها لا تعي شيئًا سوى الجمال الجامح للمشهد الطبيعي المُمتد أسفل منهما وشعور بقُربِ الفتى منها. بدا أن الخوف القديم من الوحدة والاكتئاب قد تلاشى تدريجيًّا عنها؛ هنا على هذا التلِّ البُني السامق، والعالم كله ممتدٌّ تحتهما، بدا لها أنهما كانا وحدهما تمامًا … أول وآخر شخصَين في العالم كله. كانت تُدرك أن شيئًا مثاليًّا كان قد حدث لها، مثاليًّا للغاية ومتجاوزًا لعالَم تخيُّلاتها الشديد الرومانسية لدرجة أنه كاد يبدو غير حقيقي.

حلَّق نحوهما سرب من طيور النورس البيضاء اللامعة، المُندفعة من ناحية البحر، تنعق بجموح، فقالت سيبيل: «ينبغي أن نجد مكانًا لنتناول فيه الطعام.»

لقد تولَّت عن سابين مهمَّة اصطحاب جان لمُشاهدة هذا الركن الصغير من بلاده، واليوم كانا قد جاءا لرؤية المشهد من عند المقابر وقراءة النقوش الغريبة العتيقة الممسوحة على شواهد القبور. وما إن دخلا المقبرة، حتى أفضَيا على الفور تقريبًا إلى البقعة الصغيرة المُخصَّصة منذ زمنٍ بعيد للمُهاجرين الذين يحملون اسم عائلة بينتلاند؛ وهو ركن كان الآن يكاد يمتلئ بصفوف مرتَّبة من القبور. وقفا بجوار أحدث قبرَين، اللذَين كانا لا يزالان جديدَين ومُغطَّيَين بطبقة عُشبية حديثة العهد، وبدأت في صمتٍ تفصل الزهور التي كانت قد أتت بها من حديقة والدتها إلى باقتَين كبيرتَين.

قالت مشيرةً إلى القبر الذي عند قدمها: «هذا قبره. والقبر الآخر لابن العم هوراس بينتلاند، الذي لم أرَه مُطلقًا. تُوفي في مدينة منتون … هو ابن عمٍّ لجدِّي من الدرجة الأولى.»

ساعدها جان في ملء المِزهريتَين بالماء ووضع الزهور فيهما. وعندما انتهت من ذلك وقفت وهي تُطلِق تنهيدة، مُنتصبة القامة جدًّا ببنيتها الضئيلة، قائلةً: «تمنيتُ لو أنك تعرفتَ عليه، يا جان. كنتَ ستُحبه. كان يتمتَّع دومًا بروح الدعابة وأحبَّ كل شيءٍ في الدنيا … إلا أنه لم يكن يتمتَّع بالقوة الكافية لفعل أي شيءٍ سوى الاستلقاء في الفراش أو الجلوس في الشُّرفة الأمامية في أشعة الشمس.»

انهمرت الدموع من عينَيها بهدوء، ليس حزنًا على أخيها، وإنما إشفاقًا على حياته البائسة الواهِنة؛ وأمسك جان، متأثرًا بشعور فوري بالرثاء، بيدها مرة أخرى وهذه المرة قَبَّلَها، بتلك الطريقة الوقورة غير المألوفة التي كان يفعل بها مثل هذه الأمور.

كانا الآن قد عرف أحدهما الآخر على نحو أفضل، أفضل كثيرًا من صباح اليوم الساحر الذي أمضَياه عند حافة النهر؛ وفي أحيان، كهذه، كان مِن شأن الكلام أن يفكَّ التعويذة السحرية الثمينة بأكملها. تراجع الشعور بالخجل بينهما ليحلَّ محلَّه شعور بالرهبة تجاه ما كان قد حدث لهما. في تلك اللحظة، أراد أن يَحتفِظ بها إلى الأبد هكذا، معه بمُفردها، على هذا التل الأجرد المرتفع، ليحمِيَها ويشعر بوجودها إلى جواره دائمًا تلمس ذراعه برفق. هنا، في مثل هذا المكان، من شأنهما أن يكونا في مأمنٍ من كل التعاسة والعناء اللذَين عرف بطريقةٍ مُبهمة أنهما كانا لا محالة جزءًا من الحياة.

وبينما كانا يسيران في الدرب الضيق بين صفوف الحجارة العتيقة البالية المتكسِّرة، توقَّفا مِن آنٍ لآخر ليقرآ النقوش الباهتة المتآكلة المكتوبة على الأضرحة بلُغة الكتاب المقدس البليغة التي كان يَستخدمها المُستعمرون الأوائل الأشداء؛ وأحيانًا كان يُخالجهما شعور بالاستمتاع، وأحيانًا أخرى كانا يشعران بالحزن بسبب العبارات العاطفية غير المألوفة. مرَّا أمام صفوف قبور آل سترازرس وآل فيذرستون وآل كانز وآل مانرينج، الذين صاروا ترابًا منذ أمدٍ بعيد، الأسماء الشهيرة في نيو إنجلاند، ذلك الركن الصغير من العالم؛ وأخيرًا مرَّا على مجموعة صغيرة من القبور منقوشٍ على كل شاهدٍ منها اسم ميلفورد. هناك لم يكن يُوجَد أي نصب تذكاري جديد؛ نظرًا لأن العائلة كانت قد اختفت منذ زمنٍ طويل من عالَم دورهام.

ووسط هذه القبور وقف جان فجأة، وانحنى فوق شاهد أحد القبور وقال: «ميلفورد … ميلفورد … هذا غريب. كان لي جدٌّ أكبر يُدعى ميلفورد وكان ينحدِر من هذا الجزء من البلاد.»

«كان يُوجَد كثيرون يحملون اسم ميلفورد هنا؛ ولكن لم يَعُد يُوجد أحد منهم بقدْر ما تُسعفني الذاكرة.»

قال جان: «كان جدِّي الأكبر واعظًا. خادم أبرشية. وقاد أفراد أبرشيته جميعًا إلى الغرب الأوسط. وأسسوا البلدة التي تنتمي إليها والدتي.»

للحظةٍ لاذت سيبيل بالصمت. ثم سألته: «هل كان يُدعى جوشيا ميلفورد؟»

«أجل … كان هذا اسمه.»

«لقد انحدَر من دورهام. وبعد أن تركها، تداعَت الكنيسة شيئًا فشيئًا. لا تزال قائمة … الكنيسة البيضاء الكبيرة ذات البرج العالي، بشارع هاي ستريت. صارت الآن متحفًا فقط.»

ضحك جان. وأردف قائلًا: «إذن، نحن لسنا متباعِدَين جدًّا، في نهاية المطاف. يبدو كما لو أننا أقارب.»

«أجل؛ لأنَّ أحد أفراد عائلة بينتلاند تزوَّج بالفعل من عائلة ميلفورد، قبل فترة طويلة … أكثر من مائةٍ عامٍ على ما أظن.»

أسعدَها هذا الاكتشاف بطريقةٍ مُبهَمة، ربما لأنها أدركت أن هذا جعله يبدو أقلَّ شبهًا بما كانت عائلة بينتلاند تدعوه «دخيلًا». فلن يكون من الصعب أن تقول لوالدها: «أريد أن أتزوج جان دي سيون. تعلم أن أجداده انحدروا من دورهام.» كان من شأن اسم ميلفورد أن يترك انطباعًا لدى رجلٍ مثل والدها، الذي كان يهتمُّ بالأسماء اهتمامًا شديدًا؛ ولكن جان لم يكن قد طلب منها الزواج بعد. لسبب ما التزم الصمت، ولم يَنبِس ببنت شَفَةٍ بخصوص الزواج، وعكر الصمت صفو سعادتها بالقرب منه.

قال جان، وهو مُستغرق في التفكير فجأة، كحال الرجال دومًا، في هذه المسألة المُحددة الخاصة بالأسلاف: «هذا غريب. لا بد أن بعض أفراد عائلة ميلفورد هؤلاء أجداد مُباشرون لي، وليس لديَّ أدنى فكرة أيهم كذلك.»

قالت: «عندما نَنزل من التل، سأصطحبك إلى المصلَّى الكنسي وأريك اللوحة التذكارية التي تُسجِّل رحيل القسيس جوشيا ميلفورد المبجل وأبرشيته.»

أجابتْه دون حتى أن تُفكِّر فيما تقوله، وقد أصابتها خيبة الأمل فجأة من أن الاكتشاف قطع عليهما قطعًا حالة المثالية التي جمعتهما قبل قليل.

•••

وجدا بُقعة عشبية تحميها من شمس أغسطس أوراقُ شجرة كرز برية غير مُكتملة النمو، تشابكت جميع أوراقها بفعل نسائم البحر، وهناك جلست سيبيل لتفتح السلةَ وتخرج الغداء؛ الدجاج والشطائر المقرمشة والفاكهة. بدا الأمر كله مغامرة، كما لو أنهما كانا بمُفردهما على جزيرة صحراوية، وهذا التظاهر البسيط جعلها تشعر بنوعٍ جديد من المُتعة، مُتعة فِطرية وجدتْها في خدمته بينما وقف ينظر إليها بابتسامةِ إعجابٍ صريحة.

وعندما انتهت، استلقى بكامل جسده على العشب إلى جوارها، ليأكل بشهية رجلٍ قوي يتمتع بصحة جيدة ميَّال إلى ممارسة التمارين البدنية العنيفة. تناولا الطعام في صمتٍ تقريبًا، ولم يتبادلا سوى عبارات قليلة، وهما يتطلَّعان إلى الأهوار والبحر. ومن وقتٍ إلى آخر، كانت تدرك أنه يُراقبها ببريقٍ غريب في عينَيه الزرقاوين، وعندما انتهيا من تناول الطعام، جلس القرفصاء مثلما يجلس خياط، ليدخن؛ وبعد هنيهة، قال دون أن ينظر إليها: «منذ قليل، عندما صعدنا لأول مرة على التل، سمحتِ لي أن أمسك يدكِ، ولم تُمانعي.»

ردَّت سيبيل بسرعة: «أجل.» وبدأت ترتجف قليلًا، في خوف ولكن بسعادة جامحة.

«هل كان هذا لأن … لأن …» وتلعثم للحظة بحثًا عن الكلمات، وأخيرًا وجدها، فتابع حديثه سريعًا: «لأنك تشعرين بما أشعر به؟»

أجابته همسًا. وقالت: «لا أعرف»، وشعرت فجأة برغبة عارمة في البكاء.

قال بسرعة: «أقصد أنني أشعر بأن كلًّا منا خُلق من أجل الآخر … بشكلٍ مثالي.»

«أجل … يا جان.»

لم يُمهلها حتى تُنهي كلامها. واندفع، وقد سيطرت عليه موجة عاطفية صبيانية غامرة، قائلًا: «تمنَّيت لو لم يكن الحديث ضروريًّا. فالكلمات تُفسد كل شيء … إنها ليست جيدة بما يكفي … كلَّا، يجب أن تتقبليني، يا سيبيل. أحيانًا، أكون بغيضًا وضيق الصدر وأنانيًّا … ولكن يجب أن تتقبَّليني. سأبذل قصارى جهدي لإصلاح نفسي. سأَجعلُكِ سعيدة … سأفعل أي شيءٍ من أجلكِ. ويُمكننا أن نسافر إلى أي مكان في العالم … دومًا معًا، ولن نَفترِق أبدًا … كما نحن هنا الآن، على قمة هذا التل.»

ودون أن يَنتظِر منها إجابة، قبَّلَها بسرعة، برقَّة حانية جعلتها تبكي مرةً أخرى. وأخذت تقول مرارًا وتكرارًا: «أنا سعيدة جدًّا، يا جان … سعيدة جدًّا.» ثم قالت في خجل: «يجب أن أعترف لكَ بشيء … كنتُ أخشى ألا تعود أبدًا، ورغبتُ فيك دومًا … منذ اللحظة الأولى. أقصد أنني كنتُ أرغب في أن تكون لي من البداية … منذ ذلك اليوم الأول في باريس.»

وضع رأسه في حِجرها بينما أخذت تُمسِّد شعره الأصهب الكثيف، في صمت. وهناك عند المقابر، وعاليًا فوق مستوى البحر، نسيا نفسيهما في الوهم الذي يَستحوِذ على العُشاق الشباب من أمثالهما … بأنهما كانا بالفعل قد وصلا إلى حياة … بدلًا من أن تكون في مُستهلها، كانت بالفعل كاملةً ومثالية.

وتابعت: «عزمتُ دومًا على الارتباط بكَ … يا جان. وبعد أن جئتَ إلى هنا ولم تأتِ لمُقابلتي … قررتُ أن أسعى وراءك … خشية أن تهرب مرةً أخرى. كنتُ عديمة الحياء … وماكرة أيضًا … في صباح ذلك اليوم الذي لقيتُك فيه عند النهر … لم ألقَك صدفة. عرفتُ أنك كنتَ هناك طوال الوقت. اختَبأتُ في الأجمة وانتظرتك!»

«ما كان هذا ليُحدِثَ أدنى فارق. أنا أيضًا عزمتُ على الارتباط بكِ.» وارتسم على الوجه اليافع تعبير مُتجهِّم هَلِع مفاجئ. وأردف قائلًا: «لن تدعي شيئًا يُغيركِ، أليس كذلك؟ أي شيء ربما يقوله أي أحد … أي شيء قد يحدث … أي شيء؟»

ردَّدَت قائلة: «أي شيء. أي شيء في هذه الدنيا. لا شيء يمكن أن يُغيِّرني.»

«ولن تُمانعي الرحيل من هنا معي؟»

«بلى … أودُّ ذلك. هذا ما أردته دومًا. سيُسعدني أن أرحل من هنا.»

«حتى إلى الأرجنتين؟»

«إلى أيِّ مكان … إلى أي مكان على الإطلاق.»

«يُمكننا أن نتزوج قريبًا جدًّا … قبل أن أرحل … ثم يُمكننا السفر إلى باريس لزيارة أمي.» اعتدل في جلسته وعلتْ وجهه نظرة غريبة مضطربة. وأضاف قائلًا: «إنها امرأة رائعة يا عزيزتي … جميلة ولطيفة وجذابة.»

«ظننتُ أنها كانت جميلة … في ذلك اليوم بباريس … أروع امرأة رأيتها في حياتي يا عزيزي جان.»

بدا أنه لم يكن يُصغي إليها. بدأت الرياح تسكن مع ارتفاع حرارة الجو في فترة ما بعد الظهيرة، وبعيدًا وسط البحر الأرجواني استقرَّ القاربان الشراعيان بلا حراك. وحتى أوراق شجرة الكرز البري المتشابكة كانت تتدلى في تخاذُل وخمول في الجو الحار. صار العالم بأكمله من حولهما في حالةٍ من الهدوء والسكون.

التفتَ إليها، وأمسك يدَيها ونظر إليها. وقال: «ثمَّة شيء يجب أن أقوله لكِ … يا سيبيل … شيء ربما لن يُعجبكِ. ولكن يجب ألا تدعيه يُحدِث أيَّ فارق … في النهاية، أشياء كهذه لا تُهم.»

قاطعته قائلة: «إن كان الأمر مُتعلِّقًا بالنساء … فأنا لا أكترث بذلك. أعرف من أنتَ، يا جان … لن يُغيِّر أي شيءٍ آخر سأَعرفه من موقفي الذي أنا عليه الآن … أنا لا أكترث.»

«كلَّا … ما أريد أن أُخبركِ به لا يخصُّ النساء. وإنما يخص والدتي.» حدق بها مباشرةً، بنظرةٍ نافذة. ثم أردف قائلًا: «ما أريد أن أقوله لكِ … إن أمي وأبي لم يتزوَّجا مُطلقًا. وإنما تبناني السيد دي سيون المُسن الطيب … لا حقَّ لي في حمل الاسم … حقًّا. فاسمي الحقيقي هو جون شين … لم يتزوَّجا مطلقًا، لكن الأمر ليس كما يبدو. إنها سيدة عظيمة، أعني والدتي، ورفضت الزواج مِن أبي لأنها … تقول … تقول إنها اكتشفت أنه لم يكن كما كانت تَحسبه. توسَّل إليها. وقال إن الأمر دمَّر حياته بأكملها … ولكنها ما كانت لتتزوَّجه … ليس لأنها كانت ضعيفة، وإنما لأنها كانت قوية. ستَفهمين ذلك حين تعرفينها.»

ما قاله كان سيَصدمها على نحوٍ أعمقَ من ذلك لو لم تَستحوِذ عليها رغبة عارمة في التمرُّد على كل العالم الذي حولها، كل التحيُّزات وسوء الفهم الذي عرفت من مُنطلَق حكمتها الفتية أنه سيقف عائقًا أمامها هي وجان. وفي هذه الحالة المعنوية، صارت والدة جان في نظرها رمزًا للبطولة، امرأة جديرة بالإعجاب.

مالت نحوه. وقالت: «هذا لا يهم … على الإطلاق يا جان … فأشياء كهذه لا تهم في النهاية … كل ما يُهم هو المستقبل …» أشاحت بنظرها بعيدًا عنه وأضافت بصوت خفيض: «علاوة على أن ما أنا بصدد أن أقوله لكَ أسوأ بكثير من ذلك.» ضغطت على يدِه بشدَّة بالغة. وأردفت قائلة: «لن تدعَه يُغيرك؟ لن تتخلَّى عني؟ ربما تعرفه بالفعل … وهو أن لديَّ جدة مجنونة … لقد فقدت عقلها طيلة سنوات … طوال حياتها تقريبًا.»

أسرع بتقبيلها. وقال: «كلَّا، لا يهم … لا شيء يمكن أن يجعلني أفكر في التخلي عنكِ … لا شيء في العالم.»

«أنا سعيدة جدًّا، يا جان … أشعر بسكينة بالغة … كأنك أنقذتَني … كأنك غيَّرت حياتي بأكملها. لقد ساوَرَني الخوف أحيانًا …»

ولكن كدَّرت غمامة مفاجئة صفو سعادتهما … الغمامة التي لم تبرح أبدًا منزل عائلة بينتلاند.

إذ قال: «لن تدعي والدكِ يُفرِّق بيننا يا سيبيل … إنه لا يُحبني … من السهل ملاحظة ذلك.»

«كلَّا، لن أدعه يفعل.» توقَّفت فجأة عن الحديث. ثم تابعت قائلة: «ربما يبدو ما سأقوله مروعًا … لا ينبغي أن آخُذ ما يقولهُ والدي في أي شيء مُسَلَّمًا به. لن أدعه يؤثر عليَّ. لقد أفسد حياته وحياة أمي أيضًا … أشعُر بالأسى على والدي … إنه غافلٌ تمامًا … ويَقلق كثيرًا … دومًا على أشياء لا تُهم.»

جلسا في صمتٍ لفترة طويلة، وكانت سيبيل قد أغمضت عينَيها واستندت عليه، حين سمعتْه فجأة يقول هامسًا في غضب: «تيريز اللعينة تلك!» فرفعت بصرها ورأت على حافة التل فيما وراء شواهد القبور المتآكلة، تيريز بجسدها الممتلئ، متسلِّحة بشبكة صيد الحشرات وحقيبة ظهر تزخر بطعام الغداء. كانت واقفة وقد باعدت ساقَيها كثيرًا، تُحدِّق فيهما بعينَيها الرماديتَين الغريبتَين بتعبيرٍ خبيث هزلي. ومن ورائها في نصف دائرة وقف جيش صغير من أطفال بولنديين متَّسِخين كانت قد جنَّدتهم لمساعدتها في جمع الحشرات. عرفا أنها كانت قد تعقَّبتهما عن قصد للتجسُّس عليهما، وأنها ستَتظاهر بلُطفٍ بأنها عثرت عليهما بمحض الصدفة.

سألها جان هامسًا في غضب: «هل نُخبرها؟»

«كلَّا … لا تُخبر أحدًا بأي شيء في دورهام.»

انكسر السِّحر الآن وبدا الغضب على جان. هبَّ واقفًا وهو يَصيح في تيريز قائلًا: «اذهبي وطاردي حشراتكِ العتيقة ودعينا وشأننا!» أدرك أن تيريز كانت، مثل أُمِّها، تُراقبهما من ناحية علمية، كما لو أنهما زوج من الحشرات.

٣

لم يكن آنسون رجلًا خبيثًا بطبعه أو حتى مقيتًا بدرجةٍ كبيرة؛ فلم تكن أنشطته المضطربة باسم الأخلاق نابعة من رغبة مكبوتة ومنحرفة بداخله في الرزيلة. في الواقع، كان رجلًا ذا رغبات قليلة جدًّا؛ إذ كان إلى حدٍّ كبير رجلًا تافهًا وسطحيًّا، تبنَّى القضايا الأخلاقية لأنها كانت ذات صِلة بتقاليده ومن ثَم كان يَنبغي أن يشجعها. وفي نظر سابين، كان أسوأ حالًا من شخصٍ فاسقٍ مُتحرر من القيود؛ كان شخصًا أخرق، ولم يكن يتَّسِم بالذكاء الشديد، رجل لم يكن يرى بنظرته المحدودة المباشرة سوى الجزء الضئيل من العالم الذي كانت الظروف قد وضعته فيه. فبعد مرور تسعة وأربعين عامًا من تدقيق النظر، صار حسير النظر، وصارت الأشياء المادية التي تحيط به — منزله، ومكتبه، وطاولته، ومنضدته وقلمه — أشياء استثنائية ومبجلة بحكم وجودها باعتبارها أدوات نافعة في أكثر المجتمعات رفعة وكمالًا في الوجود. ومع أنه كان يَمتلك قدرًا كبيرًا من اللباقة الاجتماعية المعقَّدة، كان يفتقر حتى إلى مسحةٍ من الدراية بالحياة، وهكذا كانت العادات والتقاليد والأعراف قد حوَّلت حياته إلى حياةٍ باهتة وذابلة، تفتقر إلى سمة المبادرة أو الفردية، وتنزلق عبر أخدودٍ ضيق يتَّسم بالرتابة والملل. وربما كان هذا هو مبعث شعور سيبيل بالشفقة تجاهه.

ونظرًا لتقديسه الشديد لعادات عالَمه الرتيب المُمل، كان يظلُّ قانعًا بل ولطيفًا ما دامت كرامته لم تتعرَّض للاعتداء؛ وهي مسألة مُقدسة ومعقَّدة شملت بيتَه وأصدقاءه وأوساط معارفه وأسلافه، وحتى المُمتلكات الصغيرة التي سمح له والده بامتلاكها. غير أن هذه الكرامة كانت أيضًا في حدِّ ذاتها مسألة هشة، وعُرضة للانهيار بسهولة … وكأنها قوقعة رقيقة تُحيط به وتَحميه. وعكف هو على حمايتها بحماس صبياني مُستميت. وفي حين أنَّ كلَّ تهديدات العمة كاسي وتوسلاتها لم تكن تدفعه إلى الإقدام على أيِّ تصرُّف قاطع أكثر من اللجوء إلى المُراوَغة المُضطربة، فإن تهديد أي من الأشياء التي كانت تقع في حيز كرامته كان يطلق العنان لكراهية غير متوقعة وبغيضة.

كان يكره أوهارا ربما لأنه أدرك أن الأيرلندي كان يَنظُر إليه وإلى عالمه بسخرية واستهزاء؛ وكان أوهارا وأمثاله من الأيرلنديين — المنتمين إلى الحزب الديمقراطي (حسبما ظن آنسون) ولذلك كان يعتبرهم حثالة البشر — هم من أطاحوا بالنموذج المثالي الهادئ الراسخ للحياة في بوسطن. وكان يكره سابين للأسباب نفسها؛ ومنذ أول لحظة كان قد قرَّر أن يبغض «ذلك الشاب دي سيون» لأن الشاب بدا قائمًا بذاته تمامًا، مُستقلًّا عن تلك المقدسات، دون أي بادرة احترام تجاهها. كما أنه كان مُتحالفًا تحالفًا وثيقًا مع أوهارا وسابين و«تيريز الغريبة الأطوار».

ساورت أوليفيا الشكوك بأنَّهُ كان يزداد حدةً وهيستريةً فقط في الأوقات التي يَعصف به فيها الشك في أنهم يستهزئون به ويسخرون منه. وحينئذٍ كان يُصبح غير مسئول عما يقوله ويفعله … غير مسئول مثلَما كان في تلك الليلة بعد الحفل الراقص. وأدركت أنه يومًا بعد يوم تزداد شدة حساسيتِهِ بشأن كرامته، لأنه بدأ يفسر أصغر التلميحات باعتبارها هجومًا على كرامته.

وما إن أدركت هذه الأمور، حتى بدأت تعامُله دومًا معاملة الأطفال، فتُمازحه وتسايره حتى تُحقق مرادها في النهاية، بثباتٍ ويُسر. ولقد اتبعت معه هذه الطريقة في المعاملة في مسألة تغيير أثاث المنزل. فعلمًا منها بأنه كان مُنهمكًا في إنهاء الفصول الأخيرة من كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، اقترحت عليه أن ينقل منضدته إلى «غرفة الكتابة» النائية حيث ستقلُّ المقاطعات التي تُسبِّبها له أنشطة الأسرة؛ واعتبر آنسون ذلك اقتراحًا ممتازًا، اعتقادًا منه بأن زوجته تأثرت أخيرًا بأهميةِ عملِه وعظمته. حتى إنه ابتسم وشكرها.

ثم، بعد أن استشارت العجوز جون بينتلاند ووجدت أنه مُوافق على الخطة، بدأت تدريجيًّا في إدخال قطع أثاث هوراس بينتلاند إلى المنزل. تردَّدت سابين على المنزل يوميًّا لتُراقب التقدُّم المُحرَز نحو التغيير، ولتُبدي التعليقات والإعجاب وتَقترِح تغييرات. وساورهم شعور غريب بالحماس مع خروج القطع الفنية الجميلة واحدة تلو الأُخرى من صناديقها المُغلفة؛ فخرجت من وسط الأسمال البالية والنشارة الخشبية أروع الطاولات والخزائن، والتحف الصينية، والكتب القديمة والنقوش. وعلى التوالِي نُقِل المكتب القبيح الذي استخدَمَه السيد لويل، ثم المصباح البشِع الذي أهداه إليهم السيد لونجفيلو، ثم اللوحة المرسومة بألوان مائية باهتة للآنسة ماريا بينتلاند … حتى نُقلَت جميع قطع أثاث المتحف العائلي إلى العِلِّيَّةِ القديمة الشاسعة؛ إلى أن ظهرَت في النهاية غرفة استقبال جديدة، متألِّقة وجميلة، تتَّسم بالرُّقي والدفء بل وقدرٍ من الغرابة، مزدانة بجميع الكنوز التي أمضى هوراس بينتلاند حياته في جمعها بشغفٍ وحِرص بالغَين. وبهدوء ودون أن يلاحظ أحد شيئًا تقريبًا، استحوذ مصدر الإحراج والخزي للعائلة على المنزل، وغيَّرَ طابعه بالكامل.

أحدث التغيير لدى العمة كاسي مجموعةً متنوعةً من المشاعر المشوشة والمتضاربة. بدا لها تدنيسًا للمُقدَّسات أن تُقصى الهدايا التذكارية العائلية البالية المُعتادة المنزلية المُقدَّمة من «الأصدقاء الأعزاء» لوالدها إلى الخلفية، لا سيما على يد هوراس بينتلاند؛ ورغم ذلك كان من المُستحيل أن تغفل عن القيمة الفِعلية للمجموعة. لم ترَ القطع باعتبارها أغراضًا ذات قيمة جمالية نادِرة وإنما رأتها بصفتها أشياء ثمينة ذات قيمة مالية. وعلقت قائلة: «أغراض عائلة بينتلاند يجِب أن تُوضَع في منزل عائلة بينتلاند.» وتشكَّكت في أن سابين تتبع تكتيكات ميكافيللية وعجزت عن أن تَحسم أمرها بشأن ما إذا كانت سابين وهوراس بينتلاند قد انتصرا في النهاية عليها وعلى «السيد لويل العزيز» و«السيد لونجفيلو الطيب اللطيف».

والغريب في الأمر أن آنسون أعجب بالتغيير، مع بعض التحفُّظات. فمنذ فترةٍ طويلة، كان قد أدرك أن غرفة الاستقبال وأجزاءً كبيرة من بقية المنزل بدت في حالةٍ رثة ومُتهالكة؛ ومن ثمَّ لم تكن تستحقُّ شرف أن ترتبط باسم عائلة بينتلاند.

وقف آنسون عند مدخل غرفة الجلوس، متفحصًا التحول، وعلق قائلًا: «التأثير يبدو جيدًا … ربما قليل من بهرجة، لا تليق بوقار هذا المنزل، ولكن في المُجمَل … جيد جدًّا. أنا نفسي أُفضِّل كثيرًا الأثاث الأمريكي القديم البسيط …»

فقاطعته سابين فجأة قائلة: «لكنه يصعب الجلوس عليه.»

وحتى هذه اللحظة، لم يكن ثمَّة وجود للموسيقى مُطلقًا في منزل بينتلاند، وهذا لأنَّ العائلة كانت تَعتبر الموسيقى شيئًا يجب أن يسمعه المرء في قاعات الحفلات الموسيقية، ويجب أن يرتدي من أجلها أفضل الثياب. كانت العمة كاسي، وبرُفقتها الآنسة بيفي، قد اعتادت أن تتردَّد بانتظام على مدار سنواتٍ عصرَ كل يوم جمعة على قاعة سيمفوني هول لتجلس هناك وعلى رأسها وشاح لا قبعة تستمع إلى «أوركسترا الكولونيل هيجينسون العزيز» (التي كان مُستواها قد تراجع على نحو مؤسف منذ وفاته)، لكنها لم تتعلَّم مُطلقًا تمييز لحنٍ عن آخر … دائمًا ما كانت الموسيقى في منزل عائلة بينتلاند واجبًا ثقافيًّا، ممارسة تُشبه واجب الذهاب إلى الكنيسة. ولم تترك أي انطباعٍ لدى العمة كاسي أكثر من تلك الرحلات الدورية إلى أوروبا، حيث كانت تأخُذ عالَمها معها، وتُقيم دومًا في فنادق تلتقي فيها بأصدقاء من بوسطن ولا تتعرض مُطلقًا لضغوط التعامُل مع وجوه وحوارات همجية غير محبَّبة.

والآن، وعلى نحوٍ مفاجئ جدًّا، صارت الموسيقى في منزل عائلة بينتلاند شيئًا نابضًا بالحياة ومُبهجًا وإنسانيًّا. اختفى البيانو المربَّع القديم الصغير وحلَّ محله آخَرُ كبيرٌ وجديد اشترتْه أوليفيا من مالها الخاص. وفي الأمسيات، كان يتردَّد بين جنبات المنزل صوت أنغام مقطوعات شوبان وبرامز وبيتهوفن وباخ، بل والمؤلفين الموسيقيِّين المُبهرَجين الجُدد من أمثال سترافينسكي ورافيل. وكانت السيدة سومز العجوز تأتي، عندما تكون بصحة جيدة بما يَكفي لأن تجلس على أكثر الكراسي الكلاسيكية المريحة من طراز ريجنسي وإلى جوارها العجوز جون بينتلاند، تستمع إلى الموسيقى وقد عاد شبح الشباب البائد إلى عينَيها العجوزتَين الضريرتَين تقريبًا. كان صوت موسيقى جان يَخترق أحيانًا أبعدَ مكانٍ في البيت ليصِل إلى غرفة العجوز المجنونة في الجناح الشمالي وإلى غرفة الكتابة، حيث كانت تُزعج آنسون أثناء عمله في تأليف كتاب «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس».

ثم ذات ليلة، جاء أوهارا بعد العشاء، مُرتديًا ثيابًا من الواضح جدًّا أنها تساير أحدث صيحات الموضة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تَطأ فيها قدَماه أرض عائلة بينتلاند.

٤

في ذلك الحين، كانت تأتي على العمة كاسي أوقات تقول فيها لنفسها إنَّ الحالات المزاجية الغريبة التي كانت تُصيب أوليفيا كانت قد اختفَت أخيرًا، تاركةً مكانها أوليفيا المعهودة المُطيعة اللطيفة التي كانت لها دومًا طريقة خاصة في تهدئة الاضطرابات في منزل عائلة بينتلاند. لم يَعُد هناك الهدوء المُخيف المفاجئ يُخيِّم على حواراتهما؛ ولم تَعُد العمة كاسي تخشى من «التعبير عن رأيها، بصراحة، من أجل مصلحتهم جميعًا.» استمعت أوليفيا إليها بهدوء، وصحيح أنها كانت أكثرَ سعادةً من ناحية أنه بدا أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند كانت تتحسَّن من تلقاء نفسها؛ ولكن في قرارة نفسها، مضَت بطريقتها الصامتة، تتجرَّع مرارة الحزن في عزلةٍ عن الآخرين لأنها لم تكن تَجرُؤ على أن تُضيف عبء حُزنها إلى الأعباء المُلقاة على كاهل العجوز جون بينتلاند. حتى سابين، التي كانت أكثر فِطنة في تلك الأمور من العمة كاسي، صارت تشعُر بأنها نفسها لم تَعُد موضع ثقة أوليفيا.

ولم تَعُد سيبيل، التي انتقلت سريعًا من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الأنوثة، مُعتمِدة عليها؛ كما صارت مُنعزِلةً وكتومة بخصوص جان، وتتهرَّب من والدتها بعباراتٍ فارغة بعد أن كانت تأتمِنُها على كل الأسرار. ووراء المظهر الخارجي اللطيف والهادئ، كان يبدُو لأوليفيا أحيانًا أنه لم يَسبق لها من قبلُ مطلقًا أن كانت وحيدةً وحدةً هائلة وتامة بهذا القدر. وبدأت تُلاحظ أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند ترتَّبت من تلقاء نفسها إلى مجموعةٍ من حُجيرات معزولة، تشغل كل واحدة منها روحٌ انعزلت عن الآخرين. ولأول مرة في حياتها، يتسنى لها استغراق وقتٍ طويل في التفكير في نفسها.

مع بداية فصل الخريف، ستتمُّ عامَها الأربعين … إذا كانت امرأة تدنو من مُنتصَف العمر، ولها ابنة ربما تتزوَّج قريبًا. وفي الثانية والأربعين من عمرها ربما تُصبح جدة (بدا من المرجح حدوث هذا في حالة زوجَين مثل سيبيل ودي سيون) … جدة في الثانية والأربعين من عمرها ذات شعر أسود كثيف، وعينَين مُشرقتَين، ووجهٍ خالٍ من التجاعيد … امرأة في الثانية والأربعين وربما تبدو أصغر من سنِّها بعشر سنوات. لكن هذا لم يكن ليُغيِّرَ شيئًا من حقيقة كونها جدة، مهما بدت شابة. وباعتبارها جدة، لم يكن في مَقدورها تحمُّل أن تجعل نفسها مثارًا للسخرية.

لعلَّها تستطيع أن تقنع سيبيل بأن تنتظر عامًا أو عامين وبذلك تؤجل شرًّا لا بدَّ منه، رغم أن تلك الفكرة كانت في نظرها ممقوتة أكثر. إذ كان الخوف الشديد الذي كان أحيانًا يتملَّكها من فكرة تحولها تدريجيًّا إلى امرأة مسنَّة هو أيضًا مبعث رفضِها لتأجيل زواج سيبيل. فما كان يحدث لسيبيل لم يكن قد حدث لها مُطلقًا ولا يمكن أن يحدث لها الآن مطلقًا؛ إذ كانت أكبر سنًّا وأصلب، بل وأكثر تشاؤمًا، من أيٍّ مما يحدث لها ذلك. فحين كان المرء صغير السن مثل جان وسيبيل، كان لدَيه مخزون لا يَنضب من الإيمان والأمل. كان لا يزال يُوجَد بريق يُحيط بالحياة بأكملها، ويجدُر بالمرء أن يبدأ حياته هكذا. فتلك السنوات الأولى — بصرف النظر عما يأتي بعدها — ستكون الأغلى في حياتهما بأكملها؛ ومتأملةً حالها، قالت في نفسها: «تتاح تلك الفرصة لقلةٍ قليلة جدًّا من الناس، وقلَّة قليلة جدًّا منهم هي التي تستطيع أن تبني شيئًا على أساسٍ متين جدًّا هكذا.»

أحيانًا كان يُعاودها شعور مفاجئ بتأنيب الضمير من الإحساس القديم والمُخجل بالغيرة من شباب سيبيل في تلك الليلة الخانقة بالشرفة المطلة على البحر. (بطريقة غريبة، بدا أن كل ما تكشَّف تدريجيًّا طوال الصيف كان قد نَجَمَ عن تلك الليلة).

غير أنها في النهاية، كانت تعود دومًا إلى الفكرة نفسها … وهي أنها ستُضحِّي بكل شيء في سبيل اكتمال هذا الشيء الموجود بين سيبيل وذلك الشاب الأصهب المتلهِّف.

وعندما كانت تُصبح صادقة مع نفسها، كانت تُدرك أنها ما كان سيُصيبها ذُعر ولا خوف من أي شيء، باستثناء أُوهارا. فلولاه، ما كانت ستَخشى أبدًا من فكرة التقدُّم في العمر، ورؤية سيبيل تتزوَّج، وأن تجد نفسها صارت جدة. كانت قد تضرَّعت إلى الربِّ من أجل حدوث هذه الأشياء، حتى إنها كانت قد تضرَّعت بأن يُرسل القدَر إلى سيبيل عاشقًا كهذا تمامًا؛ والآن بعدما أُجيبت تضرُّعاتها كانت تمرُّ عليها أوقات تتمنى فيها بخُبث لو أنه لم يأت، أو على الأقل لم يأت بهذه السرعة. وعندما كانت تُصبح صادقةً مع نفسها، كانت تأتيها الإجابة نفسها دومًا … وهي أن أوهارا كان قد جاء ليحتلَّ أكبر جزءٍ من اهتماماتها في الحياة.

وفي أكثر ركنٍ خفي من جنبات روحها، لم تَعُد تتظاهر بأن مشاعرها تجاهه كانت مجرد صداقة. كانت مُغرمة به. كانت تستيقظ صباح كل يوم تملؤها البهجة لتركب معه الخيل عبر المروج، سعيدة بأنَّ مجيء سيبيل معهما صار شيئًا فشيئًا أقل تواترًا؛ وفي الأيام التي كان يَبقى فيها في بوسطن كان يبدو أن غمامةً تُعتِّم كل أفكارها وتصرفاتها. تحدثت معه عن مستقبله وخططه والتقدُّم الذي تُحرزه حملته، كما لو أنها زوجته أو عشيقته. لعبت دور الخائنة لعالَمها الذي اعتمَدَت حظوظه على نجاح أعدائه السياسيين ونفوذهم. وصارت تعتمد على تعاطفه السريع معها. كان لدَيه طريقة مميزة في استيعاب حالاتها المزاجية، وشعورها المفاجئ بالكآبة، طريقة لم يعرفها مطلقًا العالَم البارد والمتبلد الحسِّ في منزل عائلة بينتلاند.

كانت صادقة مع نفسها بعد صباح ذلك اليوم الذي بينما كانا يركبا فيه الخيل معًا عبر الدروب الرطبة الخفية بين أيكة أشجار البتولا، أوقف حصانه فجأةً وأخبرها بلوعة أنه لم يَعُد بوسعِه الاستمرار بالطريقة التي يَتبعانها.

قال لها: «ماذا تُريدين مني أن أفعل؟ لا يُرجى مني نفع. لا أستطيع أن أفكر في شيء سواكِ … طوال الليل والنهار. أذهب إلى بوسطن وأحاول العمل وأُفكِّر فيكِ طوال الوقت … أفكر فيما سنفعله. يجب أن تُدركي الجحيم الذي أعيش فيه … أن أكون بقُربكِ هكذا ومع ذلك تُعامِلينني كصديق فحسب.»

وفجأة، عندما التفتَت ورأت المعاناة في عينَيه، عرفت أنه لم يَعُد يُوجَد أي مجال للشك. سألته بنبرة حزينة: «ماذا تُريد مني أن أفعل؟ ماذا يُمكنني أن أفعل؟ أنتَ تُشعرني بأنني أرخص وأسخف امرأة على وجه الأرض.» وأضافت بصوت خفيض قائلة: «لا أقصد أن أكون هكذا يا مايكل … أنا أحبكَ يا مايكل … ها قد أخبرتك. أنت الرجل الوحيد الذي أحببتُه في حياتي … ولم أُكِنَّ أيَّ مشاعر لأيِّ أحد آخر.»

تملَّكه شعور غامر بالنشوة. مال عليها وقبَّلها، فتبلَّل وجهه المُسمَر بدموعها المنهمرة.

قالت: «أنا سعيدة جدًّا، ومع ذلك حزينة جدًّا …»

«إذا كنتِ تُحبِّينني … إذن يُمكننا أن نمضي قدمًا في طريقنا … لسنا بحاجة إلى التفكير في أيٍّ من الآخرين.»

«أوه، الأمر ليس بهذه السهولة يا عزيزي.» لم يكن قد سبَق لها أن كانت بهذا القدْر من الوعي لحضوره، ولذلك الإحساس الغريب بالدفء والروعة الذي بدا أنه كان يُضفيه على كل شيء يخصُّه.

قالت: «يجب أن أفكر في الآخرين. لا أقصد زوجي … فلا أظنُّه حتى يهتمُّ ما دام لا أحد يعرف شيئًا. ولكن أقصد سيبيل … لا أستطيع أن أجعل من نفسي أضحوكةً على حساب سيبيل.»

أدركت على الفور أنها استخدمت العبارة الخطأ، وأنها جرحته؛ إذ مسَّت دون قصد الهاجس الذي كان يتملَّكه أحيانًا بأنها تحسبُه سياسيًّا أيرلنديًّا مُبتذلًا وسوقيًّا.

سألها بنَبرة يشُوبها بعض المرارة: «أتظنِّين أن ما بيننا … يمكن أن يُطلَق عليه «أضحوكة»؟»

«كلَّا … أنت تَعرف أنني لا أقصد ذلك … تعرف أنني كنت أفكر في نفسي فحسب … كَوني امرأة في مُنتصَف العمر لدَيها ابنة في سن الزواج.»

«ولكنها ستتزوج … قريبًا … بالتأكيد. دي سيون الشاب ليس من النوعية التي تطيق الانتظار.»

«أجل … هذا صحيح … ولكن حتى ذلك الحين.» ثم التفتت إليه بسرعة قائلة: «ماذا تُريد منِّي أن أفعل؟ … أتُريدني أن أكون عشيقتك؟»

«أريدكِ لنفسي … أريدكِ أن تكوني زوجتي.»

«أتُريدني إلى هذا الحد؟»

«أريدكِ إلى هذا الحد … لا يُمكنني أن أحتمل فكرة مشاركتكِ … فكرة أنكِ تخصِّين شخصًا آخر.»

«أوه … لم أَعُد أخص أحدًا منذ سنوات طويلة … منذ ولادة جاك.»

واصل حديثه بسرعة وحماس قائلًا: «هذا من شأنه أن يُغيِّر حياتي كلها. من شأنه أن يُعطيَني سببًا للاستمرار … لولاكِ أنتِ ما عشتُ … لأهملتُ كل شيءٍ ورحلت … لقد سئمت الحياة.»

«وهل تُريدني لذاتي … أم فقط لأنني سأُساعدك في حياتك المهنية وأمنحك شغفًا بالحياة.»

«من أجلكِ أنتِ … ولا شيءَ آخر، يا أوليفيا.»

«حسنًا، أسألك لأنني فكَّرت كثيرًا بخصوص هذا الأمر. أنا أكبر منكَ سنًّا، يا مايكل. الآن، أبدو شابة. ولكن في سنِّ الأربعين سيتغيَّر ذلك … سأبلغ الأربعين في الخريف … في الأربعين كون المرء أكبر سنًّا يُشكِّل فارقًا. فالوقتُ المتبقِّي لنا قصير … لا يكون الأمر كما كنا في العشرينيات من عمرنا … أسألك أيضًا لأنك رجلٌ ذكي ولمَّاح ولا بد أنك أيضًا تُلاحظ هذه الأمور.»

«لا شيء من هذا يُشكِّل فارقًا.» بدا عليه الحماس الشديد، ووأد بريقٌ في عينَيه الزرقاوين شكوكَها. فصدَّقته.

وقالت: «ولكننا لا نستطيع أن نتزوَّج … مُطلقًا، ما دام زوجي على قيد الحياة. لن يُطلِّقَني أبدًا ولن يَدعني أتطلَّق منه. فأحد معتقداته الراسخة … أن الطلاق شيءٌ بغيض. بالإضافة إلى أنه لم يقع طلاق أبدًا في عائلة بينتلاند. وقعت أشياء أسوأ من ذلك.» ثم أضافت بمرارة: «ولكن لم يقع طلاق أبدًا، ولن يكون آنسون أول من يكسر العادات والتقاليد.»

«هل ستتحدَّثين إليه؟»

«في هذه اللحظة يا مايكل، أظن أنني يُمكن أن أفعل أي شيء … حتى هذا. ولكن هذا لن يُجدي نفعًا.» لاذا بالصمت لبعض الوقت، واستحوذ عليهما شعور عميق باليأس، وبعد قليلٍ قالت: «هل يُمكننا الاستمرار على هذا النحو لوقتٍ قصير … حتى ترحل سيبيل؟»

«لسنا في العشرينيات من العمر … لا أنا ولا أنتِ. لا يُمكننا الانتظار طويلًا جدًّا.»

«ولكن لا يُمكنني التخلِّي عنها. أنتَ لا تعرف كيف هي الأمور في منزل عائلة بينتلاند. يجِب أن أُنقذها، حتى لو خسرتُ نفسي. أظنُّ أنهما سيتزوجان قبل حلول فصل الشتاء … بل قبل الخريف … قبل أن يسافر. وحينئذٍ سأَصير حُرة. لا يُمكنني … لا يمكنني أن أكون عشيقتك الآن، يا مايكل … بينما لا تزال سيبيل معي في منزل عائلة بينتلاند. … ربما أكون مُراوِغة … ربما أبدو سخيفة، ولكن هذا يُحدِث فارقًا … ربما لأنني عشتُ بينهم لمدة طويلة جدًّا.»

«هل تَعدينني بأنكِ ستُصبحين حرة عندما ترحل؟»

«أعدكَ بذلك، يا مايكل … لقد أخبرتُكَ بأنني أحبكَ … وأنك الرجل الوحيد الذي أحببتُه في حياتي … ولم أُكنَّ أيَّ مشاعر، ولا حتى بأدنى قدر، لأيِّ شخص آخر.»

«ستساعدنا السيدة كاليندار … إنها تَرغب في ذلك.»

أجفلت وقالت: «أوه، سابين … هل تحدَّثت معها؟ هل أخبرتها بأي شيء؟»

«كلَّا … ولكنكِ لستِ بحاجة إلى إخبارها بأمور كتلك. فهي لديها طرُقٌ خاصة لتعرف.» ثم قال بعد لحظة: «يا إلهي، حتى هيجينز يريد ذلك. ظل يقول لي، بطريقةٍ غير مباشرة، كما لو أنه لا يقصد شيئًا مما يقوله: «السيدة بينتلاند امرأة رائعة يا سيدي. أنا أعرفها منذ سنوات. يا إلهي، لقد ساعدتني على الخروج من ورطات وقعت فيها. ولكن من المؤسف أنها محبوسة داخل تلك المقبرة مع كل أولئك الأموات. يجب أن يكون لديها زوج يكون رجلًا بمعنى الكلمة. إنها مُتزوجة من جثة حية.».»

تورَّدت أوليفيا خجلًا. ثم قالت: «لا يحق له التحدُّث بتلك الطريقة.»

«لو كان بإمكانكِ سماعه وهو يتحدَّث، لعرفتِ أن ما قاله ليس من مُنطلق عدم الاحترام؛ وإنما لأنه مُتيَّم بكِ. فمن شأنه أن يُقبِّل الأرض التي تمشين عليها.» وأضاف، وهو يُطأطئ رأسه: «يقول إنه من المُؤسِف أن تُحبَس فرس أصيلة مثلكِ في منزل عائلة بينتلاند. يجب ألا تَنزعجي من الطريقة التي قال بها ذلك. فهو مُربِّي خيول ولذلك يرى مثل هذه الأمور في ضوء الحقيقة.»

حينئذٍ أدركت ما كان أوهارا قد أخفقَ في فهمه —وهو أن هيجينز كان يتناول مأساةَ ابنها، ابن كان ينبغي أن يكون قويًّا ومفعمًا بالحيوية، مثل جان. وراودتها فكرة جامحة؛ هي أنها ربما لا يزال من الممكن أن تُرزق بابنٍ قوي، من أب كأوهارا، ابن من شأنه أن يكون وريثًا لعائلة بينتلاند ولكن دون أن يحمِل وصمة العائلة. ربما تقترف ما اقترفته سافينا بينتلاند من قبل. ولكنها رأت على الفور إلى أيِّ مدًى كانت هذه الفكرة سخيفة؛ لأنَّ آنسون سيعرف جيدًا أن الطفل ليس ابنه.

امتطيا حصانَيهما بتمهُّل وفي صمتٍ بينما ظلَّت أوليفيا تجُول وتجول بأفكارها بسأمٍ عبر المتاهة المُظلِمة والمُتشابكة التي وجدت نفسها فيها. بدا أنه لا سبيل للخروج منها. كانت مُحاصَرة وحبيسة سجن، في نفس اللحظة التي جاءتها فيها فرصة للسعادة.

وخرجا فجأةً من الأجَمة إلى الطريق المُؤدي إلى منزل عائلة بينتلاند والمار من أمام منزل العمَّة كاسي الذي كان أشبه بمقصورة مُراقبة، وبينما كانا يمرَّان من البوابة، رأيا سيارة العمة كاسي العتيقة تتوقَّف على جانب الطريق. ولكن السيدة المسنَّة لم يكن لها أثر، ولكن على وقع الحوافر خرجت الآنسة بيفي بجسدها البدين ووجهها السخيف من بين الشجيرات على جانب الطريق، وقد تأبطت تحت ذراعيها الممتلئتين حزمًا كبيرةً من عُشبٍ ما.

ألقت التحية على أوليفيا وأومأت برأسها لأوهارا. وصاحَت قائلة: «كنتُ أجمع النعناع البرِّي من أجل قططي. إنه ينمو جيدًا وبكثافة في الأرض الرطبة بالقُرب من الينبوع.»

ابتسمَت أوليفيا … ابتسامةً أوجعتها وجعًا محسوسًا … وواصَلا سَيرهما وقد أدركا أن عيني الآنسة بيفي الفيروزيتين تتبعانهما. كانت تعرف أن الآنسة بيفي حمقاء وبريئة للغاية لدرجة أنها لن تشكَّ في أي شيء، ولكنها، بلا أدنى شك، ستَذهب مباشرةً إلى العمة كاسي بوصف تفصيلي عن اللقاء. فحياة الآنسة بيفي كانت غير مليئة بالأحداث ولقاء كهذا كان يحتلُّ أهميةً كبرى. وستجمع منها العمَّة كاسي جميع التفاصيل الصغيرة والكبيرة، مثل حقيقة أن أوليفيا بدتْ وكأنها كانت تبكي.

التفتَت أوليفيا إلى أوهارا. وقالت: «الآنسة بيفي المسكينة ليست خبيثة؛ ولكنها حمقاء، وهذا أخطر بكثير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤