الفصل التاسع

١

مع اقتراب شهر أغسطس من نهايته، لم يَعُد هناك أدنى شك في «تدهور» حالة العمة كاسي؛ وهو ما أكَّده الصمت التام الذي أحاطت به حالتها الصحية. فعلى مدار أربعين عامًا، كان المرء يُناقش الحالة الصحية للعمَّة كاسي مثلما يُناقش حالة الطقس؛ باعتباره شيئًا له حضور دائم في وعي المرء ولا يُمكنه أن يفعل شيئًا بشأنه، أما الآن فقد توقفت العمة كاسي فجأة عن الحديث عن صحتها بأي شيء. بل وتخلَّت أيضًا عن عادتها المُتمثلة في التجول سيرًا على الأقدام وعمدت إلى إجراء جولات زياراتها بالسيارة الصاخبة التي كانت تُعارض ركوبها إلى حدِّ الخوف والكره؛ وصارت تعتمد أكثر فأكثر على صحبة ومعونة الآنسة بيفي النشيطة. وبزعم الخوف من اللصوص، كانت قد جعلت الآنسة بيفي تنقل الفراش إلى الغرفة المُجاورة لغُرفتها وتركت الباب بينهما مفتوحًا. اكتشفت أوليفيا أنها أُصيبت بخوفٍ شبه مَرضيٍّ من أن تُترك بمفردها.

وهكذا أُضيفَت وطأة إحباط إصابة فرد من العائلة بعلَّة أخرى إلى العبء الثقيل الذي خلَّفَتْه وفاة جاك وحزن جون بينتلاند. وزادت مُهمة تبديد سحابة الكآبة التي خيمت على المنزل العتيق أكثر وأكثر مِن ثِقَل العبء الملقى على عاتق أوليفيا. ظلَّ آنسون كالمُعتاد غير مبالٍ بأيِّ تغيُّرات في الحياة من حوله، يعيش حياته فعليًّا في الماضي بين أكوام الأوراق البالية، رجلًا كان حاله أقرب إلى انعدام العاطفة والحيوية من أن يكون قاسيًا؛ لأنَّ طبيعته لم تكن تتَّسم بالحيوية أو اليَقظة؛ وإنما بجمودٍ شديد فحسب، وتَفتقِر إلى أيِّ حماس. وكان من المُستحيل اللجوء إلى سابين، التي بدت على نحوٍ غريب باردة ومُنفصلة عن الواقع مثل آنسون؛ بدتْ وكأنها تَقِف على مسافةٍ بعيدًا عنهم، تنتظر، وتُراقبهم جميعًا، حتى أوليفيا نفسها. وبالطبع، كان من المُستبعَد تمامًا أن تُعكِّر صفو سعادة سيبيل باللجوء إليها طلبًا للدعم.

كان هناك على الأقل أوهارا، الذي زاد تردُّده على منزل عائلة بينتلاند، بعد أن تمَّت الزيارة الأولى وأُذيب الجليد. التقى به آنسون ذات مرة في الرواق، ببرود؛ ولكنه كان قد صار على علاقة ودية للغاية مع جون بينتلاند العجوز. كانا يتمتَّعان باهتمام مُشترك بالخيول والكلاب والماشية؛ وإذ كان أوهارا، الذي وُلِد في أحياء بوسطن الفقيرة، لا يَعرف سوى القليل جدًّا عن أيٍّ من هذه الموضوعات، فلعلَّه وجد النبيل العجوز مَصدرًا قيمًا للمعلومات. وقال لأوليفيا: «ما كنتُ لآتي إلى المنزل لولاكِ. لا أُطيق فكرة وجودكِ هنا … وحدكِ دائمًا … مهمومة دائمًا.»

وفي الأمسيات، بينما كانوا يَلعبون البريدج أو يستمعون إلى موسيقى جان، كانت أحيانًا تضبطه يُراقبها وفي عينيه نظرة الإعجاب المعهودة، وكأنه يقول لها إنه على استعداد ليدعمها مهما حدث.

وبعد أسبوع على اللقاء بالآنسة بيفي عند حوض النعناع البري، أتى بيترز إلى غرفة أوليفيا في وقتٍ مُتأخِّر من فترة ما بعد الظهيرة ليقول لها، بنَبرة هي مزيج غريب من الاحترام والائتمان على سر: «لقد مَرِضَ مرةً أخرى، يا سيدة بينتلاند.»

عرفت ما كان بيترز يَقصِده؛ إذ كانت هذه أشبه بشفرة بينهما … فقد استُخدمت العبارة نفسها مرات عديدة من قبل.

توجَّهَت بسرعة إلى غرفة المكتبة الضيقة الشاهقة التي فاحت منها رائحة الكلاب والتفاح ودخان الخشب، وهي تعلم جيدًا ما كانت بصدد أن تجده هناك؛ وما إن فتحت الباب حتى رأته، مُستلقيًا يغطُّ في النوم على الكرسي الجلد الضخم. كانت رائحة الويسكي الخفيفة — وهي رائحة صارت منذ وقت طويل تملؤها دومًا بالذعر — عالقة في الجو، وعلى المكتب الماهوجني وُضِعَت ثلاث زجاجات ويسكي، كل زجاجة منها شبه فارغة. نامَ نومًا هادئًا، بذراعٍ مُلقاة على صدره، والأخرى متدلية إلى الأرضية، حيث استقرَّت الأصابع النحيلة بإنهاك على السجادة التركية الحمراء. كان ثمة شيء طفولي في حالة السكينة التي كانت تحيط به. بدا لأوليفيا أنه كان الآن مُتحررًا من المتاعب التي كانت منذ زمنٍ بعيد قد تركت أثرها في الخطوط الجامدة والقاسية للوجه المُسن. كانت الخطوط قد زالت، تلاشت بطريقةٍ أو أخرى، غمرها الهدوء الشديد الذي اتَّسم به هذا الموت الظاهري. لعلَّه لم يكن يغطُّ في نومٍ هادئ، بلا أحلام مُزعجة، إلا هكذا. ولم يكن يهرب أبدًا إلا هكذا.

وقفت عند المدخل تُراقبه لبعض الوقت، في هدوء، ثم التَفتَتْ وقالت لبيترز: «هلا أخبرت هيجينز؟» وما إن مرَّت عبر الباب حتى أسدلت الستائر القطيفة الحمراء اللون، لتَحجب أشعة شمس الأصيل.

جاء هيجينز، كما فعل مِن قبل مرات كثيرة، ليُغلق الباب ويجلس في الغرفة، بل ولينام على الأريكة الجلدية البالية، إلى أن يستيقظ جون بينتلاند ببطءٍ وينظر حوله ذاهلًا، ليَكتشِف أن سائسه جالس في الغُرفة نفسها، يُلَمِّع لجامًا أو زوجًا من أحذية ركوب الخيل. لم يكن الرجل الضئيل البِنية يجلس بلا عمل أبدًا. ففي قرارة نفسه كان شيء ما يُطالبه بالعمل: يجب أن يفعل شيئًا دومًا. وهكذا، عقب هذه الأوقات الكئيبة، ظلَّت رائحة جديدة عالقة لأيام في أجواء المكتبة … الرائحة المنعشة والفوَّاحة والنضرة للجلد وصابون السرج.

•••

لمدة يومَين مكث هيجينز في المكتبة، لا يُغادرها أبدًا إلا لتناوُل الوجبات، ولمدة يومَين لم تتلقَّ السيدة العجوز بالجناح الشمالي أيَّ زيارات. وباستثناء هذه الغرفة الوحيدة، لم يكن ثمَّة أي دليل على أيِّ تغيير في نظام الحياة داخل منزل عائلة بينتلاند. ففي المساء، كان جان، جاهلًا لما كان قد حدث، يأتي إليهم للعب الورق. ولكن سابين عرفت؛ وكذلك، العمة كاسي، التي لم تطرح أسئلة مُطلقًا بخصوص الغياب الغامض لأخيها خشية أنْ تُقال لها الحقيقة. وكعادته، لم يلاحظ آنسون شيئًا. جاء التغيير الحقيقي الوحيد على هيئة ظهور مُفاجئ للعبوسِ وحدَّةِ الطبْع على الآنسة إيجان. إذ صارت المُمرضة التي لا غِنى عنها تتشاجَر حتى مع الطباخ، وتعاملت بفظاظة مع أوليفيا، التي قالت في نفسها: «ماذا سيحدث بعد ذلك؟ سأُضطرُّ إلى البحث عن مُمرضة جديدة.»

وفي مساء اليوم الثالث، بعد تناول العشاء مباشرةً، فتح هيجينز الباب ومضى يبحث عن أوليفيا.

قال: «عادت صحة السيد المسن على ما يرام. ذهب ليَغتسل ويودُّ أن يُقابلكِ في المكتبة بعد نصف ساعة.»

وجدَته هناك، جالسًا على المكتب الماهوجني الكبير، مُغتسلًا ومتأنقًا في ثياب كتانية نظيفة؛ ولكنه بدا هَرِمًا ومُجهَدًا جدًّا، وخلف سمرة الوجه الجامد، كان ثمة شحوب جعله يبدو مُمتقعًا. كان من عادته ألا يتحدَّث مطلقًا عن هذه الأوقات الحزينة، وأن يتصرَّف دومًا كما لو أنه كان مسافرًا ليوم أو يومَين ويرغب في سماع ما حدث أثناء فترة غيابه.

تطلَّع إليها وقال بجدية: «أردتُ أن أتحدث إليكِ يا أوليفيا. لم تكوني مُنشغِلة، أليس كذلك؟ لم أزعجكِ، أليس كذلك؟»

أجابت: «بلى. لستُ منشغلة بشيءٍ مُهم … جان وتيريز هنا مع سيبيل. … هذا كل ما في الأمر.»

كرَّر قائلًا: «سيبيل. سيبيل … إنها في غاية السعادة هذه الأيام، أليس كذلك؟» أومأت أوليفيا برأسها بل وابتسمت قليلًا بطريقة ودودة ومُتفهِّمة، فأضاف قائلًا: «حسنًا، يجب ألا نفسد عليها سعادتها. يجب ألا نَسمح لأيِّ شيءٍ بأن يَنال منها.»

لمعت عينا أوليفيا. وكرَّرت قوله: «أجل؛ يجب ألا نفعل.» ثم أردفت قائلة: «إنها فتاة ذكية … وهي تعرف ما الذي تُريده من الحياة، وهنا يكمن السر كله. فمعظم الناس لا يعرفون أبدًا حتى فوات الأوان.»

أعقب هذا الحديث صمت، بليغ للغاية، زاخر بالكثير من الأشياء غير المُعلنة، وجعل أوليفيا تشعر بعدم الارتياح.

«أردتُ أن أتحدث معكِ بخصوص …» تردَّد للحظة، ولاحظت أنه أسفل حافة المكتب كانت يداه مقبوضَتَين بشدة بالغة لدرجة أنَّ البراجم النحيلة برزت من تحت الجلد الأسمر. تشجع وواصل حديثه قائلًا: «أريد أن أتحدَّث معكِ عن أشياء كثيرة جدًّا.» ثم أضاف فجأة: «أولًا وقبل كل شيء، ها هي وصيتي.»

فتح درج المكتب وأخرج حزمة أوراق، وفصلها بحرص إلى رزم صغيرة قبل أن يتحدَّث مُجددًا. بدا الإنهاك في كل حركاته. ثم قال: «لقد أجريت بعض التعديلات. تعديلات يجب أن تَعرفي بشأنها … وثمَّة أمر أو أمران آخران.» نظر إليها بعينَين قابعتَين أسفل حاجبَين أشعثَين مُحتدَّين قائلًا: «كما تلاحظين، ليس أمامي وقت طويل لأعيشه. وليس لديَّ سبب يجعلني أتوقَّع أنني سأعيش إلى الأبد وأريد أن أترك الأمور مُرتَّبة ترتيبًا مثاليًّا، كما كانت دومًا.»

رأت أوليفيا، التي جلست مُلتزمة الصمت، أن الحوار صار فجأةً مُوجِعًا. مع كل كلمة شعرت بأن سورًا يَرتفع حولها، ويعزلها، بينما واصل الرجل المسنُّ حديثه بهدوء مُوجِع، وبطريقة متَّسمة باليقين بأن مشيئته ستُطاع في موتِهِ كما كانت دومًا في حياته.

«بدايةً، ستكونون جميعًا أثرياء جدًّا … أثرياء جدًّا … بثروة تتعدَّى ستة ملايين دولار. وهي أموال خالصة، يا أوليفيا … أموال لم تُجنَ بالمقامرة، وإنما وُفِّرَت وضوعِفَت بالعيش بحرص. فعلى مدار خمسة وسبعين عامًا، صار تقليدًا في العائلة أن تعيش على عائد دخلها. استطعنا أن نفعل ذلك بشكلٍ أو آخر، وفي النهاية صِرنا أثرياء … أثرياء جدًّا.»

أثناء حديثه، ظلَّ يَلمس الأوراق بأصابعه في عصبية موزعًا إيَّاها في رزم صغيرة منظمة، ثم مرتبًا إياها ومُعيدًا ترتيبها.

«وكما تَعرفين، يا أوليفيا، سيظلُّ المال محفوظًا بطريقةٍ تمنع إنفاق رأس المال الأساسي مُطلقًا. وسيستطيع أحفاد سيبيل أن يَنعموا بجزءٍ منه … هذا إن بلغت بكم الحماقة أن تَتركوه لهم على تلك الحال.»

تطلعت إليه أوليفيا فجأة. وأردفت قائلة: «ولكن لماذا أنا؟ ما علاقتي أنا بهذا؟»

«هذا ما أنا بصدد توضيحه يا عزيزتي أوليفيا … هذا لأنَّني سأترك الثروة بأكملها لكِ.»

وفجأة شعرت بشدة بأنها لا ترغب في أيٍّ من هذا. تملَّكتها رغبة سريعة وحماسية بالإمساك بجميع الرزم الورقية المُرتبة وإحراقها كلها وتقطيعها إلى قصاصاتٍ صغيرة وإلقائها من النافذة.

ردَّت قائلة: «لا أريدها! لماذا تتركها لي؟ أنا نفسي ثرية. أنا لا أريدها! أنا لا أنتمي إلى عائلة بينتلاند … هذه ليست أموالي. لا علاقة لي بها.» رغمًا عنها، ظهرت نبرة استياءٍ مُنفعل في صوتها.

رفع حاجبَيه الأشعثَين قليلًا في نظرة دهشة.

وسألها: «لمَن أتركها إذن، إن لم يكن لكِ؟»

بعد لحظة، قالت: «عجبًا، آنسون … لآنسون، على ما أظن.»

«أحقًّا تَظنِّين هذا؟»

«هذه أمواله هو … أموال عائلة بينتلاند … وليست أموالي. لديَّ كل ما أحتاجُه من المال بل وأكثر من حاجتي.»

نظر إليها بحدَّة قائلًا: «إنها لكِ يا أوليفيا … أنتِ تَنتمِين إلى عائلة بينتلاند أكثر من آنسون نفسه، بصرف النظر عن الدم … بصرف النظر عن الاسم. أنت تَنتمين إلى عائلة بينتلاند أكثر من أيٍّ منهم. إنها أموالكِ بمُوجب كل حقٍّ وبصرف النظر عما يُمكنكِ فعله.»

(قالت أوليفيا في نفسها: «ولكن آنسون لا يَنتمي إلى عائلة بينتلاند، ولا أنتَ أيضًا.»)

«إنك أنتِ الجديرة بالثِّقة، والتي تتَّسمين بالحرص، والجديرة بالاحترام، يا أوليفيا. إنكِ أنتِ من تتحلَّيْن بالقوة. عندما أموت، ستكونين أنتِ كبيرة العائلة … بالتأكيد، تعرفين ذلك … بالفعل.»

(قالت أوليفيا في سريرتها: «أنا. أنا الطائشة، التي تُخطط لخيانتكم جميعًا … أنا كل هذا!»)

«إذا تركتها لآنسون، ستُهدَر، ستُبدد على أفكار حمقاء. فليس لدَيه أدنى فكرة عن العمل التجاري … بعقل آنسون بعض العَتَه … إنه غريب الأطوار. من شأنه أن يهبَ هذه الأموال إلى البعثات التبشيرية واللجان الغريبة … والجَمعيات التي تتدخَّل في شئون الناس. وليس لهذا جُمِعَت هذه الثروة. كلا، لن أسمح بتبديد أموال عائلة بينتلاند على هذا النحو …»

سألته أوليفيا: «وأنا، كيف لك أن تَعلم ما سأفعله بها؟»

ابتسم برفقٍ ومودَّة. وأردفَ قائلًا: «أعلم ما ستفعلينه بها؛ لأنَّني أعرفكِ يا عزيزتي، أوليفيا … ستُبقينها في الحفظ والصون. … أنتِ الأكثر انتماءً إلى عائلة بينتلاند. لم تكوني كذلك حين جئتِ هنا، لكنَّك كذلك الآن. أقصد أنك تَتبعين التقليد الأعظم لآل بينتلاند … الأجداد المُعلَّقة صورهم في الردهة. أنت الوحيدة المُتبقية … فسيبيل صغيرة جدًّا في السن. هي لا تزال مجرد طفلة … حتى الآن.»

لاذت أوليفيا بالصمت، ولكن وراء هذا الصمت كان يَنهمِر سيل جارف من الأفكار المُتمردة المُبَيَّتة. إذن الانتماء إلى عائلة بينتلاند لم يكن مسألة صِلَة دم؛ وإنما فكرة، بل ونموذج يُحتذى به. قالت في سرِّها بمرارة: «أنا لستُ من آل بينتلاند. لا أزال مُفعمة بالحياة. ولي كياني الخاص. ولم يستحوذ عليَّ العدم. لم تُغيِّرني كثيرًا كل هذه السنوات. لم يجعلوني من آل بينتلاند.» ولكن جرَّاء شعورها بالإشفاق، لم تستطع أن تتفوَّه بأيٍّ مما دار في خلدها. وإنما قالت: «كيف لك أن تعلم ما سأفعله بها؟ كيف لك أن تَعرف أنني لن أُبذرها في إسراف — أو — أو حتى ألوذ بالفرار، وآخُذ معي كل ما هو مُتاح. لا أحد يستطيع أن يَمنعني — لا أحد.»

لم يفعل شيئًا سوى أنه كرَّر ما قاله من قبل، ولكن قالها ببطء أكبر هذه المرة، كما لو أنه أراد أن يؤثر فيها. ردَّد قائلًا: «أعلم ماذا ستفعلين بها يا أوليفيا، لأنني أعرفكِ يا عزيزتي، أوليفيا؛ لن تَقْتَرِفِي أبدًا حماقة أو شيئًا معيبًا — أعرف ذلك — ولهذا السبب أثق بكِ.»

وعندما لم تُجِبه، سألها: «ستَقبلين تنفيذ الوصية، أليس كذلك، يا أوليفيا؟ سيُعينك فيها محامٍ كفء … واحد من أكفأ المحامِين … جون مانرينج. سيُسعدني هذا يا أوليفيا، وسيجعل العالم يعرف رأيي فيكِ، وما كنتِ تُمثِّلينه لي طوال كل هذه السنوات … كل ما عجز آنسون عن أن يكونه … وما عجزَتْ عنه أيضًا أختي، كاسي.» وانحنى إلى الأمام على المكتب، ولمس يدَها البيضاء برفق. وقال: «ستَقبلين يا أوليفيا؟»

كان من المُستحيل أن ترفض، من المُستحيل حتى أن تُواصل الاعتراض أكثر من ذلك، من المُستحيل أن تقول إنه في تلك اللحظة بالذات كانت تريد أن تهرب، أن تلوذ بالفرار فحسب، أن تَتركهم إلى الأبد، بعد أن صارت سيبيل في أمان. أشاحت بناظِرَيها بعيدًا وقالت بصوت خفيض: «أجل.»

كان من المُستحيل أن تتخلَّى عنه الآن … بعد أن صار عجوزًا منهكًا. كانت الرابطة التي تجمعهما قوية للغاية؛ وقد كانت موجودة منذ وقتٍ طويل جدًّا، منذ أول يوم دخلت فيه بيت عائلة بينتلاند بصفتها عروس آنسون وأدركت أنها تُكِنُّ الاحترام للأب، وليس للابن. نوعًا ما، كان قد فرض هو عليها قدرًا من سلطته الأبوية القاسية. بدا لها أنها محاصَرة في حين كانت في قرارة نفسها تنوي الفرار؛ كما كانت خائفة من الفكرة التي كانت لا تنفكُّ تراوِدُها بأنها ربما صارت، في نهاية المطاف، واحدة من آل بينتلاند … قاسية، حريصة، مُتحفِّظة، تتجرَّع قدرًا من المرارة، وتفتقر حياتها إلى الحماس والبهجة، ومُولعة بتقديس إله فظ، مُتلوِّن، خفي، يُطلق عليه الواجب. ظلَّت تُفكر في تعليق سابين الساخر عن «خصال الطبقة الوسطى الدُّنيا التي تتَّسم بها عائلة بينتلاند» … الافتقار إلى الحماس، الافتقار إلى الفخامة، وإلى النُّبل. ورغم ذلك، كان هذا العجوز الشرس نبيلًا، بطريقةٍ غريبة … حتى سابين أدركت ذلك.

عاد يتحدَّث مجددًا. قال: «لم يُترَك لكِ أمر المال فحسب … فلديكِ أيضًا سيبيل التي لا تزال أصغر سنًّا من أن يُطلَق لها العنان …»

قالت أوليفيا بعناد رزين: «كلَّا، ليسَت صغيرة جدًّا. لها مُطلَق الحرية في أن تفعل ما تشاء. حاولتُ أن أجعلها أكثر حكمةً منِّي حين كنتُ في نفس عمرها … ربما أكثر حكمةً مما كنتُ في أيِّ يوم من الأيام … حتى في الوقت الحاضر.»

«لعلكِ مُحقَّة، يا عزيزتي. لقد كنتِ كذلك مرات كثيرة جدًّا … والأمور ليست كما كانت على أيامي … بالتأكيد ليست كما كانت فيما يخصُّ الفتيات الصغيرات.»

أمسكَ الأوراق مرةً أخرى، وأخذ يُقلِّب فيها بطريقةٍ غريبة ومُتوتِّرة، تتعارَض جدًّا مع أسلوبِه الصارم والحازم المُعتاد. وخطرت لها لمحة تبصُّر أوحت لها بأنه كان يتصرَّف على هذا النحو؛ لأنه أراد أن يتحاشى النظر إليها. كانت تَكره الأسرار وفي تلك اللحظة كانت خائفة مِن أن يكون على وشك أن يُخبرها بأشياء كانت تُفضِّل ألا تَسمعها أبدًا. كانت تكره الأسرار ومع ذلك بدت من الأشخاص الذين يَجذبُون الأسرار إليهم دومًا.

واصل حديثه قائلًا: «لنَستبعِد سيبيل من هذا، فلدَينا الآنسة هادون العجوز الغريبة الأطوار التي تعيش في دورهام، التي، كما تَعلمين، كنَّا نعتني بها لسنوات؛ ولدَينا كاسي، التي تشيخ وتزداد اعتلالًا، على ما أظن. لا يُمكننا أن نتركها للآنسة بيفي المحدودة الذكاء. أعرف أن أختي كاسي كانت عبئًا عليكِ … ما برحت أن كانت عبئًا عليَّ، طيلة حياتي.» ابتسم ابتسامة مُتجهِّمة. قائلًا: «أظنُّ أنكِ تَعرفين ذلك …» ثم قال بعد أن سكت لبُرهة: «ولكن الأهم مِن ذلك كله، لدَينا زوجتي.»

اتخذ صوتُه نبرةً غريبةً وغير طبيعية، كانت خالية تمامًا من المشاعر. صار أشبهَ بصوتٍ صادر عن شخص أصمَّ لم يَسمع مُطلقًا الأصوات الصادرة عنه.

أردف قائلًا: «لا أستطيع أن أتركها بمُفردها. بمُفردها … دون أحد يَعتني بها عدا مُمرضة مَدفوعة الأجر. لا يَسعني أن أموت وأنا أعرف أنه لا أحد يُفكِّر فيها … باستثناء الآنسة إيجان الكفء التعسة … الغريبة عنها. كلَّا يا أوليفيا … لا يُوجَد أحد سواكِ … لا يُوجَد أحد يُمكنني أن أثق به.» نظر إليها بحدَّة. وأردف قائلًا: «هل ستَعدينني بأن تَعتني بها دومًا … ولن تَسمحي لهم بأن يتخلَّصوا منها؟ هل ستَعدينني بذلك؟»

شعرت مرةً أخرى بأنها مُحاصَرة. قالت: «بالطبع. بالطبع، سأَعدُك بذلك.» وماذا كان عساها أن تقول غير ذلك؟

أضاف، وهو يُشيح بنظره بعيدًا عنها مرةً أخرى، قائلًا: «لأنني … لأنني مَدين لها بذلك … حتى بعد موتي. لن أرتاح لو حُبستُ في مكانٍ ما … وسط غرباء. ما أريد أن أقوله إنه … ذات مرة … ذات مرة …» ثم توقَّف فجأةً عن الحديث، كما لو أن ما كان على وشك أن يقوله لا يُحتمَل.

تغيَّر الشعور بالارتباك لدى أوليفيا إلى شعور حقيقي بالرعب. أرادت أن تَصرُخ قائلةً: «توقَّف! لا تُواصِل الحديث!» ولكن حدسًا ما أنبأها بأنه يَنوي الاستمرار في الحديث حتى النهاية، حديثًا مُؤلمًا، بصرف النظر عن أي شيءٍ يُمكنها فعله.

قال بنبرة هادئة تمامًا: «إنه أمر غريب، لكن يبدو أنه لم يبقَ سوى النساء … لا رجال … لأن آنسون في الواقع امرأة عَجوز.»

وبنَبرة هادئة وحازمة، وكأنها نبرة رجل جالس أمام كاهن اعتراف، واصل حديثه معها كما لو كانت خفية، مجهولة، مخلوقة أشبه بآلة، قائلًا: «وبالطبع، هوراس بينتلاند مات، ولذا لم نَعُد بحاجة إلى التفكير فيه … ولكن لدَينا السيدة سومز …» سعل وبدأ مجددًا يفرك أصابعه النحيلة الهزيلة، كما لو أن ما يتعيَّن عليه قوله كان يخرج من أعماق روحه بمعاناةٍ شديدة. كرَّر قائلًا: «لدينا السيدة سومز. أعرف أنك تتفهَّمين وضعها يا أوليفيا … وأنا مُمتنٌّ لكِ لأنكِ كنتِ لطيفةً وعطوفةً في مواقف ما كان أحد من الآخرين سيتصرَّف فيها هكذا. يُخيل إليَّ أننا كنا موضوعًا تلوكُهُ الألسن في حي بيكون هيل وشارع كومنويلث أفانيو، ببوسطن على مدار ثلاثين عامًا … ولكن أنا لا أكترث بذلك. لقد كانوا يُراقبوننا … وكانوا يَعرفون في كل مرة أصعد فيها درجات منزلها الحجري البُني … وحتى الساعة التي وصلتُ فيها والساعة التي غادرتُ فيها. الناس في عالَمنا لهم عيون، يا أوليفيا، حتى في مؤخرة رءوسهم. يجب أن تتذكَّري هذا، يا عزيزتي. إنهم يُراقبونكِ … ويُلاحظون كل شيءٍ تفعلينه. إنهم يَكادون يعرفون ما تُفكِّرين فيه … وحين لا يَعرفونه، يختلِقونه. تلك إحدى العلامات على عالَم مُعتلٍّ مُتدهور … وهي أنهم يعيشون حياة الآخرين … بالترصُّد ومُراقبة حياتهم … وأنهم يعيشون دومًا في الماضي. وذلك هو السبب الوحيد الذي جعَلني أشعر بالأسف على هوراس بينتلاند … السبب الوحيد الذي جعَلني أشعر بالتعاطُف معه. كان من القسوة أنه وُلِدَ في مكانٍ كهذا.»

كانت المرارة تَقْطرُ كحِمض من الحديث بأكملِه، وعبر نبرة صوتِه ذاتها. وتأجَّجت تلك المرارة في العينَين السوداوَين الشرستَين اللتين لم تكن النار قد خمدت فيهما بعد. اعتقدت أوليفيا أنها تراه لأول مرة الآن بكامل حقيقتِه، دون أن يُخفي شيئًا. وبينما كانت تَستمِع إليه، بدأت سحابة الغُموض القديمة التي كانت دومًا تَحجبُه عنها تَنقشِع مثلما يَنقشِع الضباب عن الأهوار في الصباح الباكر. رأتْه الآن على حقيقتِه … رجلًا بالِغَ الرجولة، موجوعًا، صافي الذهن، وأكثر إنسانية من بقيَّتهم، لم يُفصح عن مكنونات نفسه قطُّ ولو للحظة.

«ولكن بخصوص السيدة سومز … إذا حدَث لي أي شيء يا أوليفيا … إذا قُدِّرَ لي أن أَلقى حتفي قبلها، أُريدكِ أن تكوني لطيفةً معها … من أجلي ومِن أجلها. لقد كانت صبورة وكريمة معي طويلًا جدًّا.» بدا أنَّ المرارة كانت الآن تزُول قليلًا من صوته، لتحلَّ محلَّها حماسة مُتأجِّجة. تابع حديثَه قائلًا: «لقد كانت كريمة معي … كانت دومًا مُتفهِّمة يا أوليفيا، حتى قبل أن تأتي أنتِ إلى هنا لتمدِّي إليَّ يدَ العون. أنتِ وهي يا أوليفيا، جعلتما حياتي تستحق العيش. لقد كانت صبورة … أكثر صبرًا مما تعرفين. لا بد أنني أحيانًا جعلت حياتها جحيمًا … ولكنها كانت موجودة دومًا، مُترقِّبة، مُفعَمة بالرفق والتعاطف. لقد كانت مُعتلَّة أغلب فترة معرفتكِ بها … عجوز ومُعتلَّة. لا يمكنكِ أن تتخيَّلي إلى أي مدى كانت فيما مضى جميلة.»

قالت أوليفيا برقَّة: «أعرف ذلك. أذكُر أنني رأيتُها حين دخلت منزل عائلة بينتلاند لأول مرة … كما أن سابين أخبرتني.»

بدا أن ذكر اسم سابين أثار حفيظته فجأة. اعتدل في جلسته وقال: «لا تُفرِطي في الثقة في سابين يا أوليفيا. إنها واحدة منَّا، في نهاية المطاف. إنها تُشبه أُختي كاسي كثيرًا … تُشبهها أكثر مما يُمكنكِ أن تتخيَّلي. ولهذا السبب تكرَهُ إحداهما الأخرى هكذا. إنها ما بداخل كاسي مجسدًا، إن جاز التعبير. كلتاهما يُمكن أن تُضحي بكل شيء من أجل تأجيج مُشكلة أو فاجِعة من شأنها أن تُثير اهتمامهما. إنهما تعيشان … حياة الآخرين.»

كان من شأن أوليفيا أن تُقاطعه، لتُدافع عن سابين وتُخبره بالشيء الحقيقي الوحيد الذي حدَث لها … الحب المأساوي لزَوجِها؛ كان مِن شأنها أن تُخبره بكل الأسرار الخطيرة وغير المُترابطة التي أسرَّت بها سابين إليها؛ ولكن الرجل المُسنَّ لم يُتِح لها أيَّ فرصة. بدا فجأةً وكأنه صار مَمسوسًا، عازمًا بشدَّة على أن يبُوح لها بمَكنون صَدره من كل الخبايا التي ظلَّ يُخفيها طويلًا جدًّا.

(وظلَّت تقول في نفسها: «لماذا يجب أن أعرف كل هذه الأشياء؟ لماذا يجب عليَّ أن أتحمَّل العبء؟ لماذا عثرتُ على تلك الخطابات التي ظلَّت في مأمَن ومُخبَّأة طويلًا جدًّا؟»)

عاد يتحدَّث بنَبرة هادئة، وهو لا يزال يفرك أصابعه النحيلة بحركة مُتوتِّرة عقيمة. قال: «ما أريد أن أقوله، يا أوليفيا … ما أريد أن أقوله، إنها تتعاطى المخدِّرات الآن … ولا طائل مِن مُحاولة شفائها. إنها مسنَّة الآن، والأمر حقًّا لا يُهم. الأمر ليس كما لو كانت صغيرة في السن ولا تزال الحياة كلها أمامها.»

ودون تفكير تقريبًا، ردَّت أوليفيا: «أعرف ذلك.»

رفع بصره إليها سريعًا. وسألها بحدة: «تَعرفين؟ وكيف عرفتِ هذا؟»

«سابين أخبرتني.»

عاد يُطأطئ رأسه. وقال: «أوه، سابين! طبعًا! إنها خطيرة. إنها تعرف أكثر من اللازم عما يَجري في العالَم. لقد عَرفتْ عددًا كبيرًا جدًّا من الأشخاص غريبي الأطوار.» ثم كرَّر مرةً أخرى ما قاله قبل أشهُر بعد انتهاء الحفل الراقص قائلًا: «ما كان يَنبغي أن تعود إلى هنا أبدًا.»

وفي خضمِّ الحديث الغريب والمُفكَّك، تناهى إلى مسامعِهما صوت الموسيقى الآتية من غُرفة الجلوس البعيدة. في البداية، لم يَسمعها جون بينتلاند، الذي كان يُعاني من بعض الصَّمم، ولكن بعد قليل اعتدل في جلسته، يَستمِع، والتفت إليها مُتسائلًا: «هل ذلك هو الشاب المُعجَب بسيبيل؟»

«أجل.»

«هو فتًى لطيف، أليس كذلك؟»

«فتى لطيف جدًّا.»

وبعد فترة من الصمت، سألها: «ما اسمُ الأُغنية التي يعزفها؟»

لم تَستطِع أوليفيا أن تَمنع نفسها من الابتسام. وأجابته قائلة: «إنها تُدعى «أنا واقع في الحب مرةً أخرى وقد جاء الربيع (آم إن لوف أجين أند ذا سبرينج إز كامينج).» لقد أحضرها جان من باريس. ألَّفَها صديقٌ له … ولكن الأسماء لم تَعُد ذات مغزًى في الموسيقى. لا أحد يَستمِع إلى الكلمات.»

للحظة اكتسَت ملامح وجهِه بلَمحة بهجةٍ خاطفة. وعلق قائلًا: «للأغاني أسماء غريبة هذه الأيام.»

كان مِن شأنها أن تَفرَّ، حينئذ، مُغادِرةً المكان في هدوء. تململت في جلستها، بل هَمَّتْ بإشارة بأنها تُريد المغادَرة، ولكنه رفع يدَه بطريقتِه المعهودة، مما جعلها تشعر بأنها يجب عليها أن تُطيعه كما لو كانت طفلة.

«ثمة أمر أو أمران آخران يجب أن أُخبركِ بهما، يا أوليفيا … أمران سيساعدانكِ في فهم الأمور. لا بد أن يَعرفهما شخصٌ ما. شخص ما …» توقف فجأة وبذل مُجدَّدًا مجهودًا مُضنيًا ليواصل الحديث. برزت العروق بحدة على صدغيه.

تابع حديثه، مُشيرًا بالإشارة الحَتمية ناحية الجناح الشَّمالي، قائلًا: «الأمر مُتعلِّق بها في المقام الأول. لم تكن على تلك الحال دومًا. ذلك ما أريد أن أُوضِّحه. ما أُريد أن أقوله إننا … تزوَّجنا عندما كان كِلانا في سنٍّ صغيرة جدًّا. كان أبي هو مَن أراد ذلك. كنتُ في العِشرين من عمري وهي كانت في الثامنة عشرة. كان أبي يَعرف عائلتها عَلى الدَّوام. كانوا أبناء عُمومة لنا، بصورة أو أخرى، مثلما كانوا أبناء عمومة لسابين. كان أبي يَدرُس مع والدها في نفس المدرسة وكانا يَنتميان إلى النادي نفسه وكانت هي ابنة وحيدة من المُحتمَل أن تَرِث ثروة كبيرة. إنها قصَّة قديمة، كما ترَين، ولكنها مألوفة نوعًا ما في عالَمنا … وكلُّ هذه الأشياء كان لها اعتبارها، وفيما يخصُّني، لم يكن لي قبلئذٍ أي علاقة بالنِّساء ولم أعشق أيَّ امرأة قط. كنتُ صغيرًا جدًّا في السن. أظنُّ أنهم رأوها زيجةً مثالية … بتوفيق إلهي كما صورت لهم أحلامهم السعيدة. كانت جميلة جدًّا … بإمكانكِ أن تُلاحظي الآن أنها حتمًا كانت جميلة جدًّا … كانت حلوة المَعشر، أيضًا، وبريئة.» سعل، ثم واصل حديثه بجُهدٍ بالغ. «كان … كان عقلها كعقل طفلة صغيرة. لم تكن تَفقَه شيئًا … زهرة بريئة»، قالها بنبرة تشوبها همجية غريبة.

ثم توقَّف عن الحديث لبُرهة، كما لو أنَّ المجهود الذي بذَله كان يفُوق طاقته، وجلس مُحدِّقًا من النافِذة صوب البحر. بدا لأوليفيا أنه كان يَسترجع السنوات وصولًا إلى الفترة التي كانت فيها السيدة العجوز المسكينة شابَّةً صغيرة وربما خَجِلة جدًّا من تودُّده المُتحمِّس. ساد الصمت مرة أخرى في جنبات الغُرفة، صمت مُطبِق جدًّا لدرجة أن الهدير الخافت البعيد لارتطام الأمواج بالصخور صار مَسموعًا، ثمَّ تناهَت إلى مسامعهما مُجدَّدًا موسيقى جان. كان يَعزف لحنًا آخر … ليس أُغنية «أنا واقع في الحب مرة أخرى»؛ وإنما أغنية أخرى تُدعى «سيدة القيثارة» (يوكلالي ليدي).

قال جون بينتلاند: «أتمنَّى أن يُوقِفُوا تلك الموسيقى الملعونة!»

قالت أوليفيا وهي تقوم من مكانها: «سأذهب.»

«كلَّا … لا تَذهبي. يجبُ ألا تَذهبي … ليس الآن.» بدا عليه التوتُّر، بل والفزع تقريبًا، ربما خوفًا من أنه لو لم يُخبرها الآن بالقصة الطويلة التي يجِب أن يقصَّها على أحد فلن يُخبرها بها أبدًا. «كلَّا، لا تَذهبي … ليس قبل أن أُنهي حديثي يا أوليفيا. يجب أن أنهي حديثي … أريدكِ أن تَعرفي السبب وراء الأمور التي حدثَت مثلَما حدث هنا أمس وأول أمس في هذه الغُرفة … لا يُوجَد مُبرِّر، ولكن ما سأقولُه ربما يُفسِّر الأمر … قليلًا.»

نهض وفتح إحدى خزائن الكتب، وأخرج زجاجة ويسكي. قال، وهو يَنظر إليها: «لا تَقلقي يا أوليفيا، لن أكررها ثانيةً. كل ما في الأمر أنني أشعر بالضعف. لن يَحدُث مجددًا مُطلقًا … ما حدث بالأمس … مُطلقًا. أعدكِ بذلك.»

صبَّ كأسًا كاملةً وعاوَدَ الجُلوس، يَرتشِف الويسكي على مهَل أثناء حديثه.

«وهكذا تزوَّجنا، وظننتُ أنني وقعتُ في حبِّها؛ لأنَّني لم أكن أعرفُ أيَّ شيءٍ عن مثل هذه الأمور … لا شيء. لم يكن حبًّا حقًّا … أوليفيا، سأُخبركِ بالحقيقة … بكلِّ شيء … الحقيقة كاملة. لم يكن حبًّا حقًّا. كل ما في الأمر أنها كانت المرأةَ الوحيدة التي تقرَّبتُ منها بتلك الطريقة … كنت شابًّا قويًّا مُعافًى.»

بدأ يتحدَّث ببُطء أكثر فأكثر، كما لو أنَّ كل كلمة كانت تخرج مِن شفتَيه بجهدٍ جَهيد نابع من الإرادة. وتابع حديثه بمَرارة: «ولم تكن تفقَهُ شيئًا … لا شيء على الإطلاق. كانت تُمثِّل كل ما يُفترض أن تكون عليه امرأة شابة. وبعد الليلة الأولى مِن شهر العسل، لم تَعُدِ الإنسانةَ نفسها مرة أخرى … لم تَعُد الإنسانة نفسها مُطلقًا، يا أوليفيا. هل تَعرفين ما الذي يَعنيه هذا؟ انتهى شهر العسل بحالة مِن الجنون، هوَسٌ دائم. كانت قد تربَّت على تصوُّر مثل هذه الأمور برهبةٍ مُقدَّسة، وكانت بعائلتها مسحة من الجنون. لم تَعُد الإنسانة نفسها مرةً أخرى»، كرَّرها بنبرةٍ حزينة، وأردف قائلًا: «وعندما وُلد آنسون ذهَبَ عقلُها تمامًا. ما كانت لتَلتقي بي أو تتحدَّث إليَّ. توهَّمَت أنني ألحقتُ بها العار إلى الأبد … وبعد ذلك لم يكن بالإمكان أن تُترَك وحدَها دون رقيب. لم تعد تخرُج إلى العالم مُطلقًا …»

تلاشى الصوت حتى صار همسًا مَبحوحًا. كان قد أفرغ كأس الويسكي بجهدٍ بالِغ ليَخترِق القوقَعة الفولاذية التي كان قد أغلق على نفسه داخلها بعيدًا عن العالم، وعن أوليفيا التي كان يُكِنُّ لها مَعزَّةً، ربما أكثر حتى مِن السيدة سومز، التي أحبَّها. ومِن على مسافة بعيدة، استمرَّ عزفُ الموسيقى، وهذه المرة كان يُصاحبه صوتُ تيريز الأجش بنَبرة عالية وهي تُغنِّي أغنية «أنا واقع في الحب مرة أخرى وقد جاء الربيع.» … تيريز، السمراء، الساخرة، العنيدة، التي لم يكن في حياتها، بداية مِن الضفادع وصولًا إلى الرجال، إلا أسرارًا قليلة جدًّا.

واصل جون بينتلاند حديثَه بوَهَنٍ قائلًا: «ولكنَّ القصة لم تَنتهِ عند هذا الحد. بل استمرَّت … لأنني صرتُ أعرف كيف يكون الوقوع في الحُب حين التقيت بالسيدة سومز … حينئذٍ فقط»، قالها بنبرة حزينة، كما لو أنه رأى المأساة مِن بَعيدٍ كأنها شيء لا يخصُّه. وكرَّر قوله قائلًا: «حينئذٍ فقط، عندما كان الأوان قد فات. بعد كل ما فعلتُه من أجلها، كان قد فات أوان الوقوع في الحب. عجزت عن التخلِّي عنها. كان هذا مُستحيلًا. ما كان ينبغي أبدًا أن يحدث.» عدَّل وضعية جسده الواهن المتصلِّب وأضاف قائلًا: «لقد أخبرتكِ بكل هذا يا أوليفيا؛ لأنني أُريدكِ أن تفهمي السبب وراء أنني أحيانًا …» توقف عن الحديث لبرهةٍ ثم واصل حديثه بكل عزم قائلًا: «السبب وراء أنني أتصرَّف بوحشية مثلما فعلت أمس. لقد مَرَّت عليَّ أوقات كان فيها هذا التصرُّف هو السبيل الوحيد حتى يُمكِّنني من مُواصَلة الحياة … وهو لا يضرُّ أحدًا. ولا يَعرف كثيرون عنه شيئًا … أُخفي نفسي دائمًا عن العيون. لم يَحدُث ذلك علنًا مُطلقًا.»

ببُطء امتدَّت يدُ أوليفيا البيضاء عبر سطح المكتب اللامع ولمسَت يده النَّحيلة السمراء المستقرة هناك، في هدوء، كصقر حطَّ مِن علٍ ليَستريح. لم تَنبِس ببنتِ شَفة ومع ذلك انطوت اللفتة البسيطة على تعبيرٍ بليغ عجزت عنه الكلمات. جعلت تلك اللمسة الدموع تترقرق في العينَين المتقدتَين للمرة الثانية في حياة جون بينتلاند. لم يكن قد بكى مِن قبلُ سوى مرة واحدة … ليلة وفاة حفيده. وأدركت أوليفيا أنها لم تكن دموعًا نابعةً من رثاء على الذات؛ لأنَّه لم يكن يُوجَد رثاء على الذات في الجسد الهَرِم الذي أوهنه الزمن؛ كانت دموعًا تُزرَف على المأساة التي شاءت الأقدار أن يكون مَهمومًا بها.

«أريدكِ أن تَعرفي يا عزيزتي أوليفيا … أنني لم أَخُنْها مطلقًا، ولو لمرةٍ واحدة طيلةَ كل السنوات التي مرَّت منذ ليلة زفافنا … أعرف أنَّ العالَم لن يُصدِّق هذا أبدًا، ولكن أردتكِ أن تَعرفي؛ لأنكِ أنتِ والسيدة سومز الشخصان الوحيدان المُهمَّان لي … وهي تَعرِف أن هذا صحيح.»

ومع أنها عرفت أن القصة انتهت، لم تُغادر؛ لأنها أدركت أنه كان يُريد منها أن تبقى، جالسةً إلى جواره في صمتٍ، تَلمس يده. كان من نوعية الرجال — رجال، حسبما قالت في نفسها، مثل مايكل — يحتاجون إلى النساء بقُربهم.

وبعد مدةٍ طويلة، التفت إليها بغتة وسألها: «هذا الفتى المعجب بسيبيل؛ من يكون؟ وَمَا صِفَاته؟»

«سابين تعرف بشأنه.»

«هذا ما يُخيفني … إنه مِن عالَم مُختلِف عن عالَمها ولستُ واثقًا من أن هذا يروق لي. ففي عالَم سابين، لا يهمُّ من يكون هذا الشخص أو مِن أين يأتي ما دام شخصًا ذكيًّا ومُسليًا.»

«لقد راقبتُه … وتحدَّثتُ معه. أظنُّ أنه فيه كل ما يُمكن أن تَطلبه فتاة … أقصد فتاة مثل سيبيل … لا أنصحُ به لفتاة حمقاء … فمِن شأنه أن يجعل زوجة من هذا النوع تقضي أوقاتًا عصيبةً جدًّا. بالإضافة إلى ذلك، لا أظنُّ أن في وسعنا الكثير في هذا الشأن. فسيبيل، على ما أظن، قد اتَّخذت قرارها.»

«هل عرض عليها الزواج؟ هل تحدَّث إليكِ؟»

«لا أعرف إن كان قد عرض عليها الزواج. لم يتحدَّث إليَّ. الشباب لا يهتمُّون بمثل هذه الأمور هذه الأيام.»

«ولكن آنسون لن يُعجبه هذا. ستحدُث مشكلة … وكاسي، أيضًا.»

«أجل … ومع ذلك، إذا أرادته سيبيل، فسوف تتزوَّجه. لقد حاولتُ أن أُعلِّمها أنه في مسألة كهذه … حسنًا»، ثم أشارت إشارةً صغيرة بيدها البيضاء، وأردفت قائلة: «لا ينبغي لها أن تدع شيئًا يُشكِّل أي فارق.»

جلس مُستغرقًا في التفكير لمدةٍ طويلة، وأخيرًا، ودون أن يتطلَّع إليها كما لو أنه يتحدَّث إلى نفسه، قال: «لقد حدَث ذات مرة في العائلة أن فَرَّتِ المَرأةُ مع عشيقٍ لها … لقد تزوَّج جاريد وسافينا بينتلاند بتلك الطريقة.»

قالت أوليفيا: «ولكن تلك لم تكن زيجة سعيدة … لم تكن سعيدةً جدًّا.» وعلى الفور، أدركت أنه كادت أن تفضح نفسها. لو كانت قد تلفَّظت بكلمة أو كلمتَين أُخرَيَين ربما كانت ستُوقع نفسها في الشَّرَك. ورأت أنه من المُستحيل أن تُضيف عبء الخطابات إلى هذه الأسرار الأخرى.

وبالفعل، نظر إليها بحدة، قائلًا: «لا أحد يعرف ذلك … كل ما نَعرفه أنها غرقت.»

رأت بوضوحٍ كافٍ تمامًا ما كان يَنوي أن يُخبرها به، بذلك التلميح المُبهم بهروب سافينا؛ الآن فقط عاد ليختبئ مجددًا داخل القوقعة الشنيعة؛ عاد جون بينتلاند الغامض المُزيف الذي لا يستطيع سوى أن يُلَمِّح فحسب ولا يتحدَّث مباشرةً مطلقًا.

توقفت الموسيقى تمامًا في غرفة الجلوس، ولم يتبقَّ سوى الصوت المُبهَم البعيد المُستمر بلا انقطاع لاصطدام الأمواج بالصخور الحمراء، وتردَّد صوتُ وقع أقدام بعيد قادم من الجناح الشمالي. قال الرجل المسن على الفور: «إذن، لم تكن واقعةً في حُب هذا الرجل الذي يُدعى أوهارا في نهاية المطاف، أليس كذلك؟ لا داعيَ للقلق إذن، أليس كذلك؟»

«بلى، لم تُفكِّر فيه مطلقًا بتلك الطريقة، ولو للحظة … من منظورها، بدا كهلًا. يجبُ ألا ننسى كم هي صغيرة في السن.»

ردَّ العجوز قائلًا: «هو ليس من نوعية الرجال الحقيرة. لقد صرتُ مُولعًا به، وهيجينز يظنُّ أنه رجل رائع. أميل إلى أن أَثِق في رأي هيجينز. فهو يتمتَّع بحاسَّة مُرهَفة بشأن الناس … ويتمتَّع بالحاسَّة نفسها فيما يخصُّ الطقس.» توقَّف لبرهة، ثم تابع حديثه قائلًا: «ومع ذلك، أظنُّ أنه من الأفضل أن نتوخَّى الحذر بشأنه. فهو رجل أيرلندي ذكي في سبيله إلى الوصول لغايتِهِ … ومثل هؤلاء الرجال يجب أن يُخضَعوا للمراقبة. إنهم عادةً لا يُفكِّرون إلا في أنفسهم.»

همست أوليفيا قائلة: «ربما. ربما …»

قُطِع الصمتُ بصوت طنين وضجيج ساعة الحائط الموجودة بالردهة وهي تستعدُّ لتدقَّ مُعلنةً الحاديةَ عشرةَ مساءً. كان المساء قد انقضى سريعًا، مُتواريًا وسط غشاوة من الزيف. أخيرًا، قيلت الحقيقة في منزل عائلة بينتلاند — الحقيقة القاسية، العارية، المروعة؛ ووجدت أوليفيا، التي كانت تتوق إليها منذ فترة طويلة جدًّا، نفسها ترتجف.

نهض جون بينتلاند ببطءٍ وبألَم؛ نظرًا لأنَّ جسده كان قد ازداد تيبُّسًا وهشاشة مع انقضاء فصل الصيف. قال: «الساعة الآن الحادية عشرة، يا أوليفيا. حريٌّ بكِ أن تَأوي إلى الفراش وتأخذي قسطًا من الراحة.»

٢

لم تتَّجِه إلى غرفتها؛ لأنه تعذَّر عليها الخلود إلى النوم، ولم يكن بوسعها الذهاب إلى غرفة الجلوس، في تلك الحالة المزاجية التي سيطرت عليها، لتُواجِهَ وجوهًا شابة كوجوه جان وتيريز وسيبيل. في تلك اللحظة، لم يكن بوسعها أن تَحتمِل فكرة الوجود في أي مكان مُغلَق، في غرفة أو حتى أي مكان يعلوه سقف يَحجب السماء المفتوحة. كانت بحاجة إلى الهواء الطلق والشعور بالحرية والسلوان الذي يبعث على الاستشفاء والذي كان يَجلبُه لها أحيانًا مشهد الأهوار والبحر. أرادت أن تستنشِق بعُمق الهواء المالح المُنعِش، أن تركض، أن تهرب إلى مكانٍ ما. في الواقع، استسلمت للحظةٍ لشعور بالذُّعر الشديد، كما حدث لها في تلك الليلة الحارة حين تبِعها أوهارا إلى الحديقة.

خرجت عبر الفناء الأمامي، وهي تَهيم على وجهها، فوجدت نفسها بعد قليل تَسير تحت الأشجار في اتجاه الأهوار والبحر. كانت هذه الليلة الأخيرة من شهر أغسطس حارةً وصافية باستثناء طبقة رقيقة من الضباب الأبيض المائل للزرقة الذي يعلو دومًا المُروج المنخفِضة. كانت قد مرت أوقات في الماضي أرهبتها فيها فكرة المرور عبر المروج المهجورة، والتجوُّل في الطُّرُق المُعتِمة في الظلام؛ ولكن في هذه الليلة بدت تلك المغامرة مُريحةً للأعصاب ومُهدِّئة، ربما لأنها اعتقدت أنها يستحيل أن تواجِهَ شيئًا أسوأ من أسرار جون بينتلاند. كانت واعيةً تمامًا، كما كانت في تلك الليلة الأخرى، بالجمال الأخَّاذ لليلة، وبالخيالات غير المُحدَّدة المُمتدَّة عبر أسيجة الأشجار وقنوات المياه، وببريق النجوم، وبالخط الأبيض البعيد لزبد البحر والرائحة الغنية الخصبة للمراعي والأهوار.

وبعد قليل، عندما هدأ روعها قليلًا، حاولت أن تستخلص بعض الترتيب من الفوضى التي اجتاحت جسدَها وروحها. بدا لها أن الحياة كلها صارت مشوشة ومُضطربة على نحوٍ ميئوس منه. كانت مدركة نوعًا ما، تقريبًا دون أن تعرف السبب؛ لأن الرجلَ المُسنَّ خدعها، وطَوَّعَ إرادتها بسهولة وفق رغباته، مُغيرًا بذلك المشهد المستقبلي كله. كانت تعرف دومًا أنه قوي وبطريقته الخاصة لا يُقهَر، ولكن حتى الليلة لم تكن قد عرفت مُطلقًا العظمة الكاملة لقوَّتِه … ومدى عناده، بل وإلى أي مدى يُمكن أن يكون مُنعدِم الضمير؛ إذ كان مُنعدِمَ الضمير وغيرَ منصف، في الطريقة التي استخدم بها كل سلاح في متناول اليد … كل إحساس، كل ذكرى … ليُحقق رغبته. لم يَحدُث صراع ضارٍ علنًا؛ كان الأمر أبرع من ذلك بكثير. لقد أخضعها دون أن تدري، بعَون من جميع قوى الظلام التي تتمتَّع بالقدرة على تغييرهم جميعًا — حتى أبناء سافينا دالجيدو وتوبي كاين — ليكونوا «آل بينتلاند».

أخذت تفكر بمرارة فيما حدث، وتوصلت إلى أن قوَّتَه كانت تَستند على أساس فضيلته، واستقامته. يمكن للمرء أن يقول — بل ويؤمن يقينًا مثلما رأى شروق شمس الأمس بعين اليقين — إنَّ حياته كلها كانت سخيفة ووهمية على نحوٍ مأساوي، مكرسة على نحو غريب للمثال الأعلى الجامد المتصلِّب لما يجب أن يكون عليه الفرد من عائلة بينتلاند؛ ورغم ذلك … ورغم ذلك يُدرك المرء أنه كان مُحقًّا، بل وربما كان شجاعًا؛ كان المرء يحترم قوَّتَه التي لا هوادة فيها. كان قد قضى على سعادته ودفع السيدة سومز العجوز المسكينة إلى البحث عن السلام النفسي في تجربة نيرفانا السعادة القُصوى التي تجلبها المخدرات؛ ومع ذلك كان يُمثل لها الحياة كلها: كانت تعيش لأجله فقط. كان نظامه الأخلاقي صعبًا وقاسيًا وغير إنساني، يُضحِّي بكل شيءٍ في سبيل الالتزام به … قالت أوليفيا في نفسها: «إلى حدِّ التضحية بي وبنفسه. ولكن لن يُضحَّى بي. سأهرب!»

وبعد فترة طويلة، بدأت ترى بالتدريج ما كان يكمن وراء السلطة الفولاذية التي مارسها على الناس، القوة التي عجزوا جميعًا عن مُقاوَمَتها. كانت شيئًا بسيطًا … فكل ما في الأمر أنه آمَنَ، بشغف وبلا هوادة، كما فعل البيوريتانيون الأوائل.

أما الباقون حولَها فلم تكن لهم أي أهمية. فلم يكن لأيٍّ منهم سلطة عليها … لا آنسون، ولا العمة كاسي، ولا سابين، ولا الأسقف سمولوود. لم يكن لهم أي دور في تغيير مسار حياتها. لم تكن لهم أي أهمية. ولم تكن تخشاهم؛ وإنما بدَوا في نظرها مُزعِجين ومُثيرين للشفقة.

ولكن جون بينتلاند آمَنَ. كان هذا ما صنع الفارق.

•••

بعد أن تَعثَّرت في طريقها وهي لا تكاد ترى، وجدَت نفسها بعد قليل عند الجسر حيث الطريق الترابي المار فوق النهر والواصل بين منزل عائلة بينتلاند ومنزل «بروك كوتيدج». منذ أن كانت فتاةً صغيرة، كان لمشهد المياه تأثير سِحري غريبٌ عليها … مشهد نهر، بحيرة، ولكن كان الأكثر تأثيرًا من أيِّ شيءٍ آخر هو مشهد البحر المفتوح؛ كانت تجد نفسها دومًا مُنجذبةً نحو هذه الأشياء مثلما يَنجذِب الحديد نحو المغناطيس؛ والآن، ما إن وجدت نفسها عند الجسر، حتى توقَّفت عن الحركة، ووقفت تتطلَّع من فوق المتراس الحَجري تحت ظلال شجيرات الزعرور التي كانت تنمو بالقرب من حافة المياه، إلى البركة المُعتِمة الراكدة بالأسفل. كانت صفحةُ المياه داكنة وانعكس عليها ضوء النجوم الصغيرة المتلألئة وكأنها حبات ألماس منثورة فوق سطحها. عبَّقت الرائحة الكثيفة القوية للماشية الأجواء، مع مسحة من أريجٍ خفيف لزنابق الماء البيضاء التي كانت تُحيط بالبركة.

وبينما كانت تقف هناك، منغمسةً في سكينة العزلة المعتمة، بدأت تفهم قليلًا ما حدث بينهما في الغرفة المُعبَّقة برائحة الويسكي وصابون السرج. رأت كيف أسفر غباء الآخرين وجهلهم ورياؤهم عن مأساة جون بينتلاند وحياته بالكامل، ورأت، أيضًا، أنه كان بلا أدنى شك حفيد توبي كاين الذي كتب هذه الخطابات الجامحة المتَّقدة بالعاطفة والتي تُمجِّد الرغبة الحسية؛ غير أن جون بينتلاند كان قد وجد نفسه حبيسًا داخل سجن ذلك الشيء الفظيع الآخر؛ ألا وهو النظام الأخلاقي الذي كان قد تعوَّد عليه، والذي كان يؤمن به. ورأت الآن أنه لم يكن من المستغرَب أنه سعى إلى الهروب من الواقع بالانعزال والانغماس في الشرب حتى الدخول في غيبوبة. لقد كان مُحاصَرًا، بشكل مأساوي، بين هاتين القوتَين الغاشمتَين. حسب نفسه من آل بينتلاند بينما اشتعلت بداخله النار الكامنة في خطابات توبي كاين وفي النظرة الفاسقة التي تجمَّدت إلى الأبد في اللوحة المرسومة لسافينا بينتلاند. ظلَّت صورته ماثلة أمامها وهو يقول: «لم أَخُنها مُطلقًا، ولو لمرة واحدة طيلة كل هذه السنوات التي مرَّت منذ ليلة زفافنا … أعرف أن العالم لن يُصدِّق مطلقًا، ولكن أردتكِ أن تعرفي؛ لأنكِ أنتِ والسيدة سومز الشخصان الوحيدان المُهمَّان لي … وهي تَعرف أن هذا صحيح.»

بدا لها أن هذا الإخلاص كان شيئًا مريعًا وخبيثًا.

وباتت تُدرك أنه خلال حديثهما كله، ظلت خاطرة، فكرة مايكل حاضرة طوال الوقت. بدا وكأنهما كانا يتحدَّثان طوال الوقت عنها هي ومايكل. ظلَّ الرجل المُسِنُّ يتطرَّق إلى الأمر عشرات المرات على نحوٍ مُبهَم ولكن مؤكَّد. لم يكن لدَيها أدنى شك في أن العمة كاسي عرفت منذ فترةٍ طويلة كل ما يمكن أن تعرفه من الآنسة بيفي عن اللقاء الذي جرى بالقرب من حوض النعناع البري، وكانت واثقة من أنها نقلت المعلومة إلى أخيها. ومع ذلك، لم يكن يُوجَد أي شيء قطعي فيما رأته الآنسة بيفي، وإنما القليل جدًّا بحيث لا يُثير الشكوك على الإطلاق. ومع ذلك، أثناء استرجاعها لحديثها مع الرجل المُسن، بدا لها أنه بعشرات الطرق والكلمات والنبرات والنظرات كان قد أشار ضمنيًّا إلى أنه عرف السر. وحتى في نهاية الحديث، عندما تطرَّق بقسوة وبيقينٍ غريب إلى الخوف الوحيد، والشك الوحيد الذي كان يشوب حبَّها لمايكل، بقوله على نحوٍ عرَضي جدًّا: «ومع ذلك، أظنُّ أنه من الأفضل أن نتوخَّى الحذر بشأنه. فهو رجل أيرلندي ذكي في سبيله إلى الوصول لغايته … ومثل هؤلاء الرجال يجِبُ أن يُخضَعوا للمراقبة. إنهم عادةً لا يُفكِّرون إلا في أنفسهم.»

ثم خطرت على بالها أغرب الأفكار جميعها … ألا وهي أن حديثهما معًا، حتى تلك الأسرار المؤلمة والمأساوية التي أسرَّ بها بجهد بطولي، كان في الحقيقة يستهدفها. كان قد فعل كل هذا —خرج من قوقعة الصمت والكتمان، وأَذَلَّ كبرياءه الطاغي — ليُجبِرها على التخلِّي عن مايكل، ليُجبِرَها على التضحية بنفسها على مذبح ذلك المثال الأعلى الوهمي الذي يؤمن به.

وكانت خائفةً لأنه كان قويًّا جدًّا؛ لأنه لم يطلب منها أن تفعل شيئًا لم يَفعله هو نفسه.

لن تعرف أبدًا على وجه اليقين. رأت، في نهاية المطاف، أن جون بينتلاند الذي تركته قبل قليل كان لا يزال لغزًا، ملثمًا بالغموض، تعجز عن سبْرِ أغواره، ربما إلى الأبد. لم ترَهُ على حقيقته مطلقًا.

•••

وبينما كانت تقف عند الجسر تحت الظلال الكثيفة لأشجار الزعرور البري، تلاشى من حولها الإحساس بالزمان أو المكان، وبالعالَم من حولها، بحيث لم تكن واعيةً إلا بنفسها بصفتها مخلوقةً تتجرع كأس المعاناة. قالت في نفسها: «ربما يكون مُحقًّا. ربما صرتُ مثلهم، ولذلك يستمر هذا الصراع. ربما لو كنت شخصًا عاديًّا … سليم العقل وحسن الطوية … مثل هيجينز … لن تُوجَد أي معاناة، ولا شكوك، ولا رهبة من التصرُّف بكل بساطة، وبلا تردُّد.»

تذكَّرت ما قاله الرجل المسن عن عالمٍ صارت فيه جميع التصرُّفات مُقيَّدة، عالَم يَرضى فيه المرء بمراقبة الآخرين وهم يتصرَّفون، وأن يعيش حياتهم. كانت قد خطرت على بالِها كلمة «سليم العقل» بتلقائية شديدة وببساطة باعتبارها الكلمة الدقيقة لوصف الحالة الذهنية المناقِضة للحال الذي كان عليه دومًا منزل عائلة بينتلاند، وأفزعتها فكرة أنه ربما كان هذا الشيء الذي يُدعى «أن تكون من آل بينتلاند»، هذه الحالة من الافتتان، كانت في نهاية المطاف مجرد حالة مرضية، ضربًا من الجنون الذي يشلُّ القدرة على التصرف تمامًا. وبذلك، يظل المرء يعيش في الماضي، مُكبلًا بديون من الشرف وواجبات تجاه أناس فارقوا الحياة قبل قرنٍ أو أكثر من الزمان.

قالت في نفسها: «يجب، ولو لمرةٍ واحدة، أن أتحلَّى بالقُدرة على فعل ما أريدُه، ما أظنُّه صوابًا.»

وفكرت مجددًا فيما قالته سابين عندما وصفت نيو إنجلاند بأنها «مكان تُصبح فيه الأفكار أرقى وأقل»، حيث يتحوَّل كل تصرف إلى مُشكلة سلوك أخلاقي، ممارسة للفلسفة المتعالية. كان هذا آخِذًا في الزوال الآن، حتى عن نيو إنجلاند، ومع ذلك ما زال متشبثًا بعالم آل بينتلاند، إلى جانب الهدايا التذكارية من «الأصدقاء الأعزاء» المشاهير. وحتى تخزين الهدايا التذكارية في العِلية لم يغير شيئًا. كان كلُّ شيءٍ يخصُّ عائلة بينتلاند آخِذًا في الزوال؛ فلم يعُد يوجَد أي شيء من هذا القبيل في نيو إنجلاند الخاصة بأوهارا وهيجينز وعمال المصانع البولنديين في دورهام. كانت القرية نفسها قد صارت مكانًا جديدًا ومختلفًا.

وفي خضمِّ هذا التمرُّد، باتت تُدرك، بتلك الفطنة الغريبة التي بدا أنها كانت تؤثر على جميع حواسِّها، أنها لم تَعُد بمفردها على الجسر وسط المروج الخالية المُغطاة بالضباب. أدركت فجأة وبيقينٍ غريب أنه كان ثمَّة آخرون في مكانٍ ما على مقربةٍ منها وسط الظلام، ربما يُراقبونها، واجتاحتها للحظة موجة من الشعور السريع والمفزع بالخوف الذي كان أحيانًا يجتاحها في منزل عائلة بينتلاند في الأوقات التي كان يُساورها فيها شعور بأن أشباحًا لا يمكن رؤيتها أو لمسها تُحيط بها. وتبيَّنت على الفور تقريبًا، وسط الضباب الذي يغطي المروج، شخصَين، رجلًا وامرأةً، يسيران متقاربَين جدًّا، وأحدهما يتأبط ذراع الآخر. للحظة قالت في نفسها: «هل جُننتُ حقًّا؟ هل حقًّا أرى أشباحًا؟» خطرت لها الفكرة الغريبة التي مفادها أن هذَين الشخصَين ربما كانا سافينا بينتلاند وتوبي كاين، وقد قاما من قبرهما المجهول وسط البحر ليهيما عبر الحقول والأهوار حول منزل عائلة بينتلاند. وبينما كانا يتحرَّكان عبر الضباب المنتشر والمرصع بالنجوم، بدوَا مُبهمَين وغير مُحدَّدي الملامح ومبتلَّين، مثل شخصَين خرجا توًّا من الماء. تخيلتهما يخرجان، مُبتلَّين يقطران الماء، من وسط الأمواج ويَعبُران الزبد الأبيض للشاطئ في طريقهما إلى المنزل العتيق الكبير …

والغريب في الأمر أن المشهد لم يَملأها بأي شعور بالرهبة، وإنما فقط بالافتتان.

وبعد ذلك، بينما كانا يقتربان أكثر، تعرفت على الرجل — كان شيء مِا من أول وهلة مألوفًا على نحوٍ مبُهم في المشية المتغطرسة المتبخترة. عرفت الساقين المُتقوستَين وتملَّكتها فجأة رغبة في الضحك بشدة ضحكًا هيستيريًّا. لم يكن هذا سوى هيجينز الشبيه بالأرنب مُنخرطًا في مغامرة عاطفية جديدة. بهدوءٍ تراجعت إلى ظلال أشجار الزعرور البري ومرَّ الثنائي من أمامها، على مقربةٍ شديدة لدرجة أنه كان بوسعها أن تمدَّ يدَها وتلمسهما. وحينئذٍ فقط تعرَّفت على المرأة. هذه المرة لم تكن فتاةً بولنديةً من القرية. كانت الآنسة إيجان؛ الآنسة إيجان المتيبِّسة الكُفء، التي أغواها هيجينز. كانت تستند عليه وهما يسيران؛ نسخة غريبة مُنكسِرة أنثوية من الآنسة إيجان لم ترها أوليفيا من قبل مطلقًا.

على الفور قالت في نفسها: «لقد تُرِكَت السيدة بينتلاند العجوز بمُفردها. قد يحدث أيُّ شيء. يجب أن أعود بسرعة إلى المنزل.» وانتابتها نوبة غضب سريعة من المُمرضة المخادِعة، تبعتها لحظة حدس خاطفة بدا أنها وضَّحَت كلَّ ما حدث منذ تلك الليلة الحارة في أوائل فصل الصيف حين رأت هيجينز يَقفز فوق السور مثل الماعز ليَهرب من وهج أضواء السيارات. كانت المرأة المجهولة التي اختفت وراء السور في تلك الليلة هي الآنسة إيجان. لقد كانت تَترك السيدة المسنَّة بمُفردها ليلةً تلوَ الأخرى منذ ذلك الحين؛ وهذا يفسر تبرُّمها المفاجئ وحنقها في اليومَين الماضيَين عندما كان هيجينز محتجزًا برفقة الرجل المسن.

اتضح لها الآن كل شيء — كل ما حدث خلال الشهرَين الماضيَين — في سلسلة مرتَّبة من الأحداث. لقد هربت المرأة المسنَّة، مما أدَّى إلى اكتشاف خطابات سافينا بينتلاند؛ لأنَّ الآنسة إيجان كانت قد تركت موقعها لتتجوَّل عبر المروج استجابةً لنداء تلك القوة الغامضة الهائلة التي تسيطر فيما يبدو على الريف عند حلول الظلام. كان وجود تلك القوة محسوسًا مرةً أخرى الليلة، في كلِّ مكان من حولها … في الهواء الطلق، وفي الحقول، وفي الصوت القادم من البحر البعيد، وفي رائحة الماشية وفي البذور الناضجة … كما حدث في تلك الليلة التي تبعَها فيها مايكل إلى الحديقة.

وبطريقةٍ ما، كانت سلسلة الأحداث كلها تجليًا للقوة المُزعجة التي كشفت في النهاية عن سرِّ خطابات سافينا. لقد تلاعبت بهم تلك القوة، والآن أثقل السرُّ كاهل أوليفيا باعتباره شيئًا يجب أن تُخبِر به أحدًا، شيئًا لم يَعُد بإمكانها أن تكتُمَه في نفسها. اكْتَوت هي الأخرى بنارِ هذا السر، وتملَّكها شعور بأنها تمتلك سلاحًا مخيفًا ومُخزيًا ربما تَستخدِمه إذا تخطَّت الأمور قُدرتها على الاحتمال.

وببُطء، بعدما اختفى العاشقان، شقَّت طريقها عائدةً نحو المنزل القديم الذي لاح في أفق السماء الزرقاء الداكنة بهيئتِه المربَّعة السوداء، وفي أثناء سيرها، بدا أنَّ غضبَها من خيانة الآنسة إيجان للثقة فيها تلاشى على نحوٍ غامِض. ستتحدَّث مع الآنسة إيجان غدًا، أو بعد غد؛ فعلى أيِّ حال، كانت العلاقة قد استمرَّت طوال فصل الصيف ولم تُسفِر عن أي ضرر؛ لا ضرر باستثناء اكتشاف خطابات سافينا. وشعرت بتعاطُفٍ مُفاجئ تجاه تلك المرأة المتيبِّسة الكُفء التي لم تُحبَّها مطلقًا؛ رأت أن حياة الآنسة إيجان، في نهاية المطاف، كانت مريعة؛ أيام متوالية تُمضيها برُفقة عجوز مجنونة. ظنَّت أوليفيا أن هذه الحياة كانت شبيهةً بحياتها هي نفسها. …

وخطر لها في الوقت نفسه أنه سيكون من الصعب أن تَشرح لإنسانة ذكية جدًّا مثل الآنسة إيجان سبب وجودها هي نفسها على الجسر في تلك الساعة المتأخِّرة من الليل. بدا الأمر وكأن كل شيء، كل فكرة وتصرُّف صغير، صار مُتشابكًا وميئوسًا منه أكثر فأكثر، وأصعب وأعقد بمرور الأيام. لم يكن من مَخرجٍ سوى تمزيق الشبكة بجرأة والفكاك منها.

قالت في نفسها: «كلَّا. لن أبقى … لن أُضحِّي بنفسي. غدًا سأُخبر مايكل بأنه عندما ترحَل سيبيل، سأفعل أيًّا كان ما يُريد منِّي أن أفعله …»

وعندما وصلت إلى المنزل وجدَتْه مُظلمًا باستثناء الضوء المشتعل باستمرار في الرَّدهة الكبيرة والذي كان يُضيء صفوف الصور الشخصية بإضاءةٍ خافتة؛ وكان يَعمُّه الصمتُ عدا مِن أصوات الصرير التي كانت تنتابُه في سكون الليل.

٣

استيقظَت مبكرًا، بعد أن نامت ليلةً سيئة، على خبرٍ مفاده أن مايكل مكث في بوسطن الليلة السابقة ولن يتمكَّن من ركوب الخيل معها كالمُعتاد. وعندما ذهبت الخادمة أصابها شعور بالاكتئاب؛ نظرًا لأنها كانت قد اعتمدت على مقابلته والتوصُّل إلى خطةٍ محددة ما. وللحظة انتابها حتى شعورٌ مُبهمٌ بالغيرة، نبذَتْه على الفور باعتباره مُخزيًا. وقالت في نفسها إنه لم يُهمِلها في أي وقتٍ قط؛ كل ما في الأمر أنَّ انشغاله زاد أكثر فأكثر مع اقتراب فصل الخريف. لم يكن في الأمر أيُّ امرأةٍ أخرى؛ كانت تَشعُر بالثِّقة فيه. ورغم ذلك، ظل ذلك الشك الصغير الغريب المُزعِج، الذي انزرع في عقلها حين قال جون بينتلاند: «هو رجل أيرلندي ذكيٌّ في سبيلِه إلى الوصول لغايته … ومثل هؤلاء الرجال يجب أن يُخضَعوا للمراقبة.»

على أيِّ حال، لم تكن تعرف عنه شيئًا باستثناء ما اختار أن يُخبرها به. إنه رجل حُر ومُستقِل ومُغامِر بإمكانه أن يفعل ما يشاء في الحياة. فلماذا يُدمِّر نفسه من أجلها؟

نهضت أخيرًا، عازمةً على ركوب الخيل بمُفردها، على أمَلِ أن يجعل هواءُ الصباح المنعش والتمرينُ الرياضيُّ غيومَ الكآبة، التي ظلَّت مُستحوذة عليها منذ اللحظة التي تركَت فيها جون بينتلاند في المكتبة، تَنقشِع.

وبينما كانت تَرتدي ملابسها، قالت في نفسها: «بعد غد، سأَبلُغ أربعين عامًا. ربما لهذا السبب أشعر بالإعياء والكآبة. ربما أنا على أعتاب مرحلة مُنتصَف العمر. ولكن هذا مُستحيل. فأنا أتمتَّع بالقوة والصحة الجيدة وأبدو صغيرة في السن، رغم كل شيء. أنا متعبة بسبب ما حدث في الليلة السابقة.» ثم جال في خاطرها فكرة أنه ربما راوَدَت نفسُ هذه الأفكار السيدةَ سومز مرارًا وتكرارًا طوال الفترة الطويلة التي أخلصت فيها لجون بينتلاند. قالت في نفسها: «كلَّا، مهما حدث لن أعيش الحياة التي عاشتها. أي شيء أفضل من ذلك … أي شيء.»

بدا لها غريبًا أن تَستيقِظ وتجد أن لا شيء تغيَّر في العالَم كله من حولها. بعد ما حدَث في الليلة السابقة في غرفة المكتبة وفي المروج المعتمة، لا بدَّ أن هذا ترك أثرًا ما على الحياة في منزل عائلة بينتلاند. لا بدَّ أن المنزل في حدِّ ذاته والمشهد الطبيعي نفسه قد سجَّلا ما حدث؛ ورغم ذلك كان كلُّ شيءٍ على حاله. انتابتها صدمة مُفاجئة ضئيلة عندما وجدت أشعَّة الشمس ساطعة، ورأت هيجينز في ساحة الإسطبل يسرج حصانها ويُصفر طوال الوقت برُوح معنوية مُرتفعة على نحو مُبالَغ فيه، وسمعت صوت نباح كلاب البيجل مِن بعيد، ورأت سيبيل تعبُر المروج في اتجاه النهر لتقابل جان. كان كل شيء على حاله، حتى هيجينز، الذي حسبتْه بالخطأ شبحًا أثناء عبوره المروج المغطَّاة بالضباب قبل بضع ساعات. بدا وكأنه تُوجَد نُسختان للحقيقة في منزل عائلة بينتلاند — واحدة، ربما يُقال عنها، إنها تخصُّ النهار، والأخرى تخص الظُّلمة — كما لو أن ثمة حياة — سرية وخفية — كامنة تحت السطح المشرق المُبهج لعالَمٍ يتألف من الحقول والأشجار الخضراء، وصوت نباح الكلاب، ورائحة القهوة التي تفوح من المطبخ، وصوت سائس الخيل وهو يُصَفِّر بينما يسرج جوادًا أصيلًا. كان من سوء الطالع أن منَحها الحظُّ نفاذَ بصيرة إلى كِلا العالَمين؛ العالَم المشرق المُبهج والعالَم المُعتم الضبابي. لم يكن الآخرون، ربما باستثناء جون بينتلاند العجوز، يرَون إلا هذه الحياة المشرقة الرغدة التي بدأت تتحرَّك من حولها.

فكَّرَت مليًّا في أن أيَّ شخصٍ غريب يدخل منزل عائلة بينتلاند من شأنه أن يجده منزلًا مبهجًا ومُريحًا، حيث الحياة فيه رغدة بل ومُترَفة، حيث الجميع تحت حماية الثروة. من شأن ذلك الغريب أن يجدهم جميعًا أشخاصًا طبيعيِّين مُبتهِجين ودودين من عائلة محترمة بل ومُتميزة. ومن شأنه أن يقول: «هذا العالم متماسِك ومريح وآمن.»

أجل، من شأنه أن يبدو كذلك لشخصٍ غريب، ولذلك ربما لا وجود لذلك العالم المُعتم المُخيف إلا في مخيلتها. ربما هي نفسها مريضة، وغير متزنة قليلًا وسوداوية … وربما تكون مخبولة قليلًا مثل العجوز في الجناح الشمالي.

قالت في نفسها إنه، مع ذلك، لا بد أن مُعظَم البيوت، ومُعظم العائلات، لدَيها حياة مُزدوَجة كتلك؛ حياة يراها العالم الخارجي وأخرى تظلُّ مَخفية عن العيون.

وبينما كانت ترفع رقبة حذائها، سمعت صوت هيجينز، صاخبًا ومرحًا، يَتبادل المُزَح الغرامية مع خادمة المطبخ الأيرلندية الجديدة، ليَحجزها لنفسه بذلك.

•••

اعتلَتِ الفرسَ بفُتور همَّة، تاركة إيَّاها تقود الطريق عبر الأيكة الكثيفة على طول المسارات المعتمة الباردة التي لطالَما سارت فيها هي ومايكل معًا. لم يُغيِّر هواء الصباح من معنوياتها. كان ثمة شيء يبعث على الحزن في ركوب الخيل وحدها عبر النفق الأخضر الطويل.

وعندما خرجت أخيرًا على الجانب المقابل لحقل النعناع البري حيث كانا قد التقيا بالآنسة بيفي، رأتْ سيارةً من نوع فورد مُتوقِّفة على جانب الطريق ورجلًا واقفًا بجوارها، يُدخن سيجارًا وينظر إلى المحرك كما لو كان في ورطة. لم ترَ شيئًا أكثر من ذلك وكانت ستتجاوزه دون أن تُكلِّف نفسها عناء أن تُلقي نظرةً ثانيةً عليه، لولا أن سمعت اسمها يُنادى.

«أنتِ السيدة بينتلاند، أليس كذلك؟»

فاقتربت بالفَرس. وقالت: «بلى، أنا السيدة بينتلاند.»

كان رجلًا ضئيلَ البنية، مُتأنقًا للغاية في بدلةٍ ذات نقوش مربعة صغيرة، وياقة بيضاء عالية ومُتصلِّبة بدت وكأنها تخنقه. كان يَضع نظارة أنف وعلى وجهه نظرة بالِغة التهذيب. وبينما كانت تَلتفِت، خلع قبعة القش التي كان يعتمرها وتقدَّم نحوَها مُظهِرًا قدرًا كبيرًا من التهذيب، وانحنى وابتسم بودٍّ.

قال: «حسنًا، أنا سعيد بمعرفة أنني أصبتُ في تخميني. كنتُ آمُل أن أُقابلكِ هنا. إنه لمن دواعي سروري أن أتعرَّف عليكِ، يا سيدة بينتلاند. اسمي جافين … وبالمناسبة أنا صديق لمايكل أوهارا.»

ردَّت أوليفيا: «أوه! كيف حالك؟»

سألها: «آمُلُ ألا تكوني في عَجلةٍ مِن أَمرِك، هل أنتِ كذلك؟ أودُّ أن أتحدث معكِ حديثًا موجزًا.»

«كلَّا، لست في عجَلة من أمري.»

كان من المُستحيل أن تتخيَّل ما في جعبة هذا الرجل الأنيق الضئيل البِنية، الذي يقف في مُنتصَف الطريق، ينحني ويبتسم.

بينما كان لا يَزال مُمسكًا بالقبعة في يده، ألقى بعقب سيجاره ثم قال: «الأمر متعلق بمسألة حساسة جدًّا يا سيدة بينتلاند. الأمر مُتعلِّق بحملة السيد أوهارا الانتخابية. أظنُّ أنكِ على علم بذلك. أعتقد أنكِ صديقته، أليس كذلك؟»

قالت ببرود: «أوه، بلى. نركب الخيل معًا.»

تنحنح، وبدا واضحًا عليه الاضطراب، وشرع في أن يَحيد بعيدًا عن الموضوع الرئيسي، قائلًا: «حسنًا، أنا صديق مُقرَّب له. في الواقع، نشأنا معًا … وعِشنا في الحي نفسه وتشاجرنا معًا عندما كنا صبيَّين. قد لا يجول في ذهنك أن ترَينا معًا … لأنه شخص ذكي للغاية. لقد جُبِلَ على النجاحات الكبرى أما أنا فلست كذلك … أنا … أنا مجرَّد شخص عادي يُدعى جون جافين. لكننا صديقان، على أيِّ حال، كما عَهدنا أن نكون تمامًا … كما لو أنه لم يكن رجلًا عظيمًا. تلك حقيقة بشأن مايكل. إنه لا يُدير ظهره أبدًا لأصدقائه القدامى، بصرف النظر عن مدى العظمة التي يصل إليها.»

التمعَت عينا الرجل الضئيل الزرقاوين ببريق إعجاب. فكَّرت أوليفيا في نفسها أن الأمر أشبه بما لو كان يتحدَّث عن الرب؛ غير أنه كان جليًّا أنه كان يَعتبر مايكل أوهارا أعظم من الرب نفسه. إن كان تأثير مايكل على الرجال هكذا، فمن السهل معرفة سبب نجاحه الكبير.

ظلَّ الرجل الضئيل يُقاطع حديثه بالاعتذارات. قائلًا: «لا ينبغي أن أطيل عليكِ يا سيدة بينتلاند … فقط دقيقة واحدة. ما أريد أن أقوله إنني رأيت أنه من الأفضل أن أُقابلكِ هنا بدلًا من المجيء إلى المنزل.» تغيَّرت تعبيرات وجهه المُشرق فجأة، وصار جادًّا بشدة. «سأُخبركِ بالأمر وما فيه يا سيدة بينتلاند … أعرف أنكِ صديقة مقرَّبة منه وأنك تتمنَّين له الخير. وترغبين في أن يُنتَخَب … على الرغم من أن الناس هنا لا يؤيدون الحزب الديمقراطي.»

قالت أوليفيا: «أجل، هذا صحيح.»

واصلَ حديثه بجهد واضح: «حسنًا، مايكل صديق مقرَّب لي. أنا إلى حدٍّ ما حارسه الشخصي. بالطبع، أنا لا آتي إلى هنا مُطلقًا. أنا لا أنتمي إلى هذا العالم … من شأني أن أشعر بالغرابة هنا.»

(وجدت أوليفيا نفسها تشعر بالاحترام تجاه الرجل الضئيل. كان بسيطًا للغاية وصادقًا جدًّا وكان من الواضح أنه يحبُّ مايكل حبًّا جمًّا.)

«ما أريد أن أقوله … أنا أعرف كل شيء عن مايكل. لقد مررتُ بتَجارب كثيرة معه … وهو ليس على طبيعته في الوقت الحالي. ثمَّة خطب ما. لم يَعُد مهتمًّا بعمله. يتصرَّف كما لو أنه على استعداد لأن يطرح مسيرتَه المهنية بأكملها جانبًا … ولا أستطيع أن أتركه يفعل ذلك. لا أحدَ من أصدقائه … يستطيع أن يتركه يفعل ذلك. لا يُمكننا حملُه على الاهتمام بشئونه الخاصة كما ينبغي. فعادة، هو من يتولَّى إدارة كل شيء … أفضل من أي شخصٍ آخر.» وفجأة بدا على ملامحِه أنه يأتمنُها على أسرار، وهو يُغمض إحدى عينَيه. وسألها: «أتعرفين ما رأيي في الأمر؟ لقد كنتُ أراقبه ولديَّ فكرة.»

انتظر حتى ردَّت أوليفيا قائلة: «كلَّا … ليس لديَّ أدنى فكرة.»

أمال رأسه على أحد الجانبين مُتحدثًا بنَبرة تدلُّ على أنه توصَّل إلى كشف عظيم، قال: «حسنًا، أظن أن في الأمر امرأة.»

شعرت بالدماء تتصاعد إلى رأسها، بصرف النظر عن أيِّ شيءٍ بإمكانها فعله. وعندما تمالكت نفسها لتتحدَّث، سألته: «أجل، وما عسايَ أن أفعل؟»

اقترب منها أكثر قليلًا، وقال لها بنفس نبرة ائتمانها على الأسرار: «حسنًا، إليكِ فكرتي. الآن، أنتِ صديقته … وستتفهَّمين ذلك. ما أريد أن أقوله هو أن المشكلة مُتعلِّقة بامرأةٍ ما، هنا في دورهام … شخصية اجتماعية مرموقة، مثلكِ. هذا ما يجعل الأمر صعبًا. لقد دخل في علاقات مع نساء من قبل، ولكنَّهنَّ كُنَّ نساء من خارج الدائرة الانتخابية ولم يُشَكِّل هذا فارقًا كبيرًا. ولكن الأمر هذه المرة مُختلِف. إنه مُضطرِب للغاية و…» تردَّد للحظة قبل أن يتابع حديثه. «حسنًا، أنا لا أودُّ أن أقول شيئًا كهذا عن مايكل، ولكن أظن أنه مَفتون قليلًا. هذا شيء وضيع لأقوله، ولكننا جميعًا بشر، أليس كذلك؟»

ردَّت أوليفيا برقَّة: «أجل. أجل … في النهاية، نحن جميعًا بشر … حتى الشخصيات الاجتماعية المرموقة مِثلي.» كان ثمَّة بريقُ مِزاح في عينها أربك الرجل الضئيل البِنية للحظة.

وواصَلَ حديثه قائلًا: «حسنًا، إنه مُضطرِب للغاية بشأنها وعاجز عن فعل أي شيء. الآن، ما فكَّرتُ فيه هو … هو أنه يمكنكِ اكتشاف مَن تكون هذه السيدة وتذهبي إليها وتُقنعيها بأن تدَعَه وشأنه لبعض الوقت … أن ترحلَ بعيدًا إلى مكانٍ ما … على الأقل حتى تَنتهيَ الحملة الانتخابية. هذا من شأنه أن يُحدِث فارقًا. هل تفهمينني؟»

نظر إليها بجرأة، كما لو أن ما قاله كان صادقًا وصريحًا، كما لو أنه حقًّا لم يكن لدَيه أدنى فكرة عمَّن تكون هذه السيدة، ووراء شعور مُستَتِر بالغضب، كانت أوليفيا مُستمتِعة بالتكتيك المُتواضِع الذي صيغت به هذه الحيلة.

قالت: «ليس بوسعي فعل الكثير. إنها فِكرة غير معقولة … ولكن سأفعل ما في وسعي. سأحاول. لا أستطيع أن أعدكَ بأي شيء. فالأمر كله في النهاية بيد السيد أوهارا.»

«ما أريد أن أُوضِّحه يا سيدة بينتلاند، أنه إن تحوَّل الأمر إلى فضيحة، فإنه سيَقضي عليه. فامرأة من خارج الدائرة الانتخابية ليست ذات أهميةٍ كبيرة، ولكن امرأة من تلك الأنحاء من شأنها أن تُحدِث فارقًا. ستَجلِب لنفسها الكثير من الدعاية من جانب رؤساء التحرير المُهتمِّين بفضائح المجتمع وما شابه … وهذا هو الخطير في الأمر. ستَنقلِب الكنيسة كلها عليه بسبب الفساد الأخلاقي.»

وبينما كان يتحدَّث، خطرت على بال أوليفيا فكرة غريبة؛ وهي أن الكثير مما قاله كان يبدو أشبه بمُحاكاة غريبة للطُّرُق التي تتبعها العمة كاسي في الجدال.

كان صبر الفرس قد نفد وأخذَت تَنبش الطريق بحوافرها وتهز رأسها بحركات فجائية؛ وصارت أوليفيا غاضبة الآن، غاضبة بحق، لذا تمهَّلت قليلًا قبل أن تتحدَّث، كيلا تفضح نفسها وتُفسِد لعبة التظاهُر الصغيرة هذه التي ابتكرها السيد جافين ليُحافِظ على مظهر هادئ ويُخفي مشاعره. أخيرًا قالت: «سأفعل ما في وسعي، ولكنَّكَ تَطلُب مني شيئًا سخيفًا.»

ابتسم الرجل الضئيل البِنية كاشفًا عن أسنانه. وقال: «لقد أمضيتُ وقتًا طويلًا في السياسة يا سيدتي، ورأيتُ أشياء أسخف من هذا …» واعتمر قبَّعته، كما لو أن ذلك إشارة على أنه قال كل ما أراد قوله. وأردف قائلًا: «ولكن ثمة شيء واحد أودُّ أن أطلبه … وهو ألا تدعي مايكل يعرف أبدًا أنني تحدَّثتُ معكِ عن هذا الأمر.»

«ولماذا يَنبغي أن أَعدكَ … بأي شيء؟»

اقترب أكثر وقال بصوت خفيض: «أنتِ تَعرفين مايكل جيدًا، يا سيدة بينتلاند … أنتِ تعرفين مايكل جيدًا، وتعرفين أنه عصبي وسريع الغضب. إذا اكتشفَ أننا كنا نتدخَّل في شئونه، فقد يفعل أي شيء. قد يترك المسألة كلها فجأة وينفضُ يده تمامًا. لم يسبق له أن تصرف هكذا بشأن أي امرأة. ولكنه يُمكن أن يفعل ذلك الآن … ذلك هو ما يشعر به. أنتِ لا ترغبين في رؤيته وهو يُدمِّر نفسه ولا أنا أرغب في ذلك … رجل ذكي مثل مايكل. يا إلهي، قد يصبح رئيسًا ذات يوم. يستطيع أن يفعل أي شيء يضعه نصبَ عينَيه، يا سيدتي، لكنه صار الآن، كما يقولون، مُتقلِّب المزاج.»

قالت أوليفيا بهدوء: «لن أُخبره. وسأفعل ما بوسعي لمساعدتك. الآن يجب أن أذهب.» شعرت فجأةً بالودِّ تجاه السيد جافين، ربما لأن ما قاله لها هو بالضبط ما كانت تُريد سماعه في تلك اللحظة. انحنت من على فرسها ومدَّت يدَها وهي تقول: «صباح الخير يا سيد جافين.»

خلع السيد جافين قبعته مرةً أخرى، كاشفًا عن رأسه المستدير الأصلع اللامع. وقال: «صباح الخير يا سيدة بينتلاند.»

وبينما كانت ماضية على صهوة فرسها، ظلَّ الرجل الضئيل البِنية واقفًا في منتصف الطريق يُلاحقها بنظراته حتى اختفت. لمعت عينه ببريقِ الإعجاب، ولكن حين انعطفت من الطريق متَّجهة إلى المروج، عبَسَ وسبَّ جهرًا. فحتى هذه اللحظة لم يكن يفهم كيف يمكن لسياسي محنَّك مثل مايكل أن يَفقد رباطة جأشه ويتصرَّف بلا تعقُّل من أجل امرأة. ولكن راوَدتْه فكرة أن بإمكانه أن يَثِق بهذه المرأة في أنها ستفعل ما وعدت به. كان ثمة شيء ما في مَظهرها … مظهر جعلها تبدو مُختلِفة عن معظم النساء؛ ربما كان هذا المظهر هو ما خدع مايكل الذي عادةً ما كان يضع النساء في وضعهنَّ المُناسب.

ابتسم ابتسامةً واسعة وهز رأسه، ثم استقل السيارة الفورد، وأدارها فأحدثت ضجةً كبيرة، وانطلق صوب بوسطن. وبعد أن سار لمسافة صغيرة توقَّف مرةً أخرى ونزل من السيارة، لأنه في غمرة انفعاله نسي أن يُغلق غطاء محرك السيارة.

•••

من اللحظة التي استدارت فيها أوليفيا وانطلقت بفرسها مُبتعدةً عن السيد جافين، عزمت على بذل قصارى جهدها للتصرف. رأت أن الحاجة كانت تدعو إلى ما هو أكثر من مجرَّد قول الحقيقة لتنظيم الفوضى المُبهَمة التي حلَّت على منزل عائلة بينتلاند؛ يجب أن يكون هناك أيضًا تصرُّف ما. وكان الغضب الآن يتملَّكها، غضب شديد، حتى على السيد جافين لصفاقته، وعلى الشخص المجهول الذي كان مصدر معلوماته. وظلَّت الفِكرة الغريبة، التي مفادها أن العمَّة كاسي أو آنسون كانا مسئولَين بشكلٍ أو بآخر عن هذا الأمر، احتمالًا قائمًا؛ فتكتيكات كهذه كانت مُتوافِقة تمامًا مع أساليبهما؛ أن يلجآ بأسلوب ميكيافيللي إلى رجلٍ مثل جافين بدلًا من مواجهتِها مُباشرةً. فبالاستعانة بالسيد جافين لن تَحدُث جلبة، ولا خلافٌ محدَّد ليُعكِّر حالة الافتتان المحيطة بعائلة بينتلاند. يمكنهم الاستمرار في التظاهر بأنه ليس ثمَّة خطب، وأن شيئًا لم يحدث.

ولكن خوفها كان أقوى من غضبها؛ الخوف من أنهما ربما يستخدمان التكتيكات نفسها لإفساد سعادة سيبيل. كانت مُتيقِّنة من أنهما سيُضحيان بأي شيء في سبيل إيمانهما بأنهما على صواب.

وجدت جان في المنزل عندما عادت، وبينما كانت تُغلق باب غرفة الجلوس، قالت له: «جان، أريد التحدث معكَ لدقيقة … على انفراد.»

قال على الفور: «أعرف يا سيدة بينتلاند. الأمر يخصُّ سيبيل.»

كان يتردَّد في صوته قدْر قليل من المرح وهو ما أثَّر فيها وجعَلَها ترقُّ له كما هو الحال دومًا. وأذهلها أنه كان لا يزال حديث السن بما يَكفي ليكون واثقًا من أنَّ كل شيء في الحياة من شأنه أن يسير بالضبط كما تمنَّاه …

قالت: «أجل، إنه كذلك.» جلسا على كرسيين من كراسي هوراس بينتلاند وتابعت حديثها. قالت: «أنا لا أُومن بالتدخُّل فيما لا يَعنيني يا جان، ولكن الآن تُوجَد ظروف خاصة … أسباب.» قامت بإيماءة صغيرة. وأردفت قائلة: «ظننتُ أنه إن كنتَ حقًّا … حقًّا …»

قاطعها بسرعة قائلًا: «أنا بالفعل أريد ذلك يا سيدة بينتلاند. لقد تباحَثنا الأمر، أنا وسيبيل … واتفقنا. كلانا يحبُّ الآخر. وسنتزوَّج.»

راقبت الوجهَ اليافع المُتحمِّس، وقالت في نفسها: «يا له من وجه لطيف لا أثر فيه لشيء وضيع أو بغيض. الشفتان ليستا رفيعتَين ومتصلبتَين مثل شفتَي آنسون، والبشرة ليست شاحبة وباهتة كحال بشرة آنسون دومًا. إنه وجه مُفعَم بالحيوية والقوة والسحر. إنه وجه رجل من شأنه أن يكون مُناسبًا لامرأة … رجل لا يفتقر إلى العاطفة على الإطلاق.»

سألته: «هل تُحبها … حقًّا؟»

«أنا … أنا … هذا سؤال أعجز عن الإجابة عنه لأنه لا تُوجد كلمات لوصف حُبي لها.»

«لأن … في الواقع … يا جان، ليست حالة عادية لأمٍّ وابنتها. الأمر أعمق من ذلك بكثير. الأمر عندي أهمُّ مِن سعادتي الشخصية، من حياتي ذاتها … لأنَّ، في الواقع، لأن سيبيل مثل جزء من نفسي. أريدها أن تكون سعيدة. إنها ليست مجرَّد حالة بسيطة لشابَّين مُقْدِمَين على الزواج. الأمر أكبر من ذلك بكثير.» ساد الصمت لبُرهة، ثم سألته: «إلى أيِّ مدًى تُحبُّها؟»

تحرَّك حتى صار جالسًا على حافة الكرسي، وكله حماس. وشرَع في الرد ولكن بقليل من التلعثم قائلًا: «يا إلهي … لا يُمكنني التفكير في العيش بدونها. الأمر مختلف عن أي شيءٍ تخيَّلتُه يومًا ما. رباه … لقد خططنا لكل شيء … لحياتنا كلها. لو فقدتُها، لن يُهمَّ ما سيحدث لي بعدها.» ابتسم ابتسامةً واسعة وأضاف قائلًا: «ولكن … لقد قال الناس كل ذلك من قبل. لا توجَد كلمات يُمكن أن تفسِّر … يمكن أن تجعل الأمر يبدو مختلفًا عن أي شيءٍ آخر كما يبدو لي.»

«ولكنَّك ستَأخُذُها بعيدًا عن هنا، أليس كذلك؟»

«بلى … تُريد أن تذهب حيثما أذهب.»

(قالت أوليفيا في نفسها: «إنهما صغيران في السن. لم يُفكِّرا مُطلقًا في أي شخصٍ آخر … لا فيَّ أنا ولا في جد سيبيل.»)

ثم قالت جهرًا: «أتَّفق معك يا جان … أريدكَ أن تأخذها بعيدًا عن هنا … بصرف النظر عما يحدث، يجب أن تأخُذَها بعيدًا.» (وأردفت قائلة في نفسها: «وحينئذٍ لن يكون لديَّ حتى سيبيل.»)

«سنَذهب إلى مزرعتي في الأرجنتين.»

«أتَّفِق معك … أظن أن سيبيل سيُعجبها ذلك.» تنهَّدت، رغمًا عنها، وهي تشعر بحسدٍ مُبهَم لكلَيهما. «ولكنَّكَ شابٌّ غِرٌّ. كيف يُمكنك أن تعرف على وجه اليقين؟»

للحظة عابرة امتُقعَ وجهُه وقال: «أنا في الخامسة والعشرين من عمري، يا سيدة بينتلاند … ولكن ليس هذا الشيء الوحيد وحسب … ما أُريد أن أوضِّحَه لكِ أنني نشأتُ بين الفرنسيين … كرجلٍ فرنسي. وهذا هو مَكمن الاختلاف.» تردَّد، وتجهَّم وجهُه للحظة. ثم أردف قائلًا: «ربما لا ينبغي أن أُفصح … ربما لن تفهمي. أعرف كيف تسير الأمور في هذا الجزء من العالَم … ما أريد أن أقوله، لقد نشأتُ على أن أعتبر الوقوع في الحب شيئًا طبيعيًّا … شيئًا مبهجًا وطبيعيًّا ومُمتعًا. لقد أحببتُ من قبل، حبًّا عارضًا … بطريقة الشباب الفرنسي … ولكن بجدية، أيضًا؛ لأن الرجل الفرنسي لا يسعه إلا أن يُحيط أمرًا كهذا بالمشاعر والرومانسية. لا يسعه إلا ذلك. لو كان الأمر مجرد … مجرد شيء مُخجِل وبغيض، فلن يستطيع تحمُّله. إنهم لا يدخلون في علاقات غرامية بدون مشاعر … بالطريقة التي سمعتُ الرجال يتحدَّثون بها عن تلك الأمور منذ جئتُ إلى هنا. هذا مكمن الاختلاف، يا سيدة بينتلاند، إذا ما رأيتِ الأمر على ضوء الطريقة التي ينظرون بها إليه. الأمر مختلف هنا … أرى الاختلاف أوضح يومًا بعد يوم.»

كان يتحدث بكل جدية وشغف، وعندما توقَّف عن الحديث للحظة، ظلَّت صامتة، عازفة عن مقاطعته إلى أن ينتهي من حديثه.

«ما أُحاوِلُ قوله صعب ومعقَّد يا سيدة بينتلاند. ولكن الأمر بكل بساطة هو … أنني في الخامسة والعشرين من عمري، ولكنَّني اكتسبتُ خبرةً في الحياة. لا تَضحكي! لا تظنِّي أنَّني مجرَّد شابٍّ جامعي أُحاول جعلَكِ تظنِّين أنني فاسق. كل ما في الأمر أن ما أقوله حقيقي. لديَّ معرفة بمثل هذه الأمور … وأنا سعيد لأنَّ هذا يَجعلني أكثر يقينًا في أن سيبيل هي المرأة الوحيدة في العالم التي تَصلُح لي … التي من أجلها سأُضحِّي بكل شيء. وسأعرف جيدًا كيف أسعدها، وسأكون لطيفًا معها … وسأفهمها. ولقد تعلمت الآن، وهو أمر يحتاج إلى التعلُّم … أهم شيء في الحياة كلها. الفرنسيون مُحقُّون بشأنه. إنهم يجعلون من الحُب شيئًا جميلًا ورائعًا.» أشاح ببصره وقد بدا حزن مُفاجئ على ملامحه. وأردف قائلًا: «ربما لم يكن يَنبغي أن أُفصح لكِ عن كل هذا … ولكنَّني أخبرت سيبيل. وهي تفهم.»

ردَّت أوليفيا: «كلَّا. أظنُّ أنك مُحقٌّ … ربما.» ظلَّت تفكر في القصة المأساوية الطويلة لجون بينتلاند، ولآنسون، اللذَين شعرا دومًا بالخجل من الحبِّ وتعامَلا معه على أنه شيء مَقيت. في نظرهما، كان شيئًا كئيبًا وغريبًا دائمًا ما يشوبه الخِزي. ظلَّت تفكر، على الرغم من أي شيء يمكن أن تفعله، في محاولات آنسون الخرقاء المتكلَّفة لممارسة الحب، وغمرها فجأة شعور بالخزي من أجله. كان آنسون، الفخور والمتغطرس جدًّا، بائسًا، وأدنى حتى من سائسه.

ثم سألته: «ولكن لماذا لم تتحدَّث معي بخصوص سيبيل في وقتٍ أبكر من ذلك؟ لقد لاحظ الجميع الأمر، ولكنكَ لم تتحدَّث إليَّ مُطلقًا.»

للحظة لم يُجِبها. وغشيَ تعبيرٌ يشي بالألم عينَيه الزرقاوين، ثم قال، وهو ينظر إليها مباشرةً: «ليس من السهل توضيح السبب. كنتُ خائفًا من أن آتيَ إليكِ خوفًا من أنكِ قد لا تفهمين، وكلَّما طالت مدة وجودي هنا، أجَّلتُ الأمر أكثر لأن … في الواقع، لأن هنا في دورهام، الأسلاف، والعائلة، وكل تلك الأمور، تبدو مِحوَر كل شيء. يبدو أنه يُوجَد دومًا تساؤل حول عائلة المرء. لا اهتمام سوى بالماضي، ولا اهتمام بالمستقبل على الإطلاق. كذلك، ما أريد قوله، إنني، نوعًا ما … لا أملك عائلةً.» هز كتفَيه العريضتَين وكرَّر قوله: «نوعًا ما، لا أملك عائلةً على الإطلاق. ما أريد قوله، لم تتزوَّج والدتي أبدًا من والدي … وليس لي حقُّ الانتساب إلى اسم دي سيون. أنا … أنا … في الواقع، مجرَّد لقيط، وبدا أن مجرَّد الحديث إلى أحد أفراد عائلة بينتلاند عن الارتباط بسيبيل أمرًا ميئوسًا منه.»

لاحظ أنها أجفلَت، وانزعجت، ولكنه لم يكن بوسعه أن يَعرف أن النظرة في عينَيها لم يكن لها إلا علاقة ضئيلة جدًّا بالشعور بالصدمة مما كان قد قاله لها؛ بل كانت تُفكِّر في أن معرفة ذلك من شأنها، في يد آنسون والعمة كاسي، بل وفي يد جون بينتلاند نفسه، أن تكون سلاحًا رهيبًا.

أخذ يتحدَّث مرةً أخرى بنفس الجدية المُفعَمة بالحماس.

«لن أجعل هذا يُحدِث أي فارق، ما دامت سيبيل ستَقبل بي زوجًا، ولكن، ما أريد قوله، من الصعب جدًّا أن أشرح، لأنَّ الأمر ليس كما يبدو. أريدكِ أن تفهمي أن والدتي امرأة رائعة … لن أُكلِّف نفسي عناءَ التوضيح، أن أقول أي شيء … فيما عدا لكِ أنتِ وسيبيل.»

«لقد أخبرتني سابين بشأن والدتِك.»

قال جان: «السيدة كاليندار تَعرفها منذ فترة طويلة … إنهما صديقتان رائعتان. وهي تتفهَّم الأمر.»

«ولكنَّها لم تُخبرني قط … بذلك. هل تقصد أنها تعرف ذلك طوال الوقت؟»

«هذا ليس أمرًا يسهل الحديث عنه … لا سيما هنا في دورهام، وفي تصوري أنها ظنَّت أنه قد يُسبِّب لي المتاعب … بعد أن لاحظَت ما حدث بيني أنا وسيبيل.»

واصَل حديثه بسرعة، ليُخبرها بما كان قد أخبر به سيبيل عن قصة والدته، مُحاولًا أن يجعلها تفهم ما فهمه هو، وسابين وحتى زوج أمه، الموقَّر المُسن دي سيون … محاولًا شرح شيء هو نفسه كان يعرف أنه لا يُمكن تفسيره. أخبرها بأن والدته رفضت الزواج من عشيقها، «لأن في حياته خارج إطار علاقتهما … الحياة التي لم يكن لها علاقة بها … اكتشفَت أمورًا لم يكن يُمكنها أن تحتمِلها. رأت أنه كان من الأفضل ألا تتزوَّجه … أفضل لها وله، والأهم من ذلك كله، أفضل لي … لقد فعل أشياء من أجل النجاح — أشياء وضيعةً وغير مُشرِّفة — لم تستطع أن تَغفرها … ولذلك لم تكن لتتزوَّجه. والآن، عندما أسترجع ما حدث، أظن أنها كانت على حق. لم يُحدِث هذا فارقًا كبيرًا في حياتها. لقد عاشت بالخارج … باعتبارها أرملة، وكان عددٌ قليل جدًّا من الأشخاص — لا يزيد عددهم عن اثنين أو ثلاثة — يعرف الحقيقة. لم يُخبر أحد مُطلقًا لأنه، نظرًا لكونه سياسيًّا، كان يخشى من فضيحة كهذه. لم تكن ترغب في أن أنشأ تحت هذا التأثير، وأظنُّ أنها كانت محقَّة. وواصل هو فعل أشياء وضيعة وغير مشرفة … ولا يزال يفعلها اليوم. ما أريد قوله إنه سياسي … سياسي وضيع جدًّا. إنه الآن عضو بمجلس الشيوخ ولم يتغيَّر. يُمكنني أن أخبركِ باسمه … أظنُّ أن مِن شأن البعض أن يظنُّوه رجلًا موقَّرًا … لكنني وعدتُها ألا أُفصح عن ذلك أبدًا. هو يظنُّ أنني ميت … لقد جاء إليها ذات مرة وطلَب أن يراني، وأن يساهم في تعليمي ومُستقبلي. قال إن ثمة أشياء يُمكن أن يفعلها من أجلي في أمريكا … فأخبَرَته ببساطة بأنني تُوفيت … بأنني قُتلتُ في الحرب.»

أنهى حديثه بفورة حماس مُفاجِئة، وأشرق وجهُه بالمحبة. وأردف قائلًا: «ولكن يجب أن تعرفيها حقًّا لكي تفهمي ما أقوله. فعندما تعرفينها، ستَفهمين كل شيء؛ لأنها واحدة من العظماء … الأقوياء في العالم. في الواقع، إنه أحد الأمور التي يستحيل شرحها — لكِ أو حتى لسيبيل — يستحيل شرحُها للآخرين. يجب أن يعرفها المرء بنفسه.»

إن كانت لديها في السابق أيُّ شكوك أو مخاوف، أدركت الآن أنه فات أوان فعلِ شيء الآن؛ أدركت أنه من المُستحيل تغيير إرادة عاشقَين مثل جان وسيبيل. نوعًا ما، باتت تفهم قصة والدة جان من مراقبته أكثر من الاستماع إلى شرحِه المطوَّل. لا بد أنها تتمتَّع بنفس ذلك الإصرار وتلك الرغبة المُلحَّة اللذَين كانا في ابنها … وهي سمة لا تُقاوَم في حدِّ ذاتها. ومع ذلك، كان الأمر صعبًا؛ لأنها خشيت، بطريقةٍ أو أخرى، من تبعات هذا الأمر غير المتوقَّع، ربما لأنه بدا على نحو غامض مثل وصمة سافينا بينتلاند.

قالت: «إذا كان لا أحد يعرف بذلك، فلا داعي للإفصاح عنه هنا. فلن يتسبَّب ذلك إلا في تعاسة جميع المعنيين بالأمر. هذا الأمر يَعنيكَ أنت وحدكَ … وسيبيل. ولا يحق للآخرين أن يتدخَّلوا، أو حتى أن يعرفوا؛ ولكنهم سيحاولون، يا جان … ما لم … تَفعلا ما تريدان … بسرعة. أحيانًا أظن أنهم قد يفعلون أي شيء.»

قال بنفاد صبر: «تَقصدين …»

استرجعت أوليفيا ذلك التلميح المُبهم الذي قد أشار إليه جون بينتلاند في الليلة السابقة. وقالت: «حدثت واقعة هروب مَعَ عَشيقٍ لها ذات مرة في عائلة بينتلاند.»

سألها بحماس قائلًا: «ألن تُمانعي ذلك؟ ألن تتأذَّي … إن تصرَّفنا بتلك الطريقة؟»

قالت أوليفيا في هدوء: «لن أعرف شيئًا عن هذا حتى يكون قد فات أوان فعل أي شيء.»

أضاف قائلًا: «الغريب في الأمر أننا فكَّرنا في ذلك. لقد تحدَّثنا عنه، لكن سيبيل كانت خائفة من أنكِ قد ترغبين في إقامة حفل زفاف ضخم وما إلى ذلك …»

«كلَّا، أظنُّ أنه من الأفضل عدم إقامة أي زفاف على الإطلاق … خاصة في ظل الطروف الراهنة.»

قال في حماس: «اقترحت السيدة كاليندار هذا باعتباره أفضل مخرَج. … وعرضَتْ أن تُقرضنا سيارتها الخاصة.»

«هل ناقشت الأمر معها ومع ذلك لم تتحدَّث إليَّ؟»

«حسنًا، في الواقع، هي مُختلفة … هي وتيريز … إنهما لا يَنتميان إلى دورهام. علاوة على أنها هي التي فاتحتني في الأمر أولًا. كانت تعرف بما يجري. هي تعرف دائمًا. أكاد أظنُّ أنها خططت للموضوع برمته منذ فترة طويلة.»

رأت أوليفيا، وهي تتطلَّع من النافذة، سيارة العمة كاسي العتيقة تدخل ممرَّ السيارات الطويل وهي بداخلها بصحبة الآنسة بيفي، بأوشحتها المتطايرة وكلابها البيكنواه.

قالت أوليفيا: «السيدة سترازرس قادمة. يجب ألا نُثير شكوكها. ومن الأفضل ألا تُخبرَني بأي شيء عن خططك؛ ومن ثَمَّ … لن أتمكن من التدخُّل حتى وإن رغبتُ في ذلك. فربما أغيِّر رأيي … لا أحد يَدري مطلقًا.»

نهض مِن مكانه، وتوجَّه إليها، وأمسك بيدِها وقبلها. وقال: «لا يُوجَد ما يُقال يا سيدة بينتلاند … عدا أنكِ ستكونين سعيدةً بما فعلتِهِ. لستِ بحاجة للقلق بشأن سيبيل … سأُسعدها … أظن أنني أعرف كيف أسعدها.»

تركها، وهُرع مبتعدًا بسرعة مارًّا أمام صفِّ صور الأجداد المعلَّقة في الردهة الطويلة وهو يبحث عن سيبيل، ويفكر في نفس الوقت كم سيبدو غريبًا أن يحظى بحماةٍ شابةٍ وجميلةٍ مثل السيدة بينتلاند. إنها امرأة فاتنة (قالها في نفسه في فورة حماسه)، امرأة عظيمة، ولكنها حزينة جدًّا، كما لو أنها لم ترَ سعادةً في حياتها قط. كان ثمَّة حزن يُخيِّم عليها.

•••

ولكنه لم يفرَّ بالسرعة الكافية، إذ إن عينَي العمة كاسي الحادتَين لمَحتاه وهو يُغادر المنزل في اتجاه الإسطبل. التقت بأوليفيا عند المدخل، فقبَّلتْها وقالت: «هل الشاب الذي رأيتُه يغادر توًّا هو فتى سيبيل؟»

ردَّت أوليفيا: «أجل. كنا نتحدَّث عن سيبيل. قلتُ له أنه يَجب ألا يُفكِّر في الزواج منها.»

أشرق وجه العمة كاسي الشاحب بابتسامة استحسان. وأردفت قائلة: «أنا سعيدة يا عزيزتي، بأنكِ تتحلَّين بالعقلانية حيال هذا. كنت أخشى ألا تكوني كذلك، ولكنَّني لم أودَّ التدخُّل. لا أعتقد أبدًا أن خيرًا يأتي من وراء هذا، ما لم يكن المرء مُجبرًا عليه. إنه ليس الشخص المناسب لسيبيل … ربَّاه، لا أحد يعرف أي شيءٍ عنه. لا يمكنكِ أن تدَعي فتاةً تتزوَّج بتلك الطريقة … من أي شخص يطرق بابها. بالإضافة إلى ذلك، السيدة بولسفير تُراسلني … أنتِ تتذكرينها، يا أوليفيا، خالة فتى عائلة مانرينج التي كانت تَمتلِك منزلًا في شارع تشيسنت … في الواقع، هي تَعيش في باريس الآن في فندق كونتيننتال، وكتبت لي أنها اكتشفت لغزًا غامضًا بخصوص والدته. على ما يبدو لا أحد يعرف عنها الكثير.»

قالت أوليفيا: «يا إلهي، وهل ينبغي أن تراسلكِ بخصوص أمرٍ كهذا؟ ما الذي جعَلَها تظنُّ أنكِ يمكن أن تكوني مُهتمَّة؟»

«حسنًا، كنا أنا وكيت بولسفير نرتاد المدرسة نفسها، وما نزال نتبادَل الرسائل من وقتٍ إلى آخر. كل ما في الأمر أنه تصادَف أنني ذكرتُ اسم الفتى حين كنتُ أكتب لها عن سابين. قالت، بالمناسبة، إن سابين لديها أصدقاء غريبين جدًّا في باريس وإن سابين لم تزُرها كثيرًا مطلقًا أو تطلب منها تناوُل الشاي معها. وثمة فضيحة جديدة بخصوص زوج سابين وامرأة إيطالية. وقعَت في مدينة فينيسيا.»

«ولكنه لم يَعُد زوجها.»

جلست السيدة العجوز وأخذت تُفصِح عن الأخبار التي جاءتها من رسالة كيت بولسفير؛ ومع كل كلمةٍ بدا أنها تزداد قوة أكثر فأكثر، ويقلُّ شحوبها وإجهادها شيئًا فشيئًا.

(قالت أوليفيا في نفسها: «لا بد أن هذا هو أثر المصائب الكثيرة التي احتوتْها رسالةٌ واحدة.»)

رأت حينئذٍ أنها تصرفت في الوقت المناسب وكانت سعيدة بأنها كذبت، بطريقةٍ قاطعة جدًّا، ومقتضبة جدًّا، دون أن تُفكِّر في السبب وراء تصرفها هذا. لأن السيدة بولسفير كانت عازمة على سبر غور المسألة، حتى لو لم يكن يُوجَد سبب سوى إيذاء سابين؛ لقد عاشت فيما مضى في منزل في شارع تشيسنت ستريت كان يُرى منه مدخل كلِّ بيت من البيوت المحيطة. كانت واحدة من الأموات الذين أشار إليهم جون بينتلاند، الذين كانت حياتُهم تتمحوَر حول التلصُّص على حياة الآخرين.

٤

منذ اللحظة التي التقت فيها أوليفيا بالسيد جافين على الطريق الرئيسية حتى المأساة التي وقعت بعدها بيومَين، بدا لها أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند فقَدَت كل واقعيتها. وعندما فكرت في الأمر بعد ذلك بفترةٍ طويلة، وجدت أن الساعات صارت أشبه بكابوس، انفكَّت فيه تعويذة السحر القديمة وأفسحت الطريق أمام إحساس مُرهِق بنزاع بين قوى، تمحوَرَت حولها، وتركتها في النهاية مجروحةً وكسيرةً قليلًا، ولكن تشعر بالأمان.

مرةً أخرى استقرَّت الحرارة الخانقة التي كانت تغشى تلك الناحية من نيو إنجلاند من وقتٍ إلى آخر، تاركةً أوراق الأشجار مُتدلية في وهنٍ وذبول، وتعود لتستقر فوق المروج والأهوار، وفي مُنتصَف فترة ما بعد الظهيرة ظهر مشهدٌ نادر الحدوث للغاية؛ ألا وهو تحرُّك سابين الكسولة تحت أشعة الشمس الحارقة. شاهدتها أوليفيا قادمةً عبر الحقول، لا يَقيها من أشعة الشمس اللافحة إلا المظلة الصفراء البسيطة. تقدمت ببطءٍ وعدم اكتراث، وحتى دخلت غرفة الاستقبال الباردة المظلِمة، كانت تبدو سابين الملولة المألوفة؛ ولم يظهر الاختلاف إلا بعد أن ألقت التحية على أوليفيا.

قالت باقتضاب: «سأُغادر بعد غدٍ.» وبدلًا من أن تجلس ليتحادَثا، ظلت تجول في الغرفة باضطراب، وهي تتفحَّص التُّحف الفنية الخاصة بهوراس بينتلاند وتُقَلِّب صفحات الكتب والمجلات دون أن ترى ما فيها.

سألتها أوليفيا: «لماذا؟ ظننتُ أنك ستَمكُثين حتى شهر أكتوبر.»

«كلَّا، سأُغادر على الفور.» ثم استدارت وتمتمت قائلة: «لقد كرهت دورهام دومًا. إنها لا تُطاق بالنسبة إليَّ الآن. أشعر بمَلل مُريع. لقد كان السبب في مجيئي، في المقام الأول، هو أنني ارتأيتُ أنه يجب أن تتعرَّف تيريز على أهلها. ولكن لا جدوى من ذلك. فلن تتزوَّج بأيٍّ منهم. أرى الآن إلى أي مدًى تُشبه والدها. إنهم ليسوا أهلها ولن يكونوا كذلك أبدًا … لا أتصوَّر أن أيًّا منَّا سترى دورهام مرةً أخرى.»

ابتسمت أوليفيا. وقالت: «أعرف أن المكان هنا مُمل.»

«أوه، أنا لا أقصدكِ أنتِ يا عزيزتي أوليفيا، أو حتى سيبيل أو أوهارا، ولكن ثمة شيء في الأجواء … سأذهب إلى نيوبورت لمدة أسبوعين ثم إلى بلدة بياريتز الفرنسية لقضاء شهر أكتوبر. تيريز ترغب في الالتحاق بأكسفورد.» ثم ابتسمت ابتسامةً ساخرةً. وقالت: «جزء ضئيل منها ينتمي إلى نيو إنجلاند، على أيِّ حال … مسألة التعليم هذه. أردتُ ابنةً تكون نموذجًا للفتاة الاجتماعية فمنحني الرب ونيو إنجلاند عالِمةً ترتدي حذاءً بلا كعب وتنظر في عدسة المجهر. غريب كَيفَ يُضْحي حال الأطفال.»

(قالت أوليفيا في نفسها: «حتى تيريز وسابين. حتى هما يَنتميان إلى هنا.»)

راقبَت أوليفيا سابين، المتمرِّسة جدًّا في الحياة، المتأنِّقة جدًّا في ملبسها، الصلبة جدًّا — يا لها من رحالة لا تهدأ؛ وبينما كانت تُراقبها خطر على بالها مرة أخرى أنها شديدة الشبه بالعمة كاسي — نسخة من العمة كاسي مُتمرِّدة على آلهة العمة كاسي نفسها، «إنها ما بداخل كاسي مجسدًا»، على حد قول جون بينتلاند.

قالت سابين، دون أن تَرفع بصرها عن مجلة «نوفيل ريفيو» الفرنسية: «أنا سعيدة بأن هذا الأمر الذي يخصُّ سيبيل قد حُسِم.»

«أجل.»

«هل أخبركِ عن والدته؟»

«أجل.»

«هل جعلتِ ذلك يُحدِث فارقًا؟ هل أخبرتِ الآخرين؟»

«كلَّا … أي شيء كان يُمكنني أن قوله ما كان سيُحدِث أي فارق.»

«كانت تلك حكمة منكِ … أظن أن تيريز محقَّة، ربما … محقة أكثر من أي منَّا. تقول إن الطبيعة تزدري عُقود الزواج. الاحترام لا يمكن أن يبث الحياة في العفن … وجان مُفعَم بالحياة … وكذلك أمُّه.»

«أعرف ما تَرمين إليه.»

«بالتأكيد يا عزيزتي، حريٌّ بكِ أن تعرفي. لقد عانيتِ منه بما فيه الكفاية. ومعرفة والدته تُشكِّل فارقًا. إنها ليست سيدة عادية تافِهة، أو حتى امرأة كانت ضعيفة بما يكفي لأن تَسمح بإغوائها. يصادف المرء كل خمسين عامًا امرأة تستطيع أن … كيف أقولها؟ … أن تفلت من عواقب فعلة كهذه. يجب أن تَكوني امرأة عظيمة حتى تفعلي هذه الفعلة. لا أظن أنها أحدثت فارقًا كبيرًا في حياتها، ويرجع هذا بالأساس إلى أنها سيدة تتمتَّع برجاحة العقل والذوق الرفيع. ولكن ربما كانت ستصنع فارقًا في حياة جان لو أنه كان قد صادف أمًّا أقل حكمة منكِ.»

«لا أعرف إن كنت أتمتَّع بالحكمة أم لا. أنا مُؤمنة به وأريد لسيبيل أن تهرب.»

أدركت أوليفيا أنهما كانتا لأول مرة تَتناقشان في الأمر دون أن تذكره أيٌّ منهما، الأمر الذي كانت سابين قد تطرَّقت إليه تلميحًا. أشاحت سابين بنظرها ووقفت تتطلَّع من النافذة عبر المروج حيث وقفت الأشجار النائية تتمايل مع موجات الحرارة.

«لقد أفسدتِ إجازتي الصيفية قليلًا يا عزيزتي أوليفيا، بانتزاعكِ صديقي الأيرلندي منِّي.»

فجأة غضبَت أوليفيا كما كانت تغضب أحيانًا من تدخُّلات العمة كاسي. وقالت: «أنا لم أنتزِعه منكِ. لقد فعلت كل ما بوسعي لكي أتجنَّبه … حتى جئتِ أنتِ. أنتِ مَن جمعنا معًا. ولهذا السبب نحن جميعًا في مأزق الآن.» وظلَّت تفكر في أن سابين كاليندار امرأة غريبة حقًّا، ومُعقَّدة وغامضة. لم تكن تعرف أي امرأة أخرى في العالَم يُمكنها التحدُّث على نحوٍ مُتجرِّد من المشاعر، وبدون عواطف مثلها.

قالت لها: «ظننتُ أنه سيُؤانسني، وبدلًا من ذلك وجدته يتَّخذني كاتمةً لأسراره فحسب. يأتي إليَّ طلبًا للنصيحة بخصوص امرأة أخرى. وهذا، في الواقع، ليس أمرًا مُثيرًا للاهتمام جدًّا …»

اعتدلت أوليفيا في جلستها فجأة. وقالت: «ما الذي قاله؟ وبأي حقٍّ يفعل شيئًا كهذا؟»

«لأنني طلبتُ منه ذلك. عندما جئتُ هنا لأول مرة، وعدتُه بأن أُساعدَه. وكما تلاحِظين، أنا ودودة جدًّا مع كليكما. وأريد سعادتكما و… علاوة على ذلك لا يسعُني أن أفكِّر في حدوث أي شيء يمكن أن يَمنحني سعادةً أكبر.»

عندما لم تُجبها أوليفيا، استدارت موليةً ظهرها للنافذة وسألتها فجأة: «ماذا ستفعلين بشأنه؟»

مرة أخرى رأت أوليفيا أنه من الأفضل ألا ترد، ولكن سابين ظلَّت تلحُّ في تلك النقطة بلا هوادة قائلةً: «يجب أن تَعذريني على التحدث بصراحة، ولكن لديَّ محبة كبيرة تجاهكما … وأنا … في الواقع، ضميري يُؤنِّبُني بخصوص هذه المسألة.»

«لستِ مُضطرةً إلى ذلك. لا يُوجَد أي شيء يستلزم أن يؤنبكِ ضميركِ بشأنه.»

«أنت لا تتحرَّين الصدق كثيرًا فيما تقولين.»

فجأة انفجرت أوليفيا غضبًا. وقالت: «ولماذا يشغلكِ هذا الأمر يا سابين … على الإطلاق؟ لماذا لا يُمكنني أن أفعل ما يحلو لي، دون تدخُّل من أحد؟»

«لأنَّ، هنا … وأنتِ تعلمين بقدْر ما أعلم أنا … هنا أمر كهذا مستحيل.»

وفجأة انتابها، بغرابة، شعورٌ بالخوف من سابين، ربما لأنها كانت عازمة جدًّا على دفع الأمور نحو نتيجةٍ محدَّدة. بدا لأوليفيا أنها كانت تفقد أي قُدرة على التصرف، أي قدرة على فعل أي شيءٍ عدا الانتظار والتظاهُر والوقوف مكتوفة الأيدي.

واصلت سابين حديثها بتأنٍّ قائلة: «وأنا مُهتمَّة لأنه لا يُمكنني أن أحتمل رؤية مشهدٍ مأساوي آخر مُماثل لمشهد جون بينتلاند والسيدة سومز.»

قالت أوليفيا بنبرة يائسة: «لن تحدُث مأساةٌ أخرى. حمِي مُختلِف عن مايكل.»

«هذا صحيح.»

«نوعًا ما … هو رجل أفضل.» وجدَت نفسها فجأة في مَوقف مُدهش مُتمثِّل في الدفاع عن آل بينتلاند.

قالت سابين بقَدْر هائل من العقلانية: «ولكنه ليس رجلًا حكيمًا جدًّا … أو ذكيًّا جدًّا.»

«أجل. من المُستحيل قول ذلك …»

«شيء كهذا من المرجح ألا يأتي إلا مرة واحدة للمرأة.»

(قالت أوليفيا في نفسها: «لماذا تُواصل تكرار الأشياء نفسها التي ما برحتُ أُقاومها طوالَ الوقت.») وجهرًا قالت: «سابين، يجب أن تدعيني وشأني. أنا وحدي مَن أُقرِّر.»

«لا أريدكِ أن تفعلي شيئًا ستندمين عليه بقية حياتكِ … أشدَّ الندم.»

«تقصدين …»

«أوه، أقصد ببساطة أن تَهجُريه.»

مرةً أخرى لاذت أوليفيا بالصمت، فباغتتها سابين بسؤالها: «هل زاركِ سيدٌ يُدعى جافين؟ رجلٌ نبيلٌ أصلع ذو وجه لامع؟»

نظرت أوليفيا إليها بحدَّة. وسألتها: «كيف عَرَفتِ ذلك؟»

«لأنني مَن أرسله يا عزيزتي … لنفس السبب الذي أنا مَوجودة هنا الآن من أجله … لأنني كنتُ أُريدكِ أن تفعلي شيئًا … أن تتصرَّفي. وأنا أعترف الآن لأنني ظننتُ أنه يجب أن تَعرفي الحقيقة، ما دمتُ سأُغادر. وإلا قد تظنِّين أن العمة كاسي أو آنسون من فعل هذا … وربما تقع مشكلة من جَرَّاءِ ذلك.»

مرةً أخرى لم تَقُل أوليفيا شيئًا؛ إذ شرَدَت في حزنٍ عميق تُفكِّر في أن سابين، في نهاية المطاف، لم تكن أفضل من الآخرين.

قالت سابين: «ليس من السهل الإقدام على تصرُّف في هذا المنزل. ليس من السهل فعل أيِّ شيءٍ سوى التظاهر ومُواصَلة الحياة هكذا حتى تُصبحين في النهاية عجوزًا وتموتين. فعلت هذا كي أساعدكِ … من أجل مَصلحتكِ.»

«هذا ما تقولُه العمة كاسي دومًا.»

أصاب قولها هدفه؛ لأنه أسكتَ سابين، وبدت سابين في لحظة الصمت التي سادَت بينهما أقرب إلى قوة رُوحية مُدهشة، وتكاد تكون خبيثة، من كونها امرأة. وحين أجابت، كان ردُّها هزة كتف وابتسامة مريرة بدَت مرارتها مضاعفة على الشفتَين المَطليتَين بكل وضوح. وقالت: «أظن أنني أُشبه العمة كاسي. رغم أنني لم أكن كذلك … ربما كنت شخصًا طبيعيًّا لطيفًا … مثل هيجينز أو أحد من الخدم.»

تردَّد صدى الحديث الغريب في قلب أوليفيا. ففي الآونة الأخيرة، ظلَّت الخاطرة نفسها تُراودها مرارًا وتكرارًا؛ ليت كان بوسعها أن تكون بسيطةً مثل هيجينز أو خادمة المطبخ. في هذه اللحظة بدا هذا الحال هو أكثر شيء تَرغبه في الدنيا. ربما كانت هذه الرغبة الغريبة هي ما قاد سابين إلى أن تُحيط نفسها بما يُطلِق عليه مجتمع دورهام «أناسٌ غريبون»، كانوا، في نهاية المطاف، أشخاصًا بسطاء مثل هيجينز وخادمة المطبخ ولكن تصادَف أنهم كانوا يشغلون مكانةً أعلى في المجتمع.

كانت سابين تقول: «الأجواء هنا بحاجة إلى تصفيتِها. إنها بحاجة إلى عاصفة رعدية، ولا يمكن تصفيتها إلا بالإقدام على تصرف … هذه العلاقة الغرامية بين جان وسيبيل ستُساعد في ذلك. نحن جميعًا عالقون في كتلة مُتشابكة من الهواجس والأفكار … التي لا أهمية لها. … يُمكنكِ فعلها، يا أوليفيا. يُمكنكِ أن تُصفِّي الأجواء نهائيًّا.»

حينئذٍ ولأول مرة رأت أوليفيا أنها فهمت ما يكمُن وراء كل هذا الفضول والاهتمام من جانب سابين؛ للحظة تصوَّرت أنها أدركت ما هو ما تُريده سابين بشغف وحماس أكثر من أي شيءٍ في العالم.

فقالت جهرًا: «بوسعي تصفية الأجواء، ولكن هذا مِن شأنه أيضًا أن يكون فيه دمار كل شيء.»

نظرت سابين إليها مباشرةً. وقالت: «وماذا في ذلك؟ … هل ستَشعُرين بالأسى على ذلك؟ هل ستَعتبرينه خسارة؟ هل سيَصنع أي فارق؟»

باندفاع تحسَّست يدَ سابين. وقالت دون أن تَنظُر إليها: «سابين، أنا مُعجَبة بكِ. أنتِ تعرفين ذلك. أرجوكِ، لا تُعاوِدي الحديث في هذا الأمر … أرجوكِ؛ لأنَّني أريد أن أظلَّ معجبة بكِ … ولا يُمكنني أن أفعل خلاف ذلك. إنه شأننا، أنا ومايكل … وسأعمل على تَسوية الأمر، ربما الليلة، حالما أستطيع التحدُّث معه … لا يُمكنني الاستمرار أكثر من ذلك.»

سألتها سابين وهي تَلتقِط المظلة الصفراء: «هل تتوقَّعين قُدومي على العشاء الليلة؟»

«بالطبع، الليلة بالذات أكثر مِن أيِّ وقتٍ آخر … يُؤسفني أنكِ قررتِ الرحيل في وقتٍ مُبكِّر للغاية … سأَشعُر بالكآبة بدونكِ أنتِ أو سيبيل.»

قالت سابين على عجل: «يُمكنكِ أن تُغادري أنتِ أيضًا. ثمَّة مخرج. سيتخلَّى الرجل عن كل شيءٍ من أجلك … كل شيء. أعرف ذلك.» وفجأة رمقَت أوليفيا بنظرة حادَّة. ثم سألتها: «أنتِ في الثامنة والثلاثين من عمرك، أليس كذلك؟»

«بعد غدٍ، سأَبلُغ الأربعين!»

أخذت سابين، بطرف مظلَّتها، تتفحَّص تصميم الزهور على سجادة سيفونيري، أشهر مُصنِّعي السجاد في أوروبا، والتي كانت ضمن مجموعة هوراس بينتلاند. وقالت: «اغتنمِي شبابكِ واستمتعي بحياتكِ قبل هَرَمكِ.» ثم خرجت إلى الحر القائظ لتَعبُر المروج صوب منزل «بروك كوتيدج».

بعدما صارت أوليفيا بمُفردها، أدركت أنها كانت سعيدة لأنَّ بعد غدٍ لن تعود سابين موجودة. عرفت الآن ما كان يقصده جون بينتلاند حين قال: «ما كان يَجِب أن تعود سابين إلى هنا أبدًا.»

٥

ظلَّت الحرارة عالقة في الأجواء حتى المساء، مخترقةً مع الظلام غرفةَ الاستقبال حيث جلسوا — سابين وجون بينتلاند والسيدة سومز العجوز وأوليفيا — يَلعبون البريدج لآخر مرة، ومع انقضاء الأمسية ببطء شديد، سارت اللعبة على نهجٍ أسوأ أكثر فأكثر؛ إذ أخذت السيدة سومز تنسى أوراق اللعب الخاصة بها وظلَّ جون بينتلاند مُتحليًا بالصبر وظلَّت سابين جالسةً ملتزمةً صمتًا مكبوحًا وساخرًا، وقد ارتسم على وجهها تعبير كان يعني بجلاء: «يُمكنني أن أحتمل هذا الليلة فقط لأنَّني غدًا سأعاود الفرار إلى عالَم نابض بالحياة.»

جلس جان وسيبيل لبعض الوقت يعزفان على البيانو، ثم انتقلا إلى مراقبة لعبة البريدج. لم يتحدَّث أحد إلا من أجل المُراهَنة أو لتذكير السيدة سومز بأنه حان الوقت لتُوزِّع بيدَيها المُرتعشتَين أوراق اللعب على الطاولة. وحتى صوت أوليفيا الخفيض الهادئ بدا عاليًا في الأجواء الساكنة الحارة للغرفة العتيقة.

في الساعة التاسِعة مساءً، ظهر هيجينز ومعه رسالة لأوليفيا، مفادُها أن أمرًا ما استبقى السيد أوهارا في البلدة وإنه إن استطاع أن يُغادر قبل الساعة العاشرة فسيمرُّ على منزل عائلة بينتلاند إذا وجد الأنوار لا تزال مضاءة في غرفة الجلوس. وبخلاف ذلك، لن يتمكَّن مِن المَجيء لركوب الخيل في الصباح.

في إحدى المرات أثناء فترة توقُّف قصيرة عن اللعب، قالت سابين على مضض: «لم أسأل آنسون عن الكتاب. لا بدَّ أنه اقترب مِن النهاية.»

عقَّبت أوليفيا قائلة: «اقترب كثيرًا. لم يَعُد يُوجَد الكثير مما يستلزم فعله. سيأتي الرجال غدًا لالتقاط صور فوتوغرافية لرسوم البورتريه الشخصية. إنه يستخدمها صورًا إيضاحية في الكتاب.»

وفي الساعة الحادية عشرة، كانوا قد أنهوا جولة لعب، فقالت سابين: «أنا آسفة، ولكن يجب أن أتوقَّف عن اللعب. يجب أن أستيقظ مُبكرًا صباح غد لحزم الأمتعة.» ثم التفتت إلى جان وقالت: «هلَّا أوصلتني بالسيارة إلى المنزل؟ يُمكن أن تأتي سيبيل معنا لتَستمتِع بالهواء الطلق. يمكنك أن تُعيدها إلى هنا مرةً أخرى.»

وعندما سمعتها أوليفيا، أرادت أن تصرخ قائلةً: «كلا، لا تَذهبي. يجب ألا تتركيني الآن … بمُفردي. يجب ألا تذهبي بتلك الطريقة!» ولكنها تمكَّنت من أن تقول بهدوء، بنبرةٍ بدت حالمة: «لا تتأخَّري كثيرًا يا سيبيل.» وبدون تفكير، ودون أن تدري بما كانت تفعله، بدأت تُعيد أوراق اللعب إلى علبها.

رأت أن سابين خرجت أولًا، ثم تبِعَها جون بينتلاند والسيدة سومز المسنة، وبقيَ جان وسيبيل حتى غادر الآخرون، وحتى ساعد جون بينتلاند السيدة المسنَّة لتستقلَّ سيارته وقادها مصطحبًا إياها. ثم، تطلَّعت بابتسامة بدت بطريقةٍ ما مُؤلِمة لها، وقالت: «حسنًا؟»

فأقبلت سيبيل عليها وقبَّلَتها، وقالت بصوت خفيض: «إلى لقاءٍ يا عزيزتي، بعد فترة قصيرة … أحبكِ.» وقبَّلَها جان بخجل على وجنتَيها.

لم تَستطِع أن تجد ما تقوله. أدركت أن سيبيل ستعود، ولكنها ستعود سيبيل مُختلفة، سيبيل التي صارت امرأة، ولم تَعُد الطفلة، التي كانت لا تزال وهي في سنِّ الثامنة عشرة تُمارس أحيانًا اللعبة السخيفة المتمثِّلة في الجلوس في حجر أُمِّها. وكانت ستأخذ معها شيئًا كان لا يزال حتى حينئذٍ يخصُّ أوليفيا، شيئًا لا يمكنها أن تسترده ثانيةً أبدًا. لم تستطع أن تجد ما تقوله. لم تستطع إلا أن تتبعهما إلى الباب، ومن هناك رأت سابين وقد جلست بالفعل في السيارة كما لو أنه لم يكن شيء استثنائي يحدُث على الإطلاق؛ وفي نفس الوقت أرادت أن تذهب معهم، أن تهرب إلى أي مكانٍ مهما كان.

رأتهما عبر الضباب يَستديران ويُلَوِّحان لها بينما كانت السيارة تمضي مُبتعدة، يُلَوِّحان لها بمرح وسعادة لأنهما كانا في مُقتَبل حياتهما … وقفت عند المدخل لتراقب أضواء السيارة تبتعِد في صمتٍ على الطريق وفوق الجسر عبر الظلام متجهةً إلى بوابة منزل «بروك كوتيدج». كان يُوجَد شيء بخصوص «بروك كوتيدج» … شيء تفتقر إليه الأجواء في منزل عائلة بينتلاند: فهناك كان توبي كاين وسافينا بينتلاند يجتمعان في لقاءاتهما الماجنة.

وفي الجو الحار الساكن من الهواء، بلغ سمعها بخفوت صوت الأمواج النائية عبر الأهوار، وبغرابةٍ خطرت على بالها كلمات أغنية كانت قد نسيَتها منذ سنوات … «الأمواج المتكسِّرة تتلاطم عاليةً على الشاطئ الصخري القاسي.» وفي نشاز مع نغمة الأمواج المتكسرة، ظلت الصراصير وحشرات الجندب (التي تُنذِر بقدوم فصل الخريف) تُصدِر أصواتًا كعزف الكمان ونقيقًا؛ ومن بعيدٍ من ناحية مدينة ماربِلهيد راقبت الضوء من نافذة الفنار يظهر ويختفى بتقطُّع كأنه عين تغمز. كانت واعية بكل مشهد وصوت ورائحة في هذه الليلة الخانقة. قالت في نفسها إنه ربما تهب عاصفة قبل أن يَصِلا إلى كونيتيكت. سيواصلان قيادة السيارة طوال الليل …

كانت أضواء سيارة سابين قد عاودت الآن التحرُّك، مُبتعدةً عن منزل «بروك كوتيدج»، عبر أراضي أوهارا، تَنهَب الأرض في اتجاه الطريق الرئيسية. وفي الغور السحيق بجوار النهر، اختفيا للحظة ثم ظهرا مرةً أخرى قبالة الكتلة المظلمة للتل الذي كانت تُكلِّله مَقبرة البلدة. ثم فجأة اختفيا، تاركَين وراءهما صوت الأمواج المتكسِّرة وصفير الصراصير والضوءَ المتقطع البعيد المنبعث من الفنار.

ظلَّت تُراقبهما جنبًا إلى جنبٍ في السيارة المنطلقة عبر الظلام، غافلَين عن كل شيء في هذا العالم باستثناء سعادتهما. أجل، شيء ما كان قد رحل عنها إلى الأبد … شعرت بغيرةٍ مروعة جامحة كانت أشبه بألَمٍ جسَدي، وفجأة أدركت أنها كانت واقفة بمُفردها تمامًا في الظلام أمام باب المنزل العتيق.

•••

استفاقت على صوت آنسون وهو يسألها: «أهذا أنتِ يا أوليفيا؟»

«أجل.»

«ماذا تفعلين بالخارج؟»

«خرجت لأستنشق بعض الهواء.»

«أين سيبيل؟»

للحظة لم تُجِب، ثم قالت بجرأة نوعًا ما: «خَرجَتْ بالسيارة مع جان ليُوصِّلا سابين إلى المنزل.»

قال: «تعرفين أنني لا أوافق على ذلك.» كان في تلك اللحظة قد أتى عبر الرُّواق ووقف بجوارها.

«لن يضرَّ ذلك في شيء.»

«قيل ذلك من قبل …»

«لماذا تُساورُك الشكوك إلى هذا الحد، يا آنسون، تجاه ابنتكَ؟» لم تكن لديها رغبة في مجادلته. لم تكن تُريد شيئًا سوى أن تُترك وشأنها، أن تَذهب إلى غرفتها وتَستلقي هناك وحدَها في الظلام؛ إذ عرفت الآن أن مايكل لن يأتي.

قال آنسون: «أوليفيا، ادخلي للحظة. أريد أن أتحدَّث معكِ.»

«حسنًا … ولكن أرجوك لا تكن مُزعجًا. أنا مرهقة جدًّا.»

«لن أكون مزعجًا … لا أريد سوى تسوية أمرٍ ما.»

عرفت حينئذٍ أنه عازم على أن يكون مُزعِجًا جدًّا، وقالت في نفسها إنها لن تستمع إليه؛ وإنما ستفكر في شيءٍ آخر أثناء حديثه، وهي حيلة تعلَّمتْها منذ وقتٍ طويل. وفي غرفة الجلوس، جلست في هدوء وانتظرت أن يبدأ حديثه. بدا مُرهَقًا وشاحبًا أكثر من المعتاد وهو يقف إلى جوار رف المدفأة. أدركت أنه كان قد عكف على العمل على تأليف كتابه؛ وأدركت أنه أَفْرَغ كامل تركيزه، وكل ذرة في كيانه، في هذا العمل؛ ولكن بينما كانت تُراقبه تلاعبت بها مخيلتها بالخدعة القديمة بتخيل أن مايكل واقف هناك مكانه … مُتحديًا، عابسًا قليلًا، مُفعَمًا بقوة مُتمهِّلة، ثابتة، لا تنضب.

قال: «الأمر بالأساس بخصوص سيبيل. أريدُها أن تكفَّ عن مقابلة هذا الفتى.»

«لا تكن مُتشددًا يا آنسون. لم تجنِ شيئًا من هذا.»

(قالت في سرها: «لا بد أنهما وصلا إلى مدينة سالم الآن.») ثم أضافت جهرًا: «أنتَ والدها يا آنسون، لماذا لا تتحدَّث معها؟»

«من الأفضل أن تَفعلي أنتِ ذلك. ليس لي تأثير عليها.»

«لقد تحدَّثتُ معها»، قالتها وهي تُفكِّر بمرارة في أنه لن يستطيع أبدًا أن يُخمِّن مقصدها.

«وما النتيجة؟ تُشاهدينها، وهي تخرج في هذه الساعة من الليل. …»

هزت كتفَيها، يملؤها شعور حماسي بأنها تفوَّقت على العدو؛ إذ في تلك اللحظة لم يبدُ آنسون عدوًّا لها هي فحسب، وإنما عدوٌّ لجان وسيبيل، ولجميع الشباب المُفعَمين بالحيوية في العالَم بأَسرِه.

كان يقول: «علاوة على هذا، هي لا تُكنُّ الاحترام اللائق لي … أنا والدها. أحيانًا أظن أن السبب هو الأفكار التي أخذتْها منكِ ومن الدراسة بالخارج.»

«يا لحقارة ما تقول! ولكن إذا أردتَ الحقيقة، أظنُّ أن السبب هو أنك لم تكن أبدًا أبًا صالحًا. أحيانًا، أظن أنك لم ترغب أبدًا في إنجاب أولاد. أنتَ لم تهتمَّ كثيرًا بهما … ولا حتى بجاك … عندما كان على قيد الحياة. لم تتصرَّف أبدًا باعتبارهما ولدانا. كنتَ دومًا تترك الأمر لي أنا … وحدي.»

تصلَّب العنق النحيل قليلًا وقال: «ثمة أسباب لذلك. أنا رجل ذو مشاغل. أقضي جُلَّ وقتي، ليس في جمع المال، وإنما في مهامَّ تَجعل العالم مكانًا أفضل بطريقةٍ ما. فإذا كنتُ قد أهملتُ ولدَيَّ، فقد كان هذا لسببٍ وجيه … فقلَّةٌ هُم الرجال الذين لديهم هذا القدْر مما يشغل أذهانهم. كما أن لديَّ الكتاب الذي يأخُذ كل طاقاتي. أنتِ غير مُنصِفة، يا أوليفيا. لم تستطيعي أن تريني على حقيقتي أبدًا.»

ردَّت أوليفيا قائلة: «ربما.» (أرادت أن تقول: «وما الفارق الذي يَصنعه الكتاب لأي أحدٍ في العالم؟ مَن الذي يهتمُّ إن كُتِبَ أم لا؟») أدركت أنه يجب عليها أن تُواصِل خِداعها، ولذا قالت: «لا داعيَ للقلق، لأنَّ سابين ستَرحل غدًا وسيرحَلُ معها جان.» ثم تنهَّدت. وأردفت: «بعد ذلك، لن يُعَكِّر أيُّ شيءٍ صفو حياتك من ساعتها فصاعدًا. من المستبعَد تمامًا أن يحدُث أي شيء استثنائي.»

قال: «ولدَينا هذا الأمر الآخر، خيانتكِ لي وللعائلة بأكملها.»

تجمَّدَت في مكانها قليلًا، وتساءلت: «ماذا تقصد بذلك؟»

«تعرفين ما أقصده.»

رأتْ أنه يَضع نفسه في موضع الزوج المظلوم، مُتصنِّعًا دور الشهيد الذي برعت العمة كاسي في أدائه بكفاءة. كان يَنوي أن يلعب دور الزوج الصبور ذي النية الحسنة وأن يَضعها في موضع المرأة ذات السلوك المشين؛ وتدريجيًّا، وبغضبٍ عارم ومُتمهِّل، قررت أن تُبطل حيلتَه هذه.

«أظن يا آنسون، أنَّ ما تقوله هراء. لم أَخُن أحدًا أبدًا. سيُخبركَ والدكَ بذلك.»

قال: «أبي كان ضعيفًا دومًا تجاه كل ما يتعلَّق بالنساء، والآن بدأت تصرُّفاته تُصبح طفولية. لقد بلغ من الكِبَر عتيًّا حتى إنه بدأ يَغفر ويصفح عن أي شيء.» ثم أردف قائلًا بعد برهة من الصمت: «هذا المدعو أوهارا. لستُ مُغفَّلًا كما تظنين يا أوليفيا.»

لم يتفوَّه أحدهما بكلمة لفترة طويلة، وفي النهاية كانت أوليفيا هي التي تحدثت، لتدخل مباشرةً في صلب الموضوع. فسألته قائلة: «آنسون، هلا فكرت مليًّا في أن تسمح لي بالانفصال عنك؟»

كان وقع هذا عليه مُفزعًا. شحب وجهه، وبدأت اليدان الطويلتان النحيلتان المُرهَفَتان ترتعشان. لاحظت أنها أصابتْه في مقتَل؛ إذ نالت من شعوره المُفرِط بالكبرياء والكرامة. فلن يُطيق تصديق فكرة أنها ترغب في التخلُّص منه لكي تَرتبط برجل آخر، وبخاصَّة رجل أقر علانيةً أنه يَحتقرُه، رجل يتمتَّع بسِماتٍ هو نفسه لا يتمتع بها. لم يستطع أن يرى في الطلب شيئًا سوى إهانة لكرامته الثمينة.

بذل جهدًا ليبتسِم، محاولًا أن يجعل الطلب مادةً للسخرية، وقال: «هل فقدتِ صوابكِ؟»

«كلَّا يا آنسون، على الإطلاق. ما أطلبُه هو شيء بسيط. سبق وأن حدث من قبل.»

لم يُجبها على الفور، وبدأ يتحرك في الغرفة باهتياجٍ شديد، وبدا كجسمٍ غريب في غَيرِ مَوضِعه وسط الصور والكراسي والتحف الفنية المذهلة والجميلة الخاصة بهوراس بينتلاند — في غَيرِ مَحلِّه في هذا المكان بقدْر ما كان في مَحله قبل شهر أو شهرين مضَيا وسط متحف الذخائر الأثرية لعائلة بينتلاند.

كرَّر قوله: «كلا، ما تَطلُبينه سخيف ومُنافٍ للعقل! غدًا حين يزول عنكِ الإرهاق سترين كم هو سخيف. كلَّا … لا أستطيع التفكير في أمر كهذا!»

بذلت جهدًا للتحدث بهدوء. وسألته: «هل هذا لأنك لا تَرغب في أن تضع نفسك في هذا الموقف؟»

«لا علاقة للأمر بهذا. لماذا تُريدين الطلاق؟ نحن موسران وقانعان وهانئان وسعيدان …»

قاطعته متسائلةً: «هل نحن حقًّا كذلك؟»

«ما الذي تتوقَّعينه يا أوليفيا … أن تعيشي دومًا في حالة توهُّج رومانسي؟ نحن أسعد من معظم الناس.»

قالت ببطء: «كلَّا، لا أظن أن السعادة كانت تَعني لك يومًا الكثير، يا آنسون. ربما أنتَ أسمى من أشياء مثل السعادة والتعاسة. ربما أنتَ أكثر حظًّا من مُعظمنا. مِن أجلِ ذلك، أشكُّ في أنكَ عرفت يومًا السعادة أو التعاسة. لقد كنتَ، وما زلت، تشعر بالاضطراب عندما يُضايقك الآخرون أو يعترضون طريقك، ولكن … هذا كل ما تشعر به. لا شيء أكثر من ذلك. السعادة … أقصد بمعناها العقلاني … تتعلَّق في بعض الأحيان بالمُتعة في عيش الحياة، ولا أظنُّكَ عرفت ذلك يومًا، ولو للحظة واحدة.»

التفت إليها قائلًا: «أنا رجل صادق، تقيٌّ، ذو ضمير يقظ، وأظن أن ما تقولينَه هراء!»

«كلَّا، بتاتًا! الرب يعلم أنني أُدرك حقيقة ما أقوله تمام الإدراك.»

مرةً أخرى وصل حديثهما إلى طريقٍ مسدود ومن جديد لاذ كلاهما بالصمت، الذي ربما كانت تُعكِّره حالة من الاضطراب والارتباك نابعة من إدراكهما لأنهما قد دمَّرا فيما بينهما شيئًا لا يمكن استرجاعه أبدًا، ومع ذلك حلَّ على أوليفيا شعور فاتر وقوي بالاتزان كان يهبط عليها كالمعجزة فِي أوقاتٍ كهذه. وشعرت أيضًا أنها كانت تكافح في وضعٍ حرج للغاية كانت خياراتها فيه محدودة. وأخيرًا قالت: «سأَسمح لك حتى بأن تُطلِّقني، إن كان هذا سيكون أسهل لك. لا أمانع في أن أضع نفسي في مَوضِع اللوم.»

مرةً أخرى بدأ يَرتجِف. ثم قال: «هل تُحاولين إخباري بأنكِ. …»

قاطعته قائلة: «أنا لا أحاول إخبارك بأي شيء. ليس هناك أي شيء على الإطلاق … ولكن … ولكن سأُعطيكَ أسبابًا تَستنِد إليها إذا وافَقْت.»

أشاح بوجهه عنها في اشمئزاز. ثم قال: «بل هذا أكثر استحالة … الرجل النَّبيل لا يُطلِّق زوجته أبدًا.»

ردَّت قائلة: «لنترك الرجال النبلاء خارج موضوعنا هذا يا آنسون. لقد سئمت سماع ما يفعله النبلاء وما لا يَفعلُونه. أريدك أن تتصرَّف على طبيعتك، بصفتك آنسون بينتلاند، وليس كما تظن أنه حريٌّ بك أن تتصرَّف. لنَكُن صادقين. أنتَ تعرف أنكَ تزوجتني فقط لأنه كان يتعيَّن عليك الزواج بإحداهن … وأنا … أنا لم أكن حقًّا أفتقر إلى الاحترام، حتى وإن كان والدي، كما تُذكِّرني دومًا، أيرلنديًّا مُعدمًا. و… لنكن مُنصِفِين أيضًا. لقد تزوجتكَ لأنني كنتُ وحيدة وخائفة وأردتُ أن أهرب من الحياة البغيضة مع العمة أليس … أردتُ بيتًا. كان هذا كل ما في الأمر، أليس كذلك؟ كِلانا مُذنِب، ولكن هذا لا يغير الواقع بتاتًا. كلَّا، أظن أنك مارست الحب معي من منطلق الشعور بالواجب. حاولتَ ذلك لأطولِ فترةٍ مُمكنة وكرهتَ الأمر دومًا. أوه، لقد كنتُ أعرف ما كان يدور. لقد كنتُ أعرف منذ دخلتُ منزل عائلة بينتلاند لأول مرة.»

كان يتأمَّلها في تلك اللحظة بتعبيرٍ ثابت يَشي بافتتان مُروِّع؛ بل ربما كان في غَشية من تأثير نبرة صوتها، وببطءٍ وعزم، مزَّق كل أقنعة التظاهر التي جعلت حياتهما مُمكنة لفترة طويلة جدًّا. وظلَّ يُتمتِم: «كيف يُمكنكِ الحديث بهذه الطريقة؟ كيف يُمكنكِ قول مثل هذه الأمور؟»

تابعَت، بنَبرة مُتأنية وبصعوبة: «كِلانا مُذنِب … ولقد كانت علاقة فاشلة، منذ البداية. حاولت أن أبذل قصارى جهدي وربما فشلت أحيانًا. حاولت أن أكون أمًّا صالحة … والآن بعد أن كبرت سيبيل ومات … جاك، أريد فرصة أن أنال الحرية. ما أزال صغيرة السن بما يكفي لأن أعيش قليلًا قبل فوات الأوان.»

قال وهو يجز على أسنانه: «لا تكوني حمقاء يا أوليفيا … أنتِ في الأربعين من عمركِ …»

«لست بحاجة لتذكيري بذلك. غدًا سأبلغ الأربعين. أُدرِك ذلك … بكل مرارة. ولكن بلوغي الأربعين لا يُشكِّل فارقًا لك. الأمر سيان لك لو كنتُ في السبعين من عمري. لكنه يشكل لي فارقًا كبيرًا.» انتظرَتْ لحظة، ثم قالت: «تلك هي الحقيقة يا آنسون؛ والحقيقة هي ما يُهمُّني الليلة. أَطلِق سراحي يا آنسون … دعني أرحل بينما لا تزال الحرية تعني لي شيئًا.»

ربما لو أنها كانت قد خَرَّت راكعة عند قدمَيه متَّخذة موقف امرأة بائسة ذات سلوك مشين، لو أنها كانت قد جعلته يشعر بالقوة والنُّبل والبطولة، لانتصرَت عليه؛ ولكن لم يكن في مقدورها فعل هذا. لم يكن في مقدورها إلا مُواصَلة التصرُّف بعقلانية باردة.

أخذ يقول: «وستتخلَّين عن كل هذا؟ ستتركين منزل عائلة بينتلاند وكل ما يُمثله لتتزوَّجي من هذا الأيرلندي الحقير … النَّكِرة، الذي هو ربما ابن عامل رصيف ميناء مُهاجر.»

ردَّت في هدوء: «إنه ابن عامل رصيف ميناء. ووالدتُه كانت ربة منزل. لقد أخبرني بذلك بنفسه. وما إلى ذلك كله … عجبًا يا آنسون، هذا لا يَعني لي شيئًا … لا شيء على الإطلاق لا يُمكنني الاستغناء عنه، لا شيء يعني لي الكثير جدًّا. أنا مَولَعة بوالدكَ يا آنسون، ومولعة بكَ حين تكون على طبيعتك لا مُتشدقًا بما ينبغي لرجلٍ نبيل أن يفعله أو ما لا ينبغي أن يفعله. ولكن سأتخلى عن كل هذا … عن كل شيء … من أجل ذلك الشيء الآخر.»

للحظة تحرَّكت شفتاه في صمت وانفعال، كما لو أنه كان يستحيل عليه أن يردَّ على أشياء منافية للعقل كتلك التي تفوَّهت بها زوجته للتو. وأخيرًا استطاع أن يقول: «أظنُّ أنكِ حتمًا فقدتِ عقلكِ، يا أوليفيا … لمجرَّد أن تُفكِّري في أن تَطلُبي شيئًا كهذا منِّي. لقد عشتِ هنا فترةً طويلة بما يكفي لأن تعرفي مدى استحالة هذا الأمر. بعضُنا يَجب أن يكون قدوةً في المجتمع. لم يسبق أبدًا أن وقعَت فضيحة، أو حتى حالة طلاق، في عائلة بينتلاند … أبدًا. لقد أصبحنا نُمثل شيئًا ما. ولا يُمكن تنحية ثلاثمائة عام من الحياة الأخلاقية النقية جانبًا بكل سهولة … نحن في مكانة تجعل الآخرين يتطلَّعون إلينا بعين الاحترام. ألا يُمكنكِ أن تَرَي ذلك؟ ألا يمكنكِ أن تستوعبي هذه المسئولية؟»

وللحظة، انتابها شعور رهيب ومشوَّش، ومُنتشٍ، بالقوة، شعور بأنها تملك وسيلة تدميره، هو وهذا الصرح الزائف من الافتخار والاحترام. لم يكن يتعيَّن عليها سوى أن تقول: «كان هناك سافينا بينتلاند وعشيقها …» مرَّت اللحظة سريعًا وأدركت على الفور أنه تصرُّف لا يُمكنها فعله. وبدلًا من ذلك، تَمتمت قائلة: «أه، آنسون، هل تظنُّ حقًّا أن العالم يتطلَّع إلينا أصلًا؟ هل تظن أنهم يهتمون حقًّا بما نفعله أو ما لا نفعله؟ لا يُمكن أن تكون أعمى هكذا.»

«لستُ أعمى … ولكن كل ما في الأمر أنه تُوجَد أمور مثل الشرف والعادات والتقاليد. نحن نُمثل شيئًا ما.»

قاطعته: «وما هو؟»

«اللياقة، الماضي المجيد، الاستقرار … أشياء لا تُحصى … كل الأشياء التي تُمثِّل أهميةً في مجتمع مُتحضِّر.»

كان يُؤمن فعلًا بما يقوله؛ عرفت أنه لا بد وأنه كان يؤمن به ليؤلِّف آلاف الكلمات المُملة والمجهدة تمجيدًا في الماضي.

واصل حديثه. «كلَّا، ما تَطلُبينه مُستحيل. أنتِ تعرفين ذلك قبل أن تطلبيه … وسيكون لطفًا منكِ تجاهي ألا تذكُريه ثانيةً مطلقًا.»

كان لا يزال شاحبًا، ولكنه كان قد تمالك نفسه مرةً أخرى ولم تَعُد يداه ترتجفان؛ وأثناء حديثه، إذ تصاعد شعوره بالفضيلة، ازداد فصاحةً، واكتسى صوته بتلك المسحة المقدسة التي كان يصطبغ بها دومًا صوت «أسقف الطبقة الأرستقراطية» وجعلته يبدو كرجلِ دينٍ شهير وعصري. وربما لأول مرةٍ منذ طفولته، منذ الأيام الخوالي التي كانت الفتاة الصغيرة الصهباء سابين تَسخر فيها من خصلات شعره المجعَّد وبدلاته المخملية، شعر بأنه شخص قوي ذو نفوذ. كان يُوجَد نوع من النشوة العارمة في معرفة قَدْر سلطته على أوليفيا. وفي خِضمِّ حماسه العفيف، بدا للحظةٍ أنه صار شخصًا إيجابيًّا، بل ومُثيرًا للإعجاب.

وأخيرًا قالت بهدوء: «وماذا لو هربتُ ببساطة … دون أن أُكلِّف نفسي عناء الطلاق؟»

حطَّم التعليق كل ما لدَيه من ثِقَة بنفسه مرة أخرى؛ وأدركت أنها قد ضربتْه في أضعف نقطةٍ في نقاطِ دفاعه كلها، وهي الخوف من الفضيحة.

صاح قائلًا: «لن تَفعلي ذلك! لا يُمكنكِ — لا يُمكنكِ التصرف كعاهرة رخيصة.»

«إن حبَّ رجلٍ لا يجعلني عاهرةً رخيصة … لم أحبَّ أيَّ رجل غيره قَط.»

«لا يُمكنكِ أن تَجلبي العار لسيبيل، حتى وإن كنتِ لا تَكترِثين ببقيتنا.»

(قالت في نفسها: «إذن، هو يَعرف أنني لا أستطيع فعل شيء كهذا، وأنني لا أتحلَّى بالشجاعة. يعرف أنني عشتُ فترة طويلة جدًّا في هذا العالم.») وجهرًا قالت: «أنت لا تَعرفني يا آنسون … طيلة كل هذه السنوات لم تعرفني مطلقًا.»

أضاف بسرعة قائلًا: «إلى جانِب أنه لن يفعل شيئًا كهذا. فمِن المُستبعَد أن يُلقي شخص وصولي كهذا بحياته المهنية كلها وراء ظهره بالهرب مع امرأة. ستَكتشفِين هذا بنفسكِ إن سألتِه.»

«بل هو على استعداد لذلك. لقد أخبرني بذلك بالفعل. ربما لا تَستطيع أن تَستوعِب أمرًا كهذا.» وعندما لم يردَّ عليها، أردفت تقول بنبرة ساخرة: «علاوة على ذلك، لا أظنُّ أن الرجل المهذب سيتكلم كما تتكلَّم أنت الآن. كلَّا يا آنسون … لا أظن أنك تعرف ماهية العالَم الخارجي. لقد عشتَ هنا دومًا، مُنعزلًا في زاويتك الخاصة الصغيرة.» وهي تنهض، تنهَّدت وتَمتمَت قائلةً: «لكن لا جدوى من الكلام. سأخلد إلى النوم … أظنُّ أنه يجب علينا أن نُجاهد بأقصى ما نستطيع … ولكن ثمة أوقات … أوقات كهذه الليلة يَصعُب عليَّ فيها احتمال الأمر. يومًا ما … من يدري … لن يعود ثمَّة وجود لشيء يبقيني …»

خرجت دون أن تعبأ بإنهاء ما كانت تَعتزم قوله، وقد شردت مُجدَّدًا في شعور مُربك بعدم جدوى كل شيء. خُيل إليها أنه كان ينتابها نفس شعور شخصٍ أبلَهَ واقف وسط حقل فارغ يلوح بذراعيه في الهواء دون طائل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤