إضاءة لا بد منها

في «عكازة رامبو» يحاول الشاعر أن يخلط، فيما يشبه الحلم أو الومضة الخاطفة، بين سيرته وسيرة رامبو في نصفها الثاني، والمفارقة تأتي من اختياره للنصف الثاني الكابي والمعتم والمضطرب من حياة رامبو! لماذا لم يختر النصف الأول العاصف المشرق المتوهج؟ والحقيقة أن الجواب يكمن في الصدفة المدهشة التي وجد الشاعر نفسه فيها، تلك الصدفة التي لم يكن يخطط لها مطلقًا والتي زحف بها القدر إليه؛ فقد كان الشاعر يعشق رامبو وشعره وسيرته ولطالما أضاء هذا الشاعر العظيم بصيرة الشاعر، وجعله ينتفض على الكثير من قيود عصره، وكاد حب رامبو يجعله أسيرًا له، وشعر أنه الوحيد المعني بهذا الشاعر، لكنه عندما قرأ كتاب هنري ميلر «رامبو وزمن الحشاشين أو القتلة» تعرف على حرقة هنري ميلر وحسده الآسر لرامبو، واكتشف أن رامبو يسكن في وجدان كل الشعراء الحقيقيين. ومع الزمن تحول حب رامبو، بعد أن كان طافحًا، إلى الأعماق، وصار حبًّا دفينًا تهيجه بين فترة وأخرى رياح رامبو التي ما زالت تسكن العالم، وتوشوش لكل الشعراء بالعصيان والتمرد. لكن الشاعر كان على موعد غير مخطط له نهاية عام ١٩٨٩م؛ حيث قادته سفرة علمية إلى بلاد الحبشة وتحديدًا إلى قرية قريبة من مدينة «هرر» التي قضى رامبو فيها أغلب حياته في نصفها الترحالي القاسي، وهو تاجر عاج وأسلحة ورقيق. وهناك تحرك ذلك الحب الدفين بقوة وتدفق في نفسه بعنف، ووجد الشاعر نفسه في لجج رامبو المعذب الشقي، رغم أن قرنًا كاملًا كان يفصل بينهما في المكان نفسه … فأي قدر هذا الذي أتى به إلى هنا؟ وماذا يعني تقاطع الأقدار هذا؟! رامبو في أعماق عمل تجاري لا يؤمن به وهو في ندوة علمية عن الطاعون البقري لا يأبه بها، واشتعل الوجع القديم الممزوج بعشق رامبو والهيام به … ووجد الشاعر أنهما في المكان غير المناسب والمهمة غير المناسبة، ومن هذه النقطة يتحرك النص المفتوح ليرسم لنا اختلاط سيرتين في سعي واحد للوصول إلى النهاية … أية نهاية كانت؟! رامبو يبدو رثًّا منهمكًا متعبًا، تصل به أوجاعه إلى حد تأجير أربعة من الزنوج يحملونه على سدية متنقلة، وهو يسند جسده على عكازيه حين يحاول المشي، وهو يشعر بفداحة خسارته حين توغل في تخصصه العلمي خاسرًا الوقت والجهد والحماس على حساب سعيه الأبدي في الشعر ومنتظمًا في سلسلة خسارات أخرى، مثل: جدب رحلته، وخواء طلبه للنساء، وعطشه الذي لا يُروى، وسهره المجنون كل ليلة فيما يشبه العصاب والصراخ والنواح على خواء المصير. كانت واحدة من أعنف التجارب التي كشفت له تفاهة موازناته، التي كان يمارسها، على حياء، في هذه الحياة التي لا يكفي زمنها للعيش في هذه الموازنات المقيتة، كان يشعر بأن عليه أن يكون كما هو … شاعر وحسب، وكان يشعر أن خسارته الفادحة بدأت منذ زمنٍ بعيد، شعر أن كل اختياراته السابقة كانت خاطئة ومفرغة من محتواها؛ لأنه كان يريد أن يمسك العصا من منتصفها، في حين أن الشعر يقول لك، دائمًا وإلى الأبد، بأن العصا يجب أن تُمسك من طرف واحد وبقوة مهما كانت الخسائر. وهكذا سقط الشاعر في هوةٍ لا قرار لها، وكان رامبو يظهر أمامه دائمًا.

لقد اختار رامبو مصيره بشجاعة نادرة عندما كان شاعرًا، وعندما صار تاجرًا في هرر … أما هو فقد انشغل بحمل ميزان حياته حتى لا يناله العصف الجميل، وكان رامبو قد أغلق باب الكتابة عمدًا، وجذبته أشباح الشعر إلى الترحال في أفريقيا، أحنى قوس القزح حتى آخره وكسره، فتسربت السماء بخمور وزرقة وجثث ملائكة، وكاد باب الأبدية ينفتح، لكنه في آخر لحظة أغلقه بعناد. الآن جاء دور قدميه لا يديه، لا يريد الكتابة … يريد السفر.

ويبدأ تبادل الأدوار بين الشاعر ورامبو من السطر الأول للنص، ثم يرى بأن رامبو كتب سبعة كتب صغيرة، والآن سيكتب بعكازته كتابه الثامن الكبير سيسميه «عكازة رامبو» وهكذا يتماهى الشاعر ورامبو تمامًا.

يصفر السفر رامبو على باخرةٍ في ساحلٍ تنفخ بخارها، يركض رامبو باتجاهها خوف أن تفوته … يقفز إليها ويلوح لنا وداعًا، ثم يرى رامبو مباشرةً في هرر حيث يجلس هو، يحمل على طرف عصاه التي علقها على كتفه الحقول، وصرة ملابسه وخرائطه وخبزه. يشم رائحة الأشجار ويتلذذ بالذهب.

هرر تنفتح مثل سوسنة … مجساتها تلمس شاربه وتحيي صنوجه التويجات … سيعود إلى فرنسا زنجيًّا أبيض أشعث مدندشًا بالذهب والأمراض ولفائف الجغرافيا والبن.

يبدأ الشاعر بمراقبة رامبو في هرر متلصصًا على نهاره وليله، وإذا به يلمح رامبو، ذات ليلة، وهو يقرأ كتبًا عن صناعة المعادن والبارود والخزف والشمع … إلخ، فيُجَن مما شاهده … أي عقاب لشاعر؟ أي مفاصل تلعب برقابه؟ ماذا بك يا رامبو؟ ماذا بك يا حبيبي؟ وكيف سقطت كل هذه الشعل من رأسك كما لو أنه مُزق بالرصاص؟

كانت الدوالي في ساق رامبو تتضخم ولم ينم لخمس عشرة ليلة … لم يغمض له جفن لدقيقة واحدة، هو من ألم في ساقه، والشاعر من الطلع يكتظ بوجهه، وريح مجنونة طوال الليل تجوب، وتختلط تأوهات رامبو وحسراته مع أسئلة الشاعر ومع طلبات أمه في الوصية … لكن الريح تمسح كل هذا وتجوب.

ثم يتتبع الشاعر قلادة رحلات رامبو السوداء في الإسكندرية وقبرص وعدن وهرر وأديس والقاهرة. عبد الله رامبو أليس كذلك؟! هل صليت حاسر الرأس باتجاه مكة أم باتجاه عدن؟ باتجاه الله أم باتجاه الفردوس؟ قل يا عبد الله، قل يا حبيبي، في الغرب أقام شرقًا اسمه الشعر، وفي الشرق أقام غربًا اسمه العمل، كان يلعب بالكمال ويضحك هاربًا منه.

وتتداخل حياة الشاعر مع حياة رامبو وتشوقاتهما ورؤاهما، ويتذكر الشاعر أصدقاءه وهم يَسكرون في اتحاد الأدباء العراقيين في بغداد قرب ساحة الأندلس يوم الأربعاء، ويتسرب رامبو معه إلى هناك؛ حيث الخمر والشعراء الصعاليك.

هجر رامبو الشعر وتوعد بعصاه البروق … كان يعد كل ليلة فرنكاته، ويعد قطع العاج، يقضي الوقت بجلد وريش دكتور الخرافة هذا، ويقف الشاعر بين حسرات حياته وشبقه وأمنياته بالإمساك بالمطلق وتربصه بأشباح رامبو وحياته التي تفيض عسلًا مرًّا، ويتذكر العلاقة السلبية لرامبو مع النساء، فلا عشيقة له وهو بين أم قاسية وأخت لا مبالية … أما هو فيكاد يموت من الغيض؛ لأنه لا يستطيع أن يلمس امرأة واحدةً في الحبشة … ويرى أنه أصبح مدجنًا وخائفًا، وهذا ما يُضيفه إلى خساراته الكثيرة.

بعد الطوفان أتى رامبو بالقبقاب ودخل مراكز المدن وحافات الحقول، عارمًا بالدم مستخفًّا بنا، كان يتجول ويحترق: تعالي أيتها الروح الكبرى … تعالي. لقد عثر على الأبدية … قل … قل ما هي يا رامبو: إنها البحر الممتزج بالشمس.

وتتصاعد حمَّى المرض في عظام رامبو …

وتعود النساء من أناهيت التي في بغداد إلى أم وأخت رامبو إلى الزنجية «ألمز» التي تلاحق الشاعر دون فائدة، إلى التي ترافقه ببلادة وتخطئ في كل شيء. ثم يحمل الشاعر كاميرته ويلتقط أربعًا وعشرين صورة لرامبو في أوضاع مختلفة بها لمن يريدها.

سيف رامبو المكسور قرب جسده، فرجاره وعاجه وفرنكاته، قرب كيون التراب المسود يتمزق وتخرج منه أجساد سود تسبح في ماء أسود: هذه هي الحصيلة … أنا جالس أنهض بين وقت وآخر وأنطنط مائة خطوة بالعكازات.

يفتح رامبو القرآن ويقرأ لأطفال هرر فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، يُغلقه … يا إلهي ما الذي أتى بالإشراقات إلى هنا؟ ما الذي أتى بالأسماك على أرض الفندق؟ طفحت من الأعماق ورقصت. كان يتمنى أن يتزوج وأن ينجب ولدًا يسميه محمد ويجعل منه مهندسًا.

وتتصاعد الحمى حتى يقترب رامبو من ساعة موته، فيدخل عليه رجلان: الأول هو الشاعر بعمامة وجبَّة ويحمل طاسة وكتابًا، والثاني هو الكاهن الذي يحمل صليبًا، مسلم ومسيحي يحضران آخر أنفاسه؛ لأنه كان خليطًا من الإسلام والمسيحية ومن الشرق والغرب. ثم تبدأ آخر عملية جراحية له؛ فقد ظن أنه مصاب بسرطان العظام … يتلقف في آخر النص الشعري تصريحًا غاضبًا من تاجر عابر، ويستمر الشاعر بالتقاط صور متخيلة له … بينما هو يحتضر وهو في سن السبع والثلاثين بعد أن يشرب جرعة الموت الأخيرة، ثم يُنزل القدح من فمه ويقول لأخته: إيزابيل، سأمضي تحت الأرض، وأنت ستمشين تحت الشمس، الله … الله كريم.

لا بد من التنويه بأن هذا النص المفتوح على سيرة وحياة رامبو استعار مقاطع من رسائله مع أصدقائه وأخته وأمه وبعضًا من أشعاره، وانفتح على سيرة الشاعر قبل وبعد رحيله إلى عدن وأفريقيا، وهناك أمواج البحر والجنس والدين والأسطورة تظهر هنا وهناك لتزيِّن طابع هذه السيرة المكتوبة بلغة الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤