أستاذ أجيال

ما أشبه تاريخ أستاذنا أحمد لطفي السيد بتاريخ بلادي! كلاهما في حاجةٍ إلى مؤرِّخ يُعِيد كتابتَه بفهمٍ وعدالة، ولستُ هذا المؤرخ على أي حال!

عرفت لطفي السيد منذ ثلاثة وعشرين عامًا، وكان في حدود السبعين، وكنت قد قرأتُ له ترجمةً لكتابَيْ أرسطو: «السياسة» و«الكون والفساد»، فاستهواني أسلوبه الذي يتميَّز بالدقة والتركيز، والنفور من فضول السجع والمترادفات، وأغراني أسلوب لطفي السيد بأن أعكف على قراءة مجموعة «الجريدة»، التي كان يرأس تحريرها عام ١٩٠٧، وقرأتُ له مقالاتٍ نشرها في تلك السنة وما بعدها من سنوات، لا أذكر الآن عددها، وقد أذهلتني أفكاره، وتعبيراته، ومجادلاته المنطقية، ولم أهتم بأن أعرف حقيقة «حزب الأمة» الذي كان لطفي السيد ينطق بلسانه، وهل كان يُناوِئ الخديو وحكم الأتراك لحساب الإنجليز، أو أنه كان يتهاون مع الإنجليز ليخلص البلاد من ولاية تركيا وأسرة محمد علي، ثم يتفرَّغ بعد ذلك لمحاربة الاحتلال، كما يؤكِّد بعض الذين أصابهم رشاش من انتمائهم لحزب الأمة؟

كان في استطاعتي إذ ذاك أن أناقش لطفي السيد نفسه في هذا الموضوع الشائك، وأنا واثقٌ من أن الرجل لن يجد حرجًا في أن يقول الحقيقة، ولو اقتضاه ذلك أن يدين نفسه؛ فقد كان لا يهرب من الحقيقة، وكانت شجاعة الرأي من أبرز مزاياه.

ولكني لم أفعل، فقد فتنَتْني شخصيةُ لطفي السيد المفكِّر، وطغَتْ على شخصية لطفي السيد السياسي، كنتُ أجد متعة غامرة في الإصغاء إليه وهو يتحدث عن الأدب، والشعر، والفن، والجمال، والمذاهب الفلسفية القديمة والحديثة، وكان بارعًا في سرد الحكايات، يُحسِن روايةَ الدعابات، ويُحسِن أيضًا الإصغاء إليها بأذنه، وبابتسامته التي تتحوَّل أحيانًا إلى شبه قهقهة!

وقبل ثورة ٢٣ يوليو من عام ١٩٥٢ التقيتُ به في فندق سيسل بالإسكندرية، وكان يقص علينا بصوتٍ خافت ما يسمعه كلَّ يوم من المهازل والمخازي، التي يرويها له أصدقاؤه عن الملك.

وفي أحد الأيام قابلتُه في الردهة الخارجية للفندق، وكان يجلس وحده، وناسٌ كثيرون يملئون الردهة فأمسك بيدي، وقادني إلى أحد الصالونات، وهو يقول: إننا الآن نمشي في الطريق إلى مستشفى المجاذيب.

ولم أفهم ما يعنيه بهذه الكلمة، ولما جلسنا في الصالون روى لي قصة الصفقة التي عقدها عبود مع فاروق لإقالة وزارة الهلالي وتأليف وزارةٍ برياسة حسين سري، وكيف أن الملك تقاضى من عبود نصف مليون جنيه!

وعقبتُ قائلًا: عندك حق، هذا تصرُّف مجانين!

فقال: إنك لم تفهم ما أعنيه بالطريق إلى المستشفى المجاذيب؛ لقد قصدتُ أن أبصرك بأن الأوامر صدرَتْ بأن يساق إلى هذا المستشفى كلُّ مَن يتناول الذات الملكية بالعيب أو التجريح!

واستطرد يقول: لقد كثرت قضايا العيب في الذات الملكية؛ فرأى القصر أن تحفظ النيابةُ هذه القضايا، بعد أن يعتذر المتهمون ويسجلوا ولاءهم للملك «منعًا للشوشرة»، وفي يوم الجمعة الماضي وقف أحد الشبان في المسجد ومنع الخطيب من مغادرة المنبر، وخاطَبَ المصلين قائلًا: مَن كان منكم حريصًا على دينه، فَلْيعلم أن صلاته وراء هذا الرجل باطلة؛ لأنه يدعو لملكٍ فاجر فاسق، صلوا ورائي، وصلَّى الناس وراء الشاب وتركوا خطيبَ المسجد يصلِّي وحده!

وقبض البوليس على الشاب وساقه إلى النيابة، وقال له وكيل النيابة: إنني لا أرضى لك أن تذهب إلى السجن؛ ولذلك سأسألك هل قلتَ هذا الكلام؟ وما عليك إلا أن تنكره وتؤكِّد ولاءَك لمولانا الملك، وعندئذٍ أطلق سراحك فورًا.

والتفَتَ وكيل النيابة إلى الكاتب، وقال له: افتح المحضر. وبدأ يقول للشاب: أنت متهم بأنك تفوَّهْتَ بكلماتٍ تمسُّ الذات الملكية، فهل هذا صحيح؟

وقال الشاب: نعم! هذا صحيح!

وقال وكيل النيابة: أنت طبعًا لا تقصد جلالةَ الملك مولانا الذي نكنُّ له جميعًا صادقَ الولاء؟

فقال الشاب: أنا لا أقصد سوى هذا الملك الفاسق العربيد!

وأُسقِطَ في يد وكيل النيابة، وأسرع فقابَلَ النائب العام وعرض عليه المشكلة، واتصل النائب العام بالقصر وأبلغ المسئولين بما حدث وسألهم: ماذا نصنع إزاء هذا الموقف الغريب؟ فطلبوا منه أن يسوق الشابَّ وأمثالَه إلى مستشفى المجاذيب!

وضحك لطفي السيد وقال: وهكذا أصبح كلُّ مَن يقول كلمةً عن الملك معرَّضًا لدخول مستشفى المجاذيب!

ولطفي السيد الكاتب المفكِّر المؤمن بالحريات ذو العقلية الفلسفية، كان يؤيد دعوة قاسم أمين إلى مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، وكان أحد ثلاثة بذلوا جهودًا شاقة لإنشاء جامعة أهلية مصرية، أمَّا زميلاه في هذا العمل العظيم، فهما سعد زغلول وقاسم أمين، وعندما أصبحت الجامعة الأهلية جامعة رسمية، كان هو أول مدير لها، وقد أرسى فيها قواعد البحث العلمي الأكاديمي، وحمى استقلالها، واستقال احتجاجًا على إقالة الدكتور طه حسين من عمادة كلية الآداب.

والحق أن لطفي السيد باتجاهاته المتنوعة واتساع آفاق تفكيره، وإيمانه المطلق بحرية الرأي والعقيدة، كان جامعة قبل إنشاء الجامعة، وقد تخرج في الجامعة أساتذة كبار تأثَّروا به، وأخذوا عنه تقاليده في التلقين والمحاضرة والجدل، وكان على رغم ثقافته الفلسفية والقانونية، مشغوفًا بالآداب العالمية وله ذوق رفيع في الشعر العربي، وقد أبدى لي إعجابَه بشعر ديوان الحماسة والمتنبي والمعري والشريف الرضي، وكان يترنَّم بكثيرٍ من أشعارهم.

عندما سمعتُ أن لطفي السيد لفظ أنفاسه الأخيرة، خُيِّلَ إليَّ أن هرمًا عاليًا من الفكر والثقافة قد توارى في التراب، وأحسستُ أني أبكي، لم تبكِ عيناي، ولكن عقلي أجهَشَ بالبكاء!

يحرق مذكراته

منذ تسعة عشر عامًا قابلتُ لطفي السيد، وسجَّلْتُ هذه المقابلة في حديثٍ صحفي، قلتُ فيه:

اسم عادي لشخصٍ غير عادي، عقل وخلق وضمير، صوت قوي عذب، ظلَّ يغنِّي لجيله المعرفةَ والثقافةَ والفلسفةَ، ولكن جيله كان بلا آذان، فما زال به حتى جعل له أذنين، ولسانًا وشفتين، فسمع الجيل، ووعى، وفكَّر، وتكلَّمَ!

وقد بدأ أستاذ الجيل يؤدِّي رسالته منذ ستين عامًا، كانت مصر في حالة انحلال، كان احتلال بريطانيا ونفوذ تركيا يجثمان فوق صدرها، كان الجهل والعبودية يتنازعان عقلهما ونفسهما، وهبط إلى مصر رجلٌ لفت الأنظار، وجذب القلوب، وأثار الحماسة والتحرُّر!

كان هذا الرجل هو جمال الدين الأفغاني، المصلح الإسلامي الثائر، والتف حوله الشباب، وتأثروا بتعاليمه وآرائه، وكان يدعو إلى الإطاحة برءوس الطغاة والحاكمين العابثين بمصالح الشعب.

وكان الشيخ الأفغاني يؤثِّر في شباب مصر، ومن بينهم أحمد لطفي السيد، ولكنَّ تأثُّرَ لطفي السيد لم يدفعه إلى أن يهمَّ بقتل أحد، وإنما دفعه إلى أن يقاتل السخافات والخرافات والجهل، فحمل قلمه وجاهَرَ به واستطاع أن يقتل ويغتال، قتل الأوهامَ وأحيا الحقائقَ، واغتال الظلامَ وأشعل المصابيحَ.

أرأيت لطفي السيد في أواخر أيامه؟

قوام مستقيم، وخلق مستقيم، عينان نفاذتان وعقل نفاذ، جبهة عريضة، وجاه عريض.

ولكنك لم تَرَ لطفي السيد منذ ستين عامًا أو أكثر، فَلْنطوِ السنين القهقرى معًا؛ لنرى لطفي السيد يغادر مدرسة الحقوق، هو وزملاؤه عبد الخالق ثروت وإسماعيل صدقي وعبد العزيز فهمي.

صوِّبْ نظرتَكَ إليه اليوم، صوِّبْها جيدًا، واقترِبْ من القوام الفارع، وقوام انحناءته الخفيفة، وأمسك بالوجه بين يدَيْك، وامسح تجاعيده، وافتح العينين واسكب فيهما كثيرًا من الومض الذي اختفى، والتقِطْ بأصابعك الشعرات البيض في رأسه وفي حاجبَيْه، ثم اطوِ السنين الستين التي مضَتْ، يَبْدُ لكَ لطفي السيد كما كان في سنة ١٨٩٨.

لقد لمع اسمه في ذلك الحين شابًّا مفكِّرًا، يتحدَّث عن أرسطو وأفلاطون والفارابي والغزالي، وكان زملاؤه يتحدَّثون عن الحريري وبديع الزمان الهمذاني وابن نباتة المصري!

واشتغَلَ لطفي السيد مساعِد نيابة ولبث في الوظيفة سنتين، ثم غادرها إلى المحاماة. لم يكن مكتبه حافلًا بالزبائن ولم يكن هو في حاجةٍ إليهم، إن أباه السيد باشا أبو علي قد كفاه مشقة السعي المادي للحصول على حاجات الحياة.

وفي يوم ١٣ يونيو سنة ١٩٠٦ وقع حادث دنشواي، الحادث الذي اهتزَّتْ له البلاد وارتكَبَتْ فيه بريطانيا أشنعَ جرائم العسف والظلم والطغيان، واشترك لطفي السيد مع زملائه المحامين عن المتهمين في دراسة القضية، وقد كانت له طريقة خاصة في المرافعة.

كان المحامون يترافعون فيخطبون ويصيحون ويهتفون، أما هو فكان يتكلم كأنه يكتب، كان في مرافعته يفكِّر بصوتٍ مسموع!

هذا الرجل الشجاع المفكِّر لا بد له من مجالٍ، تظهر فيه آثار حريته وشجاعته وفكره.

إن الصحافة هي هذا المجال، ولكن صحف ذلك العهد كانت تتسع للألفاظ وتضيق بالمعاني، وهو رجل كله معانٍ.

كانت تدعو إلى التحرُّر من احتلال بريطانيا، وإلى الولاء لسلطان تركيا، وهو رجل يريد لبلاده أن تتحرَّرَ من بريطانيا وتركيا معًا، فَلْيُنشِئْ صحيفةً جديدةً إذن! وأنشأ «الجريدة» وساعَدَه على إنشائها حزب الأمة، وبدأ الأسلوب العربي الجديد يشقُّ طريقه إلى الأذهان. إن أسلوب لطفي السيد اليوم هو أسلوبه بالأمس؛ أسلوب المسدس، تنطلق الكلمة كالرصاصة، والرصاصة تصيب الهدف، وكان الأسلوب العربي إذ ذاك أشبه بالسيف، يدور في اليد ويلف ويهبط إلى تحت ويصعد إلى فوق، ثم لا يصيب الهدف!

نحن الآن في ١٩٤٩ في منتصف القرن العشرين، فَلْنمضِ لحظات مع الرجل الذي هدم خرافات القرن الماضي، واشترك في بناء القرن الجديد! دخلتُ عليه في محرابه في مكتبة داره بمصر الجديدة. إن الذين يقابلهم في هذا الركن هم أعزُّ أصدقائه وأحبابه؛ أرسطو وأفلاطون وأناتول فرانس وأبو العلاء المعري والغزالي، وأحيانًا شوقي والمتنبي!

كان متعبًا، لأول مرة أشعر بوطأة السنين تضغط قوامه، كانت الأيام من قبلُ تمشي في عظامه بخطًى متئدة، ولكني أراها الآن وكأنها تثب وتعدو. عرفته دائمًا منتصب القامة، ولكنه في هذه المرة اضطر — لكي يسمعني — إلى أن يحني هامته ويمدَّ رقبته قليلًا إلى الأمام، ويصوب أذنه نحو فمي!

كان في دور النقاهة، وقال لي: تحدَّثْ أنت؛ فإن الكلام أصبح يرهقني، ولولا أني لا أُحسِن الشكوى، لَشكوتُ من زمانٍ طويل!

قلتُ: إن الجيل الجديد كله في حاجةٍ إلى حياتك وإلى شيخوختك، إنك المثل الحي للحرية والاضطهاد، ولقد استطعتَ بحريتك أن تنتصر على مضطهديك! فطغى أسلوبك وانتشرت تعاليمك السامية.

قال: أية تعاليم؟ إنني لم أفعل شيئًا! كل ما هنالك أني ساهمت في الحركة التي قام بها بعض المصلحين من أبناء زماني، أمثال سعد زغلول وحسين رشدي وعبد الخالق ثروت وقاسم أمين وعلي شعراوي ومحمد عبده، وكانت مهمتنا — أقصد مهمتهم — صعبة جدًّا؛ كنَّا نحاول أن نشق للشعب طريقًا في جبلٍ شامخ له ذروتان؛ إحداهما ذروة الخديو، والأخرى ذروة الإنجليز، كنَّا نطالِبُ الخديو بدستورنا ونطالِبُ الإنجليز بحريتنا.

إلى أن كانت ثورة ١٩١٩، وفي هذه الثورة وحدها استطاعَتِ الأمةُ أن تعبِّر عن إرادتها، تجاهد وتصمد في جهادها، والفضل في ذلك يرجع إلى الإنجليز! لا تدهش، إنهم هم الذين أوقدوا نار الثورة برعونتهم وتصرُّفاتهم الطائشة، ولستُ أقول ذلك الآن فقط.

في سنة ١٩١٩ نفسها سأل «كيرزن» قائلًا: أريد أن أعرف مَن هو المسئول عن هذه الثورة؟

فكان جوابي: أنتم المسئولون عن ثورة المصريين، إن احتلالكم وحماقاتكم المتكررة مع الشعب كانت وقود النار، وعود الثقاب.

قلتُ: إنَّ هذا تاريخٌ حافل، وأنت قد عشتَ ذلك التاريخ، بل لقد صنعتَه، فأين مذكراتك عنه؟

فقال: مذكراتي؟ لقد أحرقتُها!

قلتُ: إنها تاريخ بلادك، فكيف أحرقتَها؟

قال: في يومٍ من أيام سنة ١٩١٩ عندما نُفِي سعد زغلول، ولا أذكر الشهر تمامًا، كنتُ جالسًا مع علي شعراوي في بيته، وكان معنا عبد العزيز فهمي، وجاء يوسف نحاس وأخبرنا أنه علم أن الإنجليز قرَّروا أن يلقوا القبض على أربعة من أعضاء الوفد، ويجردوهم من أموالهم ويعدموهم رميًا بالرصاص، ثم قال معقِّبًا: إنه لا يُستبعَد أن نكون نحن الثلاثة في مقدمة هؤلاء الأربعة، ولما سمعتُ هذا النبأ لم أستغرب وقوعه؛ فإنه ليس إلا حلقة من سلسلة الحماقات التي ارتكَبَتْها بريطانيا معنا، ولم يكن يؤلمني أن أموت رميًا بالرصاص أو شنقًا؛ فالموت حقيقة لا بد من مواجهتها، مهما طال اختباؤها في السنين، ولم يكن يهمني حرماني من مالي؛ فليس للمال مكان بين القيم التي أعتزُّ بها، ولكن خشيتُ من أن تهاجِمَ السلطاتُ البريطانية بيتي، وتفتِّشه وتعثر على مذكراتي السياسية، وقد دوَّنْتُ فيها جميعَ الحقائق، وكان بعضها حلوًا وكان بعضها مرًّا، وفي المذكرات الخاصة يسجل الإنسان كل صغيرة وكبيرة، وقد كانت الصغائر التي تمس حركتنا كثيرة جدًّا، كنتُ أسجِّلُ في مذكراتي رأي سعد زغلول في ثروت ورشدي وعدلي، ورأي ثروت وعدلي ورشدي في سعد زغلول وهكذا، وكانت المذكرات تتضمَّن أسرارًا خطيرة إذا اطِّلَعَ عليها الإنجليز استطاعوا أن يؤذوا الحركةَ إيذاءً شديدًا.

ولهذا لم أَكَدْ أسمع النبأَ الذي ألقاه يوسف نحاس، حتى بادرتُ بالذهاب إلى بيتي في سيارة علي شعراوي، وكان البيت في المطرية، وعقب وصولي إليه اتجهت إلى مكتبي وأخرجت كل ما في الدولاب من الأوراق والمذكرات والوثائق وأمرت الخادم أن يضعها في الحمام، ثم أشعلت فيها النار.

ولا أكتمك أني حزنت، لقد أحسستُ أن النار تحرق أفكاري وآرائي، وحقبة مهيبة من تاريخ بلدي.

وانتظرت إلى الساعة الثانية صباحًا، فلما لم يجئ أحدٌ دخلتُ غرفة نومي، وفي اليوم التالي انتظرتُ فلم يجئ أحدٌ، وإلى اليوم لم يجئ أحدٌ ولم أُعدَم رميًا بالرصاص كما ترى، وكل ما هنالك أن مذكراتي هي التي أُعدِمت أو على الأصح أُحرِقت، وقد أحرقْتُها بنفس اليد التي كتبَتْها.

قلتُ: هذه خسارة كبيرة ولا شك.

فقال: لا أظن.

قلتُ: إنها تاريخ.

قال: وما قيمة التاريخ؟ لقد كان فلاسفة الهند وهم في أوج تفكيرهم، قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف سنة يصنعون المعجزات ولكنهم كانوا يعجزون عن أن يؤرِّخوا ما يصنعونه!

إن العبرة ليست بمقدمات التاريخ، ولكن العبرة بنتائج التاريخ.

قلتُ: وماذا ترون في نتيجة تاريخنا؟

قال: إن النتيجة عظيمة ولا شك. إنَّ ما نقاسيه من عذابٍ وشقاء واضطراب يهون حتمًا أمام أننا أصبحنا أحرارًا، وأننا رأينا الاحتلال البريطاني وهو يتقلَّص من المدن، وسيأتي اليوم الذي يزول فيه من بلادنا كلها.

لقد كنَّا في الماضي أكثر شجاعةً، واليوم أصبحنا أكثر حريةً.

قلتُ: والشجاعة؟

فقال: إنها لا تزال مع الأسف تعيش في الماضي فقط.

قلتُ: ولكن كيف؟! وقد أصبح لنا جيش حارَبَ فعلًا وأبدى ضروبًا من الشجاعة.

فقال: لا أقصد شجاعة الجيش؛ فهذا فخرٌ لا جدالَ فيه، ولكني أقصد شجاعة الرأي، وهذا ما لا نزال في حاجةٍ إليه!

•••

إن لطفي السيد لم يكن أستاذ جيل واحد، بل كان أستاذ ثلاثة أجيال؛ فقد عاش أكثر من سبعين عامًا، ورأى بعينه بلادَه وقد تحرَّرَتْ من الإنجليز ومن أسرة محمد علي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤