الفصل الرابع

الفنون الإسلامية

لما كان العرب في جزيرتهم لم يرحلوا عنها بعد إلى مصر والعراق وسورية عقب النهضة الإسلامية كانوا يجهلون الفنون الجميلة شأن البدو في كل مكان، فلما اختلطوا بالأمم المتحضرة في هذه الأقطار نقلوا عنها فنونها الشائعة بعد أن حذفوا منها ما لا يتفق وروح الإسلام، وصبغوا سائرها بالصبغة الإسلامية، ولذلك فالفنون الإسلامية هي في الواقع فنون مصرية أو عراقية أو هندية أو فارسية، ونحن في مصر نعرف أن الكنائس القبطية القديمة كانت تزين بالمشربية والفسيفساء، وكلتاهما نراهما بعد ذلك في المباني الإسلامية.

وقد نزع الإسلام نزعة توحيدية، وجعل للتوحيد المقام الأول في الإيمان، فتأثرت الفنون من هذه الناحية بحذف كل ما يختص برسم الإنسان أو الحيوان أو نحت تماثيلهما، وذلك لأن الصور والتماثيل تومئ إلى الأوثان التي يخشى على التوحيد منها، ولكننا نجد أمتين إسلاميتين هما: الفرس، ومصر (مدة الفاطميين) تسامحتا بعض التسامح في الرسم والنحت حتى كانت تُرى قي قصور الفاطميين مناظر الرقص والصيد والغزلان، وكانت كتب الفرس وقصورهم تزين أيضًا بصور الحيوان والنبات، ولكن هذا لا يطعن فيما نثبته من معارضة الإسلام لهذين الفنين، بل هو أجدر بأن يؤيد ما قلناه، وذلك لأن فارس ليست سنية، وكذلك مصر أيام الفاطميين كانت شيعية، والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام وخروج على جمهور المسلمين، فاتفاق مصر في ذلك العهد مع الفرس وتسامحهما في الرسم والنحت للحيوان والنبات يدلان على صحة قولنا، ومما هو جدير بالذكر أننا لا نرى بين المسلمين في سورية أو شمال إفريقية ما يدل على أن رسم الحيوان أو الإنسان أو نحت التماثيل لهما كان يرخص فيهما لأحد.

ولما وجد رجال الفن المسلمون أن الدين يعارض النزعة الفنية في الرسم والنحت عمدوا إلى تصوير الجمال عن طريق الذهن لا عن طريق البصيرة، فجعلوا فنونهم ذهنية، ولذلك فإنهم بالغوا في إتقان الصنعة مع إهمال الفن، إلا حيث يميل الفن بطبيعته لأن يكون ذهنيًّا كما نرى مثلًا في البناء، فإنهم أقاموا عددًا كبيرًا من المباني الفخمة، وكذلك في الشعر ألفوا القصائد الرائعة، ولكنهم أتقنوا الصنعة هنا دون الفن، فإن لهم القصائد ولكن ليست لهم الدراما أو الملحمة.

والفنون الإسلامية على وجه العموم هي فنون الذهن، تنقصها البصيرة والرؤيا والخيال، وهي تميل إلى إتقان الصنعة مع تناسي الغاية من الفن، ولذلك فإن مقامها لم يكن عظيمًا عند المسلمين، حتى إننا قلما نجد اسم الصانع مدونًا بجانب أحد النقوش أو حتى العمارات، وإهمال اسمه يدل على الاحتقار الذي كان يضمره له مستخدموه.

وقد سار فن الرسم الإسلامي في ثلاثة اتجاهات:
  • (١)

    الزخارف الهندسية المتقابلة من أقواس وخطوط تتقابل فترتاح العين إلى شكلها الهندسي.

  • (٢)

    الزخارف التي تعود في الأصل إلى «باعث» من رسم حيوان أو نبات يعمد الرسام إليه فيطيل في بعض أعضائه أو يفرطحها أو يشرشرها حتى يخفي أصله ثم يجعله يتقابل مع شكل آخر لا يختلف معه، فيحصل على شكل هندسي يمتاز من الزخارف الهندسية المحضة بما فيه من هذا «الباعث» الذي يزيد حلاوته في العين.

  • (٣)

    لما رأى المسلمون ضيق الميدان الذي يمكنهم أن يستخدموا فيه مواهبهم الفنية اضطروا إلى أن يجعلوا من الخط العربي فنًّا، فزينوه وزخرفوه حتى صار له جمال خاص.

وأقدم الآثار العربية في مصر هو جامع عمرو، ولكن الإصلاحات المتكررة قد تعاورته حتى لا يمكن الآن أن يقال إن به شيئًا من أيام عمرو، ولذلك لا يمكننا أن نستشهد به على تطور الفن المعماري الإسلامي، ولكن يمكن أن يقال بلا خوف كبير من الخطأ: إن العصر الذهبي الأول لهذا الفن هو عصر الفاطميين الذين ذكرنا جرأتهم في تزيين قصورهم برسوم الحيوان، ويلي الفاطميين الأيوبيون، ولكن هؤلاء لا يبلغون ما بلغه المماليك بعدهم، ففي أيام الصناعات فشت العمارات والمساجد العظيمة في القاهرة وراجت الصناعات وظهر المقرنص الذي يرى فوق أبواب المساجد، و«الباعث» لهذا المقرنص هو القناديل لأنها تمثل قناديل مدلاة قد مسح عليها العرف مسحة هندسية كما هو الشأن في الفنون الإسلامية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤