حيلة كأنها صدفة

في اليوم التالي كانت هيفاء منهمكة بعض الانهماك بالاستعداد لزواجها، نقول: بعض الانهماك؛ لأن أمها كانت تهيئ كل شيء وتدبر كل أمر، فاشترت لها الحلي والملابس، ولكن بقي لهيفاء بعض أمور فانشغلت بها في ذلك النهار.

ولما كانت الساعة الثالثة سمعت قرب المنزل تطبيلًا وتزميرًا، فخرجت إلى الشرفة لترى ما الخبر، وخرجت أمها معها؛ لأنها لم تكن تفتر عن مراقبتها، فرأتا زمرة من الغوغاء يلاعبون قرودًا في عرض الشارع.

فقالت نديمة: ألا تزالين ناقصة العقل تستفزك هذه الأضاحيك السخيفة، تعالي.

– لقد مللت الشغل اليوم وأود أن أتنشق الهواء النقي وأستريح قليلًا، فدعيني وبعد هنيهة أعود.

فعادت نديمة إلى الغرفة، وبقيت هيفاء مطلة، وما هي إلا هنيهة حتى نظرت يوسف براق يمر على اللاعبين، ووقعت عينها على عينه وكادت تفهم من نظرته أمرًا، فتتبعته بنظرها حتى رأته توارى وراء الجدار الذي يسور الحديقة المجاورة، وقبل أن ترد نظرها رأت شيئًا ارتمى من فوق الجدار إلى الحديقة، ولكنها لم تقدر أن تفهم ما هو، ثم ما لبثت أن رأت يوسف قد ظهر من وراء الجدار، وعاد من وراء اللاعبين وهي تتبعه بنظرها، وتومئ إلى جهة الجدار لتفهمه أنها رأت الشيء الذي ارتمى، ثم رأته توارى.

عند ذلك دخلت وأعطت الخادم قرشًا ليرميه للاعبين، وبعد بضعة من الساعة نزلت هيفاء إلى الحديقة، ومشت إلى حيث ارتمى ذلك الشيء، فلم تجد إلا علبة قديمة وسخة من علب «البويا» التي يستعملها ماسحو الأحذية، فلم تعبأ بها في أول الأمر، ولكنها لما لم تجد غيرها انحنت وتناولتها، وفتحتها فوجدت فيها ورقة صغيرة، ففتحت الورقة وقرأت فيها ما يأتي:

أود أن أراكِ فكيف أستطيع؟ ومتى؟ وأين؟ أنتظر جوابك في هذه العلبة، فضعيها على زاوية الجدار، وفي أول الليل آتي وآخذها.

في أول الليل تناول يوسف براق العلبة عن الجدار، وفتحها فوجد فيها ورقة، فقرأها على نور مصباح الشارع هكذا:

المراقبة شديدة، فسأحاول أن أراك الليلة نحو الساعة الثالثة صباحًا وراء المنزل عند جدار الحديقة.

في الوقت المعين كان يوسف عند ذلك الجدار فرآه يعلو نحو قامة، فنقل إليه حجرًا كبيرًا من حجارة كانت هناك، ووقف على الحجر حتى صار رأسه مشرفًا على الحديقة.

بقي دقائق مطلًّا حتى رأى شبحًا ينسل، فلما اقترب الشبح قال همسًا: هيفاء؟

– من هذا؟

– أنا يوسف، تقدمي، لا تخافي.

فتقدمت الفتاة حتى صار رأسها تحت رأسه، وقالت: كيف اهتديت إلى منزلنا؟

– إذا كان أحد الناس يأتي إلى منزلكم ويئوب منه، فليس عسيرًا أن أهتدي إليه.

– من هو هذا الذي تعنيه؟

– الذي كان معكم في المركبة أمس أرشدني إلى منزلكم.

– يستحيل ذلك.

– طبعًا يستحيل أن يفعل لو توقف الأمر على إرادته.

– فهمت، تعني أنك تتبعته إلى هنا من حيث لا يدري، ولكن كيف اهتديت إليه بعد أن ركب معنا؟

– عاد لمقابلة الرومي الذي كنت أجالسه في القهوة، فعقدت النية على أن أتتبعه إلى حيث يذهب ففعلت.

– ولكن كيف عرفت أن هذا المنزل الذي دخل إليه منزلنا لا منزله؟

– لم أعرف ذلك حتى رأيتك في الشرفة تتفرجين على لعب القردة.

– إن مرورك في ذلك الحين لصدفة غريبة.

– ليست صدفة.

– إذن ماذا؟

– أنا دفعت لقادة القردة نصف ريال جزاء أن يأتوا ويلعبوا تحت شرفة هذا المنزل حتى إذا كنتِ فيه أشرفتِ من الشرفة، فصحت حيلتي كلها.

– يا لها من حيلة جميلة! والآن تود أن تسألني عن رسالتك لليلى، فقد وقعت في يد أمي فظنت أنها لي.

– لا، لا وقت لمثل هذه الأسئلة الآن، فأخبريني عن حالك وعلاقتك بفهيم رماح.

– غدًا أكون زوجة شرعية له إذ لم أعد أستطيع غير ذلك.

– حاذري أن تفعلي.

– ويلاه! لماذا؟

– لأنه خليل ثلاث ساقطات.

– ماذا تقول؟

– كذا علمت، وكذا تأكدت فحاذري يا هيفاء، إن أمك تسوقك إلى هاوية من الويل عميقة.

– رحماك! ماذا أفعل؟

– ارفضي الزواج.

– لا أستطيع ما دمت تحت سيطرة أمي، فبربك أنقذني.

– ارفضي ولا تخافي.

– والاضطهاد؟ لا أستطيع احتماله.

– هل تريدين أن تتركي أمك؟

– أين أحتمي؟

– إذا شئت فأنا أدبر أمرك.

– متى تدبره وغدًا الساعة العاشرة مساءً يكون الإكليل؟

– هل تستطيعين أن تنسلي غدًا في الليل من المنزل، وأنا أكون على استعداد لاختطافك والطيران بك؟

– إلى أين؟

– إلى حيث تكونين في مأمن من كل شر، فهل تثقين بي؟

– أثق، ولكني أخاف ألا أستطيع الخروج من المنزل ولا لحظة؛ لأن المراقبة شديدة.

– حاسني الكل منذ الآن، وأظهري سرورك ورضاءك عن الزواج؛ حتى يثقوا بك ويخففوا من المراقبة عليك، وفي السهرة اغتنمي فرصة واخرجي، ومتى صرت خارج المنزل تفلتين من أيديهم.

– حسن، إذن انتظرني غدًا بين التاسعة والعاشرة وراء الحديقة، فإني أخرج من الباب الخلفي إلى الحديقة، فهل تستطيع أن تصعدني على الجدار؟

– أستطيع، فلا تترددي في الهرب إذن، لا تخافي، عودي إلى مخدعكِ الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤