قاب قوسَين

١

وصَلَت بنا الطائرة إلى مدريد بإسبانيا في السادسة صباحًا، ألقَينا حقائبنا بالفندق، واندفعنا إلى الشارع نجمع حريتنا التي خُطِفت منا خلال الأربعين يومًا الماضية، كنا في سجنٍ كبير. قضينا أنا و«ابتهال» وقتًا جميلًا كنا في حاجة إليه على الرغم من حرارة شهر يوليو. بَرق الشهر مُسرِعًا، وتوجَّهت «ابتهال» إلى مِنحتها الدراسية، وذهبت إلى المكتبة القومية بمدريد أبحث عن المَراجع لأكتب ردًّا فكريًّا على حيثيات حكم الاستئناف، تاركًا الرد القانونيَّ للقانونيين، نشرَته مجلة «أدب ونقد» في شهر سبتمبر سنة خمس وتسعين؛ حيث إن القاضي وضع تعريفًا للردة بأنه: «الرجوع عن دين الإسلام، والمُرتدُّ هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، ورُكنُها التصريح بالكفر، إما بلفظٍ يقتضيه أو بفعلٍ يتضمنه بعد الإيمان.» والمقصود بالكفر «يلزم أن يكون ما صدر من المُدَّعي برِدَّته مُجمَعًا على أن يُخرِجه من الملة عند كافة علماء المسلمين وأئمتهم مع اختلاف مذاهبهم الفقهية.» لكن للأسف الشديد لم يلتزم القاضي بالتعريف الذي استقاه؛ فبالعودة إلى المصادر التي أشار إليها الحكم يمكن أن نكتشف أن حدود الأفعال والأقوال التي تدخل في حيِّز الردة تنحصر في المُرتدِّ «فعلًا»؛ من أتى بفعل السجود لصنم أو إلقاء المصحف في قاذورة، أما المرتد «قولًا» فهو من جرَت على لسانه كلمة الكفر بما هو داخل في حيِّز الإيمان، وهو كل ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال.

فالقاضي يقرأ النصوص قراءةً حرفية، ويعزلها عن سياقاتها في الماضي؛ فالفقيه القديم حينما قال بمقولة المعلوم من الدين بالضرورة يَخرج من منظومةٍ فكريةٍ مُتكاملة، بها الفقه وعلم الكلام والفلسفة؛ فالعلم الضروري يقصد به: الذي ليس في حاجة في علمه إلى نظر أو استدلال. بلغة عصرنا البدهيات. والعلم النظري يقصد به: الذي يَنتج عن نظر أو استدلال. كما قال الباقلَّاني المُتوفَّى ٣٠٤ﻫ/٩۱٧م في كتابه «تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل»، صفحة ٣٥ و٣٦، وفي كتاب «الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به»، صفحة ۱٣؛ فمحتوى الإيمان الذي يُعَد الارتداد أو الخروج عنه كفرًا هو: ما يعلمه المسلم علمًا ضروريًّا؛ أي دون حاجة إلى نظر أو استدلال أو تفكير فيه. وليس في كل ما أورده القاضي من أقوال قولٌ واحد يُنكِر علمًا ضروريًّا؛ أي بدهيًّا في الدين؛ فليس ثَمة قولٌ يُنكِر أن الله واحد، وأن محمدًا نبيُّه ورسوله، أو يُنكِر الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو يُحرِّم حلالًا أو يُحلُّ حرامًا، وإنما كل ما ورد هو من قبيل الاجتهادات النظرية الاستدلالية، بل إن الحكم انحرف انحرافًا واضحًا عن التعريفات المُستقاة من كتب الفقه، وذلك حين عاد ليدمج فيها تصوراته الشخصية لتُمهِّد له السبيل لإصدار حكم الرِّدَّة.

وتناولتُ في موقف الحكم من كتاباتي مسألةً مسألة، وعرضت وجهات نظر للشيخ «الإمام محمد عبده» فيها، وبيَّنتُ عجز القاضي بسبب منهجه الحرفي في فهمه للنصوص، وعن فهم المعاني التي كتبتها؛ ومن ثَم انتزاع الاجتهادات من سياق الأدلة في مسائل الميراث وملك اليمين والجزية وعالمية الإسلام. وقدَّم الحكم قراءةً مُبتسَرةً للنصوص تنتزعها من سياقها قصدًا ليُحمِّلها معانيَ لا تحتملها.

قبل مغادرتي مصر كنتُ قد بدأت التحضير لجزءٍ ثانٍ من كتابي «مفهوم النص»، سيكون عن مفهوم النص في السنة، وكان كتاب الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية هو جزءًا منه، لكن أمامي الآن سؤالٌ مُهمٌّ نتج مما حدث يشغلني، وهو: «لماذا تتعرض شجرة التنوير للذبول بل والموت كلما نمَت قليلًا؟» فكتبتُ دراسةً نشرَتها مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية تحت عنوان «مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد»، في عددها السادس عشر سنة ست وتسعين؛ ﻓ «ابن رشد» لم يُطِق الفقهاء وجود رُفاته على الساحل الأفريقي، فجُمِع الرفات في ناحية على ظهر دابَّة، وكتبُه على الجانب الآخر، ليُنقَل إلى الساحل الشمالي في الأندلس، وها أنا هنا على نفس الساحل بعد قرون، فكيف استطاع خطاب «الغزالي» الذي أصبح خطاب المركز والمُهيمِن أن يحصر خطاب «ابن رشد» في الهامش؟!

فحالات تَراجُع الجديد أمام القديم تُسهِم في تثبيت القديم في مكانته؛ فالمُفكِّر حين يتراجع مُوهِمًا نفسه أنه تراجعٌ تكتيكي، لحين تتهيأ الظروف ويتطور وعي العامة، ما هذا إلا وهم. مَهمة البحث التحليلي النقدي هو تفكيك الأفكار القديمة ونزع قناع القداسة عنها برَدِّها إلى سياقها الأصلي بوصفها نتاجًا بشريًّا تاريخيًّا؛ ﻓ «أبو حامد الغزالي» (ت: ٥٠٥ﻫ/۱۱۱۱م) خطابه ذو بنيةٍ مُزدوِجة؛ فهو خطاب سلطة بامتياز في الشِّق الأشعري منه كمُتكلِّم، يُساند السلطة السياسية، ويُبرِّر سيطرتها وهيمنتها وديكتاتوريتها أيديولوجيًّا، وهو أيضًا خطاب للعامة والخاصة في شِقِّه الصوفي كعزاءٍ تُجابِه به سطوة السلطة. ويُقدِّم لسلطة الدولة السُّنية سلاحًا في صراعها ضد سلطة الشيعة؛ فوسطية «الغزالي» تلاقت فيها الأنظمة المعرفية الثلاثة التي أشار إليها «محمد عابد الجابري»؛ البيان والبرهان والعرفان، لكنها وسطيةٌ أفضَت إلى تبرير السياسي بالفكري، وجعلت المعرفيَّ تابعًا للسياسي، وهذا كله في سياق انهيار شامل أدَّى إلى نُكوص العقل الإسلامي وتَحصُّنه بالسلفية؛ دفاعًا عن وجوده ضد هجمات المُغول والتتار.

و«ابن رشد» (ت: ٥٩٥ﻫ/۱۱٩٨م) رأى أن الخطر هو أن يَكفُر الناس بالحكمة أو بالشريعة؛ نتيجةً لإشاعة التأويل بين الناس بأدلة الجدل والخطابة، «ففعل كما فعل «الغزالي»، وطالَب بالنهي عن قراءة كتب الحكمة إلا لمن كان من أهل العلم، فوقع «ابن رشد» في شراك «الغزالي» بحله الوسطي، بأن تُحجَب المعرفة عن العامة، فلا تُطرَح عليهم أدلة الجدل أو البرهان. و«الغزالي» يبدأ حركته المعرفية من عالم الملكوت، ومنه إلى النص، ومن النص إلى عالم الحس والشهادة. والتأويل عنده هو فكُّ شفرة النص الديني من أجل فهم العالم الذي تُمثِّل اللغة تعبيره المجازي، لكن منهج الحركة المعرفية عند «ابن رشد» حركةٌ مُعاكِسة، يبدأ من العالم الطبيعي إلى ما وراء الطبيعة أو ما بعدها»، نزولًا إلى النص الديني بالتأويل الذي تواصل به «ابن رشد» مع التراث المعتزلي. وخلال رغبته وسعيه للحركة من موقع الهامش قدَّم تنازلات، أو بتعبير «محمد أركون» ترضيات، والتي عمَّقَت هامشيَّته؛ لأن هذه الترضيات بطريقةٍ غير مباشرة كرَّسَت مركزية «الغزالي» بما تُمثِّله من دلالات؛ فإذا كان لنا أن نستدعيَ «ابن رشد»، فليَكُن استدعاؤنا له ليس من أجل الصراع الأيديولوجي، بل من أجل تعميق فهمنا لأنفسنا ولتراثنا ولعصرنا.

أثناء بحثي عن بعض كتب التفسير بالمكتبة الوطنية في مدريد، عثرت على ترجمة للقرآن، يعود تاريخها لعام ۱٩۲۱م لصاحبها «محمد أحمد علي، هندي»، ينتمي إلى المدرسة الأحمدية، ولم تكن مجرد ترجمة إلى الإنجليزية، بل تفسيرًا ضمَّ ما يزيد على ألفَين من التفسيرات المُرقَّمة، تَعرِض لكل المشكلات المطروحة على الفكر الإسلامي في الغرب، سواءٌ المُرتبطة بالمسيحية أو بطبيعة السيد المسيح، وقضية الجبر والاختيار والناسخ والمنسوخ من منظور الدفاع عن الإسلام. ووجدت كتابًا آخر ﻟ «الطاهر بن عاشور» التونسي (۱۲٩٥ﻫ/۱٨٧٩م–۱٣٩٠ﻫ/۱٩٧۲م) بعنوان «التحرير والتنوير»، وهو كتاب في التفسير، فتركت موضوع السنة، وانشغلت بالبحث في إشكاليات التفسير والتنوير منذ «الطهطاوي ومحمود طه» في السودان، و«محمد شحرور» في سوريا، و«محمد إقبال والسيد أحمد خان وأبي الأعلى المودودي» في الهند، حتى «سيد قطب»؛ لدراسة إشكاليات التأويل في العصر الحديث، ووصلت إلى قرار هو أن أقبل المنحة الدراسية في جامعة «لايدن» وألا أعود إلى مصر.

٢

لو عدتُ لمصر سيُعطَّل المُعلِّم بداخلي، ولأصبحت كباحثٍ مشدودًا للسجال؛ فلا بد من حماية الباحث «نصر أبو زيد» من القضاء عليه داخليًّا؛ حتى يُتاح للمُعلم العودة إلى طلابه أكثر عافية. كان ذلك وراء قبولي منحة جامعة «لايدن»، ولمكانة الدراسات الإسلامية الرصينة فيها. فوصلنا إلى هناك في الخامس والعشرين من أكتوبر عام خمسة وتسعين. «لايدن» تبعد أربعين دقيقة بالسيارة من العاصمة الهولندية، أمستردام. أقَمْنا في سكنٍ تابع للجامعة، هو استراحة للأساتذة الزائرين؛ شقة صغيرة في الطابق الثاني بمبنًى يُطلُّ على حديقةٍ عامة. استقبلَنا مصريون وعرب مُقيمون في هولندا، وفي معيَّتهم أغنية «أم كلثوم» «على بلد المحبوب ودِّيني»؛ فاللجوء ظاهرةٌ عربية. وسفير مصر في هولندا رجلٌ مُهتم بحقوق الإنسان، أصرَّ أن نتناول الغداء في بيته، وكان بنفسه في انتظارنا في المحطة، وغمرَتْنا زوجته الكريمة بتَرْحابها.

طالت لحيتي، وازداد وزني أكثر. قمتُ بتدريس مادة التفسير لطلبة قسم اللغة العربية للسنة الثانية، وحاولت التغلب على التوتر الدائم بالعمل المُتواصل، وبدأت أتعلم استخدام الكمبيوتر الذي وفَّرَته لي الجامعة، واكتشفت به عالم السحر المُنظَّم، أحمله معي في كل مكان، وأصبحت قادرًا على إنجاز أبحاثي ودراساتي بصورةٍ أسهل وأسرع. بدأت أُشارك في تدريس برنامج في مستوى الماجستير في الفكر الديني والمقارن، مقارنةً بين إندونيسيا والعالم العربي ومصر، وبدأتُ الإشراف على رسالة ماجستير، وأخرى للدكتوراه، لطالبَين من إندونيسيا. والمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية تزداد. قام «فريد ليمهاوس» بترجمة مختارات من كتاباتي إلى اللغة الهولندية، نُشِرت في أمستردام، كان قد عزم عليها حينما كنَّا في القاهرة. وكذلك الأستاذة «شريفة مجدي» المصرية المُقيمة في ألمانيا من عام ستة وسبعين، والحاصلة على دكتوراه في الإسلام السياسي، قامت بترجمة أجزاء من كتاب «نقد الخطاب الديني» إلى الألمانية. وكتب «نافيد كرماني» المقدمة، ونشرَتها دار «ديبا» في فرانكفورت.

في إجازة أعياد الميلاد وبداية السنة، سافرَت «ابتهال» إلى القاهرة في زيارة، ولم أُرِد الذهاب. وعملتُ على دراسة باللغة الإنجليزية عن «الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين الواقع والمثال»؛ فهناك فجوة دائمًا بين النصوص، سواءٌ كانت دينية أو دنيوية، والواقع الفعلي كظاهرةٍ إنسانية. وأخذت الفكر الإسلامي كمثالٍ تطبيقي لهذه الظاهرة. والأديان حينما تُكرِّم الإنسان فهي تُكرِّم الإنسان المؤمن بهذا الدين، ويتبع هذا الدين كطريق للخلاص، أما الإنسان غير المؤمن بهذا الدين فإنه يصبح عاصيًا، مصيره العذاب الأخروي؛ أي يصبح إنسانًا بلا حقوق. والإسلام في نصوصه الأساسية الأصلية يُؤكِّد مفهوم احترام الإنسان؛ من حيث هو إنسان بصرف النظر عن عقيدته أو لونه أو جنسه، لكن حين نتجاوز تلك المبادئ المثالية إلى الحياة الاجتماعية، والممارسات التاريخية في المجتمعات الإسلامية، تجد صورةً أخرى لحقوق الإنسان؛ لذلك فالتحليل يتطلب أن ننتقل من النصوص التي تُمثِّل الوحي الإلهي إلى الفكر الإنساني؛ أي إلى الطرائق التي فهم بها الإنسان هذه النصوص.

فتناولت المسألة عند اللاهوتيين المسلمين (علماء الكلام)، وعند الفلاسفة والمتصوفة، ثم الإنسان في الفكر الفقهي، واكتشفت أنه الإنسان غابَ كمفهومٍ اجتماعي في الفكر الإسلامي. والأصولية الإسلامية الحديثة التي اتخذت من مفهوم الحاكمية مقولةً استبعدت أي مرجعية أخرى سوى مرجعية العلماء والفقهاء في مجال تنظيم الحياة الإنسانية، لكن للإنصاف فإن الأصولية صارت نزعةً كونية لها تجلِّياتها الدينية والمعرفية والثقافية والأيديولوجية، وهي في مجملها نزعةٌ تحصر مفهوم الإنسان. وعلينا أن نضع على رأس مَهامِّنا بلورةَ مفهوم الإنسان الذي يكتسب إنسانيته من الانتماء إلى عِرق أو جنس أو ثقافة بعينها، أو من انتمائه إلى طبقة بالمعنى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي. وناديتُ بأهمية فهم الثقافات الأخرى في إطار إنجازاتها وسياقها دون أن نفرض عليها معايير تقييم من ثقافة أخرى ترى نفسها أعلى وأسمى.

كتبت «ابتهال» «صرخة في ذكرى حزينة، فاعل مفعول به»، نشرَتها جريدة «الأهالي»، قالت فيها: إن القضية لم تَكُن شخصيةً قُصِد بها «نصر وابتهال»، بل مقدمة لطابورٍ طويل. اقتربت الذكرى السنوية ولا عزاء للسيدات؛ فليس من حقِّهن القيام بأي فعل. لقد كرَّم الله المرأة، فحوَّلها جلَّادونا إلى أداة ووعاء ومفعول به. هكذا أصبحتُ كامرأة أداةً لعقاب «نصر أبو زيد». إنها النتيجة المنطقية لنظرة جلَّادينا للمرأة. إذا كانت المرأة مجرد أداة للمتعة، فإنها يمكن أن تتحول إلى مجرد أداة للعقاب؛ بحرمان الرجل الذي يقتنيها من أداة للمتعة … هل نسيَ هؤلاء أن الصفات التي يلصقونها بكلمة امرأة، كوعاء وأداة ومتعة، تنطبق على أمهاتهم؟ هل هناك من يرضى أن تُطلَق مِثل هذه الألفاظ والعبارات على أمه، ولا أقول على زوجته أو أخته أو ابنته؟ أم نسيَ هؤلاء أن الأم امرأة، وبفضل كونها امرأةً صارت أمًّا؟

طلب مني المُحامون أن أُوثِّق في القنصلية المصرية البيان الذي أصدرته العام الماضي في مجلة «روز اليوسف»، بعنوان الحقيقة أو الشهادة؛ ليكون وثيقةً رسميةً بإسلامي، ففعلت. ونشرَت دار مدبولي كتابي التوثيقي للقضية «القول المفيد في قضية أبو زيد». وجمع المركز الثقافي العربي — بجهد مُديره الصديق «حسن ياغي» — بعض دراساتي في الأعوام السابقة في كتاب «النص والسلطة والحقيقة»، ذهبت إلى مدينة «هانوفر» في شمال ألمانيا للمشاركة في ندوةٍ تتناول الأدب وحرية الإعلام وحقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية، في مايو سنة ست وتسعين، اشترك فيها باحثون من مصر والمغرب وتونس والأردن وفلسطين وإندونيسيا وبنجلاديش وأمريكا وهولندا وألمانيا. وقدَّمتُ ورقةً نقدية للفكر الديني التنويري، والعلاقة بين حرية البحث العلمي وحرية الفكر عمومًا، واستخدام الدين في مواقف سياسية. وفي إحدى جلسات ندوة «لغة الشعر ونصوص القانون» بدأت كاتبةٌ من بنجلاديش اسمها «تسليمة نسرين» تقرأ الإعلان العالميَّ لحقوق الإنسان فقرةً فقرة، وتُقارِن بين كل مادة من مواده وبين ما جاء في القرآن وفي الأحاديث؛ فحق العمل من حقوق الإنسان، والإسلام يمنع النساء من العمل والتعليم. وإذا كان الغرب يُفرِّق بين الأصوليين والإسلام، فهي تعتبرهما شيئًا واحدًا. وختمت كلمتها بقراءة عدد من قصائدها بالإنجليزية وقصيدة بلغة بلادها. فطلبتُ التعقيب وقلت لها: «لا يستطيع أحدٌ أن يتَّهمني بأنني ضد حريتك؛ لأنني شخصيًّا مُضطهَد بسبب حرية الرأي، وأنا الوحيد القادر على أن أقول لك إن ما ذكرتِه خطأ. لقد تعاملتُ مع نص إعلان حقوق الإنسان باعتباره نصًّا مُقدَّسًا بل أكثر قداسة من القرآن، فلماذا لم تنتقدي مثلًا التطبيق المُنحاز من الغرب لمبادئ حقوق الإنسان؟ فهل من المعقول أن «هنتنجتون» يتكلم عن الإسلام باعتباره حضارةً وهو القائل بصراع الحضارات، بينما تتكلمين أنت عن الإسلام باعتباره تخلفًا، ناسيةً أن الإسلام أنتج حضارةً استمرَّت لعدة قرون؟ ووضعتِ النصوص وتفسيرها في سلةٍ واحدة. وليس من المُناسب أن ننسج خطابنا ليَرضى الغرب عنا. أما القصيدة التي أعجبتني من قصائدك فهي تلك التي لم أفهمها.»

٣

بعد صدور حكم محكمة الاستئناف بالتفريق بين «نصر أبو زيد» وزوجته بدعوى ارتداده، تقدَّم فريق من المُحامين عنهما بطعنين، ٤٧٨ و٤٨۱، وقدَّمَت النيابة العامة طعنًا في الحكم إلى محكمة النقض، رقم ٤٧٥ لسنة ٦٥ قضائية، يوم الثامن من أغسطس سنة خمس وتسعين، طالبتُ فيه بقبول الطعن شكلًا، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه. وتمَّ إعلان المطعون ضدهم؛ المُحامي «صميدة عبد الصمد» وآخرين، الذين صدر حُكمُ الاستئناف لصالحهم يوم الثلاثين من أغسطس، فقدَّموا دفاعًا يوم الحادي عشر من سبتمبر، وطلبوا فيه رفض الطعن. ورأت غرفة المشورة بمحكمة النقض أن الطعون جديرة بالنظر، فحدَّدَت لنظرها جلسة الثاني والعشرين من أبريل سنة ست وتسعين، أمام الدائرة المدنية والتِّجارية والأحوال الشخصية برئاسة المستشار «محمد مصباح شرابية»، وعضوية «فتحي محمود يوسف وسعيد غريان وحسين السيد متولي وعبد الحميد الحلفاوي».

أرسل المُحامي العامُّ الأول لنيابة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية — المستشار «محمود عبد العال عبد الرسول» — خطابًا إلى فضيلة المفتي «محمد سيد طنطاوي»، في الخامس من شهر مارس سنة ست وتسعين، يطلب الإفادة عن الرأي الشرعي في مذكرتَين؛ فجاء ردُّ المُفتي في السادس من مارس: «حيث إنه لم يحدث أثناء نظر الدعوى أو الاستئناف أن الدكتور «نصر أبو زيد» الذي حُكِم بالتفريق بينه وبين زوجته، نُوقِش في مُؤلَّفاته أو مُعتقَداته شخصيًّا في التُّهَم المُوجَّهة إليه، فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يجب قبل الحكم بالتفريق بين إنسان مسلم وزوجته أن يُناقَش هذا الإنسان مناقشةً دينيةً دقيقةً ومتصلة في مُعتقَداته ومُؤلَّفاته وجميع ما صدر عنه أو اتُّهِم به؛ لاحتمال رجوعه عما صدر عنه أو اتُّهِم به، أو لاحتمال أن ما قاله يقبل التأويل الصحيح ولو من بعض الوجوه … ونظرًا لخطورة الحكم بالتفريق بين مسلم وزوجته، نرى أنه لا يكفي صدور الحكم لمجرد قراءة ما كتبه، بل لا بد من إنذاره أكثر من مرة بوجوب حضوره أمام الهيئات القضائية المُختصَّة لمناقشته فيما اتُّهِم به مناقشةً علميةً مُتأنية ومُفصَّلةً يشترك فيها جميع الأطراف الذين تهمُّهم أمثال هذه القضايا الخطيرة التي هي قضايا حياة أو موت.»

عُقِدت جلسة المحكمة في الثاني والعشرين من أبريل سنة ست وتسعين، ودافعَ عن «نصر أبو زيد وابتهال يونس» المُحامون: مكتب «منى ذو الفقار» وزوجها «علي الشلقاني»، و«أحمد الخواجة»، و«عبد العزيز محمد» ود. «عبد المنعم الشرقاوي». وقرَّرَت المحكمة حجز القضية للحكم في الرابع والعشرين من يونيو. وكان لحكم الردة تأثيرٌ على مستوى العالم في العام الماضي، فسَعَت الحكومة إلى تغيير في قانون الإجراءات. بالقانون ٨١ لسنة ٩٦، والذي أُقِر في الثاني والعشرين من مايو سنة ست وتسعين في مادته الثالثة؛ يُقضى بإلزام جميع المحاكم ومحكمة النقض أن تُحيل من تلقاء نفسها ودون رسومٍ ما يكون لديها من مسائل الأحوال الشخصية على وجه الحسبة، والتي لم يَصدُر فيها أي حكم، إلى النيابة العامة المختصَّة وفقًا لأحكام هذا القانون، وذلك بالحالة التي تكون عليها الدعوى، وتقضي من تلقاء نفسها واحترامًا للنظام العام، بعدم قبول أي دعوى لا يكون لصاحبها مصلحةٌ شخصية مباشرة فيها، وقائمة يُقرُّها القانون ما دام لم يَصدُر فيها حكمٌ باتٌّ. ونظَّم القانون مسألة الحسبة، وأن تكون عن طريق النيابة العامة. فتقدَّم دفاع «نصر أبو زيد» بطلب إلى المحكمة في الثاني والعشرين من مايو بفتح باب المرافعة بعد صدور القانون، لكن المحكمة مدَّت الأجل للحكم إلى الخامس من أغسطس، ورفضت إعادة فتح الباب لمرافعة الدفاع.

يوم الإثنَين الخامس من أغسطس، قدَّمَت حُكمَها بتأييد حكم التفريق وبرفض الطعون فيه، مستندةً إلى أنه لا توجد في القانون المصري «قاعدةٌ قانونية خاصة تمنع أو تُقيِّد من إقامة دعوى الحسبة في وقت رفع الدعوى»، وحتى القانونُ الجديد الذي أدخل نُظُم إجراءات دعوى الحسبة «مما يُعَد إقرارًا من المُشرِّع بوجودها»، وإن كان القانون الجديد يتطلب أن يكون رافع الدعوى ذا مصلحة، فإنه وقتَ رفعِ الدعوى كان صاحب مصلحة في القانون القديم؛ «فقد رُفِعت الدعوى وصدر حكمٌ نهائي فيها قبل صدور القانون … فأحكام هذا القانون الجديد لا تنطبق على الدعوى …» وكانت قد حُجِزت للحكم قبل القانون المذكور؛ ولذا فإنه لا مُبرِّر للاستجابة له.

«الطعن بالنقض لا تنتقل به الدعوى برُمَّتها إلى محكمة النقض، وما يُعرَض عليها ليست الخصومة التي كانت أمام محكمة الموضوع، بل ينصبُّ الطعن على محاكمة الحكم الذي صدر»، و«لمحكمة الموضوع السلطةُ التامة في فهم الواقع وتقدير الأدلة، ومنها المستندات المُقدَّمة فيها، والموازنة بينها، وترجيح ما تطمئنُّ إليه منها وتراه مُتفقًا مع واقع الحال في الدعوى». وحُكمُ الاستئناف بالتفريق قدَّم، مما ورد بأبحاثه التي لم يُنكِر صدورها عنه، أن ما عناه بالنصوص على النحو الذي ذكره بها؛ نصوص القرآن والسنة النبوية، وأن آراءه التي ضمَّنها مُؤلَّفاته وأحصى الحكمُ بعضًا منها هي من الكفر الصريح الذي يُخرِجه من الملة، بما يُعَد معه مُرتدًّا عن الدين الإسلامي، ويوجب التفرقة بينه وبين زوجه … ما دام قد ألمَّ بآرائه التي انطوت عليها مُؤلَّفاته عن بصر وبصيرة، ولا على الحكم إذا لم يأخذ بتقرير مجلس أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتقرير مجلس قسم اللغة العربية بها؛ إذ لم يتعرَّضا لما حوَته مُؤلَّفاته من آراءٍ تُعَد مساسًا لأصول العقيدة الإسلامية … إن النص لا يعدو أن يكون جدلًا فيما لمحكمة الموضوع من سلطة فهم الواقع في الدعوى وتقدير الأدلة، وهو ما لا يجوز إثارته أمام هذه المحكمة. «إن حدَّ الردة لم يَكُن معروضًا على محكمة الموضوع، واقتصر الحكم على التفريق بينهما باعتبار أن ذلك من الآثار المُترتِّبة على الردة؛ ومن ثَم فإن ما أُثيرَ في هذا السبيل ليس له محل من قضاء الحكم؛ ومن ثَم فإنه يكون غير مقبول.» ورفضت المحكمة الطعون الثلاثة، وألزمت الطاعنين بالمصروفات، وثلاثين جنيهًا مُقابل أتعاب المحاماة.

كنت بالجامعة حينما اتصلَت بي «ابتهال» وطلبت مني ألا أردَّ على التليفونات، وأن أعود إلى البيت لأمرٍ مُهم. لم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء؛ فاليوم كان موعد النطق بالحكم. فكتبتُ بيانًا عنوانه «أنا أفكر فأنا مسلم»، أرسلته إلى مجلة «روز اليوسف»، التي نشرَته في عددها في الثاني عشر من أغسطس، كتبت فيه: «لا مَفرَّ من الإقرار بأن هذا الحكم الظالم يبدو كأنه يُعلِن للعالم الذي بدأ بالفعل الدخول في القرن الحادي والعشرين أن المسلمين فَشِلوا في دخول القرن المُنصرِم، فهل تبدَّد بالفعل كل شيء؛ التاريخ والتراث والوطن؟ هل صار شعارنا الآن «أنت تفكر إذَن فأنت مُرتد»، بعد أن كان في كل عصور ازدهار الفكر الإسلامي «أنا أفكر لأنني مسلم»، أو «لأنني مسلم فيجب أن أفكر»؟»

يا أهل مصر المعمورة لا تُصدِّقوا كلام القاضي أنني مُرتد، ولو كان في النقض؛ لأن المُرتدَّ والعياذ بالله لا يتقدم برِدَّته لينال لقب الأستاذية في جامعة في بلدٍ مسلم إلا لو كان مجنونًا. وقد عِشتُ بينكم طفلًا وصبيًّا وشابًّا وكهلًا، وخدمت وطني في كل مواقع العمل من «هيئة المواصلات اللاسلكية» إلى الجامعة، ولم تظهر عليَّ أعراض جنون من أي نوع، منذ حوالَي ربع قرن وأنا أُدرِّس لأبنائكم في القاهرة والخرطوم وبني سويف، فهل سمعتم أن أحدًا من طلابي اتَّهمني بالكفر، أو كفر بتأثير تدريسي له أو لها؟ كل الذي حدث يا أهلي وعشيرتي أنني رفضت الانصياع للظلم والجهل في أروقة الجامعة العريقة، وقلت «لا» عاليةً مُدوِّية … يا أبناء وطني، مسلمين ومسيحيين … فقد لقيت من مساندتكم ودعمكم ما هو جدير بكم، وعليَّ أن أردَّ الجميل فأُثبت لكم أنني جدير بدعمكم ومساندتكم، والسبيل الوحيد هو الاستمرار في العمل؛ البحث والكتابة في أي مكان من أرض الله الرحبة الواسعة. صوتي سيكون دائمًا معكم في كل معارك الحق والعدل والشرف، وستصلكم كتاباتي واجتهاداتي الفكرية من أي مكان أكون فيه؛ فليس الوطن مجرد مكان نعيش فيه، بل هو بالأحرى حُلمٌ يعيش فينا. لقد صار الدفاع عن حضارة الإسلام منذ الآن أكبر من أن يكون همًّا أكاديميًّا، صار مسألة حياة أو موت، أن نكون أو لا نكون. وإذا كان شعار العالَم «أنا أفكر فأنا موجود»، فليَكُن شعارنا «أنا أفكر فأنا مسلم».

رغم الحالة النفسية من الحكم، سأضع جهدي في أبحاثي وطلابي؛ فهذا هو طريقي، وبخاطرك يا مصر. تقدَّم الأستاذ «عبد العزيز محمد» نقيب مُحامِي القاهرة دفاعًا عن «نصر أبو زيد وابتهال يونس» باستشكال لوقف تنفيذ الحكم. وكانت هناك جلسة في الحادي والعشرين من أغسطس، وجلسة ختامية في الحادي عشر من سبتمبر، لتُصدِر المحكمة حكمها يوم الأربعاء الخامس والعشرين من سبتمبر سنة ست وتسعين، برئاسة المستشار «سعيد أيوب»، بوقف تنفيذ حكم التفريق بين «ابتهال ونصر»، مُستندةً إلى أن حكم النقض «لم يتعرض من قريب أو بعيد لخصومة التنفيذ الماثلة، حيث لم تكن معروضةً عليه؛ ومن ثَم فإن هذه الخصومة تخرج عن نطاقِ ما قضت به محكمة النقض» … «بما لا يحول، وأن تتصدى هذه المحكمة بوصفها قاضيًا للتنفيذ للفصل في هذه الخصومة، دون أن تكون قد تجاوزت حدودها بالاقتراب من دائرة الموضوع الذي فصلت فيه محكمة النقض؛ فالحق في التنفيذ هو حقٌّ مستقل» … «وهذا الاختلاف بين الحقَّين يوجب بحث مدى توافر شروط صحة خصومة التنفيذ. وأول الشروط الواجب توافرها في خصومة التنفيذ هو أن يكون لطالب التنفيذ صفة في طلب التنفيذ … وحيث إنه صدر القانون رقم ٨١ لسنة ٩٦ بأن جعل شرط المصلحة الشخصية والمباشرة والقائمة لازمًا لقبول أي دعوى …» «فقد حكمت المحكمة بوقف تنفيذ حكم محكمة استئناف القاهرة الصادر بجلسة ١٤ يونيو ١٩٩٥م في استئناف رقم ۳٨٧ لسنة ١١١ق القاهرة.» وبذلك لم يُنفَّذ حكم التفريق بين «نصر أبو زيد وابتهال يونس»، ولكن ظل حكم الردة قائمًا.

٤

نشرَت مجلة «أدب ونقد»، في عدد سبتمبر سنة ست وتسعين، نصَّ ورقةٍ كنت قد قدَّمتُها في ندوة التجديد والاجتهاد في فكر «الإمام محمد عبده» عن «مشروع الإصلاح الديني بين التحدي الأوروبي والتخلف الداخلي»، كشفتُ في هذه الورقة وعيَ «محمد عبده» رغم سياق السِّجال الذي فرضَته أوروبا على العقل الإسلامي، فإنه لم ينزلق كثيرًا للسجال، ويتقوقع داخل سياج دفاعي، يُبرئ الذات من كل النواقص، ويلصقها بالآخر الأوروبي. وكان على وعي بأن الصراع معه ليس صراعًا دينيًّا، لكنه في الأساس «صراع قوة ونزاع مغالبة»؛ لذلك ميَّز الإمام بين الدين من حيث هو وضعٌ إلهي عن طريق الوحي، وبين الدين بوصفه سيرورةً اجتماعية؛ أي التفرقة بين المُقدَّس والاجتماعي وبين الدين كوضعٍ إلهي، والدين من حيث هو سيرورةٌ تاريخيةٌ إنسانية. وتناول الإمام شأن الحكم والحكومة تفصيلًا عن العدل والشورى وعلاقة الحاكم بالمحكوم في المجلدَين الرابع والخامس من تفسير المنار، مما يحتاج إلى دراسةٍ أخرى مستقلة.

أنا و«ابتهال» لم نتصور يومًا أن ما حدث هو قضيةٌ شخصية، وهذا ما ساعَدَنا على الاستمرار، لكنَّ ما حدث يجعلني أعود دائمًا للسؤال: لماذا يُخفِق خطاب التجديد في الفكر الإسلامي؟ لذلك أردت أن أُعمِّق النظر عن طريق النقد الذاتي لأزمة منهج التفسير الأدبي للقرآن، في دراسةٍ نشرَتها مجلة «الكرمل» التي يُشرِف على تحريرها الشاعر الفلسطيني الكبير «محمود درويش»، في عددها الخمسين سنة سبع وتسعين. والاتجاه الأدبي ممكنٌ أن نعود به إلى القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، بجهود المعتزلة من جانب، وجهد «عبد القاهر الجرجاني» من خلال مناقشة قضية إعجاز القرآن التي طوَّر فيها أفكار «الجبائي وعبد الجبار» المعتزليَّين، فقال «الجرجاني» إن الإعجاز في القرآن ليس في المفردات بل في النَّظم، من هنا فإن معرفة قوانين وطرق البيان في أرقى تجلياتها بدراسة الشعر يكون واجبًا دينيًّا، وهو الأصل والأساس في فهم القرآن ونظمه للوصول إلى إعجازه.

وفي العصر الحديث، كان «محمد عبده» هو من أعاد نشر وتدريس كتابَي «عبد القاهر الجرجاني» عن بلاغة وإعجاز القرآن، في دروس البلاغة بمدرسة «دار العلوم»، وكان إسهامه الكبير في أن القرآن ليس كتاب تاريخ، وأن القصص القرآنيَّ من أجل العِبرة لدوافع أخلاقية، وأيضًا أن القرآن خاطَب العرب على حسب فهمهم وتصورهم للعالم في القرن السابع. وجاء «طه حسين» الذي بنى على ذلك فقال إن القرآن ليس نثرًا ولا شعرًا؛ إنه قرآن. وقال إن قصة «إبراهيم» وحضوره وزوجته «هاجر» وابنها «إسماعيل» إلى الحجاز، قصةٌ كانت موجودةً قبل نزول الوحي، وإنها خُلِقت لتسهيل العلاقة بين قبائل اليهود وأهل يثرب. واستخدم القرآن القصة لدعم صلته باليهودية والمسيحية كدِينٍ إبراهيمي. وكان «طه حسين» على رأس البعثة العلمية التي اكتشفت كنوز التراث المعتزلي التي كانت مدفونةً في المكتبة المُتوكِّلية باليمن.

في ظل سيادة النسخة العربية من التيَّار الرومانسي على الحياة الأدبية، طبَّق «سيد قطب» المنهج الأدبيَّ لدراسة القرآن لكن من مُنطلَقٍ انطباعي، لكن «أمين الخولي» (١۳١١ﻫ/١٨٩٥م–١۳٨٤ﻫ/١٩٦٦م) قال إن المنهج الأدبيَّ هو المدخل الوحيد للبدء به في دراسة القرآن؛ لأن العرب تقبَّلوا القرآن تقديرًا لقيمته الأدبية؛ لذلك فقَبْل دراسةِ ما هو ديني أو فلسفي أو عقدي أو أخلاقي أو فقهي، لا بد من دراسته أدبيًّا وبلاغيًّا ولغويًّا. وربط «الخولي» بين دراسات اللغة والبلاغة والدراسات القرآنية، وأن دراسة مسألة إعجاز القرآن في الفكر القديم تقوم على البلاغة القديمة، فعلينا استبدالها بالبلاغة المعاصرة. وفصَّل «الخولي» منهجه في تعليقه العربي على كلمة «تفسير» في الترجمة العربية للموسوعة الإسلامية، والتي نشرها فيما بعدُ في كتابه «مناهج التجديد»، وعرضتُ تفاصيل قضية رسالة دكتوراه تلميذه «محمد أحمد خلف الله» (١۳۳۳ﻫ/١٩١٦م–١٤١٧ﻫ/١٩٩٨م)، الذي أخذ منهج أستاذه «أمين الخولي» وقام بتطبيقه على «قضية الجدل في القرآن» في دراسته للماجستير، وفي الدكتوراه عن الفن القصصي في القرآن الكريم، والتي أشرف عليها الأستاذ «الخولي»، فقام بجمع القصص في القرآن، ورتَّبها حسب ترتيب نزولها من أجل تحليلها في سياق بيئتها الاجتماعية، وحالة الرسول النفسية، وتطوُّر الرسالة الإسلامية للوصول إلى المعنى الذي فهمه العرب وقت النزول؛ فالقرآن ليس كتابًا في العلوم ولا التاريخ أو السياسة، بل دعوةُ هداية ومُرشِد أخلاقي. والقصص القرآني قصٌّ أدبي يُوظَّف لأهدافٍ خُلقية وروحية ودينية، ومن الخطأ التعامل معه على أنه حقائق تاريخية خالصة. وانحصار العقل الإسلامي في سؤال الحقيقة التاريخية للقصة في القرآن لم تجعله يُدرِك الأبعاد الأخلاقية والروحية للقصة القرآنية.

ورصدتُ وقائع الأزمة في الجامعة وفي المجتمع، وما حدث مع «خلف الله» من تحويله إلى عملٍ إداري سنة ١٩٤٧م، ومُنِع الشيخ «أمين الخولي» من الإشراف على رسائل الدراسات الإسلامية، وخُيِّر تلميذه، أستاذي «شكري عيَّاد»، بين تغيير التخصص أو تغيير الأستاذ، فاختار أستاذه وغير تخصُّصه من الدراسات القرآنية إلى النقد. ولم ينشر رسالته للماجستير عن يوم الحساب في القرآن إلا بعدها بثلاثة عقود، وإن كانت رسالة «خلف الله» نُشِرت أربع مرَّات بتقديم من «أمين الخولي». توصَّلت إلى نتيجة؛ إن أزمة المنهج الأدبي لتفسير القرآن تعود لغيابِ أساسٍ لاهوتي/ثيولوجي/عقدي/كلامي مُتكامِل؛ لأن الرؤية اللاهوتية السائدة بشكلٍ عام هي الرؤية الحنبلية التي تعتمد على مفهوم قِدم القرآن، وغابت منها التفرقة التي كان يُقيمها المسلمون الأوائل بين ما هو إلهيٌّ أبدي وما هو مرحليٌّ مُرتبط بأسباب نزول الوحي الإلهي. غابت هذه التفرقة في اللاهوت الإسلامي المعاصر. وهذا ما يجعل الاتجاه الأدبي في نظر مُعارضيه أنه يقضي على قداسة القرآن، وعلى صلاحه لكل زمان ومكان، وعلى مصدره الإلهي.

الثابت تاريخيًّا وثقافيًّا أن القرآن هو رسالةٌ أوحى بها الله سبحانه إلى نبيه الإنسان محمد ، هذا التواصل تم عبر «كود» أو شفرة لنظامٍ لغوي؛ فالمُرسِل غير قابل لإخضاعه للدراسة العلمية، والمدخل الطبيعي للدراسة العلمية للنص القرآني من خلال الحقائق اللغوية، بتحليل سياق النص والثقافة التي نزل فيها. والسياق يعني الحالة الاجتماعية السياسية التي شكَّلَت أوضاع من أُرسِل النص إليهم، بما فيهم المُتلقِّي الأول للنص. والثقافة تعني رؤية العالم المُتضمَّنة في اللغة. والبداية تكون من الحقائق الإمبريقية حول النص. والسؤالان المُهمَّان في هذا السياق هما: السؤال الأول: كيف يمكن التوفيق بين الطبيعة الإلهية للنص وبين مُكوِّناته من الثقافة التي نزل فيها وبلغتها؟ السؤال الثاني: كيف يمكن التوفيق بين الجوانب الثقافية واللغوية للحياة العربية للمُتلقِّين للوحي، وبين صلاحه لكل زمان ومكان وعابر لكل لغة وكل ثقافة أو قومية؟ وتناولتُ المسألتَين بالمناقشة في البحث. لقد كانت محاولة «محمد عبده» قاصرةً ومحدودةً لتقديم أساس لاهوتي/عقدي للتفسير الأدبي للقرآن الكريم في كتابه «رسالة التوحيد»؛ لأن جهده لم يكن نقديًّا ولا مُبدعًا، بل انتقائيًّا لما يراه نافعًا للوقت، فأخذ من مدارس كلامية/لاهوتية مختلفة دون إدراك التناقض، وهذا الغياب للنظرية مؤسسةً كلاميًّا/لاهوتيًّا هو سرُّ أزمة اتجاه المنهج الأدبي في تفسير القرآن الكريم.

٥

الندوات والمؤتمرات والكتابة باللغة الإنجليزية والتدريس في «لايدن»، شغلتني عن أبحاثي. كتبتُ عن «الإسلام وحقوق الإنسان» مقالةً نُشِرت سنة ست وتسعين، ودراسةً عن «الصفات الإلهية في القرآن، تحليل للبناء اللغوي» نُشِرت في ألمانيا، ومقالةً عن «قضية أبو زيد» نُشِرت في لندن، ودراسةً باللغة الإنجليزية عن «البنية النصية للقرآن» نُشِرت ضِمن كتاب «أوروبا والإسلام في الماضي والحاضر» بهولندا عام سبعة وتسعين، وكتبت مقالةً بالعربية بعنوان «من علمانيةِ بداية القرن إلى أصولية نهايته» نشرَتها «عبلة الرويني» بالعدد الثاني من مطبوعاتها «حرية» التي تُحرِّرها عن لجنة الدفاع عن حرية الفكر والاعتقاد، من مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان بالقاهرة، يناير سبعة وتسعون. وفي المؤتمر السنوي للجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط في شهر يوليو، كان لقائي الأول بِابنتي شيرين أبو النجا منذ تركت مصر. وتذكَّرتُ حين قالت لي وهي مُدرس مُساعد: «ممكن أناديك بابا؟» واستمرَّت علاقة الأبوة والبنوة بيننا، وأثناء القضية كانت نِعْم السند ونِعْم الابنة. كان المؤتمر عن إعادة النظر إلى الإسلام، وشاركت بمحاضرة عن «العلمانية ومشروع الإصلاح الديني».

عدتُ إلى «لايدن» يوم عيد ميلادي، أعطتني «ابتهال» مقالًا في جريدة الأهالي، «رسالة إلى د. نصر أبو زيد»، حرَّكَت داخلي شجونًا أكثر، فكتبت لكاتب الرسالة «مرتدٌّ كلمة لن أنساها أبدًا»: «أنا غاضب أم حزين، أم هي حالة من الخصام، مع قناع الوطن القاسي، الطارد، القاتل أحيانًا، حفاظًا في النفس، على وجه الوطن الطيب، الكريم، المُتسامح، المِعطاء؟ نعم أنا غاضب من هذا القناع المُتوحِّش البربري، وحزين لأنه يُخفي الوجه الجميل … أسعدتني رسالتك؛ فقد ساعدتني، كما ترى، في إظهار كوامن الشجن الرابض في النفس … هنا أتمتَّع بمناخٍ أكاديمي في مجال الدراسات الإسلامية؛ فإما مشغول في الإعداد لمؤتمر، وإما أُعدُّ محاضرة، وإما أُراجع كتابًا بطلب من إحدى المجلَّات الأكاديمية … هذا المناخ من المستحيل أن يتوافر في مصر الآن. فهل يمكن أن أعود لأدرس تخصصي؟ لعلهم سيطلبون مني أن ألزم بيتي لأسبابٍ أمنية فأتقاعد قبل سن التقاعد … أليس من حقي أن أكون غاضبًا وحزينًا؟ ثم أليس من حقي بعد ذلك كله أن أستثمر غضبي وحزني استثمارًا إيجابيًّا يجعل للغربة معنًى وللمنفى الاختياري قيمةً؟» نشرَتها «الأهالي» في عدد نهاية يوليو.

كتبت عرضًا نقديًّا لكتاب «فاطمة المرنيسي» نُشِر في مجلة «نور»، ع١۲، خريف سنة سبع وتسعين، بعنوان «الإسلام والديمقراطية والمرأة، دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي»، والذي سيطرَت لفظة الخوف على عناوين فصوله، وإن كانت فاطمة تُركِّز على قضايا المرأة، فهذا الكتاب يدخل بها إلى عمق العلاقة بين الحاكم والمحكومين في سياقها السوسيوتاريخي، لِلَمس أزمة المرأة في الواقع والتاريخ، بحثًا عن الديمقراطية والإسلام، وعن الخوف من الحداثة والتحديث، وعن الخوف من العلم الحديث، ويصبح السؤال: ما علاقة ذلك بقضايا المرأة؟ فإن كانت عملية التحديث تعني إجراءاتٍ عمليةً — ذات طابع سياسي اجتماعي — تفرضها ضروراتٌ نفعية، فإن الحداثة تُمثِّل التأسيس المعرفيَّ للتحديث داخلَ ثقافةٍ ما؛ أي نقل الخبرة الحداثية من النفعي المباشر إلى مجال الوعي. في تحليلها لإشكالية الحداثة، اتَّخَذت من حرب الخليج نقطةً مهمة، في حين أغفل الكتاب حدث إنشاء دولة إسرائيل بالدعم الغربي وهزيمة سنة سبع وستين، واتخاذها من عام ٦۲۲ ميلادية بداية التاريخ، وكأنَّ العالم لم يكن له وجود قبل ذلك؛ مما جعل مفهوم الجاهلية عندها مفهومًا غير زمني، مفهومًا يتلخص في الشرك والوثنية والجهل. ومن الأهمية بمكانٍ أن نُفرِّق بين الإسلام — في نصوصه الأساسية — وبين الفكر الإسلامي، ونكفَّ عن النظر إلى التاريخ بوصفه تاريخ ملائكة أبرار «لا يعصون الله ما أمرهم»، وإلى التراث بوصفه مَخزن المعارف والحقائق الثابتة الخالدة. وهي الصورة التي ثبَّتها في الأوهام نموذجُ استخراج الثروة العربية — البترول — التي كانت مخبوءة، والتي لم تحتج إلا للحفر لتتحوَّل إلى ملايين بلا عَرق أو عمل أو كفاح؛ لأنه حتى الحفر قام به الأجانب نيابةً عنَّا.

نُشِر البحث الذي عرضتُه في ألمانيا العام الماضي عن «الاحتمالات النقدية للوصول إلى فكرٍ ديني مُستنير»، ودراسةٌ أخرى نُشِرت في ألمانيا عن «مفهوم حقوق الإنسان، عملية التحديث في سياق الهيمنة الغربية»، وعرضٌ نقدي لكتاب «مايكل ليكر» «عن المسلمين الأوائل واليهود في المدينة المنورة». وأصبحت أتحدَّث بلسانَين، فكتبت لمجلة «سطور» مقالتَين؛ الأولى عن «الثقافة بين التجانس والتهجين»، تعرَّضتُ فيها للدور الذي تقوم به الثقافة الشعبية المعيشة، وكيفية الاندماج فيها بتركيزها على فعل التواصل، وبين الثقافة الرسمية التي تُركِّز على شكل الخطاب، فتسعى إلى السيطرة والهيمنة. واستعرضت الصراع بين الثقافتَين في تَجرِبة المسلمين من القِدم حتى العصر الحديث، وكيف أن الثقافة السائدة هي هجين، لا هي ثقافةٌ رسمية تَصُوغ رؤيةً نقدية للعالم، ولا هي ثقافةٌ شعبية تحمي بالتواصل البناءَ الاجتماعي من التفكك، فهجين الثقافة السائد هو نوع من فقر الروح وتخلف العقل.

المقالة الثانية كانت عن «إشكالية التراث، التأويل العلمي والقراءة النفعية»، عرضتُ باختصارٍ نشأة مصطلح التأويل في الثقافة العربية والغربية، واتساع المصطلح في العصر الحديث من مجال الدراسات الدينية حتى صارت التأويلية هي جوهرَ ولُبَّ نظرية المعرفة؛ أي قراءة لأي ظاهرة بوصفها بناءً مُعقَّدًا من العلاقات، بين الذات والموضوع، والسياق ونسق المعاملات، والرسالة. وهو ما لم تصل مفاهيمه إلى مفاهيم التأويل والتفسير في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة. وتناولت تعامل التيَّارات المختلفة مع التراث، من تيَّار القطيعة المعرفية مع التراث إلى تيَّار «الإسلام هو الحل» أو «التراث هو الحل»، أو تيار التقليد. وأيضًا التيَّار الثالث؛ تيَّار التوفيق واستلهام التراث. ومشكلته أيضًا أن التوفيق عنده يتمُّ على أساس المنفعة الأيديولوجية، وليس بالمعنى المعرفي؛ مما جعل التوفيق يُفضي إلى التلفيق. إلا أني وجدت أن لكلٍّ من التيارات الثلاثة مفهومَه للزمن والتاريخ؛ فعند تيَّار الانقطاع الزمنُ ينفصل فيه الحاضر عن الماضي انفصالًا تامًّا، وعند تيَّار التقليد أو «الإسلام هو الحل» يُعتبر الزمن الحاضر نقطة تَراجُع واضمحلال، وأن الكمال في الماضي الذي يجب أن يُعاد بناء الحاضر على مثاله ليصير المستقبل آمنًا. أما التيار التوفيقي فالزمن عنده هو الحاضر، وهو نقطة التقاء الماضي بالمستقبل؛ فهو نقطة تَفاعُل خبرات لا سكون فيها، ومع إدراكه على المستوى النظري للعلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل يظلُّ مسكونًا بهاجس الماضي؛ فالتراث الأكثر امتلاءً بالعافية وبالخبرة، وأيضًا ممتلئ بهاجس الآخر الغربي الطامع المُستعمِر المُهدِّد للهُويَّة. ففي الحالات الثلاث، التراث لا ينطق بل تنطق به الأيديولوجيا، ولا سبيل لتغيير ذلك إلا بتغيير شروط العملية المعرفية للتعامل مع التراث.

لم أُصدِّق أذني حينما اتَّصَل بي من القاهرة صحفيٌّ أخبرني أنه ذهب إلى الجامعة يسأل عن كتبي، ففُوجئ أنها سُحِبت من الجامعة، وحاوَل أن يلتقيَ عميد الجامعة ولكنه لم يستطع، فنشر الصحفي الموضوع بعنوان «ثقة نصر أبو زيد كاملة في جامعته التي لا تثق فيه». وفي زيارة «ابتهال»، الأستاذة بنفس الجامعة، للقاهرة كانت غاضبة جدًّا لسحب كتبي من مكتبة الجامعة. أصرَّت على لقاء العميد، وواجهَته بحقيقة سحب الكتب، وسألته عن السبب، وحين أجابها «أنه لا يعرف من فعل هذا»، فقالت: «إن لم تكن تعرف، فلتأمر بتحقيق لتعرف من قرَّر هذا القرار؟ أنا لا أتحدَّث عن «أبو زيد» زوجي، أنا أتحدَّث عن «أبو زيد» الأستاذ في هذه الجامعة، لو الأمر كذلك فلماذا لا تفصل كل الأساتذة الذين درَّسوا له وأعطَوه الماجستير والدكتوراه، وبالمرَّة تغلق القسم؟» عملتُ على تنظيم ندوة علمية بجامعة «لايدن» عن «الدراسات القرآنية على أبواب القرن الواحد والعشرين»، وجعلنا من أحد محاورها محورًا عن الدراسات الأدبية، فكنت الوحيد من العرب والمسلمين المُشارِك في هذا المحور بجوار باحثين من ألمانيا وكندا وجنوب أفريقيا، فقلت إن الدراسات القرآنية ستزدهر خارج الدراسات العربية وخارج العالم العربي.

٦

دُعيتُ إلى زيارة جامعة بولاية واشنطن عام ثمانية وتسعين. وفي ندوةٍ حضرها بعض المصريين، سألني أحدهم وكان من الدبلوماسيين: هل حقيقي أنك قلت لزوجتك إنك لو مت ألا تعيد جسدك للدفن في مصر؟ قلت: «نعم.» ثار الرجل عليَّ وقال: «لا بد أن يثور المصريون جميعًا عليك.» قلت له: «أنت ترى مصر مَقبرة، لكني أُحبُّ مصر أن تكون وطنًا، وليست مجرد مقبرة.» والتقيتُ جمعًا من المصريين في ندوةٍ عامة بجامعة كولومبيا بنيويورك، وأقاموا إجراءاتٍ أمنيةً كموقعةٍ حربية. كان لقاءً أعاد لي حميمية الحوار مع جمهور من المصريين. والتقيتُ «ماري آن ويفر» عن طريق الصديق «فكري أندراوس» التي كتبت مقالًا في مجلة النيويوركر العريقة عني، نُشِر في عدد الثامن من يونيو ثمانية وتسعين. أعددت دراسةً للنشر في مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في عدد سنة ثمانٍ وتسعين، بعنوان «قضية المرأة بين سندان الحداثة ومِطرقة التقاليد، دراسة في تاريخ النصوص» كتبتُها بالعربية؛ لأن سلسة الهزائم العربية المُتوالية أجَّجَت من جديدٍ طرح أسئلة الهُويَّة والتراث والخصوصية، لكن هذه المرة من منظورٍ عِرقي طائفي في الغالب؛ مما ينعكس على المرأة والأقليات. والحالة الدولية تُغذِّي ذلك التوجه. وللأسف، فقوانين الأحوال الشخصية عندنا تستند إلى مرجعية الشريعة دون أن تُصاغ الشريعة صياغةً قانونيةً مُنضبِطة، لا تسمح إلا بقدر من الاجتهاد في تنزيل النص القانوني على الواقعة المنظورة أمام القاضي. ودون تحقيق الصياغة القانونية الدقيقة المُنضبِطة تلك، سيَظلُّ القضاء في مجال الأحوال الشخصية بناءً هشًّا رخوًا تخضع الأحكام فيه لاتجاه تفكير القاضي المُتأثِّر حتمًا بالمناخ الاجتماعي والسياسي العام.

وأخذت نموذج جدل بين اثنَين، منهم من يُؤيِّد خروج المرأة من بيتها للعمل وآخر يمانع، وتأويل كلٍّ منهما حول الآية الثالثة والثلاثين من سورة «الأحزاب»: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، كنموذج للتأويل والتأويل المضاد. نحن نحتاج إلى منهج للقراءة السياقية؛ القراءة التي تنظر للمسألة من منظورٍ أوسع، هو منظورُ مُجمَل السياق التاريخي/الاجتماعي — القرن السابع الميلادي — سياق نزول الوحي عبر سياقات أسباب النزول، وترتيب النزول، وسياق السرد القرآني، ومستوى التركيب اللغوي، ومن بعدُ مستوى التحليل النحوي والبلاغي، وليست البلاغة التقليدية القديمة فقط، بل بتوظيف البلاغة الحديثة بأدوات علم تحليل الخطاب وعلم تحليل النصوص في إنجازاتها المعاصرة، وأيضًا سياق المقارنة بين ما كان قبل الإسلام وما بعده من خلال المنطقة المشتركة بينهما التي تُمثِّل منطقة الْتِقاء القديم والجديد.

تتبعَّتُ النصوص الدينية المُتعلِّقة بقضايا المرأة في القرآن الكريم، والتي جعلت لها مقصدًا أساسيًّا من مقاصد الخطاب القرآني، وهو المساواة بين الرجل والمرأة، مِثل قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (سورة النساء: آية ١٢٤) (وأيضًا النساء: ١؛ والنحل: ٩٧؛ والأعراف: ١٨٩؛ وغافر: ٤٠؛ والتوبة: ٧١ و٧٢). ثم تناولت النصوص القرآنية التي أتت في سياقٍ سِجالي للرد على دعاوى المشركين العرب الذين نسبوا لله الإناث بمقولتهم إن الملائكة بنات الله، مثل آيات سورة النجم (١٩–٢٨)، والخطاب القرآني يَدِين ممارسات العرب ضد البنات مثل: وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (سورة النحل: ٥٧–٥٩) (وسورة الزخرف: ١٥–١٩؛ والصافات: ١٤٩–١٥٥؛ والإسراء: ٤٠). ونصوص الآيات التي وردت في سياقٍ وصفي خلال سرد قصصي، ومن شأنه يكون تعبيرًا عن المُتكلِّم، مثل ما ورد على لسان «أم مريم» في سورة آل عمران (۳٥–۳٧).

وتناولت الآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء التي تناولت قوامة الرجال على النساء، وطرحت السؤال: «هل الآية تُشرِّع للقوامة أم تصف واقع الحال في عصر ما قبل الإسلام؟» وبالنظر في مُجمَل السياق القرآني حينما يذكر القرآن التفضيل الإلهي لبعض البشر على بعض، فوجدت أن المقصود هو وصف التفاوت الاجتماعي الاقتصادي الملحوظ بين البشر والذي تحكمه قوانين السنن، وذلك الوصف هو من أجل العظة والاعتبار، كما لاحظ ابن خلدون في استخدام الفعل «انظر» في الآية: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (الإسراء: ٢١). فالقوامة إذَن ليست تشريعًا بقدرِ ما هي وصف للحال. ثم تناولت النصوص التشريعية بحثًا عن معناها الذي فهمه المسلمون الأوائل في فترة نزول الوحي، ومن المعنى ننتقل إلى مغزاها لنا الآن. وقد وردت معظم هذه النصوص في سورة «النساء» التي نزلت في المدينة المنورة بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد في السنة الرابعة من الهجرة، واستشهاد عدد كبير من المسلمين؛ مما نتج عنه وجود عدد كبير من اليتامى والأرامل؛ فجاءت أحكام الزواج والطلاق والمواريث، فناقشتُ هذه النصوص، وناقشت تعدد الزوجات والميراث والحجاب والعورة. إن التلاعب الدلالي بالنص الديني — قرآنًا وسنة — دون اعتبار لطبيعة تلك النصوص، تاريخًا وسياقًا وتركيبًا، لغةً ودلالة، هو ما يؤدي إلى التأويل والتأويل المضاد.

كتبتُ مراجعتَين بالإنجليزية لكتاب «الجنة المفقودة، صراع الإثنيات في الشرق الأوسط»، الذي كتبه «كان نيوفهجيذ» نُشِر في مايو، وعرضًا نقديًّا لكتاب «صورة النبي محمد في الغرب، دراسة في فكر «مرجليوث» و«وات»»، نُشِر في أغسطس في مطبوعة «ببلو ثيكا لدراسات الاستشراق»، ودراسةً بالإنجليزية عن «تحديث الإسلام أم أسلمة الحداثة؟» نُشِرت في لندن سنة تسع وتسعين.

وكتبتُ بالعربية مراجعةً لعمل «أُلْفَت الروبي وثقافة الاستبعاد … مؤامرة ضد فن القص»، وبجهد صديقي «نافيد كرماني» الذي قابلته في أروقة جامعة القاهرة ببداية التسعينيات، وجهده في ترجمة كتابات لي إلى الألمانية، وجهد الصديقة العزيزة د. «شريفة مجدي»، وأذكُر الأيام الأربعة التي قضيناها في بيت «نافيد» بعد ميلاد مولودته، يُسجِّلون معي تسجيلاتٍ صوتيةً من أجل كتابة كتاب عن سيرتي الذاتية باللغة الألمانية، وها هو الكتاب يخرج هذا العام عن دار نشر «هردر». وفي عشاء بمدينة «فرايبورج» بألمانيا في برد ديسمبر، احتفالًا بالكتاب، قال لي الناشر عن رغبة الدار في نشر كُتيِّبات تُخاطِب القارئ الأوروبيَّ العاديَّ عن أعلام الروحانية في الشرق والغرب. واقترح الدكتور «والتر»، مسئول النشر في الدار، أن أكتب كتابًا جديدًا عن «ابن عربي» مساهمةً مني في هذه السلسلة، ويكون الكتاب باللغة الإنجليزية ليسهل ترجمته إلى الألمانية بسرعة.

ترجمت إلى العربية دراستي المنشورة بالإنجليزية عام ستة وتسعين عن «الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين الواقع والمثال»؛ لتُنشَر ضِمن كتاب يجمع كتابي الصغير في بداية التسعينيات «المرأة في فكر الأزمة»، إلى كتاباتي التي كتبتها في موضوع المرأة منذ ذلك، في كتابٍ واحد بعنوان «دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة»، ويَصدُر هذا العام عن المركز الثقافي العربي ببيروت. كتبتُ دراسةً مُحبَّبة إلى قلبي؛ لأنها تأخذني إلى عالم التصوف، «اللغة/الوجود/القرآن، دراسة في الفكر الصوفي»، نُشِرت في العدد اثنَين وستين، شتاء سنة تسع وتسعين، من مجلة «الكرمل» التي تَصدُر من «رام الله» بفلسطين. والتجربة الصوفية في جوهرها محاولة لتَجاوُز حدود التجربة الدينية العادية؛ التجربة العادية التي تقتصر على مجرد الوفاء بالتكاليف الشرعية والامتناع عن فعل المُحرَّمات، لكن الصوفي يطمح إلى الدخول في تُخوم الإحسان الذي قال عنه الملك جبريل عليه السلام: «أن تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك.»

وللتعارض بين تجربة التدين العادية وتجربة التصوف على مستوى الفهم والتفسير ليس إلا اهتمام المتصوفة بقضايا اللغة والدلالة؛ فنتيجةً للعنف المادي واللغوي الذي مارَسه أصحاب تجربة التدين العادية والفقهية ضد المتصوفة، فاستعاض المتصوفة عن اللغة العادية بلغة الرمز والإشارة، سواء في تفسيراتهم للقرآن الكريم أو في تعبيراتهم عن تجاربهم الروحية ومواجدهم في أحوالهم ومقاماتهم. وفرَّقوا بين مصطلحَي الإشارة والعبارة؛ فالإشارة إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد مما يجعل المعنى مُنفتحًا، أما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مُغلَقًا ونهائيًّا. وبنى المُتصوِّفة هذا التمييز على تمييزهم في الخطاب الإلهي بين المعنى الظاهر وبين الدلالة الباطنية؛ فظاهر الخطاب الإلهي هو ما يدل عليه الخطاب بدلالة اللغة الوضعية في بُعدها الإنساني، أما الدلالة الباطنية للخطاب الإلهي فهي مستوًى أعمق؛ مستوى اللغة الإلهية؛ لذلك طوَّر المتصوفة مفهوم الأشاعرة عن الكلام الإلهي؛ فقد ميَّز الأشاعرة بين كلام الله الأزلي القديم أو الكلام النفسي، والذي هو صفة الذات، وبين التلاوة الإنسانية التي تتَّصف بالحدوث. فطوَّر المُتصوِّفة هذه التفرقة أن هناك البعد الإلهي للخطاب والبعد الإنساني؛ فالبعد الإلهي يتجلَّى في القرآن وفي الوجود، فالقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف، والوجود كلمات الله المسطورة في الآفاق. وأكَّد المُتصوِّفة على العلاقة بين الظاهر والباطن، أو بين العبارة والإشارة، بل أكَّدوا أن الظاهر بدونه يستحيل النفاذ إلى الباطن. وبجانب استخدامهم الإشارة والرمز في تفسيراتهم استخدامُهما في التعبير عن تجاربهم الروحية، ولكنهم كانوا يتبعون المنهج الإلهي الذي استخدم لغة الستر والإشارة في خطابه سبحانه؛ للتلاؤم مع مستويات العقول، وكذلك فعل المتصوفة؛ اتقاءَ هجوم أهل الظاهر عليهم.

وحلَّلتُ مَغزى الموازاة بين اللغة والوجود وبين الوجود والقرآن في فكر «ابن عربي»، لكن السؤال هو: هل نجح منهج الستر والرمز في حماية العرفان من هجوم المُتهجِّمين؟ وهل نجحت محاولات الفلاسفة في إخفاء براهينهم عن عقول العامة من حماية الفلسفة؟ فقد اختفت روحانية الدين تحت وطأة الاستخدام السياسي النفعي له من جانب الحكومات والمُعارِضين على السواء. وبالمثل ضاعت الفلسفة، وتمَّ تجريم الفكر باسم الحفاظ على التراث وحماية المُقدَّسات. لتَكُن المعرفة كالماء والهواء عبر تعليم ديمقراطي في مجتمعاتٍ تعترف بحق كل فرد في المعرفة وبحقه في حرية الفكر والتعبير. إن العالم الإسلامي مُهدَّد بالعودة إلى عصور الفوضى، ما لم يفتح نوافذ مجتمعاته مُشرعةً لكل مُواطنيه — بصرف النظر عن العقيدة والعِرق أو الجنس والثقافة — وما لم يفتح نوافذ الحوار الحر الخلَّاق مع المجتمعات الإنسانية كافةً.

٧

كتبتُ دراسةً باللغة الإنجليزية نُشِرت عام تسعة وتسعين عن «تفسير القرآن والرؤية للكون في الفكر الإسلامي»، تناولت كيف استقى «أبو حامد الغزالي» ومن بعده «محيي الدين ابن عربي»، من القرآن ومن غيره، تَصوُّر أن الكون نور من نور الله، كما ورد في القرآن، فسؤال كيف نشأ العالم الواسع المُتعدِّد بواسطة خالق واحد، وماذا يعني الخلق، وهل هو خلق من عدم، وكيف، ولو حدث الخلق من مادة ألا يعني هذا قِدم المادة أيضًا، وهل يتعارض هذا مع مفهوم وحدانية الله. وكتبتُ دراسةً أخرى نُشِرت في أمستردام بالإنجليزية في يناير ألفَين، بعنوان «صورة أوروبا في نماذج من السرد الروائي في مصر». وكتبت مراجعةً بالإنجليزية لكتاب بعنوان «إصلاح العالم الإسلامي». وخرجت الطبعة الأولى لكتابي «الخطاب والتأويل» يجمع بعض دراساتي بالعربية في الأعوام السابقة.

فُوجئتُ بمنحي كرسي «كليفرنجيا» (١٨٩٢–١٩٨٠م) من جامعة لايدن، وهو كرسي لمدة عام، فقرأت عن الرجل الذي تماهيت مع مواقفه الإنسانية؛ فعندما أصدر الاحتلال النازي لهولندا قرارًا بفصل جميع الأساتذة اليهود من الجامعات الهولندية، ألقى الأستاذ «كليفرنجيا» محاضرةً بجامعة لايدن سنة أربعين أعلن فيها استهجانه للقرار، ودعا الطلاب إلى تمزيقه ودوسِه بأقدامهم. وبعد المحاضرة جرَت تظاهرات في لايدن، وأُغلقَت الجامعة الوحيدة التي اعترضت على القرار، واعتُقِل الأستاذ؛ فقرَّرت الجامعة سنة سبعين إنشاء هذا الكرسي الفخري ليُمنَح كل عام لشخصيةٍ عامَّة في مجال الحريات، وخصوصًا الحريات الدينية. بدأت في إعداد محاضرتي، وقرَّرتُ الكتابة عن الرواية العربية وعن ملحمة «الحرافيش» للأستاذ «نجيب محفوظ». ومع اقتراب موعد المحاضرة اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فسألت نفسي: ماذا سيكون موقف الأستاذ الذي دافَع عن اليهود عام أربعين لو طُلِب منه محاضرةٌ اليوم؟

وفي أول يوم من شهر رمضان، السابع والعشرين من نوفمبر ألفَين، ألقيتُ محاضرة بالإنجليزية بعنوان «القرآن، التواصل بين الله والإنسان»، قلتُ في مقدمتها: «هذه لحظة من أعظم لحظات حياتي. الكلمات لا تستطيع التعبير عن مشاعري أو تُصوِّر ما أريد أن أقول. منذ ستين عامًا كان البروفيسور «كليفرنجيا» رجلًا شجاعًا مهمومًا بما هو صواب وما هو خطأ، وقف في نفس القاعة ورفض بشجاعةٍ الظلم الواقع من الاحتلال النازي ضد اليهود الهولنديين بفصلهم من وظائفهم. وتكريمي بالجلوس على كرسي الأستاذية الذي يحمل اسمه يُشير إلى القيم الأكاديمية والإنسانية التي دافَع عنها. أشعر من واجبي أن أبدأ محاضرتي بالحديث عن تصوره وتواصلي مع ما دافع هو عنه؛ فالعدل يعتمد على حرية الإنسان الكاملة وعلى المساواة، وهو صلب هذه المحاضرة، لكن هل يمكن الحديث عن العدل دون الحديث عن الوضع في العالم الآن؟ هل تسود العدالة؟ أُشير هنا على سبيل المثال بالضرب بالرصاص والقذف بالقنابل الذي تتعرَّض له المدن الفلسطينية من الجيش الإسرائيلي. مُواطنون عُزَّل منهم أطفال يُقتَلون يوميًّا. جريمة الفلسطينيين ببساطةٍ أنهم يريدون دولةً مستقلة، يريدون بيوتًا ومدارس ومستشفيات آمنة. منذ ستين عامًا لم يصمت «كليفرنجيا» وهو يرى آخرين يُفصَلون لمجرد هُويَّتهم. ماذا كان سيقول لو كان بيننا اليوم؟ هل كان سيتردَّد في الدفاع بوضوح وبشجاعة، لو كان مكاني، عن حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على الأرض المحتلة سنة سبع وستين؟»

بدأت المحاضرة من سؤال: ما القرآن؟ وعرضت ما قاله اللغويون عن أصل كلمة «قرأ»، هل هي بمعنى «جمع» أو هي بمعنى «ردد»؟ وهو الرأي الذي أميل إليه لنزول القرآن شفويًّا، ولم يُجمَع في مصحف إلا بعد وفاة الرسول الكريم، بل إن القرآن لم يُتعامَل معه ككتابٍ مكتوب في الحياة العامة منذ حياة المسلمين الأوائل حتى أتى عصر الطباعة. والتعريف الذي أجمع عليه المسلمون للقرآن: «أنه كلام الله الذي أُوحيَ به إلى النبي محمد باللغة العربية على مدار ثلاثة وعشرين عامًا.» وهذا التعريف له ثلاثة جوانب: كلام الله والقرآن والوحي. ومفهوم كلام الله كما ذكر القرآن أنَّ كلام الله لا نهاية له؛ مما يجعل القرآن كنصٍّ يُمثِّل مظهرًا خاصًّا من كلام الله، وحدث خلاف بين المسلمين حول طبيعة القرآن هل هو قديمٌ أبدي أم هو مخلوقٌ مُحدَث، لكن مفهومَ أنه قديم هو الذي ساد. الجانب الثاني من تعريف القرآن: هو جانب الوحي، وهو قناة الاتصال التي تنزَّل من خلالها القرآن على النبي محمد، وهو لغويًّا «الاتصال في خفاء». وذكر القرآن ثلاثة طُرُق للاتصال بين الله والعالم: أن يكون من وراء حجاب، كما حدث مع موسى من وراء الجبل، والثاني أن يرسل رسولًا يوحي إليه، والثالث هو الوحي، كما أوحى للنمل. فالقرآن إذَن تجلٍّ من تجليات الكلام الإلهي، أُوحيَ به إلى النبي محمد بواسطة الملك جبريل.

من هنا يُمكِننا التمييز بين ثلاثة جوانب من القرآن: محتواه، ولغته، والجانب الثالث تركيبته أو بنيته. وليس هناك تناقض بين إلهية مصدر القرآن وبين محتواه المتصل بتركيب اللغة وتاريخيتها وخلفيتها الثقافية. بتعبيرٍ آخر، فالمحتوى الإلهي عُبِّر عنه باللغة الإنسانية. وهذا المدخل اللغوي الإنساني هو المدخل الأصيل والأساسي لفهم النصوص كلها، وكذلك هو المدخل لفهم القرآن وتركيبة القرآن وبنيته، يتجلى فيهما البُعدُ الإنساني؛ فالقرآن نزل مُنجَّمًا (مُفرَّقًا) على أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا، وأيضًا خلال عملية جمعه، واختلاف الترتيب الحالي للسور، ترتيب التلاوة عن ترتيب النزول، وليس فقط عملية التنقيط والتشكيل التي دخلت عليه بعد ذلك، بل تركيبة القرآن ذاته، مثل الآيات التي ورد فيها: يَسْأَلُونَكَ، خمس عشرة مرةً، عن الخمر والميسر واليتامى وعن المحيض والإنفاق والأنفال.

والجانب الثالث: لغة القرآن؛ فللقرآن استخدامٌ خاص للغة العربية كخطاب للتأثير على المُتلقِّي؛ فقد حوَّل القرآن ألفاظ اللغة العربية إلى دلالات بالمعنى السيميوطيقي، دلالاتٍ تدل على حقيقةٍ واحدة، وهي الله، تنقل المُتلقِّيَ من العالم المُشاهَد إلى عالم الحقيقة الإلهية. وكل الأجزاء ما هي إلا علامات وإشارات وآياتٌ تدل على الله، وليست علامات طبيعية في العالم. وحتى التاريخ الإنساني أيضًا ما هو إلا سلسلة من العلامات. وتناولت في القسم الثاني من المحاضرة الدور الذي تقوم به الصلاة وشعائرها، والحج وشعائره، والعلاقة بين الميكرو المُتمثِّل في الصلاة، والماكرو المُتمثِّل في الحج، وما يُحقِّقانه من تواصل واتصال بالله. وتناولت في القسم الرابع من المحاضرة دور قراءة القرآن في حياة المسلمين، من ترتيل وتعليم وحفظ وتأثيره في الحياة اليومية من ألفاظ خصوصًا في العامية المصرية. وفي الختام فالقرآن لا يُمثِّل للمسلمين أسلمة الحياة، ولا هو أيضًا الفصل التام بين الدين والحياة. وإن كان الفصل بين سلطة الدولة والدين ضرورة، فإنها لا تعني عزل الدين في خلفية الحياة الاجتماعية؛ فالقرآن يُقدِّم نموذجًا للتواصل بين الله والعالم، ويُعلِّمنا ليس مجرد قوانين أو سياسات بالمعنى الضيِّق للكلمتَين، إنه يُعلِّمنا أن الفهم الحرفي لنصوصه تسجن كلام الله في اللحظة التاريخية لنزول القرآن، فيجب علينا أن نُدرك تلك اللحظة، لكن أيضًا ألا نهمل الدور الذي قام به القرآن في تشكيل حياة المسلمين، وإدراك طبيعة اللغة الدينية للقرآن.

وأُوجِّه الشكر لجامعة لايدن، وللأكاديمية الهولندية، والزملاء في الدراسات الإسلامية والدراسات العربية، وإلى قسم المشروعات. والشكر الجزيل لطلابي الذين تعلَّمتُ منهم أكثر مما تعلَّموا مني، والصديقة «منى ذو الفقار» التي جنَّدَت نفسها لقضيتي أنا وزوجتي. وأشكر صديقي د. «أحمد مرسي»، والصديق الكريم د. «محمد أبو الغار»، وشكري إلى ابنتي «شيرين أبو النجا»، الذين اكتملت سعادتي بحضورهم من القاهرة ليكونوا هنا، وإلى أمي — رحمها الله — ومعروفها عليَّ. وأشكر رفيقة الدرب «ابتهال» على مساندتها وحبها، والأهم إيمانها بالتحدي. وشكري إلى د. «فريال غزول» وإلى «شيرين» لمراجعة المحاضرة لغويًّا.

٨

أدركتُ صعوبةَ أن أكتب عن «ابن عربي» (٥٦۰ﻫ/١١٦٥م–٦٣٨ﻫ/١٢٤۰م) بلغة ليست لغتي الأولى، وكِدتُ أن أعتذر عن الكتابة عنه للناشر الألماني، لكنه لم يسمح لي بالاعتذار، ووافَق أن يتحمَّل تكاليف الترجمة من العربية إلى الألمانية، وفوجئت أن الأستاذة «آن ماري شميل» وهي من هي في ريادة الدراسات الصوفية قد تفضَّلَت مشكورةً بالموافقة على أن تُترجِم ما أكتب بالعربية إلى الألمانية. وحرَص الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، على تقديم بعض كتاباتي للقارئ في سلسلة مكتبة الأسرة. انتهيت من كتابة الكتاب في يونيو ألفَين وواحد، فأهديتُه إلى أهلي في القُرى والنجوع؛ فمن أغانيكم تعلَّمتُ الغناء. كان عمي حسن سمك — رحمه الله — أول من علَّمني الشعر في قريتي، وأول من علَّمني التصوف؛ فإليه ولكم أُهدي هذا الكتاب.

فمنذ رسالتي للدكتوراه وأنا أَتُوق للعودة للسباحة في مُحيط فكر «ابن عربي» مُجدَّدًا، لكن يبدو أن خوف الغرق ظل ماثلًا في وعيي، فكنت أعود لقراءة بعض أشعاره أو مراجعةِ فكرةٍ ما، أو للتأكُّد من صِدقِ استنتاجٍ ما سبق أن توصَّلتُ إليه. في التمهيد ربطتُ بين عصر «ابن عربي» — القرنان السادس والسابع الهجريان، الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان — وبين قرننا الواحد والعشرين. المفكرون الفلاسفة دائمًا قَلِقون على مستقبل العالم؛ فالحداثة في أوروبا اعتمدَت على عصر التنوير الذي حرَّر الإنسان من سلطة الكنيسة وقوانينها الإطلاقية؛ مما أدَّى إلى الطرَف النقيض بجعل النسبية مفهومًا مُطلَقًا، وحركة المد الاستعماري، وتوظيفها السياسي لتصنيف البشر إلى مُتحضِّرين هم أبناء الغرب، وسواهم من البشر همج، وسيطرة ثقافة أهل الشمال التي رأت فيها ثقافات الجنوب المحلية رمزًا للظلم والعُدوان، والعولمة التي تحوَّلَت إلى إلهٍ جديد له قوانين لا يجوز مخالفتها، بل لا بد من الخضوع والانصياع لقوانينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. لقد صارت العولمة دينًا، ظالمًا، فسعى البشر لمقاومة هذا الدين الجديد والتصدِّي للاهوته المُضمَر باستدعاء الدين في كل الثقافات بلا استثناء، وفي داخل المجتمعات التي أخرجت الحداثة أيضًا تم استدعاء الدين، لكن لا يكفي استخدام الأسلحة الدينية التقليدية، بل لا بد من شحذ أسلحة دينية جديدة لم يتحصَّن ضدَّها إلهُ العولمة بعد.

في هذا الإطار يأتي فكر «ابن عربي» الذي يعكس بانوراما الفكر الإسلامي في عصره، وهو همزة الوصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي، بل إنه أسهم في إعادة تشكيل التراث الإنساني مؤثرًا فيه، بدليل دراسات المُستعرِب الياباني «تشيكو أوزوتسو»، والمُستعرِب الإسباني «آسين بلاسيوس»؛ فاستدعاء «ابن عربي» مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات قد يجعلنا نجد في تجربته وتجاربهم ما يُمكِن أن يُمثِّل مصدر إلهام في عالمنا؛ فالتجربة الروحية هي مصدر الإلهام للتجربة الفنية، وهي الإطار الجامع للدين والفن. وفي السياق الإسلامي استعادةُ ابن عربي من الهامش إلى متن الثقافة مرةً أخرى. ونتيجةً لسيطرة الرؤى السلفية على الخطاب الإسلامي، والآلة الإعلامية الغربية نجحت إلى حدٍّ كبير في جعل الإسلام عدوَّ الحضارة والتقدم، وتجعل من المسلمين مجموعة من الإرهابيين القتلة، فلا تَنوُّع ولا تَعدُّد في الفكر الإسلامي؛ لذا فنحن نحتاج إلى ترسيخ قيمة الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل، محل الصراع والحروب، وهنا يَبرُز فكر «ابن عربي» كرصيدٍ ثري لنا جميعًا.

اعتمدتُ في الكتاب على ما قاله «ابن عربي»، فنتعرَّف إليه من خلالِ ما أخبرنا هو عن نفسه؛ أي الصورة التي رسمها الشيخ بنفسه لنفسه، والسؤال الأول هنا هو: لماذا اتَّخذَت حياة «ابن عربي» هذا المسار الخاص، رغم انتمائه لأُسرةٍ كانت كل ظروفها تُرشِّحه للعمل في الديوان أو الانخراط في سلك الحياة العسكرية؟ والسؤال الثاني هو: إلى أيِّ حد يُعَد هذا التحول في حياة الشيخ انقلابًا؟ وهل كان انقلابًا بالفعل أم كان تطورًا طبيعيًّا في بناء الشخصية؟ فتتبَّعتُ سيرته من خلال النصوص التي تتضمَّن وقائع يحكيها الشيخ عن حياته وترتيبها زمنيًّا وتحليل محتواها. في الفصل الأول تتبعتُ تَحوُّل الفتى «ابن عربي» مما أسماه الجاهلية إلى طريق الولاية، والذي بدأ في فترةٍ مُبكِّرة من حياته بلا شيخ ولا مُعلِّم، وعلاقته بالشيوخ الذين يَذكُرهم بإجلالٍ كبير، وكانت علاقةَ نِدِّية وتكافؤ.

وسؤال: لماذا رحل الشيخ عن الأندلس والمغرب إلى المشرق بلا عودة؟ وهو ما تعرَّضتُ له في الفصل الثاني، ونقدتُ رؤية «هنري كوربان» عن عدم انتماء خطاب «ابن عربي» إلى عصره وإلى عقيدته، فنظرت إلى الشيخ من جانب التاريخ بما يرتبط به من قيود الزمان والمكان، وتجربة «ابن عربي» من خلال جدلية العلاقة بين الروحي الكوني والتاريخي الثقافي؛ فخطاب «ابن عربي» مُوزَّع بين صفاء فكره وتعالي تجربته الروحية، وبين تجربة زمانه وانتمائه الثقافي والحضاري والديني، والتعارض بين سمو خبرة الروح وزمانية الوجود الإنساني. تطوَّرَت رؤية «ابن عربي» للواقع الذي رحل من مغربه إلى مشرقه بحثًا عن خلاص؛ فلما وجد الأمر في المشرق لا يقلُّ سوءًا عنه في المغرب أدرك أن لا خلاص إلا باليقظة الكبرى. وفي الفصل الثالث علاقته بابن رشد، وكان آخر ما شاهَده «ابن عربي» في الأندلس قبل تركها نهائيًّا هو جنازة ابن رشد الفيلسوف والقاضي، صديق والده. فهل كان «ابن رشد» آخر خيط يربطه بالأندلس وبالمغرب؛ فلما انقطع الخيط بوفاة ابن رشد قرَّر الرحيل بلا عودة؟ وحلَّلتُ في فصلَين اللغة الإشارية وسيطرة البنية القرآنية كنموذج ونمطٍ سردي على بنية كتاب الفتوحات المكية. وفي النهاية عرضتُ نموذجًا للتأويل عند «ابن عربي» لم أعرضها في رسالتي للدكتوراه منذ عشرين عامًا عن التأويل في القضايا اللاهوتية والوجودية والمعرفية، فحلَّلتُ هنا تأويله للشريعة ومسائلها.

نشرتُ مقالًا بمجلة «الثقافة الجديدة» العراقية عدد ٢٩٥، عن «هل هناك مفهوم للحُكم والسُّلطة في الفكر الإسلامي؟» تناولت مسألة: هل هناك في النصوص التأسيسية مفهوم للحُكم والسُّلطة؟ وما علاقة هذا المفهوم — إذا كان موجودًا — بالتجربة التاريخية؟ فمن دلالة «حكم» في القرآن التي تُشير إلى القضاء، ويتم توسيع دلالتها لتضمَّ الحكم بالمعنى السياسي عند المودودي وسيد قطب. وفي التجربة النبوية يمكن أن يقوم بدور تأسيس سلطة سياسية، لكن لا يمكن اعتبار كل تأسيس لسلطة تأسيسًا لدولة. وما نُسمِّيه بالدولة الإسلامية في حقيقتها لها بنية إمبراطورية، وهي جزء من إمبراطوريات ذلك الوقت. وقد وترك الخلفاء والسلاطين المجال للسلطات المحلية حرية تطبيق القانون. ومع انهيار الإمبراطوريات وظهور الدولة الوطنية الحديثة كان التحدي؛ فمنذ جمع «محمد علي باشا» علماء الأزهر ليُحاوِلوا وضع قانون طبقًا للشريعة يحكم به ولم يستطيعوا. والمشكلة تَكمُن في تحويل الشريعة إلى قانونٍ يفهمه الناس. وإذا تُرِكت الشريعة على بنيتها الحالية فهي إعادة إنتاج إمبراطورية، حيث يُقرِّر كلُّ مُفتٍ وكل فقيه وكل واعظ الرأيَ الذي يراه صوابًا. وهذا يتعارض مع الدولة الحديثة التي تعني توحيد البناء القانوني وسيادة القانون. وفي مصر نشأ نظامان قضائيَّان، وجُعِلت الشريعة محصورةً في الأحوال الشخصية، وأُعطيَت للقاضي بها وظيفتان مُتناقِضتان؛ وظيفة القاضي الذي يُطبِّق القانون، ووظيفة المُشرِّع الذي يعود بنفسه إلى الفقه الحنفي ويختار، في زمنٍ استقلَّت فيه السلطة التشريعية عن السلطة القضائية.

نُشِرت لي مقالة باللغة الإنجليزية في يونيو ألفَين وواحد عن مفهوم العدل في القرآن، تناولتُ فيها مفهوم العدل في القرآن، ومفهوم العدل الإلهي، وعن العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية، وعن العدل والقسط، وذلك من خلال مجالات مفهوم العدل في الفقه وفي اللاهوت الإسلامي والفلسفة والتصوف، وقبلها جميعًا في التفسير. وخرج في نفس العام المجلدُ الأول من الموسوعة القرآنية عن جامعة «لايدن» من مطبعة بريل، والتي أنا عضو في مجلس تحريرها منذ سنوات، وبه مشاركة لي عن التكبر.

٩

منذ جريمة اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، بنيويورك، أخذت المسائل شكلا بشعًا، فإذا انتقدت الفكر التقليدي الإسلامي يُقال عنك إنك مُتحالِف مع الغرب ضد الإسلام، وإذا انتقدت الغرب يُقال إنك أصولي تُدافِع عن «أسامة بن لادن»؛ الأمر الذي دفعني للاعتكاف ثلاثة أشهُر في مكتبي، وإلى تغيير رقم تليفوني والإيعاز لسكرتيرتي بأنني غير موجود. وقرَّرتُ أن أجمع أشيائي وأُحزِّمها وأعود إلى مصر. لقد أصبح من المُستحيل أن أُرجئ مشروعي النقدي وأدخل في سجال، مبارزة هنا وأخرى هناك، لكن في نهاية الأشهُر الثلاثة قرَّرتُ ألا أتخلَّى عن دوري النقدي؛ لأنني لو تخلَّيتُ عنه لأصبحت في غربةٍ حقيقية؛ فكتبتُ مقالًا نشرَته «السفير» في بيروت في الثالث عشر من يناير ألفَين واثنَين، بعنوان «النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب». وفكَّرتُ في كتابة مجموعة من المقالات عن تجديد الخطاب الديني لجريدة الأهرام، عالجت فيها مسألة علاقة الخطاب الديني بمُجمَل الخطاب العام، والمسألة الثانية هي معنى التجديد ودلالته وآفاقه ومحاذيره، لكن «الأهرام» نشرَت مقالةً واحدة في الرابع والعشرين من فبراير ولم تنشر بعدها، إلى أن نشرَت مجلة «الزمان» المقالات في سنوية أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بعنوان «تجديد الخطاب الديني، ملاحظات واقتراحات»، ونشرَته مجلة «سطور» بعد ذلك بعنوان الإصلاح بالقتل. وقد نشرَت جريدة الأهرام ويكلي في عدد الثاني عشر من سبتمبر ترجمةً له تحت عنوان «الجنة بأي طريق؟»

اتصلَت بي باحثة من جامعة أمريكية اسمها «إيستر نيلسون» في مايو، وأتت للقائي بهولندا، والتقينا على مقهًى أسفل مترو لايدن، شمَّرتُ أكمامي للحوار، طلبَت مني أن أكتب كتابًا عن حياتي باللغة الإنجليزية يَعرِض رحلتي الشخصية والفكرية دون التركيز على وقائع القضية، أخبرتُها باستخدامي للغة الإنجليزية كلغةٍ علمية، لكن أجد صعوبة في الكتابة بها كلغة قص. واهتماماتي الأكاديمية تجعل كتابة كتاب عمليةً صعبة. فعرَضَت عليَّ أن نتحدث وتُسجِّل هي حوارنا، ثم تَصُوغ الكتاب بالإنجليزية، وأُراجعه وأُدخِل عليه التعديل.

سافرت إلى دمشق تلبيةً لدعوة مؤسسة «المدى» الثقافية بمناسبة مئوية «عبد الرحمن الكواكبي» (١٢٦٤ﻫ/١٨٤٩م–١٣١٨ﻫ/١٩۰٢م). وفي مداخلة لي تعليقًا على محاضرةٍ وجدتُ مساندةً كبيرة، وكتبي مقروءة. تجوَّلتُ في أحياء دمشق القديمة وُصولًا إلى مقبرة باب الصغير حيث يرقد جثمان «نزار قباني» الذي كان مات في لندن بعيدًا عن وطنه، ورفض بعض المُتطرِّفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع. اهتمَّت السُّلطة بجُثَّته، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله للوطن. وزرتُ قبر «ابن عربي»، وقبر «صلاح الدين» المُتواضِع، وتأمَّلتُ مسألة الموت. تجوَّلت مع «علي الأتاسي» الذي أجرى معي حوارًا نشره فيما بعدُ في السابع عشر من أكتوبر، في مُلحَق جريدة «النهار» اللبنانية. وبالليل حضرت حفل موسيقى غنَّى فيه المُطرِب «محمد منير» أغانيه في فيلم المصير عن «ابن رشد»، وحينما وصل إلى جملة «لسه الأغاني ممكنة» رغم استماعي لها كثيرًا من قبلُ أجهشت في البكاء.

محاضرتي أدارها المُفكِّر «صادق جلال العظم»، وكانت القاعة مُكتظَّة بالناس، الكراسي امتلأت والطُّرقات والكوريدورات، ففتحوا قاعةً أخرى ووضعوا بها مونيتور. كان وضعًا مُقلِقًا للسُّلطات وللمُنظِّمين. واستمرَّت الندوة — أسئلةً وإجابات — حوالَي ثلاث ساعات ونصف. شعرت أنه نوع من التضامن معي. كانت محاضرتي بعنوان «إشكالية تأويل القرآن قديمًا وحديثًا»، وهي القضية التي تمتلك عليَّ حياتي الآن؛ فالحياة تتجدَّد بالحركة والصيرورة، في حين أن النص ثابت في منطوقه؛ ولذلك فالمسلمون يَسعَون دائمًا لفضِّ هذه العلاقة بين الواقع والنص، من خلال عمليات التفسير والتأويل، وعرضت سريعًا مقولات المعتزلة واعتمادهم على مقولة المجاز اللغوي لفضِّ التناقض بين ظاهر منطوق النص والعقل، واستخدامهم لقياسِ ما هو غائب عن حواسنا بقياسه على ما نراه في شواهدنا.

وفي العصر الحديث، «الإمام محمد عبده» هو من بدأ يُدرِّس كتابَي شيخ البلاغيين العرب «عبد القاهر الجرجاني». وسعى في كتابه «رسالة التوحيد» إلى استعادة علم الكلام الاعتزالي، خصوصًا في مبدأ العدل، وإن كان استعاد أيضًا مفهوم التوحيد عند الأشاعرة، لكن «عبده» قال إن القرآن كتاب هداية وليس كتابًا في التاريخ أو العلم … إلخ. ونظر إلى القصص القرآني على أنه ليس تاريخًا، وإنما المراد به الاعتبار والعظة من السياق، وليس المهم في القصة صِدق ما تحكيه من وقائع وأحداث، بل المهم هو أسلوب السرد ذاته الذي تُستنبَط منه العظة. وركَّز «عبده» على أن الله يُخاطب الناس على قدر عقولهم وأفهامهم؛ لذلك فعملية التأويل عنده تستند إلى مرجعية اللغة العربية كما استخدمها العرب في عصر النبوة. وجمع بين العقل والنقل، ورفض النقل الذي يتعارض مع العقل.

وعلى الرغم من أن كتاب «طه حسين» في الشعر الجاهلي لم يكن موضوعه التأويل، فإن آراء «محمد عبده» عن القصص القرآني أنها تمثيلاتٌ كانت موجودة، وفي بحث «طه حسين» عن مدى انتساب الشعر الجاهلي فنيًّا للحياة الجاهلية؛ فهو يعتبر أن القرآن هو أصدق مرآة للحياة الجاهلية. وقد اعتمد الكثير على وُرود قصة هجرة النبي «إبراهيم» بولده «إسماعيل» والسيدة «هاجر» إلى أرض الحجاز دليلًا على أن هناك عربًا مُستعرِبة من الجنوب هاجَروا إلى الشمال وتعرَّبوا، واكتسبوا لغة أهل الشمال، وتخلَّوا عن لغتهم الحِميَرية. وأوَّلَ «طه حسين» قصة «إبراهيم وإسماعيل وهاجر» مُعتمدًا على اجتهاد «محمد عبده» أنها من القَصص الذي كان معروفًا عند الناس ومُتداوَلًا، وأن القصة القرآنية هي «تمثيل»؛ أي أمثال، وهي من المتشابهات، ولم يتضمَّن رأيه بأيِّ حالٍ ما توهَّمه البعض بالتشكيك في صحة القرآن، بل رأيُه أن وُرود القصة في القرآن ليس دليلًا على صحتها التاريخية بقدرِ ما هو دليل على وجودها في وعي المُخاطَبين بالقرآن وفي ضمائرهم؛ فمُنطلَق «محمد عبده» بعدم التطابق بين القصص القرآني والتاريخ، وأن أسلوب القرآن يُحدِّده الغرض الديني الوعظي للقص، ولا علاقة له بالتتابع المنطقي أو التاريخي للوقائع خارج القرآن. أخذ «طه» هذه المقدمة وأضاف إليها مقدمةً أخرى هي جِدة أسلوب القرآن، ومن هاتَين المقدمتين استنبط نتيجةً مضمونها أن القرآن أثرٌ فني بالغ مارَس تأثيره هذا على المعاصرين لظهوره.

ثم يأتي الشيخ «أمين الخولي» ويُركِّز على «الأثر الفني للقرآن»، ويقول إن القرآن هو كتاب العربية الأكبر وأثرها الفني الأقدس، ويتَّجه في اختلافه عن «محمد عبده» — والذي ركَّز على الهداية في القرآن — إلى أن الغرض الأول هو دراسة البيان كغرضٍ أول لعملية التفسير، وإن كان «محمد عبده» يُشير إلى علمَي البلاغة التقلديَّين (المعاني والبيان) بِاسم علم الأسلوب؛ ﻓ «الخولي» تَفهَّم البيان مُعتمِدًا على علوم البلاغة الحديثة، فركَّز على مشكلة المنهج في كتبه التسعة، وخصوصًا كتابه «مناهج التجديد والبيان»، وهو منهج التحليل الأدبي. وخطوات المنهج تتحدد من طبيعة النص ذاته من حيث البنية والتركيب العام؛ فليس هناك منهجٌ واحد وخطواتٌ مُحدَّدة سلفًا للتعامل مع كل أنماط النصوص، ووحدة المنهج لا تنفي تَعدُّد الإجراءات.

ولأن الشيخ «الخولي» خرِّيج مدرسة «القضاء الشرعي»، فإنَّ تأثُّره بعلماء أصول الفقه واضح في منهجه بجمع الآيات ذات الموضوع الواحد، وترتيبها تاريخيًّا قبل القيام بالتفسير، لكن هنا مشكلة، وهي أنه يتحدث عن تأثير البيان القرآني على المُتلقِّي، وهذا التأثير تمَّ طوال التاريخ من خلال بنية القرآن كما هي في المصحف الحالي؛ أي من خلال ترتيب التلاوة. فهل هذا نوع من التناقض؟ والشيخ «الخولي» يحتاج منهجه ومفاهيمه للدراسة الأدبية إلى دراسةٍ مستقلةٍ نفهم موقف الشيخ أكثر؛ لأنه أقرب إلى مفاهيم المدرسة الرومانسية المُشبَّعة بمفاهيم الكلاسيكية الجديدة، وهي مفاهيم تتناول النص الأدبي من حيث الموضوعات والمضامين أكثر من تناولها له من حيث الشكل والبنية. وظل تلاميذ الشيخ «أمين الخولي»، «بنت الشاطئ، ومحمد أحمد خلف الله، وشكري عيَّاد»، مُتمسِّكين بدرجاتٍ مُتفاوتة بمنهج وحدة الموضوع وترتيب النزول.

وناقشت رُدود «الخولي» على الداعين إلى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم. ويُعتبر «الخولي» هو الامتداد المعرفي والتركيبي لكلٍّ من «محمد عبده» ومن «طه حسين» على مستوى المنهج، لكن أضيفَ إلى التحدي الخارجي الأوروبي — والذي واجَه «محمد عبده» و«طه حسين» — تحديًا آخر داخليًّا عند «الخولي»؛ هو المُتمثِّل في نمو التيَّار السلفي. وعلى مستوى المضمون يُضيف «الخولي» إلى وعي «محمد عبده» بالتراث المعتزلي و«ابن رشد» إنجازات علماء أصول الفقه والبلاغيين في مجال التحليل اللغوي؛ لاستثمار الأحكام من النصوص عن طريق وحدة الموضوع وترتيب النزول، ويُضيف إلى منهج «طه حسين» «اللغوي الفني» أبعادًا من نظرية الأدب عن تأثير البيئة، وعن التأثير النفسي للأدب في القارئ. وعسى تطوير منهج الأستاذ «أمين الخولي»، وَفقًا لإنجازات المعرفة المُتنامية في مجال المعرفة الإنسانية — وخاصةً «الألسنية والتأويلية» — أن يُمثِّل تجاوزًا لحالة الركود في مجال الدراسات القرآنية. وهذا هو ما يشغلني.

كنتُ بالغ السعادة بأنني ما زلت أستطيع التواصل مع الناس؛ فهذه هي أول محاضرة عامة مع جمهورٍ عربي كبير. وكانت سعادتي أكثر بالشباب الذي لم يأخذ فرصته، وناقشت تَخوُّفاتهم على الإسلام من استخدام المناهج الحديثة لدراسة القرآن. وقال أحد المُثقَّفين: «إنك لو كنت بسوريا لما حدث لك ما حدث بمصر.» مُشيرًا إلى أن السلطة الحاكمة ما كانت لتدع هذا يحدث، فقلت له: أُفضِّل أن أعيش في بلدٍ أُناسه لم يُعجِبهم ما كتبت، ولم يستطيعوا الرد عليه بالكتابة فذهبوا إلى المحكمة، عن العيش في بلدٍ تقمعهم السلطة بعنفها واستبدادها. الشباب حضروا في اليوم التالي إلى الفندق ودارَ حوارٌ أكبر، ونظَّموا بعض الأنشطة الثقافية التي دعَوني إليها. وكنت أودُّ مقابلة الشيخ «حسين فضل الله» الأمين العام لحزب الله، ولكنه كان ببيروت، فسعى بعض الشباب إلى الاتصال به، وأتى الرجل إلى دمشق لألتقيَ به في بيت له خارج دمشق، في منطقة «السيدة زينب»، وكان كريمًا وأهداني كتبه، وكان بصحبته بعض مشايخ الشيعة من البحرين والإمارات، وأخبرني أنهم يعتبرونني من المُفكِّرين المُجدِّدين في الإسلام. ودخلنا في نقاشٍ علمي جميل عن فهم النبي للقرآن، ومدى بشرية هذا الفهم. وصدر المجلد الثاني من الموسوعة القرآنية الصادرة باللغة الإنجليزية عن جامعة لايدن، ولي به ثلاث مساهمات عن القرآن في الحياة اليومية، وأخرى عن الصحة والمرض، وثالثة عن العزم.

١٠

اتصلت بصديقي رئيس قسم اللغة العربية لتجديد إجازتي، فأخبرني أنها السنة الثامنة — فالقانون يسمح بخمسة أعوام فقط — شكرته جزيلًا، فاستطرد يُكلِّمني عن امتنانِ كثير من المصريين لعدم صمتي عن الفساد المُنتشِر في حنايا مصر، وخصوصًا داخل الجامعة، وعن امتنانهم لنجاحاتي في الغربة. أعربتُ عن تَفهُّمي لما يقول، وسألته: هو ليه مستحيل أن أُدعى لعضوية مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه؟

– لا، أبدًا، ليس مُستحيلًا، المسألة أنه ليس هناك رسائل في تَخصُّصك.

– هو دا صحيح؟ واحدة من تلامذتي نُوقِشت رسالتها من أسبوعَين.

ردَّ بسرعة مُتسائلًا: حقيقي؟ قلت له: نعم لقد تواصلَت معي، بل وأرسلت رسالتها، هي تلميذتي، على الأقل يدعوني القسم للمناقشة.

– أنا آسف يا نصر، الوضع غمٌّ في الجامعة وفي القسم، أنت لازم تكون مبسوط جدًّا إنك رحلت من الهم دا.

قارنتُ بين قسم اللغة العربية الذي أنتمي إليه وقسم اللغة الفرنسية الذي تنتمي إليه «ابتهال»؛ فهي تُسافر إلى مصر كل شهرَين منذ انتقالنا إلى هولندا لرؤية والدتها، وتُشارِك في مناقشة رسائل. وها هي جامعة القاهرة لا تريدني، وربما لن تطأ قدماي أرضها مُحاضَرًا أو أستاذًا. فإلى متى أظل مُنتظِرًا دعوة جامعة القاهرة التي لن تأتي. وها هي جامعة «لايدن» هي الأخرى تتردد في إعطائي درجة أستاذ دائم منذ مساندتي المُعلَنة للانتفاضة الفلسطينية ودعمي للمقاومة وخطابي النقدي للسيطرة الغربية. إني أعيش في حالة من الانتظار التي تقتلني، لم أمرَّ طوال حياتي بهذا الإحساس؛ ففي أقسى الظروف كان دائمًا قراري في يدي، الآن أنا في حالة انتظار؛ فمصيري يخرج من يدي، لا أستطيع أن أُقرِّر. المستقبل غامض. كنا في تركيا، حاولَت «ابتهال» أن تُخفِّف عني، وكنت في حالة من الضِّيق الغاضب، لكن تسامحها وحنانها كان أغلب من ضِيقي، فقالت: إنت غاضب لأن «لايدن» لم تُقرر بعد، لكنك أستاذٌ معروف في كل العالم، شوفت البِشر والامتنان على وجوه من استمعوا إليك في الندوة العلمية، افتح عنيك. إنت بدأت تحول نفسك إلى ضحية، إحنا في أحسن حال، صحتك عال، ووزنك نزل، وتستطيع أن تعطي من أي مكان أنت فيه. إنت ليه غضبان؟

أتانا خطاب من مؤسسة «أنا ألينور روزفلت» الأمريكية تختارني هذا العام ألفَين واثنَين للحصول على جائزتها السنوية في حرية العبادة، بالإضافة إلى آخرين، منهم زعيم جنوب أفريقيا الكبير نيلسون مانديلا. فداهمَتني الوساوس؛ مؤسسةٌ أمريكية، ولماذا أنا؟ ولماذا هذا العام؟ كان رأي «ابتهال» أنها جائزةٌ محترمة، وتأثيرها خرج عن حدود أمريكا، لكن ماذا يقول عني الناس في العالمَين العربي والإسلامي. اتصلتُ بصديقي العزيز الشاعر «زين العابدين فؤاد» في القاهرة، وأعرف أنه سيَصدُقني القول، أسأله عن رأيه. فقال إنه سوف يحضر من القاهرة ليكون معي في تَسلُّم الجائزة إن أردت. فقرَّرتُ قَبول الجائزة، وإن كان الأمريكيون أرادوا أن يُرسِلوا رسالة من خلالي فسوف أستخدم هذه المناسبة لإرسال رسالة أيضًا. احتفال هذا العام سيكون في هولندا حسب التقليد لخلفية عائلة الرئيس الأمريكي روزفلت وأصوله الهولندية، وتُعطى الجائزة في السنوات زوجية العدد بهولندا، وفي الأعداد الفردية من السنين في أمريكا.

قبل الحفل بيومَين، تقابلتُ مع الرئيس المُساعِد للمؤسسة على عشاء، وسألته كيف وصلوا إلى اسمي. أخبرَني أن المؤسسة أرادت أن تبحث عن شخصٍ مسلم يعتقد في المبادئ الأساسية التي عاش من أجلها «روزفلت»، وتركنا الأمر للناس في جريدة «زيلاند» الهولندية ورئيس تحريرها، كان في دورةٍ تعليمية بجامعة «لايدن» عام خمسة وتسعين، وهو الذي اقترح اسمك، وأرسلنا إلى جامعة «لايدن» فرشَّحك رئيس قسم الدراسات الآسيوية بالجامعة.

في يوم الاحتفال، الثامن من يونيو، كان حضور ملكة هولندا وزوجها، و«إليزابيث ومارجريت»، من عائلة الرئيس «روزفلت»، وأعضاء اللجنة. وارتديت أنا و«ابتهال» و«زين العابدين» وزوجته «جوسلين» الكوفية الفلسطينية التي طلبتُ أن يأتوا بها معهم من القاهرة، وألقيت كلمةً قصيرة شكرتُ فيها المؤسسة، وأثنيتُ على جهاد الفائز معي الرئيس «مانديلا»، وأشرت إلى الرسالة المزدوجة التي تعنيها هذه الجائزة حينما تُعطى لأول مسلم؛ ففيها رسالة للعالم الإسلامي وللعالم الغربي أيضًا.

عادت «ابتهال» إلى القاهرة للتدريس بالجامعة في سبتمبر، فقبلتُ دعوة مؤسسة برلين للدراسات المُتقدمة لمدة ستة أشهُر للعمل على التأويلية الإسلامية واليهودية. وأصبحت وحيدًا، تتخاطفني الهواجس، أُكلِّم «ابتهال» تليفونيًّا ثلاث مرَّات يوميًّا. وفي العاشر من سبتمبر اتصلت بي في الصباح، وقالت: أنا عندي خبر مش كويس. صمتَت قليلًا، ثم قالت: «السيد ابن عمك تعيش إنت، تُوفي صباح أمس.» أنهيت المكالمة معها، وخرجت في طريقي للجامعة. في منتصف الليل اتصلت بها وقلت لها: أنا تعبان. ردَّت بلهفة: أجيلك لايدن فورًا.

– لا. بس أنا مفتقدك جدًّا.

– نصر، السبب مش فقدانك لي، دا شيء أكبر من كدا، إنت حاسس باليُتم للمرة الثانية بفقد السيد ابن عمك وأبوك الثاني.

ازدادت داخلي الرغبة في العودة؛ فلو كنت في البلاد الآن ربما كنت في عون السيد، سوف آخذ زمام حياتي مرةً أخرى، لن أنتظر جامعة القاهرة تدعوني للانضمام الأكاديمي لها، ولن أنتظر «لايدن» تُعطيني «أستاذ دائم»، وأنا مُقبِل على الستين في الثامن عشر من نوفمبر.

سجَّلنا «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» في سويسرا، أنا و«محمد أركون» و«جورج طرابيشي» ومُفكِّرون من العالم العربي ورجال أعمال، كمحاولة لتشكيل كِيان يُسهِم في عملية التحديث الفكري في العالم العربي، ويسعى إلى جذب تبرعات من العرب، من أجل هذا الهدف، بعد ما حدث من عنفٍ العام الماضي.

بعد نهاية الفصل الدراسي في منتصف ديسمبر، اتصلتُ ﺑ «ابتهال» في القاهرة، وقلت: أنا «جاي عايز أزور السيد» ومش عايز أقابل أحد. قالت: لازم نخبر محاميتك «منى ذو الفقار». ومنى ما زالت طوال كل هذه السنوات تُحاوِل، وقادت العمل في القضية منذ الاستئناف. وحينما عرَفَت منى أصرَّت أن نتَّصل بالأمن. أرسلت لي الباحثة الأمريكية «إستير نيلسون» بالإيميل مخطوطةَ كتابنا عن حياتي، صوت المنفى قبل ركوبي الطائرة في طريقي إلى القاهرة. في المطار اندهشتُ من نفسي؛ فلم تتسارع دقَّات قلبي، ولم يلحظني أحد، وكل الأحاسيس التي كنت أتصوَّرها ستَحدُث لم تَحدُث، وكأني تركت البلاد أمس. أخطأت شقَّتي في السادس من أكتوبر. المكان كما هو، حتى نتيجة الحائط ما زالت على تاريخ يوليو سنة خمس وتسعين.

اتصل بي ضابطُ أمنٍ كبيرٌ يُخبِرني أنهم يُعيِّنون لي حراسةً تصحبني، انفعلت ورفضت، كيف أذهب إلى «قحافة» في حراسة؟ فكان الرجل حليمًا، وقال: كيف ستُسافر إلى هناك؟

– بالقطار.

– كويس، الحراسة الدائمة لنا في كل قطار، سنُخبِرهم بوجودك بالقطار، وخذ رقم التليفون دا؛ فإذا شعرت بأي شيء غير عادي ولو بسيط، اتصِل بهذا الرقم فورًا، وده يا دكتور نصر ليس مجال اجتهاد. أي أحساس بخطر اتصِل.

وضحكنا. أصررتُ أن أذهب إلى «قحافة» وحدي، وكانت «ابتهال» في شدة القلق، لكني أصررت. زرتُ بيت ابن عمي السيد، والْتقيتُ ابنته التي حاولت أن تُخفِّف من ألمي لعدم وداعي له، فقالت: «لا تحزن، أيامه الأخيرة كانت مليئة بالألم، لو شوفته لشعرتَ براحة أنه تُوفي ورُحِم من ألمه.» وأنا أسيرُ في الشارع مع أخي محمد، سمعتُ صوتها من الداخل تقول: «هو دا نصر ابن أبو زيد يا ولاد؟» فقلت: إزيك يا شوقية. ودخلت سلَّمت عليها، وأخذتني في حضنها. وذهبت للعزاء في زميلي في الكُتاب وخطيب مسجد بالقرية، مصطفى عمران. قضيت ثلاثة أيام مع إخوتي وأُسَرهم في حضن قريتي.

عدتُ إلى القاهرة، وكانت «ابتهال» في حالةٍ شديدة القلق، حاولت أن أعرف السبب، فقالت بحِدَّة: «يا نصر إنت كل كلامك خلال الفترة الماضية كان عن الموت، ففجأة تُقرر العودة، وتُقرر زيارة «قحافة» وحدك، فكأنك قرَّرت الموت، وعايز تموت وحدك في هدوء، في حضن قريتك. عايزني أفكر في إيه؟» اعتذرتُ على ما سبَّبته لها، وقلت إنني فقط أردت زيارة القرية في هدوء. وذهبنا لقضاء بضعة أيام في الساحل الشمالي، وطلبت «منى ذو الفقار» أن تُعِد حفلةً صغيرة في بيتها، تدعو إليها المُحامين الذين اشتركوا في الدفاع عني، فلا يصحُّ ألا أُقابلهم، فاتَّفقنا أن تكون الحفلة في ليلة عودتي إلى لايدن. وأخرج من بيتها إلى المطار. وفي اللقاء تكرَّرَت الطلبات من الحضور: لماذا لا تعود يا دكتور نصر؟ حتى إن أحدهم أخذته الحَميَّة وقال: «يا رجل إنت لازم ترجع، حتى ولو كان فيها موت، من أجل القضية والوطن.» وما إن سمعَته «ابتهال» حتى كادت أن تفتك به، وردَّت عليه: «وتمشوا في الجنازة وتترحموا على البطل فقيد الإرهاب والشهيد، وأشيل أنا الهم.» فقلت لأُنقذه منها: «أنا لا بطل ولا مفكر مستنير، ولا عايز أموت، أنا إنسان أُحبُّ الحياة جدًّا، ما أنا إلا خوجة، باحث، ولا مستعد أبقى شهيد.» وحضر في نهاية اللقاء بزخمه «أسامة الباز» بجسمه النحيل، وفي سياق الجدال قال: «معندناش حرية في بلدنا تستحمل نصر أبو زيد.» كانت هذه الزيارة زادًا وقوةً نفسية لي عدتُ بهما إلى هولندا.

أنشأت جامعة «الإنسانيات» بأوتريخت كرسيًّا بِاسم «ابن رشد»، بِاسمه العربي وليس اسمه اللاتيني «آفريوس»، للدراسات الإسلامية، وأصبحت أول أستاذ لهذا الكرسي، وأصبحت أدرس يومًا واحدًا بجامعة لايدن. اتصل بي د. «حسن حنفي» — مع اقتراب عيد ميلادي الذي يتقارب مع عيد ميلاد زوجته فريدة — يُخبرني بضرورة أن أرجع قبل بلوغي الستين بعشرة أيام لأستلم عملي، وأخرج على المعاش وأنا مُستلمٌ عملي؛ حتى لا يسعى أحد إلى حرماني من أن أكون أستاذًا مُتفرغًا بجامعة القاهرة. وقال إنهم لم يفعلوها مع أحد من قبل، لكن ممكن أن يعملوها معك، وأن أقدم على إجازة مرةً أخرى بعدها بأسبوع. فعدتُ لمصر في الثامن والعشرين من يوليو ألفَين وثلاثة. واتصل بي صديقي د. «السيد البحراوي» يدعوني إلى احتفال القسم بالدكتور «شوقي ضيف»، بمناسبة حصوله على جائزة «مبارك» في الآداب هذا العام، وسألني إن كنت أُمانع في الحضور لموقف الدكتور «شوقي» أثناء مشكلة ترقيتي، فتذكَّرتُ ما قاله لي د. «إحسان عباس» الباحث الأردني، وزميل دراسة د. «شوقي ضيف»، والذي قال لي: «شوقي ضيف رجلٌ طيِّب، هو خاف يرقيك وتطلع كافر فيدخل النار، وخاف ألا يرقيك وتكون رجل كويس، فيدخل النار أيضًا، فانسحب.» تذكرت ذلك حين دعاني د. «سيد البحراوي»، فوافقت على الحضور.

أخطو في الجامعة لأول مرة منذ ثماني سنوات، سلَّمتُ على كل الناس والفرَّاشين الذين أعرفهم، وحينما دخل د. «شوقي ضيف» فاجأني بأن قبَّل يدي، فبُهتُّ من تَصرُّفه، وسعيت إلى يدَيه أُقبِّلها، لكنه لم يُمكِّنِّي. وفي كلمته ردَّد اسمي مرَّات. وفي بيت «زين العابدين فؤاد وجوسلين» الذي سيتولَّى الطبخ كالعادة في هذه التجمعات الكبيرة، الْتَقينا في احتفالٍ جميل، «أحمد مرسي، محمد صالح، عبد الحميد حواس، أمينة رشيد، رضوى عاشور، سعيد الكفراوي، محمد أبو الغار، سيد البحراوي، وعماد أبو غازي»، والكثير من الأصدقاء، وطوَّق «زين» عنقي بشال حرير، وهو يُغنِّي: يا حرير إسكندرية لبسوك الفلاحين. وذكَّرنا سعيد الكفراوي بحكايات الشباب، خصوصًا مهر عروسته «أحلام» الذي أعطاه والده لي وﻟ «جابر عصفور» الذي لم أرَه؛ حتى لا يصرفه سعيد كما فعل مرَّاتٍ من قبل؛ لنُعطيَه لوالد عروسته. وقال سعيد: «لقد حلَّ نصر الغضب، فهل ثَمة مُبرِّر للمنفى؟» ودعاني صديقي محمد أبو الغار إلى لقاء في بيته، حضره «صنع الله إبراهيم، منى ذو الفقار، جمال الغيطاني، عادل حمودة، عدلي رزق الله، منى أنيس، وشيرين أبو النجا، فريدة النقاش، حسين عبد الرازق»، وغمروني بحبهم وعطفهم، وقد دخلت الستين. ونشرَت مجلة «ألف» في عددها الثالث والعشرين عام ألفين وثلاثة بالجامعة الأمريكية، الترجمة الإنجليزية لدراستي السابقة عن القراءة الأدبية للقرآن … إشكالياتها قديمًا وحديثًا، والتي نُشِرت في مجلة «الكرمل» سنة ست وتسعين.

١١

منذ مناقشة رسالتي للماجستير، سنة ست وسبعين، وأنا أودُّ دراسة دور الجدل بين المسلمين الأوائل واللاهوتيين المسيحيين في نشأة علم الكلام، بجانب ما تناولتُه من عوامل سياسية واجتماعية وثقافية في الماجستير، وأيضًا لهذه الحالة التي نعيشها، وازدادت بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، والمواجهة العسكرية المباشرة من القُوى الغربية في العراق. في هذا السياق، كانت دراستي لعملية الجدل الإسلامي المسيحي التي حدثت في القرن الثاني الهجري، بدايات القرن الثامن الميلادي، وتأثير القراءة والفهم المسيحيَّين في نشأة قضايا علم الكلام أو اللاهوت الإسلامي. اعتمدت في هذه الدراسة ما كتبه يوحنا أو يحيى الدمشقي (٣٤ﻫ/٦٧٥م–١۰٨ﻫ/٧٤٩م) باللغة اليونانية، وقد اعتمدت على الترجمة الإنجليزية عن اليونانية من خلال ترجمة «دانيال ساس»، وعلى ما كتبه «ثيودور أبو قرة» (١۰٩ﻫ/٧٥٠م–١٨٤ﻫ/٨٢٥م) الذي سار على طريق «يوحنا الدمشقي»، وسياق هذا الجدل والتحدي الذي مثَّلَته أسئلة المُجادِل المسيحي بخطابه اللاهوتي المسيحي في ثمانية قرون ضد الدين الجديد، وكيف أخذ المجادلون المسلمون التحديَ بجدية، وكيف أثَّر هذا في تشكيل قضايا علم الكلام ومسائل اللاهوت الإسلامي الذي لم يكن قد استوى على عوده بعد، وكانت مقولاته «غير نضيجة»، فقرأ المُجادِل المسيحي النصوص الدينية الإسلامية ليردَّ عليها، وكذلك فعل المُجادِل المسلم مع التوراة والإنجيل.

كيف تعامل المُجادِل المسيحي مع خطر الدين الجديد، ويجب أن نضع في حسباننا أن «يوحنا وثيودور» يكتبون للمسيحي الشرقي لتثبيت اللاهوت المسيحي ضد غواية الدين الجديد من وجهة نظرهم. و«يوحنا» كان أبوه يعمل في بلاط الدولة الأموية كما كان جده يعمل في الدولة البيزنطية، وقد تولَّى «يوحنا» العمل في بلاط الأمويين بعد والده، ودرس القرآن وتعلَّم العربية كما يبدو، اعتزل الحياة العامة سنة ٨٩ﻫ/٧٣٠م، وذهب إلى دير «سابا» قُرْب القدس، وكتب ضد عملية تحريم عبادة الصور وتبجيل الأيقونات، وأُدينَ في مجمع «هيرا» سنة ١١٣ﻫ/٧٥٤م، لكن رُدَّ إليه الاعتبار في مجمع «نيقية» الثاني سنة ١٤٦ﻫ/٧٨٧م، وعلى نهجه سار «ثيودور أبو قرة» الذي لا نعلم عن حياته الكثير. في هذا المناخ كان الآباء المؤسِّسون لعلم الكلام من «معبد الجهني» (ت: ٨٠ﻫ/٧٠٠م)، و«غيلان الدمشقي» (ت: ٩٩ﻫ/٧١٨م)، و«الجعد بن درهم» (ت: ١٢٠ﻫ/٧٣٨م).

في كتاب «يوحنا» «نافورة المعرفة» قسمٌ خاص بالبِدع، ذكر منها مائة بدعة وواحدة، من ضِمنها الإسلام، ولم يكن اللفظ المستخدَم للتعبير عن المؤمنين بمحمد بالمسلمين، بل يُشار إليهم بأنهم الإسماعيليون؛ نسبةً إلى «إسماعيل»، أو السراسيون؛ إشارةً إلى أبناء «هاجر» التي طردَتها «سارة»؛ أي بتعبيرٍ آخر مطاريد «سارة». وقد اعتبر «يوحنا» هذه الدعوة ما هي إلا هرطقة من ضِمن الهرطقات المسيحية التي ظهرت من قبل، مِثل أتباع آريوس (ت: ٣٣٦م) الذي قال إن الله واحد وكل ما سواه مخلوق، وأتباع «نسطور» (ت: ٤٥٠م) الذي نادى بالطبيعة البشرية الكاملة للمسيح. وعرضت لثلاث قضايا محورية تم حَوْلها الجدل، وهي الكلمة الإلهية؛ وعيسى طبقًا للقرآن هو كلمة الله المخلوقة، وهذا في نظر اللاهوت المسيحي هرطقة. القضية الثانية هي قضية الصفات الإلهية. والقضية الثالثة الجبر والاختيار. عرضتُ لجدل القرآن مع النصارى، والإشارات التي لها دلالاتٌ تاريخية في القرآن، مِثلما جاء في سورة «الروم» عن معركة القدس بين الفُرس والرُّوم (٦١٥–٦١٦م)، واضطهاد «ذو نواس» لنصارى «نجران» في سورة «البروج»، وما ورد في السيرة عن هجرة الحبشة. وتعرَّضتُ بعد ذلك لجدل «يوحنا وثيودور» ضد الإسلام. هذا الجدل — حينما أخذه المسلمون مأخذ الجد — كان جدلًا مُنتِجًا. وأردت أن أقول إن ما نُواجِهه الآن بما يُسمَّى الخطاب المُعادي للإسلام، نعم قد يكون هو خطابًا مُعاديًا، وقد نأخذه بانفعال فنتألَّم، لكن لو اعتبرناه تحديًا ونشتبك معه فكريًّا، فربما يُحدِث نوعًا من الفعالية المُثمِرة في جسد الفكر الإسلامي المُصاب بفقر الدم الفكري؛ ففي التجربة التي سردتُها لم يُقتَل «يوحنا»، ولم تخرج مظاهرات ضد «ثيودور»، بل تم التعامل معهم فكريًّا.

ركَّزتُ جهدي في المنهج الذي نحتاجه لنتجاوز به الفشل وضعف الثمار التي أثمرها خطاب التجديد خلال القرنَين الماضيَين باعتمادهم على نفس الأساس اللاهوتي (الأشعري/الحنبلي). وجاءت ندوة باريس التي دُعيتُ إليها حول موضوع السُّبل العملية لتجديد الخطاب الديني في الثاني عشر من أغسطس ألفَين وثلاثة، فقدَّمتُ ورقة بعنوان «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»؛ فمنذ عصر الخليفة العباسي «المتوكل» (٢٠٥ﻫ/٨٤٧م–٢٤٧ﻫ/٨٦١م) توقَّف النِّقاش حول إشكالية تعريف «الكلام الإلهي» وعلاقته بالذات الإلهية، والتي عُرِفت بقضية «خلق القرآن»، وحُسِمت بأمرٍ سياسي، وتم تحديدُ العقائد الصحيحة وتمييزها عن العقائد الباطلة، واعتُبرت عقيدة «خلق القرآن» بدعة، وصار تصور القرآن الأزلي القديم هو العقيدة الصحيحة، حتى أتى «محمد عبده» (١٨٤٩–١٩٠٥م) في العصر الحديث في كتابه «رسالة التوحيد»، وفُتِح النِّقاش حول قضية الوحي وكلام الله. وفي الطبعة الأولى انحاز لموقف المعتزلة، لكن حدث تغيير لهذا الموقف في الطبعة الثانية من الكتاب التي أخرجها تلميذه «رشيد رضا»، مُنحازًا لموقف «الأشاعرة» الذي يميز بين الصفة الأزلية للكلام الإلهي والقرآن المَتلوِّ المَحكي بأصواتنا البشرية، وهذا هو المخلوق. ومنذ هذا التردد ظلَّت محاولات التجديد تدور في فلك اللاهوت الأشعري، ورُوَيدًا رُوَيدًا غاب هذا التمييز الأشعري بين جانبَي الكلام الإلهي لحساب الموقف الحنبلي الذي يُصرُّ على صفةٍ واحدة بلا تمييز، وهي أن كلام الله أزليٌّ قديم وصفة من صفاته الأزلية القديمة.

وتعرَّضتُ لبعض المحاولات الجزئية التي حاولت الاقتراب منها دون أن تتناول السؤال المكبوت من القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي؛ فعرضتُ ﻟ «محمود محمد طه» (١٩٠٩–١٩٨٥م) في السودان، والذي حاوَل التمييز بين رسالتَين في الوحي؛ الرسالة المكية وهي الأصل والجوهر، ورسالة ما بعد الهجرة وهي الرسالة المدنية. والإشكال هو أنه يُعطي نفسه الحق في فهم عِلمَي المكي والمدني والناسخ والمنسوخ من علوم القرآن خارج سياق التاريخ الاجتماعي والسياسي للمسلمين. وقريب من هذه المحاولة محاولة «محمد شحرور» المولود عام ١٩۳٨م، رغم اختلاف الأسلوب، حيث المصحف يحتوي على جانبَين؛ الجانب الأول: جوهرٌ ثابت هو القرآن، ومصدره هو النبي، وهو المُتشابِه الذي يحتاج إلى الراسخين في العلم لفهمه وتأويله. والجانب الثاني من المصحف هو: الجانب الواضح، وهو الكتاب، وهو التاريخي المُؤقَّت القابل للتطور، ومصدره هو الرسالة والرسول. و«شحرور» يتعامل مع اللغة ككائنٍ هُلامي بلا معجم وبلا دلالة استعمالية؛ مما يجعله يستنطق القرآن بمعانٍ ودلالاتٍ مُحدَّدة سلفًا.

وتعرَّضتُ لمحاولة اثنَين من المُشاركين في الندوة؛ مشاركة «جمال البنا» المولود عام ١٩٢۰م، وهو يُميِّز تمييزًا حادًّا بين الإسلام والمسلمين؛ حيث الإسلام جوهرٌ ثابت مُتعالٍ لوَّثَته الأفهام حين اختلط الإسلام بالحضارات القديمة. ومن جهةٍ أخرى يتعامل مع النصوص التأسيسية كنصوص بلا سياقٍ إنساني مفارقةً للتاريخ وللثقافة؛ مما يجعل قراءته تتميز بالانتقائية، ويُسهِّل من ذلك نفيُه للثقافة الإسلامية بما فيها الفقه من أفق منظوره التفسيري. وعرضتُ لتجربة «خليل عبد الكريم» (١٩٣۰–٢٠٠٢م)، وهو مشغول بالنقد التاريخي، لكنه لا يكاد يتجاوز عنده منهج نقد الرواية في التراث. وفي صراعه مع سلطة التقديس يُوظِّف النقد التاريخي لغاياتٍ براجماتية، فيقع في انتقائيةٍ واضحة للنصوص التراثية التي تُحقِّق غايته، ويُهمِل تلك التي تُعارِض أهدافه. ويمكن أن نستثنيَ من كل هذه المحاولات محاولة «حسن حنفي» المولود عام ١٩۳٥م، الذي أعاد وأفاد عن العلاقة الجدلية بين الإلهي والإنساني في مفهوم الوحي. وأيضًا المفكر الباكستاني «فضل الرحمن» (١٩١٩–١٩٨٨م)، الذي أكَّد الدور الإيجابي للنبي في عملية الوحي، قائلًا إنه لم يكن مجرد ساعي بريد. لكن سؤال كلام الله ظل غائبًا عنده.

وحاولت أن أضع بعض النِّقاط التي أُفكِّر فيها؛ فسؤال القدماء في القرون الأولى من تاريخ الإسلام استجابة للسؤال المسيحي حول تناقض القرآن في فهمه للمسيح، بكونه كلمة الله وروحًا منه وبين كونه إنسانًا مخلوقًا من جهةٍ أخرى. كان السؤال هو ما إذا كان كلام الله قديمًا أزليًّا أم مُحدَثًا مخلوقًا. ومفهومٌ أن القرآن كلام الله الأزلي القديم، وصفة من صفات الذات الأزلية القديمة؛ فتصبح اللغة العربية قشرةً على معانيه. وبما أنها قشرة فإن علوم اللغة والبلاغة والأسلوب والدلالة هي علومٌ مَهمَّتها إزالة القشور للبحث عن الدُّرَر الكامنة. وهذا التعريف هو الأساس الذي يُسوِّغ أسلمة العلوم بالقدر الذي يُسوِّغ العنف والقتل والتكفير باسم الله؛ فإذا كان هذا هو سؤال التراثيين فإن سؤالنا الآن في سياق الدرس العلمي والفهم الموضوعي هو: ما معنى أن القرآن كلام الله؟ وتتفرع عنه أسئلةٌ كثيرة عن طبيعة الوحي وكيفيته، وهل كان تواصلًا باللغة أم تواصلًا بالإيحاء والإلهام.

فإن الله تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ والتراثيون قسَّموا طُرُق التواصل من قراءة هذا النص إلى ثلاثة أنماط؛ الأول: الوحي بمعنى الإلهام كما في كلام الله لأم موسى. والثاني: هو كلامه مع موسى من وراء حجاب الجبل. النمط الثالث: هو نمط الوحي في الإسلام عن طريق وسيط هو جبريل. وقالوا عن هذا التواصل بين جبريل ومحمد كان تواصلًا لغويًّا بالعربية، وهو تفسيرٌ تتأبى عليه الآية التي تنصُّ على أن «الرسول/الملك» «يُوحي» إلى البشر بما يشاء الله، ومعنى ذلك أن الاتصال بين جبريل ومحمد كان اتصالًا غير لغوي، اتصالًا بالوحي؛ أي بالإلهام. وهناك رواياتٌ كثيرة تنسب إلى الرسول أن الوحي كان يأتيه مِثل صلصلة الجرس أو طنين النحل. من ذلك ينفتح الباب للنِّقاش عن معنى التنجيم، ما معنى أن القرآن نزل مُفرَّقًا حسب الأحوال والملابسات؟ وسؤالٌ آخر نابع منه هو: هل القرآن نصٌّ واحد أم كثرة من النصوص لكلٍّ منها سياقه الخاص؟ وسؤالٌ ينبع من ذلك: لماذا حين جُمِع القرآن في مصحف لم يُرتَّب حسب النزول؟ وهذا ليس تشكيكًا في القرآن، بل لفتح النِّقاش بحثًا عن حكمة الترتيب الحالي، سواء كان هذا الترتيب إلهيًّا أو بشريًّا كما يذهب البعض. ودراسةُ عملية الجمع والتدوين في المصحف، كيف بدأت؟ وكيف تطوَّرَت من رسم المصحف بلا تنقيط ولا حركات أو فواصل أو علامات وقف؟ وما علاقة كل هذا بالقراءات المُعتمَدة؟ ولا نتغافل أو نتجاهل الصحائف الباقية من مصاحف مختلفة، والتي تم العثور عليها بالمصادفة في سقف أحد مساجد صنعاء باليمن بعد سقوط السقف بفعل المطر سنة ١٩٧٢م، وهي مكتوبة بخطٍّ حجازي.

إذا لم يتغلب علينا ضعف الإيمان فنرفض مجرد النِّقاش وفحص الوقائع، ونُصرُّ على أن نُجمِّد عقولنا؛ فإن هذه الأسئلة لن تهدم الدين ولن تُزعزِع اليقين، بل من المؤكَّد أنها ستفتح لنا مجالًا للفهم لنمتلك تراثنا ونبنيَ عليه من خلال طرح أسئلتنا نحن، بدل أن يكون تراثنا عبئًا علينا كما هو الحال الآن. فمتى نبدأ؟ هذا هو السؤال. خرج هذا العامَ المجلدُ الثالث من الموسوعة القرآنية، وبه مشاركة لي عن الاضطهاد.

١٢

منذ محاضرتي عام ألفَين لكرسي «كليفرنجا» للحريات في جامعة «لايدن»، التي ركَّزتُ فيها على تحليل البعد الرأسي في عملية الوحي. عملية التواصل بين الله والنبي محمد هي العملية التي أنتجت القرآن. وكنت وصلت في محاضرة العام الماضي في باريس إلى أن النظر للقرآن كمجموعة من النصوص لكلٍّ منها سياقها، لكن ظلَّت القضية تشغلني. وفي محاضرة كرسي «ابن رشد»، في جامعة الإنسانيات بأوتريخت، كانت محاضرتي كأستاذ للكرسي في السابع والعشرين من مايو ألفَين وأربعة، «إعادة التفكير في القرآن، نحو تأويلية إنسانية»، أن النسخة الأولى لرسم المصحف دون تنقيط وإعراب قد تم إنجازها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (٢۳ﻫ/٦٤٤م–۳٥ﻫ/٦٥٦م)، والنسخة النهائية للمصحف بعد إضافة علامات التنقيط وعلامات الإعراب قد تم إنجازها في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. وبها تمَّت عملية التقنين للمصحف الحالي.

أنا هنا أُطوِّر أطروحتي حول الجانب الإنساني في الوحي/القرآن، خطوةً أبعدَ بالانتقال من البعد الرأسي الذي ركَّزت عليه في محاضرة عام ألفَين إلى البعد الأفقي. ولا أعني به مجرد عملية التقنين التي أشرت إليها، ولا عملية البلاغ التي قام بها النبي عليه السلام، ولا عملية الانتشار الأفقي الناتجة عن فعل التبليغ، ولا أعني بها أيضًا التراث التفسيري الذي حوَّل النص الإلهي إلى فهمٍ إنساني، لكن أعني بها المحايثة لعملية الوحي ذاتها، والمُتمثِّلة في دوالَّ وإشاراتٍ ما تزال ماثلةً في بنية النص المُدوَّن في المصحف. هذا البعد يمكن إدراكه وتقديره، إذا حوَّلنا منظورنا في التعامل مع القرآن من منظورِ كونه نصًّا إلى النظر إليه باعتباره خطابًا أو بالأحرى خطابات، لكلٍّ منها سياقه الذي لا تستبين دلالة الخطاب إلا به.

وأنا كنت أحد الدعاة للخاصية النصية للقرآن، مُتأثرًا بالمنهج الأدبي عند الشيخ «أمين الخولي»، ومُتأثرًا بأساليب الدراسات الأدبية الحديثة، لكني بدأت أدرك خطورة التعامل مع القرآن بوصفه نصًّا فقط؛ من حيث إنه يُقلِّل من شأن حيويَّته، ويتجاهل حقيقة أن القرآن ما زال يُمارِس وظيفته في الحياة اليومية للمسلمين بوصفه خطابًا لا مجرد نص. وكان القرآن، وما يزال، في الفترة الأولى من تاريخ المسلمين قبل الوصول لمرحلة التقنين النهائي للمصحف، وقبل تَحوُّل الإسلام إلى مؤسسات، يُنظَر إليه بوصفه الخطاب الحي، بينما كان المصحف بمثابة النص الصامت؛ فنُسَخ القرآن لم تتوفر بشكلٍ واسع إلا مع دخول المطابع الحديثة في القرن التاسع عشر الميلادي، الثالث عشر الهجري، في العالم العربي والإسلامي. ومع انتشار الأمية، فإن تأثير القرآن منطوقًا في الحياة اليومية عند المسلمين طوال هذه القرون. وإن التعامل مع القرآن فقط بوصفه نصًّا سيُنتِج دائمًا تأويليةً شمولية أو تأويليةً سلطوية، وكلتاهما تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة المُطلَقة.

في رسالة الماجستير رصدتُ تَحوُّل القرآن إلى أرض للمعارك الفكرية والسياسية بين المُتنازِعين، وتعامَل المُتكلِّمون مع القرآن من منظورِ نصٍّ مكَّنهم من ترسيخ المبدأ التأويلي الأول عن المُحكَم والمُتشابِه. ونزاعهم حول المعنى تطوَّر إلى نزاعٍ حول المبنى. ما المُحكَم وما المُتشابِه من آيات القرآن؟ وميَّز الفقهاء وعلماء الأصول مبدأهم التأويليَّ على أساس التمييز في الخطاب الإلهي بين المُتقدِّم والمُتأخِّر في ترتيب النزول، وتعاملوا مع القرآن بوصفه نصًّا وباعتباره كتابًا بالمعنى القانوني، فتمَّت صياغة مقولة الناسخ والمنسوخ بأقسامها الأربعة؛ المنسوخ لفظًا وحكمًا، والمنسوخ حكمه وبقي لفظه، والمنسوخ لفظه وبقي حكمه، والقسم الرابع الثابت حكمًا ونصًّا. وإذا كان النص البشري يخضع لسيطرة مؤلفه ويعكس قدراته، فإن النص الإلهي — ومصدره الله سبحانه وتعالى — لا بد أن يقع في أرقى مستويات البناء التي لا يمكن أن تستوعب تناقضًا ما؛ فأي تناقض أو اختلاف في الكتاب الإلهي لا بد أن يكون ظاهريًّا؛ فالهدف عند المتكلمين والفقهاء كان رفع التناقض عن النص الإلهي. ولم يكن من الممكن للمتكلمين أو الفقهاء أن يُدركوا أن ما يبدو لهم تناقضًا ليس إلا مواقف وترتيبات لا يمكن فهمها إلا بالعودة لسياقها الخطابي؛ أي سياق التحاور والتساجل والجدل والاختيار والرفض والقبول … إلخ؛ أي يتطلب منا الاهتمام بالطبيعة الخطابية للقرآن، بدلًا من تركيز الاهتمام بالكامل على الطبيعة النصية التي أسهمت في إغلاق الاحتمالات، وتثبيت احتمالات مُوجَّهة أساسًا بأيديولوجيا المُؤوِّل السياسية أو الثقافية أو العقَدية أو المذهبية.

وبسبب سيطرة مفهوم القرآن بوصفه نصًّا على مُجمَل الدراسات في الشرق والغرب، جعل من الصعب تقديم نسق بِنْيوي دقيق للخطاب القرآني. وكتاب «القرآن بوصفه نصًّا»، والذي يتضمن بحوث المؤتمر العلمي الدولي الذي عُقِد في نوفمبر عام ثلاثة وتسعين بقسم الدراسات الشرقية بجامعة «بون» الألمانية، أبرز التحول في الدراسات القرآنية في الأكاديميات الغربية من نموذج البحث عن أصول وجذور القرآن في التراثَين اليهودي والمسيحي، إلى نموذج النص كما تم استقباله في تاريخ المسلمين في شكل المصحف. وقد قدَّمت الموسوعة الإسلامية في الطبعة الثانية تصنيفًا للشكل أو الأشكال الأدبية في القرآن، وهي: آيات القَسم، والآيات التي تُشير إلى الآيات الكونية والقصص وآيات الأحكام، وأخيرًا الآيات الدعائية التعبدية. و«محمد أركون» رغم تأكيده على طبيعة القرآن بوصفه خطابًا، فهو يتبنَّى تصنيف «بول ريكور» الفيلسوف الفرنسي، للأشكال الأدبية في العهد القديم، والمبنية على أساس تبنِّي التعريف النصي؛ فالخطاب القرآني عنده يتكوَّن من الخطاب النبوي أو التنبؤ، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، ورابعًا الخطاب التقديسي، ثم الخطاب التعبدي. والنظر إلى القرآن على أنه نصٌّ يجعلنا نبحث باستمرار عن مركزية النص، هل مركز القرآن هو الجهاد، والحدود … إلخ، أم إن مركزية النص القرآني في الصبر والرحمة، وتَقبُّل الآخر … إلخ؟ وهذا هو المدخل للتأويل والتأويل المضاد. ومفهوم الخطاب يُخرِجنا من هذا الصراع.

ويمكنني القول إن القرآن لا يُمثِّل خطابًا أُحاديَّ الصوت، بل هو خطاب تَعدُّد الأصوات بامتياز؛ بمعنى أن ضمير المتكلم لا يُشير دائمًا إلى المُقدَّس، فصوت المُقدَّس لا يُعبِّر عنه دائمًا بضمير المتكلم «أنا»، بل كثيرًا ما يُمثِّله الضمير الغائب «هو»، وهو دائمًا «أنت» في الخطاب التعبدي الدعائي. هذا عن الأصوات في القرآن. وإذا نظرنا للحوار في القرآن بدايةً من حوار السِّجال فسِجال القرآن مع المشركين، والنوع الثاني هو سِجال القرآن مع المؤمنين. والحوار التفاوضي مِثل الحوار مع النصارى وتَطوُّره من التفاوض إلى الجدل. الصنف الثاني: الحوار التفاوضي كان مع اليهود، والذي تطوَّر من التفاوض والجدل إلى الحرب. ودراسة كل هذه الجوانب في الخطاب القرآني تحتاج إلى فريقٍ بحثي كامل يعمل عليها، وتحتاج إلى مجلداتٍ ترصدها. وقد عرضتُ في المحاضرة بعض النماذج التي تُوضِّح كل هذه الجوانب، من تَعدُّد الأصوات ومن الحوار السجالي والحوار التفاوضي. في القسم الثاني من المحاضرة، والتي نُشِرت في كتاب، كان عن عملية التجديد في الفكر الإسلامي منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وكيفية استجابة العقل المسلم لتحديات الاكتشافات العلمية الجديدة وأسئلة العقل والعقلانية، بالإضافة إلى التحديات السياسية.

شاركتُ بورقة عن «اليسار الإسلامي إطلالة عامة» بمعهد «إبراهيم أبو لغد» للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت، بيَّنتُ فيها أنه لو أخذنا تعريفًا عامًّا جدًّا لليسار بأنه: الحركات السياسية والفكرية التي تُدافع عن حقوق الفقراء والمُستضعَفين. وهو كل نزوع نحو التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتحرر الفكري ونحو العقلانية؛ أسلوب حياة ونمطًا في التفكير. وأوضحنا اليمين بأنه: الحركات السياسية والفكرية التي تُؤيِّد الحرية الفردية في مجال الاقتصاد، وتقف ضد أي محاولة لتوزيع الثروة أو لتقريب الفوارق بين الطبقات. وهو يتمسك بالتقاليد والمحافظة، والميل إلى تثبيت الواقع. وعرضتُ لجوانب هذا الفكر في تراثنا منذ القدماء إلى العصر الحديث، حتى هزيمة يونيو سنة سبع وستين.

تمَّت دعوتي لزيارة إندونيسيا، في السادس والعشرين من أغسطس، أسبوعَين من المركز الدولي للإسلام والتعددية، ونُظِّمت لي مجموعة من الأنشطة، وكان عددٌ من كتبي قد تُرجِم إلى اللغة الإندونيسية، وبعض تلاميذي الإندونيسيين في لايدن في الدراسات الإسلامية قد عادوا إلى إندونيسيا، وأصبحوا أساتذة في الجامعات والمعاهد الإندونيسية، وتعرَّفتُ إلى أكبر مُنظَّمتَين إسلاميَّتَين هناك؛ «المحمدية» التي تأسَّسَت عام ألف وتسعمائة وثمانية، و«نهضة العلماء» التي أُنشئت بعدها بأربع سنوات. والتقيتُ رئيس «نهضة العلماء» وحفيد مُؤسِّسها الذي أصبح رئيس إندونيسيا فيما بعدُ «عبد الرحمن وحيد». وأشرفتُ على ورشة عمل تحت عنوان «نقد الخطاب الديني»، وتمَّ افتتاح مؤسسة «عبد الرحمن وحيد» لغرس بُذور التعددية والسلمية في الإسلام، ودعاني لأُلقيَ كلمة في الافتتاح. وقضيتُ يومَين في المعهد العالي للفقه. استقبلوني استقبال شيخهم الجليل. واكتشفتُ أن كتابي «مفهوم النص» المرفوع من مكتبة جامعة القاهرة، يُدرَّس باللغة العربية في المعهد على الرغم من أنه مُترجَم عندهم. وكتبت مقدمةً لكتاب «قراءاتٌ نقدية في الفكر المعاصر» ﻟ «عاطف أحمد» الذي نشرَته دار المحروسة. وخرج كتابي مع «إيستر نيلسون» بالإنجليزية عن مشوار حياتي تحت عنوان «صوت المنفى».

١٣

أصبحَت زياراتي لمصر مُنتظِمة في كل إجازة دراسية، ودعاني د. «حسن حنفي» لإلقاء محاضرة في الجمعية الفلسفية المصرية، وكان لطيفًا جدًّا في الإطراء عليَّ. وألتقي «علي مبروك» منذ لقائنا في لايدن مرةً أخرى. وألتقي «جابر عصفور» منذ عمليته في القلب بفرنسا، وباتصالي به عادت علاقتنا، واحتفظ كلٌّ منا بموقفه مما يَحدُث. وفي نوفمبر ألفَين وخمسة اتصلَت بي لجنة جائزة «ابن رشد» للفكر الحر؛ لأنها اختارتني للتكريم هذا العام. وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من نوفمبر، بمعهد جوته ببرلين في ألمانيا، حضرتُ أنا و«ابتهال»، وحضر السفير المصري في ألمانيا ومُمثِّل الجامعة العربية وكوكبة من المفكرين. وقالت المؤسسة إنها تمنح جائزتها «لمفكر عربي إسلامي مُتميز ومجتهد في أصول الدين؛ هو «نصر حامد أبو زيد»، ولكفاحه المتواصل من أجل إعادة قراءة معاني القرآن قراءةً مستقلة عن التفسير التقليدي دافعًا حريته الشخصية ثمنًا لذلك.» ورغم رمزية هذه الجائزة التي تبرَّعتُ بقيمتها للمؤسسة نفسها، لكن هذه الجائزة مثَّلَت عندي معنى ربط اسمي ﺑ «ابن رشد» الذي أعتلي أستاذية كرسي باسمه. وهذه الجائزة على الرغم من أنها تأتي من ألمانيا من مفكرين ونُشطاء عرب، فهي تمسح العار الذي لَحِق بقيمة الحرية — حرية البحث العلمي وحرية العقيدة — في عالمنا العربي والإسلامي، الذي لا توجد به جائزةٌ واحدة لحرية الفكر. وألقيت محاضرةً أُشرِك بها الحضور في همومي الفكرية بعنوان «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، عرضتُ فكرتي عن الطريق للخروج من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب.

انخرطتُ في مشروع كتابة دراسة ﻟ «حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، تحليل نقدي تاريخي»، واعتمدت على القسم الثاني من محاضرتي لكرسي «ابن رشد» بتشجيع ودعم الجامعة، وتعاونَت معي دكتورة «كاتاجان أمير بور» في الفكر الإيراني، ودكتور «محمد نور كوليس سيتوان» في الفكر الإسلامي الإندونيسي. والسؤال الذي يشغلني هو: إلى أي مدًى انخرط الإصلاحيون في تجديد الفكر الإسلامي انخراطًا حقيقيًّا؟ وهل استطاعوا تحدِّيَ الصورة السلبية للغرب، والتي يرفعها التقليديون؟ فمنذ القرن الثامن عشر الميلادي وحركةُ الإحياء الإسلامي في الهند على يد «شاه ولي الله الدهلوي» (١١١٢ﻫ/١٧۰۲م–١١٧٤ﻫ/١٧٦٢م)، و«محمد بن عبد الوهاب» (١١١۳ﻫ/١٧٠۳م–١٢٠٤ﻫ/١٧٩١م) في نجد، قبل المرحلة الاستعمارية، وهي محاولة إحياء وإعادة للتقاليد من أجل الوحدة والاستقرار والتضامن، وحاوَل كلٌّ منهما استدعاء سلطة سياسية، وسلطة الفقه لإصلاح حال الأمة. لكن لاختلاف مجتمع المسلمين في الهند عن المجتمع النجدي في الجزيرة العربية؛ فإن المسحة الصوفية كانت واضحة في الهند، فجاء الإحياء قائمًا على التصوف وعلى الشريعة، وللطبيعة الثقافية الهندوسية والبوذية فقد كان عنده تَداخُل بين «ابن تيمية» الحنبلي (٧٢٨ﻫ/١۳۲٨م) و«ابن عربي» (٦۳٨ﻫ/١۲٤۰م) الصوفي، لكن الثقافة في نجد قائمة على التقاليد والأعراف القبلية، فكان الإحياء قائمًا على «ابن تيمية» فقط.

في القرن التاسع عشر مع الاحتلال الغربي المباشر، تناولتُ «سيد أحمد خان» (١۲۳١ﻫ/١٨١٧م–١۳١۳ﻫ/١٨٩٧م) في الهند، «ورفاعة الطهطاوي» (١۲١٤ﻫ/١٨۰١م– ١۲٨٩ﻫ/١٨٧۳م) في مصر، و«أحمد فارس الشدياق» (١۲١٧ﻫ/١٨۰٤م–١۳۰۳ﻫ/١٨٨٧م) في سوريا، و«جمال الدين الأفغاني» (١۲٥۲ﻫ/١٨۳٨م–١۳١۳ﻫ/١٨٩٧م)، و«عبد الرحمن الكواكبي» (١۲٦٤ﻫ/١٨٤٩م–١۳١٨ﻫ/١٩٠٢م) في سوريا، و«محمد عبده» في مصر (١٢٦٤ﻫ/١٨٤٩م–١۳۲١ﻫ/١٩۰٥م). أصبح السؤال هو: لماذا تقدَّم الغرب وتأخَّرنا؟ كانت الاكتشافات العلمية من ناحية، والتقدم التكنولوجي مُتمثِّلًا في الأسلحة الحديثة من ناحيةٍ أخرى، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ الغرب كتحدٍّ سياسي؛ فأعادوا التفكير في السنة ونقد الأحاديث ونشأة تفاسير جديدة للقرآن؛ فوضع «سيد أحمد خان ومحمد عبده» الأرضية لمفكرين في القرن العشرين لفتح المعنى القرآني؛ فكان «سيد خان» مهمومًا بتحدِّي العلم الحديث، و«عبده» مُهتمًّا بالعقلانية. وإن كان خط «سيد خان» أوصلنا إلى اتجاه الإعجاز العلمي في القرآن، على أساس احتواء القرآن على كل الحقائق العلمية، فإن «محمد عبده» مهَّد الأرض للاتجاه الأدبي في تفسير القرآن. وكأنَّ حركة الإصلاح تناولَت المصادر الأربعة للشريعة التي وضعها القدماء في القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد، فتمَّ نقد حلقاتها حلقةً حلقة، بدايةً من تقليد اجتهادات السابقين والمذهبية الفقهية، ثم نقد الإجماع، ثم نقد السنة، لكن ظل الاقتراب من القرآن — باستثناء محاولة «محمد عبده» — بعيدًا عن التفكير فيه أو الاقتراب منه.

ركَّزتُ على القرن العشرين؛ قضاياه لا أشخاصه؛ قضايا مثل الشريعة والقانون والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق المرأة وحرية العقيدة وحرية الفكر وحقوق الأقليات وماهية الكتب المُقدَّسة. وعرضتُ لبعض التَّجارِب في مصر وإيران والعراق وفي إندونيسيا، وكيف انتقل التوجه من الإصلاح حتى وصلنا إلى السلفية وظهور الإسلام السياسي في بدايات القرن العشرين، وحركة الخلافة في الهند التي حصلَت على تأييد حزب المؤتمر، حتى إن المهاتما «غاندي» كان عضوًا في اللجنة المركزية للخلافة، وأصدرَت اللجنة بيان الخلافة عام عشرين، حتى ألغى حزب المؤتمر هذه العلاقة ولجنة الخلافة في الهند عام اثنين وعشرين. وعرضتُ لمسألة الدولة الإسلامية وتَسيِيس القرآن، ومسألة الجدل الفكري حول أدبية القرآن، وقضية الإسلام والثقافة. في إندونيسيا، الديمقراطية وحرية التفكير وحقوق الإنسان؛ ونموذج الدولة الإسلامية في إيران. الغرب موجود في هذا الجدل الدائر في العالم الإسلامي بين الإسلام والحداثة، في مصر وتركيا وإندونيسيا والهند وإيران؛ فالغرب الثقافي دفع إلى تبنِّي قِيَم الحرية، أما الغرب السياسي فوقف حائلًا بين تبنِّي قِيَم الحداثة والحرية، بل وُلِدت مقاومة للحداثة، والتي نُظِر إليها على أنها عملية تغريب وجزء من الهيمنة الغربية. ثم عرضتُ لمجموعة من المفكرين بالتحديد في مسألة الإسلام والشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال جهود «محمد أركون» (١٩۲٨–۲۰١۰م) عن إعادة التفكير في الإسلام، و«عبد الله النعيمي» في مسألة الشريعة وحقوق الإنسان، و«رفعت حسن» وآخرين عن التأويلية الأنثوية، وأيضًا «طارق رمضان» عن الإسلام وأوروبا. وكلهم — باستثناء «محمد أركون» — محصورون داخل سؤال الهُويَّة الذي واجَه حركة الإصلاح الإسلامي في اتجاهٍ واحد من اثنَين؛ إما الاتجاه الاعتذاري، وإما الاتجاه السِّجالي.

في القسم الأخير عرضتُ جهدي في مسألة الشريعة كمجهودٍ بشري مُستنتَج من فهم البشر، والمقاصد الكلية للشريعة التي صِيغَت في حفظ النفس والعِرض والمال والعقل والدين. وأرى أن هذه المقاصد مُستقاة من عقوبات الحدود التي وردت في الفقه، فحِفظُ النفس مُرتبط بحد القتل وحد الحرابة، وحفظ العِرض بحد الزنا، وحفظ المال بحد السرقة، وحفظ العقل بحد شرب الخمر، وحفظ الدين بحد الردة. وبالنظر إلى هذه العقوبات نجد أنها لم يأتِ بها الإسلام، بل هي مُستقاة من القانون الروماني ومن التراث اليهودي؛ فهي كانت موجودةً قبل الإسلام. وعرضتُ كيف يمكن الخروج من حالة السِّجال هذه؛ بالخروج من مفهوم النص إلى القرآن كالخطاب أو بالأحرى خطابات، وما تأثير ذلك في قضايا الشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومكانة المرأة. ونُشِر الكتاب، وأتاحَته الجامعة على النت لكل مُستفيد من دراسته.

١٤

لم تنجح فكرة المؤسسة العربية التي حاولنا إقامتها، فلم نجمع غير مليون دولار أُنفقَت في ترجمة وطبع بعض الكتب المُهمَّة، فقرَّرنا حلها. وبدأتُ المشاركة الكتابية باللغة العربية في الشأن العام، فكتبت عن الرقابة وتوابعها في البحث العلمي، وكتبت عن تفكيك الاستبداد هل ممكن، وشاركتُ في مؤتمر بالإسكندرية عن حقوق الإنسان في أبريل ألفَين وستة، وقدَّمتُ به ورقة «من النص إلى الخطاب»، وكتبت سلسلة مقالات في جريدة «المصري اليوم»، مقالًا كل أسبوعَين، عن «العقلانية العمياء والليبرالية العرجاء»، وعن «لبنان والمقاومة»، وكتبت عن «الصراع العربي الإسرائيلي هل هو صراع ديني؟» وعن «أمل دنقل يُغنِّي في الجامعة، متى تستعيد الجامعة «أمل»؟» وكتبت «درس نجيب محفوظ، الأدب مقاومةٌ فكرية»، وتُوفِّي الرجل فكتبتُ «رسالة إلى عم نجيب»، و«ملاحظات حول محاضرة البابا بنديكت السادس عشر»، ومرةً ثانية «عن العقلانية والليبرالية ثانيًا»، ثم كتبت «تجريف التدين وخصاء العقل» في مقالَين، ومقال «أوراق شاهندة مقلد وأسئلة ما يحدث في مصر الآن»، لكن وجدتُ أن هذه المقالات على الرغم من أنها كل أسبوعَين إلا أنها تمتصُّ طاقتي الفكرية، فتوقَّفتُ، ولا أعرف كيف يفعلها أصدقاء لي يكتبون مقالًا كل يوم.

كنت في زيارة إلى مصر، وقد أرسل معي بعض الطلاب المصريين الذين يدرسون معي في هولندا نقودًا لأهاليهم في مصر، وكنا قبل العيد، فآثرتُ أن أُوصِّلها لأهاليهم لعلهم يحتاجون إليها في العيد، فعجَّلتُ بسفري إلى «قحافة». وفي يومي الثاني هناك جاء الخبر أن أخي الذي يَصغرني «محمد» قد سقط، وهرولنا إلى الطبيب، لكن صَعِدت روحه إلى بارئها؛ فلو تأخرت حتى العيد ربما ما رأيت أخي على قدمَيه، فأقمنا العزاء، واستأتُ كثيرًا عندما أدخل العامل ترددات صوت للمُقرئ، فخرجت كلمة «الرحمن» من الميكروفون «الرحمن ن ن ن ن»، فثرتُ عليه وقلت له: «ما هذا الهباب الذي تعمله، اقفل، لسنا في مَلهًى ولا راقصة.» ولم يمرَّ الأربعون حتى سقط أخي الصغير «أسامة»، واحتاج إلى عملية قلب مفتوح.

أقترب من الخامسة والستين؛ سن الخروج على المعاش في هولندا، تلقَّيتُ دعوةً من جامعة «كولومبيا» بنيويورك في نوفمبر ألفين وسبعة لإلقاء محاضرة، ودَعَتني جمعية «ألوان» الثقافية العربية في نيويورك لأُلقيَ محاضرةً في يوم وُصولي، وقد تأخَّرَت الطائرة ساعةً ونصفًا، وكنت مُرهَقًا من فَرقِ التوقيت، لكن ذهبت. كانت القاعة في مقر الجمعية قُرْب «وول ستريت» تعجُّ بالناس. وكان النقاش مُفيدًا، ودعاني صديقي الودود «فكري أندراوس» وبعض الأصدقاء على العشاء بعد المحاضرة، والتقيتُ — من ضِمنهم — ذلك الشابَّ المُهتمَّ بكتاباتي، والذي كلَّمني عنه «فكري». عرَفتُه مباشرةً من سؤاله في الندوة، واتفقنا أن يأتيَني في الفندق في اليوم التالي.

وسألته: جمال، إيه جعلك تهتم بشغلي؟ فقال: «وأنا في التاسعة عشرة كنت مشغولًا بأزمة الفكر العربي، وقرأت عن معظم المشاريع الحضارية، لكن كتابك «مفهوم النص» كان فتحًا كبيرًا لي، يمزج بين الإيمان والعقل. وبعدها بعامٍ حين نشر الأستاذ «محمد حربي» حوارًا معك في الصفحة الثقافية في الأهرام، في سلسلة مفكر مصري جديد، في نهاية مايو سنة إحدى وتسعين؛ في هذا اليوم فتحتُ دوسيه وكتبتُ عليه «نصر حامد أبو زيد»، ووضعت فيه الحوار بجزأيه «وبدأت أترصَّد كتاباتك في المجلات» «وكتبك»، فجمَعتُ كل ما أمكنني، وحينما حدثت القضية عِشتها بتفاصيلها على صفحات الأهرام وروز اليوسف، الشعب، والتي جمعتُها في مِلفَّات، بصراحة ملفك كبر جدًّا يا دكتور، وقد جمعت كل كتبك في طبعاتها الأولى. وحينما اشتدَّت الأزمة احترمت فيك اختيارك أن من حق الناس أن تعرف في وجه من أرادوا أن تنحصر داخل الجامعة كقضية ترقية.» ثم سألني: «دكتور نصر، ما بين عام اثنين وتسعين وكتابتك لمقال مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق، احتفالًا بمرور مائة عام على مجلة «الهلال» القاهرية، وتحليلك لمشروع النهضة وأزمته، وبين محاضرتك أمس باللغة الإنجليزية عن مشروعك الذي أنجزتَه لدراسة مشروع تيَّار الإصلاح في العالم الإسلامي، ما بين اثنين وتسعين وألفين وسبعة خمسةَ عشر عامًا، التغيرات التي حدثت في منهج الباحث وأدواته وعدسته البحثية، الجانب الداخلي للمفكر؟»

فقلت: على مستوى مشروع النهضة، أعتقد أن مقال سنة اثنتَين وتسعين، كان بداية الوعي بضرورة نقد مشروع النهضة من الناحية الفكرية. ما حدث بعدها أن العدسة اتَّسعت، أستطيع أن أرى مشروع النهضة على مستوى العالم الإسلامي كله؛ في الهند وجنوب شرق آسيا، في إيران وإندونيسيا، وفي أوروبا. السؤال باستمرار هو: ما مُعوِّقات مشروع النهضة من الناحية الفكرية؟ فيه طبعًا مُعوِّقاتٌ سياسية واجتماعية ومُعوِّقات كثيرة، لكني مشغول بالمُعوِّق الفكري. ليه العجز عن إنتاج وعي علمي بالتراث؟ وهنا حدث تطورٌ أني أدركت أنه بالفعل تم مناقشة جميع الأمور تقريبًا، وكثير منها أصبح محسومًا. وأنا هنا أتحدَّث عن الخطاب الثقافي وليس الخطاب الإعلامي؛ ﻓ «محمد حسين هيكل» مثلًا حاوَل كتابة سيرة النبي من منظورٍ تاريخي، لكن طول الوقت الهاجسُ الدفاعي موجودٌ داخله؛ فالاستشراق كمُعادلٍ فكري للاستعمار يُمثِّل تحديًا، الاستجابة لهذا التحدي أخذ طابعًا اعتذاريًّا، كأن تقول باستمرارٍ إن الإسلام دين المحبة والسلام؛ لأن هناك هجومًا على الإسلام. وهذا ما أُسمِّيه المنهج الاعتذاري؛ فأنت ترد الهجوم. وهناك أيضًا المنهج السجالي مثل أن تقول له: ما أنت كمان دينك فيه عنف، وكذا وكذا. فأنت تُساجِله. السجالية والاعتذارية هما وجهان لحقيقةٍ واحدة، هي أن تَطوُّر المعرفة لا يتم نتيجةً لتطبيق منهج نقدي.

فبدأتُ أُركِّز في مشروع النهضة من عموميَّاته إلى مشروع النهضة في تَعامُله مع القرآن؛ فهناك إنجازاتٌ هائلة عملها مشروع النهضة «محمد عبده، والشيخ أمين الخولي، محمد أحمد خلف الله» في تعاملهم مع القرآن؛ هذه الإنجازات مبنية على الأساس اللاهوتي التقليدي باستثناء «محمد عبده»، في محاولة تَبنِّيه مفهوم المعتزلة في خلق القرآن في الطبعة الأولى من كتابه «رسالة التوحيد»؛ فهناك دائمًا خطورة في تناول هذه القضية، هذه الخطورة ما تزال موجودة، ما يزال مفهوم أن القرآن كلام الله الأزلي القديم مفهومًا لم يتم إعادة النظر والتفكير فيه؛ وبالتالي فكل محاولات التفسير تظلُّ مبنيةً على نوع من حسن النية، لا منهج نافذ، فيمكن الالتفاف حولها والعودة للتفسير القديم، بدليل أننا في القرن الواحد والعشرين نُناقِش نفس القضايا؛ المرأة، الزواج، الطلاق، ودخلنا في الحجاب والنقاب؛ يعني مشكلات كنا ظننَّا أنها قد أصبحت في عداد الماضي؛ مما يعني أن الخطاب الإصلاحي في مجال التفسير والتأويل قد حقَّق هذا الإنجاز، ولكن ليس على أساسٍ منهجي صامد. فأصبح السؤال عندي: كيف نتجاوز هذه الأزمة؟ وأدركت أني أنا في حياتي كلها كنت طرفًا في هذا. يعني محاولة فتح معنى النص القرآني بدون أن يكون انفتاح المعنى مُؤسَّسًا على إعادة صياغة لماهية مفهوم هذا النص، لطبيعة هذا النص؛ لأن محاولة فتح المعنى دون توسيع أفق لفهم هذا الإطار الذي نُسمِّيه القرآن يصبح فتح المعنى معتمدًا على النوايا الحسنة، وعلى ردود الأفعال، ومحاولات تُركِّز على جانب من القرآن وتتجاهل جانبًا آخر، والمسئولية العلمية تتطلب ألا نتجاهل بعدًا من الأبعاد. وهذا ما جعلني في السنوات الأخيرة أن أُعيدَ النظر في المفهوم الذي بدأت العمل به، وهو أن القرآن نص. القرآن كنصٍّ سنظلُّ نخوض المعارك كلها على أرضية النص. يصبح النص — كما قلت في دراستي عن المعتزلة، ودراساتي عن التصوف، وعن حركة الإصلاح الديني، والخطاب الديني المعاصر — إن القرآن أصبح مجالًا للصراع الفكري، يمكن ينطق بما يشاؤه المُفسِّر.

فأصبح السؤال: كيف نخرج من هذه الأزمة؟ السؤال إذا لاحظتَ موجود من سنة تسعين في كتابي «مفهوم النص»؛ أي: كيف نخرج من التأويلات الأيديولوجية للدين؟ فعملي استمرَّ في مجالَين؛ مجال تحليل تاريخ التفسير ودراسة إنجازات عصر النهضة وإخفاقاته في العصر الحديث، والوصول إلى اقتراح حلول؛ هذه الحلول فيما يرتبط بالقرآن هي: ما أزعمه أن القرآن ليس نصًّا، إنما هو مجموعة من الخطابات. وهذا مهم جدًّا حتى نفهم الإمكانات والاختلافات فيه. قاطَعني قائلًا: «ممكن نقف وقفة هنا عند ما هو الفرق بين نص وخطاب؟» فقلت: النص نسقٌ مُتكامِل لغوي، له بناء ومؤلفٌ هو الذي بنى النص وأعاد النظر فيه ليجعله خاليًا من الاختلافات والتناقضات؛ فأدرس المؤلف وأدرس النص نفسه، وأبحث عما يُسمَّى القارئ الضِّمني في النص. الخطاب أكثر تعقيدًا من النص، طبعًا كل مشكلات النص توجد في الخطاب، لكن ليست كل مشكلات الخطاب توجد في النص. الخطاب فيه مُتحدِّث وليس مُؤلِّفًا، ومُخاطَب، والمُخاطَب ممكنٌ أن يكون مخاطبًا مباشرًا، ومخاطبًا غير مباشر. وهناك أيضًا نوع (نمط – مود). الجملة الواحدة خطابيًّا ممكن يكون لها معانٍ كثيرة، كما قال أهل البلاغة؛ لأنهم كانوا يتكلمون عن الخطاب الشفوي. التنغيم يُعطي معانيَ مختلفة؛ فمثلًا: تأكل حاجة حلوة فتقول «الله»؛ هذه لها معنًى، إنك تكون غضبان وتقول «الله» (بحِدَّة) هنا لها معنًى ثانٍ، مع أن الكلمة واحدة في النص، الخطاب يعمل تنغيمات؛ هذه التنغيمات تخلق «مود».

القرآن به أنواع من الخطابات حينما أتعامل معه كنص، لا تلاحظ هذه الخطابات في أماكن مُعيَّنة من التفسير الكلاسيكي. كان فيه وعيٌ جزئي بهذا بأن الأمر في آية من الآيات ليس أمرًا وإنما تهديد، والاستفهام في آية ليس استفهامًا وإنما استفهامٌ بلاغي؛ يعني إنكارًا. ولكن هذا كان على مستوى الجملة. إنجازات علم البلاغة العربية على مستوى الجملة، وليس على مستوًى أوسع؛ مستوى الخطاب. علم تحليل الخطاب يُساعدنا في توسيع هذه المجالات، فنسأل: من المُخاطَب ومن المُخاطَب المباشر والمُخاطَب الضِّمني؟ ومن المُتكلِّم؟ وما مود الخطاب ونوعه؟ هل هو تهديد أو وعيد، أم سجال؟ هل هو تأييد أم رفض، أو هو خطابٌ ابتهالي مِثل آيات سورة «الفاتحة»؟ وأين يبدأ الخطاب وأين ينتهي؟ وبعد ذلك نُعمِل أدوات تحليل النصوص على الوحدات الخطابية؛ وبهذا نخرج من دائرة التأويل والتأويل المضاد؛ لأن النظر إلى القرآن كنص له مركز، فنسعى إلى تحديد مركزية النص، فهل مركز النص القتل والجهاد والحدود، أم إن مركزية النص في الصبر والتسامح وتقبُّل الآخر؟ فمنذ تقسيم المتكلمين أو اللاهوتيين المسلمين القرآن إلى مُحكَم ومُتشابِه، أي واضح وغامض، وتقسيمات الفقهاء إلى ناسخ ومنسوخ، في محاولة لرفع التوتر الذي يتصورونه داخل القرآن بين التنزيه الكامل للذات الإلهية، «ليس كمثله شيء»، وبين التشبيه «يد الله فوق أيديهم»، وحوَّلنا الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية إلى صراعاتٍ نُحارِبها على أرضية القرآن. ولا سبيل للخروج من هذا الضِّيق إلا بالنظر إلى القرآن على أنه مجموعة من الخطابات، وهنا فلكل خطاب مركزيَّتُه.

نُعطي مثالًا يوضح؛ فمثلًا الآية السادسة عشرة من سورة «الإسراء»: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، خصوم المعتزلة من الجبريين قالوا إن الله هو الذي يتصرف في كل شيء، فإذا أراد أن يُهلِك قرية فهو الذي يأمر المُترَفين أن يفسقوا فيُدمِّرها. وهنا واضحٌ معنى القدرية الحتمية. المعتزلة طبعًا ارتبكوا كثيرًا، فقالوا إن «أمَرَ» هنا، ليست من «أمَرَ يأمر»، إنما «أمَرَ» يعني أكثر عددهم، وبكثرة المُترَفين يفسقون. لكنهم بهذا لم يحلُّوا المشكلة؛ لأن ربنا هو الذي أكثر عددهم. وهناك من قال: «أمَرْنا» أي جعلناهم أُمراء. في النهاية، الله هو الذي جعلهم أُمراء. لكن انظر للآية؛ فالمُخاطَب الضِّمني هم مُشرِكو مكة، وذلك في استخدام كلمة «قرية»، و«مود» الخطاب تهديد، ولا يمكن أن يؤخذ أنه يطرح قضيةً لاهوتيةً عقدية عن قدرة الله، بل هو تهديد لأهل مكة في السِّجال الدائر مع دعوة النبي محمد. وعن تَعدُّد الأصوات في القرآن، فالصوت المُقدَّس موجود أحيانًا بصيغة المفرد، إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وموجود بصيغة الجمع، وفي معظم الأحيان بصيغة الغائب، وموجود بصيغة المخاطب في الابتهالات، وضمير المتكلم موجود في القرآن. إذَن أنا عندي نص هنا مُتعدِّد الأصوات؛ صوت المجتمع موجود ليس كنوع من الاقتباس، ولكن كنوع من إعادة الإنتاج. كل اتهامات المشركين وأهل الكتاب التي قالوها ضد محمد موجودة في القرآن. هذا معناه أن هذه البنية بنيةُ خطاب.

السؤال هنا: ألا يجب أن نعود إلى الظاهرة المتداولة؟ الظاهرة التي يُسمِّيها «محمد أركون» الظاهرةُ القرآنية ظاهرةٌ شفاهية، ظاهرةٌ مُكوَّنة من خطابات في سياقاتٍ مختلفة لمُخاطَبين مختلفين، ليس فقط المُخاطَب من مكة والمدينة، لكن حتى داخل مكة في أكثر من مُخاطَبين، وداخل المدينة فيه أكثر من مُخاطَبين، ردود أفعال المخاطبين مُنعكسة في النص. كل هذه الحيوية نفقدها إذا نظرنا للقرآن كنص. أعتقد أن التعامل مع القرآن كخطاب سيَكشف درجةً عالية من الغنى والخصوبة مُفتقَدةً في التعامل مع القرآن كنص، وسيُحرِّر القرآن من كثير من المعاني التي فُرِضت عليه طوال تاريخ التفسير من خلال صراعات سياسية واجتماعية بين الجماعات الإسلامية المختلفة؛ فكشف المعنى في سياقه التاريخي؛ وبالتالي يمكن الوصول إلى: هل هذا المعنى في سياقه التاريخي قادر على مخاطبة العصر الذي نعيش فيه؟ وإلى أي حد؟ أي: ما الصلة بين المعنى التاريخي وبين المغزى المعاصر؟ ولا تُترَك المسألة لمزاج المُفسِّر؛ أي إخضاع القرآن للأيديولوجيا طوال تاريخنا الفكري.

هذا ليس تجزيئًا للقرآن، البعض يتصور أنك تُحوِّل القرآن إلى أشلاء. الدراسة هنا تَجزيءٌ من أجل التحليل. لا تستطيع أن تُحلِّل نصًّا إلا إذا جزَّأتَه إلى أجزائه الطبيعية. المُفسِّر القديم فرَّق ما بين المكي والمدني، وبين الناسخ والمنسوخ. من حقي كباحثٍ حديث أني أرجع إلى هذا السياق بغرض الدراسة، لكني لا أقول يا إخوان رتِّبوا القرآن كما كان مُنزَّلًا، إن محاولات ترتيب سور القرآن محاولاتٌ مشروعة للدراسة وليس للتلاوة في المساجد، لكن التمييز بين دراسة القرآن وتلاوة القرآن — للأسف الشديد — ليس مُدرَكًا في الوعي العام. هذا ما حصل خلال هذه السنوات.

– في دراستك التي كتبتَها سنة اثنتَين وتسعين وصلتَ إلى أن خطاب النهضة مسكون بالآخر الغربي، أنت أقمت الإحدى عشرة سنةً الأخيرة في الغرب؛ فكيف نظرتُك أنت للغرب كباحث بعد خمس عشرة سنة؟

– من البداية تفكَّك مفهوم الغرب، لا توجد حاجة اسمها الغرب تقدر تُصدِر عليه أحكامًا، فيه أوروبا وأمريكا الشمالية، داخل أوروبا الغرب السياسي أم الغرب الثقافي، ليس كتلة واحدة. نفس الأمر بالنسبة للإسلام؛ المسلمون يتشاركون في مجموعة من العقائد والشعائر وراء ذلك، المسلمون شعوب وثقافات مختلفة وجنسيات وأعراق مختلفة. نفس الخطأ الذي يرتكبه بعض المفكرين في الغرب عندما يتكلمون عن العالم الإسلامي باعتباره كتلةً واحدة. المسألة ليست غربًا وشرقًا أكثر مما هي عقليةٌ نقدية أم لا. إدراك هذا التنوع والتعدد فيما يسمى الآخر أولًا. ثانيًا: الآخر ليس خارج الأنا تمامًا. فلم قلت إن مشروع النهضة مسكون بالآخَر. لولا الآخَر ما كان تفكير في النهضة أصلًا. الآخر هو المرآة التي أنظر فيها فتُدرِك الأنا عيوبها، حتى وهو يُهاجمني وأُهاجمه لا توجد الأنا في فراغ؛ فلولا الفكر اليوناني والهندي والإيراني والمصري والفكر القديم كله، ما كنا لنستطيع أن نتكلم عن حضارةٍ إسلامية ولا فلسفةٍ إسلامية، ولولا الفلسفة الإسلامية فما كنا لنقدر أن نتكلم عن النهضة في أوروبا. الفكر الإنساني في حركته التاريخية حضارةٌ تموت، وما يتبقَّى منها يتسرب في الحضارة التي ترثها. الآن نعيش في حضارةٍ واحدة وفيها ثقافات؛ أيُّ ثقافة معزولة تموت.

السؤال الذي يشغلني جدًّا: هل يمكن أن نعمل مصالحةً بين العقلانية والتدين، أو بين العلمانية والروحانية بشكلٍ عام؟ هذه الأسئلة ناتجة من انخراطي في التدريس والاحتكاك برؤى العالم المختلفة من خلال الجامعة؛ جامعة الإنسانيات. إن الرؤى المختلفة للعالم — سواءً لثقافاتٍ يهودية أو مسيحية أو إسلامية، أو نتكلم عن «الهيومانيزم»، أو عن الثقافات الهندية البوذية أو الكونفوشيوسية … إلخ داخل هذه الثقافات على تعددها واختلافها — هو إيمان أو بُعدٌ أعلى وأرقى في علاقة الإنسان بالكون والعالم الذي يعيش فيه؛ فالوعي بالجريمة التي ارتكبها الإنسان في حق البيئة، وإلى أي حد سيُؤثِّر على الإنسان نفسه. إدراك أن الإنسان ليس سيد الكون، وإنما هو جزء من العالم؛ هذا في جوهره فكرٌ ديني، ليس بالمعنى اللاهوتي ولا بالمعنى المؤسساتي، وإنما هو أن الإنسان ليس وحيدًا في هذا العالم، وتربطه وشائج عميقة جدًّا بما هو وراء المنظور تأخذ أشكالًا متعددة. الفن شكل من أشكال التواصل مع هذا المنظور. الشكل الفني محاولة للوصول إلى وحدة العالم والإنسان؛ فمثلًا المجاز في الشعر؛ فالمجاز يربط عالم الإنسان بعالم الحيوان وعالم الطبيعة؛ فحينما نقول إن «واحدة مِثل القمر» احتجتَ إلى شيءٍ طبيعي من أجل الكلام عن الجمال. دا إدراك لصلة بين الكائنات. روحٌ ما تربط هذا العالم، وكلما أدرك الإنسان هذا الترابط أصبح إنسانًا أرقى، وكلما ينكر هذا الترابط ويتصور أنه سيد العالم والمتحكم فيه أو عبد فيه وأشياء أخرى تتحكم فيه تقلُّ مرتبةُ إنسانيَّته. الإنسان يكتسب إنسانيته كلما أدرك هذه الروابط. هذا ما يمكن أن نُسمِّيَه الروحانية، وهي جَذرُ الأديان. والإنسان بطبيعته من حقه أن يعيش في عالمٍ مأنوس، وليس في عالم عدم. هنا العقلانية المُتشدِّدة التي أسميتُها العَرجاء، وأحيانًا أسميتُها الليبرالية العوراء؛ لأنها تستبعد اتجاهاتٍ داخلها؛ فمفاهيم حداثية مثل العقلانية والليبرالية يمكن أن تتحول إلى أديان بالمعنى السلبي لكلمة دين؛ أي تتحول إلى دوجما. المسألة هي الصلح بين العقلانية والدينية، بين العلمانية والإيمانية؛ فالعلمانية التي تستبعد الروحانية هي بالضبط مثل الروحانية التي تستبعد العلمانية.

مشغول بهذه القضية جدًّا جدًّا، ورائدي فيها «ابن رشد». أنا في وقت من الأوقات كتبتُ عن «ابن رشد» أنه تلفيقي. وبعض الناس قالوا عنه إنه كان نصَّابًا. لكنَّ «ابن رشد» كان له ثلاث مسئوليات؛ فيلسوف وطبيب وقاضٍ، وهذه ثلاث مَهامَّ صعبة جدًّا. القاضي يحكم في مصائر الناس، والطبيب يُعالِج أجسادهم، والفيلسوف يُحاوِل أن يَنظُر لهذا كله. مسئوليةٌ باهظة، غير أن تكون فيلسوفًا فقط أو قاضيًا أو طبيبًا فقط. وهذا أرجعني إلى مسئولية المُفكِّر. فتحُ باب الحوار مع الإنسان العادي يشغلني جدًّا، جدًّا الآن. في مناسباتٍ كثيرة أقول حاجاتٍ يبدو أنها تجرح شعور المؤمن العادي، وليس عندي أية نية أن أجرح شعوره. أنا أريد فتح أُفُقه من خلال إيمانه وليس من خارج الإيمان؛ فالإيمان انفتاح وليس انغلاقًا؛ انفتاح الإنسان على عوالم خارجه. حين يؤمن الإنسان فهو لا يؤمن بشيءٍ داخله فقط، ولكن داخله وخارجه. هذا كله أُجري فيه حوارات مع تلاميذي وهم ليسوا مسلمين، وهو حوارٌ مُثمِر جدًّا، جدًّا. فهذا سؤال لا يهم المسلمين فقط، ولكن يهم العالم كله؛ فالعقلانية الأوروبية في فترة من الفترات كانت نوعًا من البتر ضد الكنيسة، ضد الغيبيات، ضد الدين؛ وضعَت الدين كله في سلة الغيبيات، ووضعت الغيبيات كلها في سلة الأوهام والأساطير. الآن نحن نعود إلى أن الأسطورة ليست أوهامًا وخرافات، بل هي تعبيرٌ رمزي عن وعي. كل هذا ينعكس على قراءتي للقرآن؛ فهي ليست قراءةً مُغلَقة، بل قراءةٌ مفتوحة.

الفكر يُحاوِل باستمرارٍ أن يسموَ بالواقع، لكن الواقع أحيانًا يجذب المُفكِّر إلى الأرض، وهذا التوتر هو نفس التوتر بين العقل والايمان. الإنسان الواضح تمامًا هو ذو «روبوت»؛ الغموض جزءٌ من نسيج الوعي. لا بد أحيانًا أن نحتفل بالغموض. الإيمان بالغيب هو إيمان بأن هناك أسئلةً ليس عندك إجابةٌ واضحة تمامًا عليها، فتتركها في الغموض أو تُحاوِل أن تبحث عنها، كونك في هذا الغموض هذا هو الإيمان. كلنا سنموت، الموت شيءٌ مجهول ومُظلِم، ولكنك تعيش هذا المجهول أو تتوقَّعه، أو تتعايش مع احتمال أنه سيَزورك ذات يوم ويطرق بابك. وعظمة الإنسان أنه عايشٌ هذه الحالة. المُلحِد يُريح نفسه حتى يصل إلى الوضوح فيقطع على نفسه حالة الغنى الغامضة هذه. المؤمن المُنغلِق أيضًا يفتح على نفسه باب الخُرافة. أنا رأيي أن الإيمان الحقيقيَّ هو الذي يعيش حالة الغموض هذه ويحتفي بها. العلم يُحاوِل أن يحلَّ كل هذه المشاكل، لكن يظل العلم كلما يتقدم يترك مساحة المجهول أوسع. هنا الإيمان والمعرفة معًا ليسوا مُتناقضَين. وعلى المستوى الشخصي، هذا ما يجعلني أحتفي جدًّا بالفن وأستمع إلى الموسيقى وأزور المتاحف؛ لأن هذا جزء من إمكانية الفن أن يُجيب لك عن بعض الغموض أو يُعمِّق لك بعض أوجُهه. وعندما تقرأ القرآن تستمتع بالخطاب القرآني، وتدخل إلى عوالم يفتحها بشعريته وغموضه أكثر مما تُحاوِل أن تُفسِّر هذا الغموض. وكنت في شبابي من المُتحمِّسين إلى إزالة هذا الغموض، كما فعل المعتزلة، لكني أقول لا، مَهمَّتي كمُفسِّر أن أكشف للقارئ غِنى هذه الاستعارات أكثرَ من أن أقول له هذه معناها كذا وليس كذا؛ لأن الحقيقة ليس لها معنًى واحد، بل لها أكثر من معنًى؛ فالآية العاشرة من سورة «الفتح»: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، المعتزلة قالوا يد الله تعني قدرة الله. وهذا تبسيط للمعنى فظيع. الآية تقول: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ. هنا مُهمٌّ تحديد الخطاب، المُخاطَب هنا محمد، لكن المُخاطَبين المباشرين الذين بايَعوه، والبيعة بوضع يد على يد؛ فلا تستطيع أن تفصلها باعتبارها القدرة تكون سخريةً من المُبايِعين، لكن اليد التي تُبايع ليست يدًا تُمارس سلطةً بل يدٌ تتعاون؛ فالاستعارة هنا لا يمكنك أن تحلَّها بأنها معنًى مجرد لاهوتي. الغنى هنا هو غنى الموقف والمُخاطَب الأول؛ لأنه كانت أول مرة بعد معاناة الرسول في مكة يجد أنصارًا يُبايعونه على أن يحموه بحياتهم قبل أن يُهاجِر. لا يمكن أن تُفسَّر هنا بمعنى القدرة فقط، وإلا يكون معنًى فقيرًا جدًّا.

– بالنسبة لفكرتك أو مشروعك عن تفسير القرآن ومقارباتك الماضية؛ فقد أصَّلتَ فكريًّا من ناحية المنهج وطريقة التناول، لكن المقاربة للكتاب ككلٍّ، للنسيج ككلٍّ في عملٍ مُتكامِل؟

– أنا أعتقد أن هناك تحديًا في المقاربة، ومُتوقِّع أن أصل للحل من خلال الممارسة نفسها. عندنا بِنْيتان للقرآن: البنية التاريخية — حسب النزول في التاريخ — وبنية المصحف. ولا أستطيع أن أُفضِّل بِنْية على الأخرى في عملٍ كبير للتفسير، لماذا؟ لأن القرآن الذي أثَّر في الحياة وشكَّل الثقافات الإسلامية عبر القرون هو القرآن بالشكل والترتيب المكتوب في المصحف، فلا تستطيع أن تُهمِل هذا التراكم التاريخي وتقول سأرجع للظاهرة القرآنية فقط. الرجوع للظاهرة القرآنية مهم، لكن القضية هي كيف تدرس الظاهرة القرآنية في بُعدَيها التاريخي والآني. هذا هو التحدي؛ أن أُحاوِل بيان الجزئيات، لكن في نفس الوقت أضع هذا الجزء من الخطاب في سياق الكل القرآني، وهذا هو التحدي الذي لا أستطيع حله، لكن مُتوقع من خلال عملي في التفسير نفسه أن أصل لحلول فيه. وبهذا الشكل نُقارِب حل مشكلة التاريخي والكلي، التجزيئي والكلي؛ لأنه في النهاية القرآنُ فيه رؤية للعالم، لكنها رؤية لا تستطيع أن تصل إليها من خلالِ بُعدٍ واحد من البُعدَين؛ لا بد أن تربط البُعدَين بعضهما ببعض. إذا نظرتَ فقط للبعد التاريخي فلن تصل إلى رؤية للعالم، ستصل لرُؤًى للعالم. وإذا نظرت إلى البعد الكلي فقط ستصل إلى رؤية للعالم إلى حدٍّ كبير عامة، وإلى حدٍّ كبير أيديولوجيتك مُتدخِّلة فيها. أنا مُدرِكٌ حجم التحدي، لكن على الأقل أكون عملت خطوة، فتحت الباب لنقاشات. دع جانبًا من سيرفض تمامًا وسيقول هذا كفر، أو من يقبل تمامًا. أنت تحتاج إلى من سيأخذ هذا مأخذ الجد، لا القبول المُطلَق ولا الرفض المُطلَق، كما أخذ المسلمون الأوائل تحديات المسيحيين مأخذ الجِد؛ وبالتالي انخرَطوا في إنتاج معرفة، فيه تحدياتٌ كثيرة في الدراسات الإسلامية والقرآنية، نحن الباحثين المسلمين نخاف أن نقترب منها، وأنا أرى أن هذا الخوف تعبير عن انعدام الثقة في النفس، والخوف من الخطأ، وكلاهما لا يجعلك فاعلًا. وقد حان الأوان ألا نترك المجال لغيرنا ونظل نتفرج فقط؛ نرفض أو نقبل. لقد حان الأوان أن ننخرط في إنتاج معرفة خاصة بالتراث الذي ننتمي إليه، ومن حقِّنا أن نفهمه وأن نُناقِشه وننقده ونُعدِّله … إلخ. مشروع التفسير سيكون مُركَّبًا جدًّا، سآخذ القارئ في رحلة قراءة للقرآن في سياقه التاريخي وفي بنيته الحالية في الدلالات التي يُشعُّها.

– جهودك النقدية — وأنا كقارئ لست مُتخصِّصًا في علم تحليل الخطاب (وتمهَّلَ «جمال» في الكلام) — مجرد مقدمة، لكن التفسير سيجعلك تُركِّز الأفكار.

– أنت عندك حق، دا كلام «مظبوط»، وهو أنه طول الوقت وكأننا نعمل «وصفة» للطبخ. أطبخ «بقى». نعم أنا تكلَّمتُ عن المنهج والمقدمات، نص وخطاب، كلها لا بأس بها، لكن خذ المفهوم الذي وصلتَ إليه وقدِّم للقارئ وجبة. وأنا حاسس أني أقدر أعمل هذا، لكن لن يكون عملًا كاملًا، لكن على الأقل أستطيع وضع الخطوط العريضة، وعندي إجاباتٌ كثيرة لكل الآيات الإشكالية التي وقف عندها المُفسِّرون. أنا أرى لها حلولًا لو طبَّقنا منهج تحليل الخطاب. وهذا ليس تبسيطًا، والقرآن ليس كتابًا في اللاهوت، اللاهوت في القرآن على درجة من الغموض عالية جدًّا لذيذة جدًّا؛ ولهذا أصبحت أحتفي بالغموض. فكيف لك أن تتخيل إلهًا لا يتكلم ولا يغضب ولا يحب، وليس له يدٌ يرعى بها ولا يبطش؟ هل يمكن تَخيُّل إله تخيلًا مجردًا؟ المُحرِّك الأول مثلًا عند «أرسطو»، أو «العقل الفعَّال» عند الفلاسفة، هذا إله لا يصلح للإيمان، إنه إلهٌ يصلح للتفكير. القرآن يُقدِّم إلهًا للتفكير وإلهًا للإيمان بالطريقة التي أدركها المتصوفة؛ ﻓ «ابن عربي» حينما يقف عند «ليس كمثله شيء» يقول: هي آية تنفي التشبيه لكن بها تشبيه، إنه جعله شيئًا وليس ككل الأشياء. إدراك المُتصوِّف هذه الدرجة العالية من الغموض والاختلاط واحتفاؤه بها، هو ما يميزه. إنه عالَم من الغموض. هذا ما أودُّ عمله وبلغةٍ سهلة طبعًا ليس بها الأُسس النظرية. وأكتب من غير عجمة المصطلحات. أصبحَت الأمور واضحةً في ذهني.

حل عليَّ التعب، فلاحظ جمال هذا، وقال مُشيرًا إلى جهاز التسجيل الديجيتال الصغير في يده يمكننا أن نأتيَ لك بجهاز كهذا، وكل محاضرة أو لقاء صحفي أو تليفزيوني تُسجِّله وتُرسِّله لي كمِلفٍّ على النت لتكوين أرشيف صوتي لأفكاري، ووعدته بإرسال نسخة من تسجيلات «شريفة مجدي ونافيد كرماني» عندي، بصوتي عن حياتي، وتسجيلات مناقشات الماجستير والدكتوراه. وعرض عليَّ أنه سيُنشئ مُدوَّنة على النت باسم «رواق نصر أبو زيد».

١٥

أعمل بطاقةٍ كبيرة، ولكن الكتابة لا تُسعفني، ظهرتُ على شاشات التليفزيون بمصر والفضائيات العربية، ونشرَت مجلة «الديمقراطية» بالقاهرة مقالتي عن «الفزع من التأويل العصري للإسلام»، في عدد شتاء ألفَين وثمانية. وقرَّرتُ أن أصرف النظر عن التدريس بجامعة «كولومبيا»، وأقبلُ التعاون مع جمعيات في إندونيسيا، وأُقدِّم دورةً تدريبية لمدة ستة أسابيع لمجموعةٍ كبيرة من طلبة الدكتوراه عن الدراسات القرآنية بالتعاون مع جمعياتٍ هولندية. وشارَكني العزيز د. «علي مبروك» الذي عانى مشكلة منع ترقيته ثلاث مرَّات بقسم الفلسفة في جامعتي الحبيبة. كانت الدورة ستة أسابيع من المتعة والعصف الذهني، خصوصًا حواراتي أنا و«علي»، خصَّصنا كل يوم لعلم من علوم القرآن وعلم الكلام والفلسفة. محاضراتي وحواراتي الخِصبة في المساء مع «علي» وقد اقتربنا بعضنا من بعضٍ أكثر، وتجدَّدت فكرة عمل شيء مشترك عن «الشافعي». وبعد الدورة أخذت أنا و«ابتهال» يومَين إجازة في سحر الجُزر الإندونيسية.

كان عام ألفَين وثمانية حافلًا، فدُعيتُ لإلقاء محاضرة الربيع من مؤسسة «المورد» في بيروت والقاهرة، وألقيتُ أول محاضرة كبيرة عامة لي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعد تَعذُّر إيجاد قاعة للمحاضرة. كانت الجموع حاشدة، واخترت موضوع «الفن وخطاب التحريم»؛ خطاب التحريم ليس الديني فقط، بل التحريم بكل أنواعه السياسي والاجتماعي والديني، ولماذا يُجابِه هذا الخطاب الفن؟ ودَعَتني مكتبة الإسكندرية لأُلقيَ أربع محاضرات كباحثٍ مُقيم. وبالفعل ألقيتُ المحاضرات بدايةً من السابع عشر من ديسمبر حتى اليوم الثلاثين، ضمَّنتُها أربع مراحل من تفكيري في الظاهرة القرآنية؛ فمن تأويل المُتكلِّمين في المحاضرة الأولى إلى تأويل البلاغيين والتأويل الصوفي، وكان الأمر يحتاج إلى محاضرةٍ خامسة عن جهودي لدراسة التفاسير في العصر الحديث. وفي المحاضرة الأخيرة أشركتُ الجمهور في همومي وفي مطبخي الفكري الذي أعيش فيه، من النص إلى الخطاب. ثم محاضرة في الجمعية الفلسفية في آخر يوم من زيارتي، وكانت عن الجدل اللاهوتي الإسلامي المسيحي ودوره في نشأة علم الكلام، أو اللاهوت الإسلامي.

دُعيتُ من جامعة «نوتردام» الأمريكية أن أُلقيَ محاضرة الافتتاح لمؤتمر عن «السياق التاريخي للقرآن» في أبريل ألفَين وتسعة. والسؤال: لماذا لم يُرتَّب القرآن في المصحف حسب ترتيب النزول تاريخيًّا؟ وقد تأمَّلتُ ترتيب القرآن حسب النزول، فوجدته سيصبح وكأنه عملية تأريخ لحياة النبي محمد والمسلمين الأوائل، فهل كان الترتيب الموجود الآن هو محاولة للاختلاف عن ترتيب الإنجيل؟ ربما. وأيضًا لماذا سُمِّي «مصحف» ولم يُسمَّ «كتاب»؟ على الرغم من وصف القرآن لِذاته مرَّاتٍ أنه «كتاب»؟ وعلى الرغم من وعي المفكرين المسلمين الأوائل للمسألة التاريخية في اجتهادهم، خصوصًا الفقهاء، لتحديد الناسخ والمنسوخ؛ لكي تُستنتَج أحكامٌ تضبط حياة المسلمين من القرآن، لكني ركَّزت على القرآن في ترتيبه الحالي؛ ترتيب التلاوة. والسؤال الذي يشغلني منذ محاضرة كرسي «ابن رشد» عام ألفَين وأربعة هو: هل القرآن يحتوي على رؤية للعالم أم لا؟ وإن كان، فما عناصر هذه الرؤية للعالم؟ فعرضتُ لرؤية المتكلمين، أو اللاهوتيين المسلمين، للرؤية القرآنية للعالم. وعرضتُ لرؤية العالم التي حاوَل استخراجَها الفقهاءُ وعلماء أصول الفقه من القرآن، من تقسيم القرآن إلى ناسخ ومنسوخ، ثم سعَوا — بدءًا من «الغزالي» — للوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، والتي لخَّصها الشاطبي في خمسة، وأتصور أنها متصلة بالحدود، فهل الرؤية التي يُقدِّمها الفقهاء يمكن أن تكون الرؤية القرآنية للعالم؟ وعرضت لرؤية الفلاسفة من خلال «ابن رشد». و«ابن رشد» يحتاج إلى دراسةٍ مُتعمِّقة، خصوصًا دراسة التأويلية عنده، وذلك في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وأهمية الغموض ودور عدم اليقين في فهمه، وفي الرؤية التي يُقدِّمها عن الرؤية القرآنية للعالم. واللغة ذاتها تنتقل عبر التاريخ من خلال الغموض؛ فالنص الواضح تمامًا في عصرٍ يسجن في مرحلته التاريخية. ثم الرؤية الصوفية التي تتعامل مع الظاهر والباطن للحقيقة، والحقيقة كالماء، لا شكل ولا لون لها، وتأخذ لون وشكل الكوب. والإشكال أن كلًّا منهم أخذ بعدًا من أبعاد القرآن، ونحن نحتاج إلى الأبعاد جميعها في رؤيةٍ مُتعدِّدة الأبعاد. وإجابتي عن السؤال هي: نعم ولا؛ فالقرآن يحتوي على رؤية للعالم، ولا يحتوي في نفس الوقت؛ فهو يحتوي على رؤية ليست بالمعنى الفلسفي، بل هي رؤية للعالم تتشكل حسب المجتمع المسلم، مثل الماء حينما يحتويه الإناء.

وانخرطتُ في دراسة هذه الرؤى للوصول إلى رؤية العالم في القرآن، واستكملتُ الحوار في الندوة التي أقامتها لي جمعية «ألوان» الثقافية بنيويورك؛ فمصدر تاريخية القرآن هو علوم القرآن المُرتبِطة بالتاريخ، من المكي والمدني والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول … إلخ، ومن اللغة؛ فاللغة كائنٌ حيٌّ يتأثَّر ويُؤثِّر في التاريخ. والفرق بين دراسة المسلمين للقرآن ودراسة الغربيين للقرآن أن المسلمين، على الرغم من إدراكهم للتركيب والبنية والتاريخ، إلا أن مركز جهودهم كان استخراج المعنى؛ معنى الحياة، والمعنى من القرآن الذي يضبط حياة المسلمين، لكن جهود الغربيين لدراسة القرآن كانت بدافع محاولة استيضاح الغامض من الإنجيل بالعودة لدراسة اللغات السامية، وكانت العربية اللغة الحية من هذه اللغات. وفي محاولة تَعلُّم اللغة العربية كانت دراسة القرآن حتى القرنَين الثامن والتاسع عشر، وقيام المستشرق الألماني «تيودور نولدكه» (١٢٥٠ﻫ/١٨۳٦م–١۳٤٧ﻫ/١٩٣۰م)، عن تاريخ القرآن في محاولة للوصول إلى الأصول التوراتية والإنجيلية للقرآن. وفي العقد الأخير بدأ الاهتمام في الغرب بالدراسات السياقية للقرآن. وكل هذا الاهتمام ركَّز على البنية والشكل والتكوين التاريخي للقرآن. فهل يحتوي القرآن على رؤية للعالم؟ هذا هو السؤال الذي يملك عليَّ حياتي.

التقيتُ «فكري أندراوس» و«جمال» الذي بدأ يكتب محاضراتي العربية المُسجَّلة، وأصبح رواق «نصر أبو زيد» الذي يضع عليه كتاباتي وأخباري مُلتقًى لمُهتمِّين بأفكاري. كتبتُ مقالةً بالإنجليزية نُشِرت في مايو، على أنَّ تصرفات «طالبان» وقانونهم ليس قانونًا قرآنيًّا بقدرِ ما هي تقاليد قبلية. وألقيتُ في هولندا محاضرةً لجمعية من العراقيين المهاجرين إلى هولندا عن الفكر الإسلامي الذي دخلنا به إلى القرن السادس عشر الميلادي وطبيعته ومُكوِّناته. أصبح حُلمُ حياتي قريبَ المنال؛ حلم وجود مؤسسة في العالم الإسلامي تكون مدرسةً ومعهدًا لدراسة القرآن؛ فكل جامعاتنا الإسلامية على طول وعرض العالم الإسلامي، هي مدارس لتعليم الدين وللوعظ، وليست للدراسة والبحث في القرآن؛ فبالتَّعاون مع مؤسسة نهضة العلماء التي يرأسها «عبد الرحمن وحيد» رئيس إندونيسيا السابق، ومؤسسة الليبرالية للجميع، سنُنشئ هذا المعهد العلمي، وسأتولَّى الإدارة الفكرية والبحثية فيه بالتعاون مع «علي مبروك»، وجهوده الكبيرة في دراسة العقيدة. وأتى مدير المؤسسة إلى القاهرة، وجلسنا في جلسات عمل طويلة نضع الأُسس الفكرية والأكاديمية للمعهد العالمي للدراسات القرآنية، الذي سيكون مجلس أُمنائه من باحثين من كل العالم الإسلامي، من العالم العربي ومن إيران وجنوب شرق آسيا، وسنبدأ الدورة الأكاديمية الجديدة في إندونيسيا هذا الصيف مع أربعين من حاملي رسائل الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.

طلبتُ من «جابر عصفور» أن نجمع كل المحلاوية بزوجاتنا وأولادهم، وكان لقاءً جميلًا استعَدْنا فيه ذكريات شبابنا الجميلة ومناكفاتنا الفكرية. كتبتُ مجموعة من المقالات للمجلة الإلكترونية «الأوان»، بدأت نشرها في الخامس والعشرين من أكتوبر من البدايات إلى تحليل الخطاب، ومن العقل إلى النقل، وشعار النهضة وشعارات الأزمة؛ ثم كتبتُ عن علاقة المُثقَّف بالسلطة. وكان عندي محاضرتان سوف أُلقيهما بالكويت في ديسمبر ألفَين وتسعة، ودبَّت مشكلة لا لزوم لها، ورضخَت الحكومة لضغوط السلفيين في مجلس الأمة الكويتي، وتعرَّضتُ لقلة ذوق بإعادتي من مطار الكويت بعد وُصولي؛ فمن سعَوا لمنعي من الدخول يعيشون في العصور الوسطى، فعدتُ إلى القاهرة، وألقيتُ المحاضرة نفسها للمجتمعين ولمن انضمَّ إليهم بسبب الضجَّة بالتليفون، وسمع الناس المحاضرة، بل وخرجت إلى الإعلام وعلَّقتُ على ما جرى داخل مقر نقابة الصحفيين المصرية، وكتبت تعليقًا على ما حدث نُشِر في «الأوان»، وفي كل وسائل الإعلام.

حاصَرني الموت بوفاة صديقي المرح الشاعر «محمد صالح»، وكتبت: «يا محمد مش إنت لوحدك اللي تعبت.» وكتبت في «المصري اليوم» خواطر بين عامَين. في هولندا، أتت «إيستر نيلسون» من أمريكا بعد كتابنا معًا عن حياتي، صوت المنفى، عام ألفَين وأربعة؛ لكي نُعدَّ كتابًا جديدًا باللغة الإنجليزية، وتقضيَ أسبوعًا تُسجِّل فيه حواراتنا، ثم تعود وتكتب النص. وأتصوَّر أن تكون النقاط الرئيسية للكتاب فترةَ ما قبل القرآن، ثم فترة نزول القرآن، ويليها فترةُ ما بعد نزول القرآن حتى العصر الحديث، ثم عصرنا الحديث حتى الآن. وفترة ما قبل القرآن نتحرَّك فيها من الماكرو؛ أي الجزيرة العربية في العالم، ثم الحجاز ومكة في جزيرة العرب. وفي فترة القرآن تتعامل مع القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عامًا، حتى وفاة النبي محمد. ثم الفترة التالية من وفاة النبي إلى بدايات العصر الحديث عند المسلمين في القرن الثامن عشر، ثم عصرنا الحديث بمراحله حتى لحظتنا الراهنة، التي تُعدُّ حادثة الحادي عشر من سبتمبر نقطةً مَفصِلية؛ فبعدها ازداد الاهتمام بدراسة الإسلام، ولكن في نفس الوقت ازداد الرفض للمسلمين، خصوصًا من يعيش منهم في الغرب، وكأن الإسلام وُضِع خلف القُضبان بعد الحادي عشر من سبتمبر، وعليه أن يُدافِع عن ذاته.

زرتُ لبنان، والتقيتُ ناشري وصديقي «حسن ياغي»، وأعطيته بعض الأوراق، وعرضت عليه ما أفكر في عمله من ترجمة للموسوعة القرآنية التي كنت من المُشرِفين على تحريرها في جامعة «لايدن»، وقد استطعت تقريبًا إيجاد من يُموِّل ترجمتها إلى اللغة العربية، وعرضت عليه البدء في مشروع تفسيري للقرآن بكتابٍ أوَّلي أعرض فيه نقدًا للتفاسير السابقة، وأعرض نماذج من التفسير، وكيف يمكن التعامل مع القرآن. وقمت ببعض الأنشطة من مقابلاتٍ تلفزيونية ومحاضرات. ونشرَت مجلة «الأوان» الإلكترونية أربع مقالات في شهر أبريل عن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، كتبت فيها عن «الخوف على الثوابت والقطعيات»، وعن «الحجاب والنقاب»، وعن «الفزع من العلمانية، فصل الدين عن الدولة»، ثم سافرت إلى إيطاليا لإلقاء محاضرتَين، ومنها في شهر مايو مباشرةً إلى إندونيسيا، لألتقيَ «علي مبروك»، ونبدأ في تنفيذِ ما تناقشنا حوله أكاديميًّا في المعهد العالمي للدراسات القرآنية، مشروع العمر، على أن أعود إلى هولندا في الخامس والعشرين من شهر يونيو، حيث ستحتفل الجامعة بخروجي إلى المعاش، والذي اختارت له الجامعة عنوان «كيف يمكن أن نقدم إسلامًا ذا وجه إنساني؟» كل المسائل قد أصبحت واضحةً أمامي، وعندي إجابات لأسئلةٍ كثيرةٍ مما وقف أمامه القدماء والمُحدَثون في تعاملهم مع القرآن، وأريد أن أضعها على الورق.

السفر إلى إندونيسيا، حيث سألتقي هناك «علي مبروك»، و«ألان تايلور»، و«رافي كرشنا مرثي»؛ فبعد أن وضعنا الأساس الفكري للمعهد الدولي للدراسات القرآنية، سنسعى للتواصل مع المفكرين والباحثين وعلماء الدين الإندونيسيين لطرح الموضوع الفكري عليهم ومناقشته معهم، وعمل مجموعة من المحاضرات خلال الشهر والنصف القادمين. تأخَّرَت رحلتي بسبب سحابة بركانية، فوصلت مُتأخرًا يومًا، لكن وجدتهم هناك. وذهبنا لثلاثة أيَّام إلى أحد مزارع البُن، منطقة لوساري بجاوة الوسطى، خلَّابة الطبيعة؛ للصفاء والاختلاء بالنفس وللتفكير العميق، نسكن في أكواخ بها فريق العمل، أشعر بصفاءٍ غريب واتِّقادٍ ذهني وسماحٍ روحي، حتى إن «رافي» علَّمَنا بعض تمرينات لليوجا؛ فها هو حُلمُ ومشروع عمري تبدأ خطواتُ تحقيقه؛ معهد دولي للدراسات القرآنية، يكون ساحةً للعمل والبحث الأكاديمي بعيدًا عن مجرد التكرار والإعادة بلا إفادة التي تعيش فيها جامعاتنا الدينية في العالم الإسلامي. انتهَت الأيام الثلاثة لنعود إلى فندق جراند حياة بجاكارتا لمزيد من اللقاءات والمحاضرات.

•••

لاحظ «علي مبروك» خلال الفصل الدراسي فتراتٍ طويلةً من الصمت وعدم المشاركة من «نصر»، بعد أن كان دائم النِّقاش خلال الأيام الأولى، ولاحَظ شُروده الطويل، وشعرَ بقلق عليه، فاتَّصَل ﺑ «ابتهال» بالقاهرة، والتي كانت بدأت تُلاحظ بعض التغير في محادثات «نصر» لها. واتَّفقا على أن يعود «نصر» وعلي إلى القاهرة بأقصى سرعة؛ فعادا إلى القاهرة يوم الخميس السادس والعشرين من أبريل. وكان «نصر» حاضر الذهن، وكان في انتظارهم «ابتهال» بالمطار. دخل «نصر أبو زيد» إلى المستشفى في مدينة السادس من أكتوبر، ولم يكن فاقد الوعي، وتم فحصه فحصًا شاملًا، وتم تشخيص المرض بفيروس يُصيب خلايا المخ، وهو مرضٌ عادي، وبدأت تتحسَّن حالته نِسبيًّا، لكنه كان يُعاني منذ فترةٍ طويلة حساسيةً في الصدر، فسبَّبَت خراطيم التغذية نوعًا من الالتهاب الرئوي الذي أدَّى لرحيله، صباح الإثنين الخامس من يوليو عام ألفَين وعشرة، قبل خمسة أيام من عيد ميلاده السابع والستين؛ ليعود إلى قريته «قحافة»، مركز طنطا محافظة الغربية، مرةً أخيرة.

إلى لقاء.

بروكلين، أكتوبر ٢٠١٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤