الفصل الثالث

أَحْكامٌ جائِرَةٌ

(١) السِّنُّ بالسِّنِّ

اِلْتَفَتَ الْوالِي «كَمِيشٌ» إِلَى الْخَصْمِ الثَّانِي.

نَظَرَ إِلَيْهِ مُتَجَهِّمًا. سَأَلَهُ مُتَهَكِّمًا: «وَأَنْتَ الْآخَرُ: ما قِصَّتُكَ؟»

أَخْبَرهُ الرَّجُلُ بِما كانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ الْفَرَّانِ وَصاحِبِ الْوَزَّةِ.

نَظَرَ إِلَيْهِ الْوالِي فِي ازْدِراءٍ واحْتِقارٍ. قالَ لَهُ فِي سُخْرِيَةٍ واسْتِنْكارٍ: «رَجُلانِ اخْتَصَما فِي أَمْرٍ يَعْنِيهِما، وَتَنازَعا فِي قَضِيَّةٍ تَخُصُّهُما، وَلا تَعْنِي سِواهُما. فَما شَأْنُكَ أَنْتَ بِهِما؟ كَيْفَ سَوَّلَتْ (زَيَّنَتْ) لَكَ نَفْسُكَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُما؟ كَيْفَ ارْتَضَيْتَ أَنْ تَتَحَدَّانِي، وَتَغْتَصِبَ سُلْطانِي؟ وَلٰكِنَّ الْحَقَّ أَحَقُّ أَنَّ يُتَّبَعَ، وَأَنا أَوَّلُ مَنْ يَتَّبِعُهُ. سَتَرَى أَنَّنِي لَنْ أُفْلِتَ الْجانِيَ عَلَيْكَ مِنَ الْعِقابِ. لا بُدَّ أَنْ آخُذَ لَكَ بِحَقِّكَ مِنْهُ، كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ. الْفَرَّانُ — فِيما تَقُولُ — أَهْوَى عَلَى صُدْغِكِ بِلَكْمَةٍ واحِدَةٍ؛ أَطارَتْ لَكَ سِنًّا واحِدَةً مِنْ أَسْنانِكَ. إِذَنْ لا بُدَّ أَنْ يَلْقَى الْفَرَّانُ جَزاءَ فَعْلَتِهِ الشَّنْعاءِ. مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَرُدَّ إِلَيْهِ نَفْسَ الِاعْتِداءِ. حَكَمْنا لَكَ أَنْ تَلْكُمَهُ لَكْمَةً واحِدَةً عَلَى صُدْغِهِ، كَما لَكَمَكَ عَلَى صُدْغِكَ لَكْمَةً واحِدَةً؛ عَلَى شَرْطِ أَنْ تُسْقِطَ سِنًّا مِنْ أَسْنانِهِ، تُماثِلُ السِّنَّ الَّتِي أَسْقَطَها لَكَ. وَلٰكِنَّنا لَنْ نُعْفِيَكَ مِنَ الْعِقابِ، إِذا لَمْ تُنَفِّذْ هٰذا الْحُكْمَ كامِلًا: فَإِذا عَجَزْتَ عَنْ إِسْقاطِ مِثْلِ تِلْكَ السِّنِّ الَّتِي أَسْقَطَها لَكَ، أَوْ أَسْقَطْتَ سِنًّا أُخْرَى مِنْ أَسْنَانِهِ، فالْوَيْلُ لَكَ والْهَلاكُ!»

عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ الْقِيامَ بِما يَطْلُبُهُ الْوالِي.

أَعْلَنَ نُزُولَهُ عَنْ حَقِّهِ، مُرْغَمًا صاغِرًا.

تَمَادَى «كَمِيشٌ» فِي تَعَسُّفِهِ وَإِرْهاقِهِ. قالَ: «الرَّحْمَةُ تُوجِبُ عَلَيْنا أَنْ نَتَرَفَّقَ بِكَ. لَنْ نَشْتَطَّ فِي مُحَاسَبَتِكَ. قَبِلْنا نُزُولَكَ عَنْ حَقِّكَ. لٰكِنَّ لِلْعَدالَةِ حُقُوقًا لا سَبِيلَ إِلَى التَّهاوُنِ فِيها، وَعَلَيْنا أَنْ نَصُونَها. لا تَنْسَ أَنَّكَ ﭐغْتَصَبْتَ حَقَّنا، وَانْتَزَعْتَ سُلْطانَنا؛ حِينَ حاوَلْتَ أَنْ تَقْضِيَ بَيْنَ الْمُتَنازِعَيْنِ. لا تَنْسَ أَنَّ هٰذِهِ جَرِيمَةٌ لا سَبِيلَ إِلَى إِعْفائِكَ مِنْ عِقابِها. وَلٰكِنَّنا سَنَكْتَفِي بِتَغْرِيمِكَ عَشَرَةَ دَنانِيرَ.»

(٢) الْخَصْمُ الثَّالِثُ

جاءَ دَوْرُ الْغَرِيمِ الثَّالِثِ الَّذِي قَتَلَ الْفَرَّانُ أَخاهُ.

اِلْتَفَتَ إِلَيْهِ الْوالِي حانِقًا مُغْضَبًا. سَأَلَهُ فِيمَ أَتَى؟

قَصَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ تَفْصِيلَ ما حَدَثَ لَهُ.

تَظاهَرَ الْوالِي بِالْإِصْغاءِ إِلَى حَدِيثِهِ، وَالِاهْتِمامِ بِمَأْساتِهِ.

اِلْتَفَتَ إِلَى الْفَرَّانِ فِي ثَوْرَةٍ مَسْرَحِيَّةٍ جامِحَةٍ. قالَ: «كَلَّا، لَنْ تُفْلِتُ مِنَ الْقِصاصِ، أَيُّها الْجَانِي الْأَثِيمُ. فَإِنَّكَ قَتَلْتَ نَفْسًا بَرِيئَةً بِغَيْرِ حَقٍّ!»

اِلْتَفَتَ الْوالِي إِلَى أَخِي الْقَتِيلِ. قالَ: «اِهْدَأْ نَفْسًا، وَقَرَّ بالًا، لَنْ أُقَصِّرَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي إِنْصافِكَ مِنْ قاتِلِ أَخِيكَ. كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّهُ مُلاقٍ جَزاءَهُ الْعادِلَ. لٰكِنَّ لِي عَتْبًا عَلَى أَخِيكَ. إِنَّهُ — يَرْحَمُهُ اللهُ — أَتَى أَمْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ. إِنَّهُ ارْتَكَبَ — بِهٰذا التَّصَرُّفِ الْأَحْمَقِ — ذَنْبَيْنِ، لا ذَنْبًا واحِدًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اخْتارَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَجْتازَ هٰذا الطَّرِيقَ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَلْقَى الْفَرَّانُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَنْقَذَ بِمَوْتِهِ الْفُجائِيِّ حَياةَ إِنسانٍ غَيْرِ جَدِيرٍ بِالْبَقاءِ. عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَمْ يَعُدْ فِي قُدْرَتِنا أَنْ نُحاسِبَ أَخاكَ عَلَى سُوءِ تَصَرُّفِهِ، بَعْدَ أَنْ آثَرَ الْفِرَارَ إِلَى الدَّارِ الآخِرَةِ. عَلَى أَنَّ فِي قُدْرَتِنا — لِحُسْنِ حَظِّ الْعَدالَةِ وَحَظِّكَ — أَنْ نَنْتَصِفَ لِأَخِيكَ مِنْ قاتِلِهِ. هٰذا واجِبُنا أَمامَ اللهِ، وَلَنْ نَتَهاوَنَ فِي أَدائِهِ. حَكَمْنا لَكَ أَنْ تَصْنَعَ بِالْفَرَّانِ، مِثْلَ ما صَنَعَ بِأَخِيكَ. أَذِنَّا لَكَ فِي أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ، كَما صَعِدَ قاتِلُ أَخِيكَ، ثُمَّ يَقِفَ الْفَرَّانُ — حَيْثُ وَقَفَ أَخُوكَ — ثُمَّ تُلْقِي بِثِقْلِكَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ، فَتَصْرَعَهُ كَما صَرَعَ أَخاكَ.»

اِشْتَدَّ فَزَعُ الشَّاكِي مِمَّا يَطْلُبُهُ الْوالِي مِنْهُ.

لَمْ يَبْقَ أَمامَهُ — مِنْ سَبِيلٍ — إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ تَجاوُزَهُ عَنْ حَقِّهِ.

اِنْبَرَى لَهُ «كَمِيشٌ» قائِلًا: «لا تَنْسَ أَنَّكَ أَغْضَبْتَ الْعَدالَةَ بِتَجاوُزِكَ عَنْ حَقِّ أَخِيكَ الْمَشْرُوعِ، بَعْدَ أَنْ حَكَمْنا لَكَ بِهِ، وَأَصْبَحَ تَنْفِيذُ الْعَدالَةِ واجِبًا عَلَيْكَ. لا تَنْسَ أَنَّ فِرارَكَ مِنْ أَداءِ الْواجِبِ جَرِيمَةٌ لا سَبِيلَ إِلَى إِعْفائِكَ مِنْها. عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ تَقْتَضِينا أَنْ نَتَرَفَّقَ بِكَ. سَنَكْتَفِي — فِي هٰذِهِ الْمَرَّةِ — بِتَغْرِيمِكَ عَشَرةَ دَنانِيرَ، جَزاءً لَكَ عَلَى ما أَظْهَرْتَ مِنْ تَرَدُّدٍ وَخَوْفٍ.»

(٣) هَرَبُ «جُحا»

حِينَ شَهِدْتُ الْوالِيَ، يَجْرِي عَلَى هٰذا النَّحْوِ فِي أَحْكامِهِ الْجائِرَةِ، قُلْتُ لِنَفْسِي: «يَجِبُ عَلَيْكَ يا «جُحا» أَنْ تَتَّعِظَ بِما جَرَى أَمامَ عَيْنَيْكَ، وَما سَمِعْتَهُ بِأُذُنَيْكَ:

صاحِبُ الْوَزَّةِ فَقَدَ وَزَّتَهُ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِغَرامَةٍ!

وَالَّذِي كُسِرَتْ سِنُّهُ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِغَرامَةٍ أَيْضًا!

والرَّجُلُ الَّذِي قُتِلَ أَخُوهُ، لَمْ يَنْجُ هُوَ الْآخَرُ مِنَ الْغَرامَةِ!»

هٰكَذا كانَتْ أَحْكامُ الْوالِي جائِرَةً ظَالِمَةً.

أَيْقَنْتُ أَنِّي لَن أَنالَ عَلَى يَدَيْهِ حَقِّي.

نَظَرْتُ إِلَى حِمارِي الْأَبْتَرِ (الْمَقْطُوعِ الذَّيْلِ)، وَقُلْتُ كَأَنِّي أُخَاطِبُهُ: «لَوْ عَرَضْتُ قَضِيَّتَكَ عَلَى الْوالِي، لَمَا كانَ حُكْمُهُ إِلَّا أَنْ يُغَرِّمَنِي دَنانِيرَ، كَما فَعَلَ مَعَ مَنْ سَبَقُونِي.»

فَرَرْتُ — بِحِمارِي — وَأَنا لا أُصَدِّقُ بِالنَّجاةِ.

قَنِعْتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْهَرَبِ، وَأَنا أَقُولُ:

«شَقِيتُ — إِذْ جِئْتُ هُنَا — شَقِيتُ!

حَسْبِيَ — مِنْ حَظِّيَ — ما لَقِيتُ.

رَضِيتُ قَطْعَ ذَيْلِهِ، رَضِيتُ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤