اتفاق غريب

أطاوع في لادياس الزمان
فيومًا شجاع ويومًا جبان
ويومًا أطاع ويومًا أطيع
ويومًا أعز ويومًا أهان
ويومًا أراني رخي القياد
ويومًا أراني عصي العنان
حلفت لفرعون لا خنته
وقد كان لي ولفرعون شان
ولولاك لم أهو ملك البلاد
ولولاك لم أسل قبل الأوان
يمين لأبريس في ذمتي
وأخرى لكم قبلها في الصيان
وهذي أتتكم بخط الفؤاد
وتلك أَتَتْهُ بخط البنان
فأصبحت إن خنتكم في الهوى
وإن لم أخن عهدكم قيل خان

كانت الأيام على حماس والأشهُر تتعاقب عليه وهو في أعلى مكانة من رضوان الملك، بل هو الركن الأعظم في القصر والواسطة في عقد الحاشية، ترد إلى رأيه الآراء، ولا تردُّ مشيئته إذا شاء، وهو يزيد طاعةً وامتثالًا، كلما زاده الملك قبولًا وإقبالًا.

وكانت فِرَقُ الحرس وهي يومئذٍ يونانية مستأجرة، وهي تكاد تتفانى في حبه من دون الملك، وهو إنما جذبها إليَّ محبة ذكرى وقائعه في بلاد اليونان أولًا، وبحسن معاملته لها وسيبه في راحتها ورفاهتها ثانيًا.

وكان الملكُ قد أنجز حماس ما وعد في الليلة المشئومة، فولَّى كبير الحرس قيادة الجيش الاستعماري في فينيقيا، وجعل مكانه على قيادة الحرس العامة بطل هذه الرواية، فأصبح له بذلك النهيُ والأمر على أكثر من ثلاثين ألفًا من جُنُود الحرس، والإشراف العام على سائر المعسكرات السلطانية في العاصمة.

إلا إن طاعة حماس لمولاه وبلوغه في الولاء، إلى هذا الحد لم يكونا ناشئَين عن خوفٍ ولا رجاء، ولا حب ولا استرضاء، ولكن عن محض تقيد باليمين المعلومة، في الليلة المشئومة؛ بحيث كان يخشى أن تغلبه المطامع على دينه، فيصبح له ولأبرياس شأن، وفي الواقع لم يكن يعوز حماس إلا حادثة تحرك من غرامه ما سكن، وتُثير من آرائه ما كمن، لاسيما إن هي أتت من ساموس.

فبينما هو ذات يوم في نزهته بالمدينة يمشي في الأسواق، ويمر بمعالم الصناعة ومعاملها، ومخازن التجارة وحواصلها، وقف به المشيُ على دكان لرجل ساموسي من باعة الآثار اليونانية، وكان حماس من المولَعين بصنائع اليونان وبدائعِهم، فلبث هنيهةً يتأمل فيما احتوتْه الدكان من ذلك، وكان لابسًا حلته العسكرية اليومية، فعرف البائع منها أنه مِن عظماء الضباط في الجيش، فدنا منه وكلمه همسًا فقال: لقد آل إليَّ أثرٌ مِن أَنْفَس الآثار، لا سيما في نظر عظماء الضباط أمثالك يا مولاي.

قال حماس: وما ذاك.

قال التاجر: إكليل من الغار مما فضل عن كبير الحرس القائد حماس، يوم خرج من مبارزة الأمير بهرام ظافرًا منصورًا.

فما كاد الرجل يستتم حتى اضطرب القائد اضطرابًا بدت عليه دلائلُهُ، إلا أنه استردَّ جأشه فسأل الرجل قائلًا: وأين هذا الإكليل؟

قال الرجل: في منزلي بالقرب من الدكان، فإن أذن مولاي فلينتظرْني هنا لحظةً ريثما أحضره.

قال حماس: على ألا تبطئ عني.

قال الرجل: لا تخف يا مولاي وإني مستبشرٌ بوجودك، ولستَ أول من أقبل عليَّ في هذه الأيام من الأغنياء والسراة العظام بفضل اللوح … نعم اللوح … اللوح الإلهي … اللوح الرازق … اللوح المسعد … اللوح المنجي …

قال هذا وهَمَّ بالذهاب، فمسك حماس بيده وسأله بلسان يتعثَّر من الدهش قائلًا: ما هذا اللوح أيها الرجل … ما حديثه؟

قال الرجل: حديثه غريبٌ يا مولاي، ولكن لا يهمك، فدعني أذهب لأُحضر لك الإكليل.

قال حماس: بل أنا أُحب سماعَه، وربما هَمَّنِي ذلك، فلا تذهبْ حتى تحدثني إياه.

قال الرجل: أعلم يا مولاي أنني قدمت مصر من سنتين تاركًا امرأتي وولدي هذا — وأشار لصَبِيِّه — في ساموس، يتعيشان بها من بيع الآثار، كما أفعل أنا في هذه الديار، حتى إذا اطمأنَّ بي المقام في ساييس، وسكنت إلى طول المعيشة فيها، بعثت إليهما أستقدمُهما، فَقَدِمَا بعد أن أشرفا على الهلاك غرقًا، وكانت نجاتُهُما على اللوح الميمون، وحديث ذلك أن امرأتي مشت ذات مرة على ميدان الهيكل في ساموس، فوجدت في طريقها لوحًا من الخشب فحملتْه، وعادت به إلى المنزل، لتجعله حطبًا لنار الطبخ، قالت فلما هممت بكسره أحسست كأن يدي تخونني، ثم حاولت ذلك مرارًا فلم تطاوعني يدي عليه، فتأملت اللوح فوجدته صالحًا لنوم ابني، وكان يومئذٍ في شدة المرض ففرشته له، فوجد الراحة والعافية عليه.

قال التاجر: ثم أخذ الرزق يتيسر لامرأتي أسبابه والحياة يتسهل محياها، حتى استبشرتْ باللوح فعظُم ظنها به، واشتد حرصها عليه، حتى إذا استقدمتها حملته معها في السفينة التي ركبت فيها للمجيء إلى مصر، فقدر أن السفينة غرقت فهلك جميع من فيها إلا امرأتي وابني، وكانت نجاتهما باللوح وعليه، هذا يا مولاي حديث اللوح، ولا تسل عما شمل أمري من اليمن منذ وجوده في بيتي، فإن الناس يقبلون عليَّ أعظم إقبال، والرزق يأتيني فيربي عليَّ الآمال.

قال حماس: وهل تمكنني من رؤية هذا اللوح؟

قال الرجل: ولم لا يا مولاي؟

قال حماس: إذن فائذنْ لي أن أذهب معك لأراه.

قال الرجل: على الرحب والسعة، فاتبعْني يا مولاي.

فسار التاجر وحماس يتبعُهُ حتى بلغا المنزل، وكان في نهاية الشارع الذي فيه الدكان فدخلاه، وهنالك طلب الرجل من امرأته اللوح ليريه القائد، فأحضرته فتأمله حماس فعرفه من أول وهلة، فأخذه متلهفًا وما زال يضمه ويقبله وعيناه تفيضان من الدمع، حتى رثى الزوجان لحاله، فسأله الرجل عن السبب ملحًّا فالتفت حماس إليه وقال: هل تبيعني هذا اللوح أيها السيد؟

قال التاجر: لا أبيعه ولو أعطيت فيه خزائن الأرض.

قال حماس: ولماذا وما فائدتك منه؟ فإن كان ما تصيب بسببه من الرزق الواسع، فأنا أجزيه لك كل يوم وأزيد، وإن كان …

قال التاجر (مقاطعًا): لا تتعب نفسك يا مولاي، فإني أفي لهذا اللوح كما وفَّى لزوجتي وابني، فلو كان لحياتهما ثمن عندي ما تأخرت عن مساومتك فيه.

فأطرق حماس برأسه هنيهة، وقد أقشعرَّ بدنُهُ واضطرب وجدانُهُ، عندما تذكر يمينه للوح، وما شهد من وفاء التاجر له على حين كان الوفاء منه هو أحرى، ثم رفع عينيه وقال: هَبْ إن كان الراغب فيه صديقكم حماس!

قال التاجر: لقد أشرق البيت بنورك، فأهلًا بك يا مولاي وسهلًا، ولكنني لا أبيعه أحدًا ولو أنه الملك أبرياس.

قال حماس: فإن كان في بيعه خير لبلادك وسعادة لقومك، وملك مصر تنهى فيه أميرتكم لادياس وتأمر.

قال التاجر: إذن فهي حياة أعز عليَّ من حياة امرأتي وولدي الواحد، وأنا في هذا الحال لا أبيعه بيعًا، ولكن أقدمه تقديمًا.

قال حماس: وأنا أطلبه منك على هذا الشرط، ولكني أسألك أولًا: أن تكتم الأمر كل الكتمان، ثانيًا: أن تقبل مني عشرين ألف قطعة من الذهب تأخذ نصفها لك خاصة، وتنفق النصف الآخر في عمل عرش يليق لجلوس الملوك، وتكون قوائمه مصنوعةً من خشب اللوح، ثالثًا: أن تُبقي هذا العرش عندك فلا تقدمه لي إلا إذا علمت أنني في خطر عظيم أو كرب جسيم، قال هذا وناوله قلادةً كانت في جيبه تربي قيمتها على المبلغ الذي وعد به، فتناولها التاجرُ فرحًا مسرورًا، ثم خرج حماس وهو لا يبصر أين يضع القدم من شدة الاندهاش وفرط السرور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤