الفصل الرابع

الفلاسفة والموسوعيون

معنى الفيلسوف وظهور بعض الفلاسفة قبل ابن سينا – الكندي والفارابي – أبو زيد بن سهل البلخي – كتب الفارابي وأثره العلمي والفلسفي – ما بعد الطبيعة عند الفارابي – المدينة الفاضلة – نظرية المعرفة – جماعة إخوان الصفا.

***

ليس لاسم الفيلسوف في الأدب العربي ما له في لغتنا من معنًى عام مبهم، ولم يكن أولئك الذين سماهم العرب «فلاسفةً» نَسْخًا عن اليونانية جميعَ الباحثين عن الحقيقة، ولا جميعَ مديري الفكر والعقلاء والنظريين، فقد دَعَوْا هؤلاء بالحكماء. وأما الفلاسفة — بحصر المعنى — فقد كانوا مُوَاصِلي العنعنات الفلسفية اليونانية المعدودة واحدةً على الخصوص؛ فعند هؤلاء كانت الفلسفة اليونانية صحيحةً صحةَ الوحي، وكانوا يرون أنه يوجد — على البداهة — اتفاق بين الفلسفة والعقيدة، كما بين العلم والدين في نظر المؤمنين في أيامنا.

بيد أن الفلسفة اليونانية كانت تشتمل بالحقيقة، على جملة من الأفكار المركبة المتباينة، وأنه ليس من السهل — دائمًا — أن يُرى، أولَ وهلة، كيف يمكن هذه النظريات أن تلائم علم الكلام الإسلامي؛ ولذا يجب أن تكون إحدى النتائج المهمة لعملنا قائمةً على الإشعار بالمدى الذي حَقَّقَ فيه هؤلاء العلماء ما بين الفلسفة اليونانية والأُرتُدُكسية الإسلامية من الانسجام، وما الحدُّ الذي أخفقوا فيه.

ويُقدِّم الشهرستاني١ قائمةً بأسماء عشرين رجلًا استحقُّوا — في الأدب العربي — لقبَ «الفيلسوف» قبل ظهور ابن سينا، وتُعْرَف في هذه القائمة أسماءٌ رأيناها في فصل المترجمين؛ أي أسماءَ حُنَين بن إسحاق، وثابت بن قرة، ويحيى بن عدي. ولم يكن هؤلاء الحكماء مسلمين، وأشهر المسلمين الذين ذكرهم الشهرستاني مع أولئك اثنان، وهما: يعقوب بن إسحاق الكندي، ومحمد أبو نصر الفارابي. والكندي والفارابي هما العميدان الكبيران اللذان يُهَيْمِن اسماهما على الدور التدريجي للفلسفة العربية الممتد مدى القرنين السابقين لابن سينا.

وعلى ما نال يعقوب بن إسحاق الكندي من شهرة واسعة في الشرق، وعلى ما وَجَدَتْ هذه الشهرة من صَدًى في الغرب، فإننا لا نَعرف عنه غير أمور قليلة كما هو حاصل القول. ولذا فإننا نخشى أن يتعذَّر علينا إعادة صورته إليه مع شيء من القوة.

وقد لُقِّب الكندي بفيلسوف العرب، وهو مَدِين بهذا اللقب لكونه واضعًا سُلالة الفلاسفة لدى المسلمين، ولصفاء أصله العربي، وكان سليل أسرة مشهورة، وكان ينتسب إلى قبيلة كِندة الكبيرة، التي هي من نسل قحطان. ويدلنا تاريخ آله، الذي عُنِيَ به المستشرق فلوغل،٢ على جده السادس — من جهة الأب — آتيًا على رأس سبعين فارسًا في السنة السادسة من الهجرة، كيما يَدخُل في الإسلام؛ فعُدَّ بهذا بين صحابة النبي، وكان آلُ كندة يسكُنون اليمنَ قبل ذلك الزمن، وهاجر أجداد مؤلِّفنا الأَدْنَوْنَ إلى كلدة، وكان أبوه أميرًا على الكوفة في عهد الخليفتين: المهدي والرشيد، وكان جده أميرًا على كثير من المدن، وكانت أملاكه المهمة في البصرة، ويُرَى أن فيلسوفنا وُلد فيها. وذهب الكندي في شبابه إلى بغداد ليدرس فيها، ولا يُعرف على أيِّ الأساتذة تخرَّج، وإنما لا يوجد أي شك في تخرجه على يد معلِّمين من النصارى.
ونعلم من الإشارات القصيرة، التي وردت عن سيرته من قبل القِفْطي وابن أبي أُصَيْبِعة أنه صار بعد ذلك ذا صلة بالخلفاء، ودَخَلَ في خدمتهم مثل أديب، وكان أخصُّ ما نال من منزلة عند المعتصم وعند أحمد بن المعتصم، الذي أهدى إليه كثيرًا من مؤلفاته. وقد صار في أواخر حياته هدفًا لحملات واضطهادات جلبها إليه الحسد والتعصب لا ريب. وقد مَقَتَه الفلكي أبو معشر، ثم صالحه وصار تلميذًا له، ومعجبًا به، وكذلك كاد له أبناء موسى بن شاكر الرياضيون، ويُعْتَقَد أن الوفاة حَضَرَتْه في عهد المعتمد٣ حوالي سنة ٢٦٠.

وكان الكندي مترجمًا مُهِمًّا، وموسوعيًّا منتجًا، يندُر وجودُ من يَعْدِله خصبًا.

وقد جمع فلوغل قائمةً بكتبه، فوُجِد أنها بلغت رقم اﻟ ٢٦٥ الضخمَ، المشتملَ على قسم عظيمٍ من علوم زمنه، وقد تَرْجَمَ الجزء الرابع عشر مما بعد الطبيعة لأرسطو، وشَرَح التحليلات الأولى والثانية، وتلخيص الرسائل السوفسطائية، وكتاب الأبولوجيا المدسوس على أرسطو، ولخَّصَ صناعة الشعر لأرسطو، وصناعة الشعر للإسكندر الأفروديسي، والعبارات، والإيساغوجي لفرفريوس، وألف رسالةً في المقولات.

وتشهد عناوين كتبه على عمله الجبَّار في شرح الكتب اليونانية وتطبيقها، ويمكن أن يُذْهَب إلى أنه لم يألُ جهدًا في استخلاص جوهرها وإيضاحه، وتبسيط مذاهبها، وتنسيق هذه المذاهب. وكان موضوع إحدى رسائله «ترتيب كتب أرسطوطاليس»؛ أي الترتيب الذي يجب أن تُدرس به على ما يَظْهَر.

وقد عُني الكندي بالفلسفة السياسية؛ فألف نظريةً في الأعداد التوافقية، التي ذكرها أفلاطون في كتاب السياسة، وكان الكندي جدليًّا ماهرًا، وبهذا تُفَسَّر كثرة أعدائه أيضًا.

ويُعدُّ عمله العلمي — على الخصوص — من الأهمية بمكان، ويُخمَّن أنه ترجم كتاب جغرافيةَ بطليموس، الذي كانت توجد له ترجمة سريانية سابقًا،٤ وأحصى مقالات أقليدس، وألَّف عن كتب هذا العالِم الهندسي وعن المجسطي لبطليموس. وكثر عدد مؤلفاته في الرياضيات والفلك، وعُنِيَ بالآثار العُلْوية؛ وذلك بسبب ما أَخَذَ على نفسه من مناهضة الأفكار المانوية في تركيب السماء ونظرية النور والظلام.

وفضلًا عن ذلك، فقد حَمَلَ على المانوية في مؤلف خاص، ولم يكن الطب غريبًا عنه، وإن لم يزاوله على ما يظهر، ثم إنه عَرَفَ الموسيقى، وعلَّم هذا الفن علمًا وعملًا. ويتألف من أهليات الكندي العلمية إحدى مميزات عبقريته، ويظهر أنه بذل مثل تلك العناية بالعلوم الطبيعية والعلوم النظرية، عادًّا إياها أساسًا ضروريًّا للفلسفة وقسمًا متممًا لها، ويحمل أحد كتبه عنوان «لا تُنال الفلسفة إلا بعلم الرِّياضة». ولا يُرى أنه التفت إلى التصوف كثيرًا، خلافًا لكبار الموسوعيين الآخرين.

وحديثًا نشر الدكتور ألبينو ناجي ترجماتٍ لاتينيةً لثلاث رسائل ألَّفَها الكندي،٥ فاثنتان من هذه الرسائل تحملان عنوان الجواهر الخمسة والعقل، وتعالِج النظريات المألوفة في السِّكُلَاسية العربية. ومن الممتع إظهار الحال التي تبدو بها هذه النظريات في القرن الثالث من الهجرة بقلم فيلسوفنا. فالجواهر الخمسة — التي يُرى من الأصلح أن يُعبَّر عنها بكلمة أكثر لزومًا؛ أي بالأشياء الخمسة — هي التي توجد في جميع الجواهر كما قيل، وهي الهيولي، والصورة، والحركة، والزمان، والمكان.

وأسلوب الكندي في هذه الرسائل متين، كثير الإيجاز، غير خالٍ من الجمال، وإليك كلمتَه — على علَّاتها — عن الهيولي: «الهيولي، هي ما يَقبل ولا يُقبل، والهَيُولي هي ما يُمسِك ولا يُمسَك، والهيولي إذا ارتفعت ارتفع ما هو غيرٌ لها، وأما إذا ارتفع ما هو غيرٌ لها فهي نفسها لا ترتفع، ومن الهيولي كل شيء، وهي ما يقبل الأضداد دون فساد، والهيولي ليس لها حد بتةً.»

وللصورة صنفان؛ فأما أحدهما فيؤلف الجنسَ، ولا يكون قِسمًا من المبادئ البسيطة التي نتكلَّم عنها، وأما الآخر فيصلُح لتمييز الشيء من جميع الأشياء الأخرى بالجوهر والكمية والكيفية وبقية الأجناس العشرة، وهناك الصورة التي تؤلِّف كلَّ شيء، «وتوجد في الهَيُولي البسيطة قوة، بها تكون الأشياء من الهيولي، وتلك القوة هي الصورة، وفي هذا دليل على أن الصورة موجودة بالقوة، فمثلًا من الحرارة واليبوسة اللتين هما بسيطتان — إذا اجتمعتا — تكون النار، وإذن فالهَيُولي في الحرارة واليبوسة البسيطتين. أما الصورة فهي النار، ولكن القوة هي تلك التي — إذا اجتمعتا — تصير بالهيولي نارًا … فأقول — إذن — إن الصورة هي الفصل الذي به ينفصل شيء عن الأشياء الأخرى بالبصر، والبصر هو علم ذلك.» ولا يدلُّ هذا التحديد على فهمٍ تامٍّ لرأي أرسطو، ولا على حيازة كاملة للفكرة السِّكُلَاسية، وإنما يُشعَرُ هنالك بنظريةٍ في طريق التكوين. ومع ذلك، فإن من الصواب أن يُذكر أن لاتينية هذه الترجمة رديئة.

ويميزُ مؤلِّفُنا ستةَ أنواع للحركة وفق العنعنات المشَّائية، وهي: حركة الكون والفساد في الجوهر، وزيادة الكمية ونقصانها، وتغيُّر الصفة، والحركة في المكان، مستقيمةً كانت أو دائريةً. وكان تحديد المكان يُزعجه كما كان يُزعج أرسطو، فقد قال: «أما المكان، فقد اختلف فيه الفلاسفة بسبب غموضه وخفائه، فقال بعضهم: إنه لا يوجد مكان بتةً، وقال بعضهم إنه جسم كما قال أفلاطون، وقال بعضهم إنه موجود، لكنه ليس جسمًا.» ورأى اتِّبَاع رأي أرسطو، فَرَفَضَ الرأي القائل إن المكان جسم، وقال: «إن المكان هو السطح الذي هو خارج الجسم.» ويكون المكان هيولي ذات بُعدين، ويلاحِظ الكندي — كعالم طبيعي — أن المكان لا يزول برفع الجسم، فالهواء يأتي إلى المكان الذي جُعل فيه فراغ، والماء يأتي إلى المكان الذي ذهب منه الهواء.

وكذلك مبدأ الزمان أدى إلى اختلافات بين الفلاسفة، فبعضهم قال إنه الحركة بنفسها، وقال بعض آخر إنه ليس إياها. ويُؤكِّد مؤلِّفنا أننا نرى الحركة مختلفةً في أشياء مختلفة، وذلك مع أن الزمان في الكل يكون على نوع واحد ونمط واحد؛ ولهذا، فإن الزمان ليس الحركة، وإنما يجب لتحديد الزمان أن يقال: إن الوقت هو الذي يجمع الماضي والمستقبل، وإن كان الوقت لا يدوم بذاته. «وليس الزمان في شيء سوى القبل والبعد، وهو ليس سوى العدد، وهو عدد عادٌّ للحركة.» وهذا العدد من الأعداد المتصلة.

ويُدرك من الوجه الذي عُرضت به هذه المبادئ — حتى بهذا الأسلوب — ما لما بعد الطبيعة لأرسطو من تأثير مباشر، وعلى ما يمازج ذلك الفكر من ارتباك وضعفٍ قليلين، فإنه يلاحَظ في ذلك المؤلَّف جهد كريم نحو النظام والوضوح.

وعلمُ النفس لدى الكنديِّ، كما يُسمِّيه في رسالة «العقل» الموجَزَة، هو على ذات النقطة فيما بعد الطبيعة عنده، فالمذهب كان قد أُوضح وكُثِّف بما فيه الكفاية، ولكنَّ مع عرضه — بعدُ — قليلًا من عدم الشفوف وعدم الرشاقة في كثير من النقاط؛ وذلك أن المؤلِّف يزعم أنه يروي رأي أرسطو وأفلاطون، مفترضًا أنه واحد من حيث النتيجة، ويميز أربعة أنواع، أو درجات، للعقل: ثلاثةً منها داخل النفس وواحدًا منها خارجها. وأول هذه الأنواع الثلاثة التي في النفس، هو بالقوة، وثانيها بالفعل على وجهٍ تمارس النفس به هذا الفعل متى تريد، وذلك كالكاتب الذي يمارس فن الكتابة، وثالثها هو هذا العقل الذي هو في حال الاستعمال فعلًا، وذلك ككتابة الكاتب.

وأما النوع الذي يوجد خارج النفس، فهو العقل الفَعَّال، وسنرى ما لنوع العقل هذا من الشأن الكبير في فلسفة الفارابي وفلسفة ابن سينا، وقد تكلم عنه الكندي «إن كل ما كان بالقوة يخرج إلى الفعل بآخر، هو ذلك الشيء بالفعل؛ فإذن النفسُ عاقلة بالقوة وخارجة بالعقل الأول «العقل الفعال»، بشيء من القوة.» فقال: ومتى اتحدت النفس بالصورة المعقولة، نظرًا إلى العقل الفعال، فإن هذه الصورة والعقل يكونان الشيءَ عينَه في النفس، بيدَ أن العقل الذي يكون بالفعل دائمًا، خارج النفس؛ أي العقل الفعال، ليس المعقول عينه، ولا مكان لهذه المطابقة في غير النفس.

وكان للكندي تلاميذ، ويظهر أن نفوذه الشخصي كان عظيمًا، واثنان من هؤلاء التلاميذ يستحقَّان الذكر؛ فأما أحدهما فهو أحمد بن الطيب السَّرَخْسي، الذي يذكر المسعودي له رسائل في الجغرافية وموجزًا في المنطق،٦ ويعزو إليه حاجي خليفة شرحًا على الرسالة الذهبية لفيثاغورس، وكان في البُداءة معلِّمًا للمعتضد، ثم صار نديمًا له، ولكنه أظهر من الغفلة ذات يوم ما أفشى مع سرًّا ائتمنه هذا الأمير عليه؛ فأمر بقتله سنة ٢٨٦، وقد كان أحمد السرخسي مفضالًا ممتازًا، وكاتبًا بارعًا.
وأما تلميذ الكندي الآخر المعتبر، فهو أبو زيد بن سهل البَلْخِي، ولا ريب في أن أبا زيد البلخيَّ كان دون أستاذه أهميةً بدرجات، وإنما يُعدُّ أحسن ثروةٍ بالنسبة إلينا؛ وذلك أن أحد كتبه المهمة انتهى إلينا، فنُشر وتُرجم إلى الفرنسية من قِبَل مسيو كليمان هوار،٧ فعلى ضوء هذا المتن عادت هيئة أبي زيد حيةً.

وقد وُلد أبو زيد في قرية من ولاية بلخ، وقد ذهب هذا الفيلسوف في شبابه للدِّراسة في العراق، حيث كان الشوق يسوقه إلى الانضمام إلى الإمامية، ولكنه تَعَرَّف في العراق بالكندي الشهير، ولازمه ووقف نفسَه على الفلسفة والعلم، ويغدو بالغ الفضل مع بقائه متواضعًا متحفِّظًا، فيجلب إلى نفسه احترام الأقوياء، ويكون أمير بلخ حاميه الرئيس، ويحسُن حظُّ عالمنا بفضل صداقته، فينال في بلخ أملاكًا مهمة، حافظت عليها ذريته عدة أجيال. ويرجع تاريخ كتبه في الجغرافية والفلسفة — على الخصوص — إلى الربع الأول من القرن الرابع.

وساح أبو زيد في مصر وفارس، وكان أبو زيد صريحًا طريفًا، ولكنْ مع سذاجة، وقد اطَّلَع على كثير من المناهج، ونراه قد عاد إلى «بلد سابور؛ كيما يقوم باستقصاءٍ في شأن رجل كانت تظهر مذاهبه مخالفةً لمذاهب الآخرين، وكان يزعم أنه الله ذاته.»٨ وقد عَرَفَ القرمطية والمانوية والمزدكية والهنود، وما كان عليه من بساطة قلب صان أُرْتُدُكْسِيَّتَه حيالَ إغوائه بمذاهبهم. ويشتمل كتابُه «البدء والتاريخ» على معارف مؤثرة عن المُشَبِّهَة، والاثنينية، والقائلين بوحدة الوجود، والحرانيين، والمعتزلة، وغيرهم.

ولْيُلاحظ — مثلًا — هذا المذهب الذي لم يذكر أتباعه: «(ص٧٧) ويزعمون أنه لا جسم له ولا صفة، ولا يُعرف ولا يُعلم، ولا يجوز أن يُذكر، ودونه العقل، ودون العقل النفس، ودون النفس الهَيُولي، ودون الهيولي الأثير، ثم الطبائع، ويرون كل حركة أو قوة حساسة أو نامية منه.» فهذا المذهب الذي هو من أصل أدريٍّ هو الذي انتحلته — تقريبًا — فرقة الإسماعيلية المشهورة التي ظهرت في الزمن الذي ألَّف فيه أبو زيد.

وقد أجاب فيلسوفنا عن النظريات القائلة بوحدة الوجود، والقريبة من هذه بما يأتي: «(ص٧٥) من الدلائل على أن البارئ — جل جلاله — ليس بالنفس ولا بالعقل ولا بالروح، كما ذهب إليه مَن ذهب أن الأنفس متجزِّئة قد فرَّقت بينها الهياكل والأشخاص.» والواقع أنه لا يوجد شيء ينقسم من غير أن يُتَصَوَّرَ إمكانُ التئامه، والالتئام من عوارض الجوهر، وبعض يحيا وبعض يموت، ولا بُدَّ من أن تفنى النفس بموت حائزها، أو أن تعود إلى النفس العامة، أو أن ترتحل إلى آخر. والواقع أن الفناء والرجوع من عوارض الجوهر أيضًا، فهذا الطِّراز من التفلسف طريف لا رَيْبَ.

ويُعنى أبو زيد بنظرية الصفات الإلهية التي أثارها المعتزلة كثيرًا، كما يُعنى بنظرية القضاء والقدر، ويظلُّ اعتقاده حول هاتين النقطتين أُرْتُدُكسِيًّا، وتكون نتيجته متواضعةً: فقد قال: «(ص١٠٠) وأعدل الأمور أوساطها، فقد قيل: الناظرُ في القَدَر كالناظر في عين الشمس، لا يزداد على طول النظر إلا حيرةً ودهشًا، ومن طاوعته نفسه بالإمساك عن الخوض فيه والاقتصار على ما في الكتاب رجوت أن يكون من الفائزين.»

ولذا يجب أن يبدو أبو زيد لنا ذكيًّا جدًّا، أكثرَ من ظهوره فيلسوفًا ضمن المعنى الذي أوضحنا. وعندنا أنه يشابه المعتزلة بوضعه أكثرَ من أن يشابه الفلاسفة، وإن كان قد ناهض المعتزلة وعَدَّهم من الفلاسفة، وتُذكِّرنا كثرة المناهج التي عُني بها بتلك المجموعة المبهمة من الأفكار، بذلك الاختلاط الفلسفي الذي تُرَدُّ العنعنات السِّكُلَاسية الكبيرة إليه، وقد كان من المفيد أن يُذكر لتتراءى لنا هذه الرؤيا مرةً أخرى، ولكنه لا يُظهِر تقدمًا وَفْقَ النظام الذي نَتَّبِع. فعلينا — بعد أن وقفنا دقيقةً بجانبه — أن ننساه في ظل أستاذه الكندي.

وكان محمد بن محمد بن طَرْخَان أبو نصر الفارابيُّ، الذي هو أعظمُ فيلسوف مسلم قبل ظهور ابن سينا، من أصل تركي، وتَقَع مدينةُ فاراب التي وُلد فيها، وتُدعى اليوم أُطرَارَ، على نهر سيحون أو سيرداريا، وكان الفارابي تلميذًا لطبيب نصراني اسمه يوحنا بن حيلان، الذي مات ببغداد في عهد المقتدر، فاقتطف كثيرًا من ثمرة معرفته. ويُروى — أيضًا — أنه كان رفيق درس لأبي بشر متَّى، الذي صار مترجمًا كما تكلَّمنا سابقًا، والذي تعوَّد أن يجمع بجانبه رأيَه في الجُمَل الموجزة البعيدة الغور. وقد قَصَدَ بلاط سيف الدولة بن حمدان، ويظهر أنه عاش عيشًا هادئًا تحت حمايته بزيِّ الصوفية، ويغدو موضعَ تقدير هذا الأمير الذي أنعم عليه بمَقَامٍ كريمٍ بين ذويه. ولما استولى سيف الدولة على دمشق ذهب الفارابي معه إلى هذه المدينة، حيث تُوُفِّيَ سنة ٣٣٩ﻫ. ويَروِي ابن أبي أُصيبعة أن الفارابي قام برحلة إلى مصر قبل موته بعام واحد.

وقد غَمَرَ الشرقيونَ الفارابيَّ بالمدائح؛ فقد قال القفطيُّ عنه: «بَرَزَ على أقرانه، وأربَى عليهم في التحقيق، وشَرَحَ الكتبَ المنطقية، وأظهَرَ غامضها، وكَشَفَ سِرَّهَا، وقرَّب متناولها، وجمع ما يُحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبِّهَة على ما أغفله الكندي.» ويقول أبو الفرج معمِّمًا المديح: «جاءت كتب الفارابي المنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية الغايةَ الكافية والنهاية الفاضلة.» ولكن بما أننا حائزون على كتب كثيرة مهمة للفارابي، فإننا نفضِّل أن نحكُمَ في الأمر بأنفسنا.

وقائمة كتب هذا الفيلسوف التامة طويلة، وقام شناينشنايدر حول مؤلفاته بدراسة مضنية دقيقة تَنِمُّ على فضل.٩ ويُعد الفارابي كالكندي مفسِّرًا وشارحًا لمؤلِّفِي اليونان أكثرَ من عَدِّه مترجمًا حقيقيًّا بمراحل.
وألَّف الفارابيُّ كتاب المدخل إلى المنطق، وكتاب مختصر المنطق على طريقة المتكلمين،١٠ وسلسلةً من الشروح على إيساغوجي لفُرْفريوس، وعلى المَقُولات والعبارات والتحليلات الأولى والثانية، والجَدَل والمغالطة والخَطَابة وصناعة الشعر، وتتألَّف من الجميع منطقيات كاملة مقسومة إلى تسعة أقسام، وشَرَحَ الفارابيُّ كتاب الأخلاق إلى نيقوماخس.

وألَّف في السياسة كتبًا مهمة كما نتكلَّم عنه؛ فأحدها حاصلُ نواميس أفلاطون، وآخر منها عنوانه «نَيْلُ السعادات»، وتناول بالبحث مسائل كثيرة في ما بعد الطبيعة، وذلك في مؤلفات مختلفة يوجد بعضها في مكتباتنا، وهي العقل والمعقول، والنفس وقوة النفس، والواحد والوحدة والجوهر، والزمان والخَلَاء والحَيِّز والمقدار، وشرح كتاب النفس للإسكندر الأفروديسي، وعُني بالتوفيق بين أفلاطون وأرسطو كما نرى ذلك، وألَّف حول أغراض أفلاطون وأرسطو وحول اتفاقهما، ودافع عن أرسطو حيال مفسِّريه، ووضع كتابًا في الرد على جالينوس والرد على يحيى فيلوبنوس، وذلك من حيث سوءُ تفسيرهما لأرسطو، ووضع كتابًا في «التوسط بين جالينوس وأرسطوطاليس».

وليس أثرُ الفارابي العلميُّ عظيمًا جدًّا إذا ما قيس بأثره الفلسفيِّ، ومع ذلك قام بشروح على طبيعيات أرسطو، وعلى الآثار العلوية، وعلى رسائل السماء والعالم، وبشرح على المجسطي لبطليموس، ووضعَ رسالةً عن حركة الأجرام السماوية، كما وَضَعَ رسالةً لإيضاح القضايا الغامضة في كتاب الأصول لأُقليدس، وعُني بعلوم السحر والتنجيم، فألَّف في السيمياء وضرب الرمل والجن والرؤيا. ولم يكن طبيبًا، وترانا مدينين له في ميدان الفن برسائل مهمةٍ في الموسيقى، قام كوزغارتن بدراستها،١١ وكان الفارابي موسيقيًّا بارعًا، وكان يُثير ببراعته فيها إعجابَ سيف الدولة، فحفظت الآداب لنا ذكرى ذلك.
وفَضَّلَ الفارابيُّ طريقة الإيجاز في عباراته، ويُروَى أنه قليلُ العناية في جمع ما بينها، واليوم تُرى هذه الأحوال غيرَ ملائمة لفهمها، ومن ذلك أن هذه الرسالة أو تلك التي نشرها ديتريسي١٢ ليست سوى مجموعة من الشرح الوجيز الخالي من الترتيب والارتباط، والذي يزيد غموضُه بما أدخله إليه من الاصطلاحات الصوفية. ومع ذلك فإننا سنحاول أن نستخرج من كتب الفارابي المنشورة بعض العبارات البارزة، التي يُمكن أن تُعطيَ فكرةً صريحةً عن هذا الوجه العالي القوي.
وكان الفارابي عالمًا كبيرًا بالمنطق،١٣ فلُقِّبَ بالمعلم الثاني، والمعلمُ الأول هو أرسطو، وفي رسالة عنوانها «رسالة للمعلم الثاني في الجواب عن مسائل سُئل عنها»، فَصَلَ في بعض المشكلات التي كانت تشغَل بال علماء المنطق في ذلك الزمن، وإليك ما قرَّرَه حول المقولات: (١٩ من الرسالة) ليس كل الأجناس العشرة بسيطةً عند قياس بعضها ببعضٍ، وإنما هي بسيطة عند قياسها إلى ما دونها، فأما البسيطة المحضة من هذه العشرة فهي أربعة: الجوهر، والكمُّ، والكيف، والوضع. فأما ما يَفْعَلُ وينفعل فهما مما يَحدُثان بين الجوهر والكيف، ومتى وأين يحدثان بين الجوهر والكم، وله يحدث بين الجوهر والجوهر المُطبِق به بكُلِّهِ أو ببعضه، والمضاف يحدث بين كلِّ مقولتين من العشرة. (١٣) سُئل عن العرض كيف يُحمَل على الأجناس العالية بالتقدم والتأخر، فقال: إن الكمَّ والكيف هما بذواتهما عَرَضَان، لا يحتاجان في إثبات ماهيتهما إلا إلى الجوهر الحامل لهما فقط. وأما المضاف — مثلًا — فلِأن إثبات أنيته إنما يكون بين جوهر وجوهر، أو بين جوهر وعرض، أو بين عرض وعرض، فحاجته في إثبات ذاته إلى أشياءَ أكثر من جوهر أو شيء واحد.

(١٨) وسئل عن مقوله «يفعل وينفعل»، قال السائل: إذا لم يمكن أن يوجد أحدهما إلا مع الآخر — مثلًا — إنه لا يمكننا أن نتصوَّر يَفْعل إلا مع يَنْفَعِل، وأيضًا لا نتصور ينفعل إلا مع يفعل، فهل هما من باب المضاف أو لا؟ فقال: لا؛ لأنه ليس كل شيء يوجد إلا مع شيء آخر، فهما من باب المضاف؛ لأنا لا نَجِدُ التنفسَ إلا مع الرئة، ولا النهارَ إلا مع طلوع الشمس، ولا العَرَضَ بالجملة إلا مع الجوهر، ولا الجوهر إلا مع العَرَض، ولا الكلام إلا مع اللسان، وليس شيءٌ من ذلك من باب المضاف، لكنه داخل في باب اللزوم، واللزوم منه ما يكون عرضيًّا ومنه ما يكون ذاتيًّا؛ فالذاتي مثل وجود النهار مع طلوع الشمس، والعَرَضِي مثل مجيء عمرو عند ذهاب زيد، ومنه أيضًا ما هو تام اللزوم، ومنه ما هو ناقص اللزوم، والتام هو أن يوجَدَ الشيء بوجود شيء آخر، وذلك الشيء الآخر يوجد أيضًا بوجود الشيء الأول، والناقص هو عندما تكون هذه التبعية وحيدة الجانب. وهذا تحليل دقيق لفكرة الصلة.

(٢٤) وسئل عن المُساوي وغير المُساوي: هل هي خاصة الكمِّ؟ والشبيه وغير الشبيه: هل هي خاصة الكيفية؟ فقال: إنما تكون الخاصة شيئًا واحدًا، كالضحك والصهل والجلوس وغيرها، إلا أنا إذا سَمَّيْنَا الرسم، وهو قول يُعبِّر عن الشيء بما يُقوِّم ذاته خاصةً، فإن كلَّ واحد من المساوي وغير المساوي هو خاصةٌ لِلْكَمِّ، وكذلك كل واحد من الشبيه وغير الشبيه خاصةٌ للكيف. وجملة قولنا مساوٍ وغير مساوٍ هو رسم للكَمِّ، وجملة قولنا شبيه وغير شبيه هو رسم للكيف.

وكذلك نظرية المتضادات أدت إلى ملاحظات نفَّاذة. (١٨)، (١٧) وسئل عن المتضادات، وهل البياض عدم السواد أو لا؟ فقال: ليس البياض بعدم للسواد، وبالجملة ليس شيءٌ من المتضادات هو عدم للضد الآخر، لكن في كل واحد من المتضادات عدم الضد الآخر.

(٣٧) سُئل عن معنى قولهم: العلم بالأضداد واحد، هل تَصِحُّ هذه القضية أو لا؟ فقال: هذه مسألة جَدَلية، فَمَنْ نظر في هذه المسألة ينظر في ذوات الضدين، فليس العلم بها واحدًا؛ وذلك أن العلم بالسواد غير العلم بالبياض، والعلمَ بالعادل غيرُ العلم بالجائر. وأما من نظر في الضِّدِّ من حيث هو ضدُّ ضدِّه، فإنه حينئذٍ يصير نظره في بعض المضافات؛ إذ الضد من حيث هو ضدُّ ضدِّه هو من باب المضاف، والعلم بالمضافات واحد.

(٣٨) والمتقابلان هما الشيئان اللذان لا يمكن أن يُوجَدَا في موضوع واحد من جهة واحدة في وقت واحد، والمتقابلات أربع: المضافان مثل الأب والابن، والمتضادان مثل الزوج والفرد، والعَدَم والملكة، والموجبة والسالبة.

والجواب الآتي جدير بالذكر لشكله الرياضي؛ وذلك أنه يُسأل عن عدد الأشياء الضرورية لمعرفة غير معلوم، فاثنان ضروريان — وهما كافيان — فإذا ما وُجد أكثر من اثنين، فإنه يُرَى بالبحث الدقيق أن ما زاد على الاثنين ليس ضروريًّا لمعرفة الشيء المطلوب، أو أن ما زاد يُردُّ إلى المعلومات التي كانت قد قُدِّمت.

وإليك أيضًا سؤالًا طريفًا، ما بَرِحَ يكون مُعْضِلًا، فعالجه الفارابي بكلمتين مع ذوق سليم بيِّن. سُئل عن هذه القضية، وهي قولنا الإنسان موجود، هل هي ذات محمولٍ أو لا؟ فقال: هذه مسألة اختلف القدماء والمتأخرون فيها، فقال بعضهم: إنها غير ذات محمول، وبعضهم قالوا: إنها ذات محمول، وعندي أن كلا القولين صحيحان بجهة وجهة؛ وذلك أن هذه القضية وأمثالَها إذا نَظَرَ فيها الناظر الطبيعي الذي هو نَظَرُه في الأمور، فإنها غيرُ ذات محمول؛ لأن وجود الشيء ليس هو غيرَ الشيء، والمحمولُ ينبغي أن يكون معنى الحكمِ بوجوده أو نفعه عن الشيء، فمن هذه الجهة ليست هي قضية ذات محمول، وأما إذا نظر إليها الناظر المنطقي، فإنها مركبة من كلمتين، وإنها قابلةٌ للصدق والكذب.

وتنقلنا مسألة الكليات من المنطق إلى ما بعد الطبيعة، وقد أدلى الفارابي — حول هذا الموضوع — بعض الآراء العميقة بكلمات قليلة. ويُسأل (١٤) كيف يجب فهمُ نظام الجواهر المتساندة؟ فيجيب: إن الجواهر الأولى هي الأفراد، وهي لا تحتاج إلى غيرها حتى تكون. وأما الجواهر الثانية، فهي الأنواع والأجناس التي تحتاج إلى الأفراد حتى تكون؛ ولهذا فإن الأفراد سابقةٌ في الجوهرية، وهي أحقُّ باسم الجوهرية من الأجناس، غير أن مؤلِّفَنَا يقول، بذوقه في الحُلُول المتضادة الذي يَتَّسِم به كما يلوح، وذلك من وجهة نظر أخرى: إن الكليات ثابتةٌ دائمة قائمة؛ ولهذا فهي أحق باسم الجوهر من الأفراد الزائلة.

وهنالك يُسأل عن (١٠) كيفية وجود الكليات، فيقول: إن الكليات لا توجد بالفعل، وإنما توجد بالأفراد فقط، وهنالك يكون وجودها عَرَضيًّا، وهذا لا يَعني أن الكليات أعراض، وإنما يَعنِي أن وجودها بالفعل لا يمكن أن يكون إلا بالأعراض. (٣٩ و٤٠) ويوجد نوعان للكليات، يُقابلهما نوعان للأشخاص، ولا يكون الجوهر في موضوع معين؛ أي في مادة، ولا تُعرَف ذاته بموضوعات، ولا يمكن أن تعرف أشخاص هذا النوع إلا بكلياتها، ولا تُوجَد هذه الكليات في غير هذه الأشخاص، ويُعرَف شخص العَرَض بموضوعات معينة، وذلك ككُلِّيَّة العَرَض التي تكون في موضوعات.

والآن، يمكن أن يُحكَم — بما فيه الكفاية — في أسلوب منطق الفارابي، الذي يُدل به في مجموعه على علم عميق بالمنطقيات وإيساغوجي، وإن كان حادًّا مِقْحامًا في جزئياته.

وعندنا كتاب رئيسٌ لدراسة علم النفس لدى مؤلفنا، أعني الرسالة التي نشرها ديتريسي حول معنى كلمة العقل، وقد كان لهذه الرسالة — الناضجة الأسلوب نسبيًّا — أهمية عظيمة في القرون الوسطى، وقد طبعت ترجمتها اللاتينية عدة مرات في عصر النهضة بعنوان العقل، أو العقل والمعقول،١٤ وتَجِدُ لمُنْك١٥ تحليلًا لها.

وفي هذه الرسالة التي يتناول بها الفارابي ذاتَ المسألةِ في رسالة العقل للكندي، ولكن مع دقة ووضوح أكثرَ مما في هذه بدرجات، يُعْنَى الفارابي بتحديد مختلف المعاني، التي استعملت بها كلمةُ العقل من قِبَل العوامِّ الفلاسفة.

فالإنسان العاقل عند العوامِّ هو الفاضل الصحيح الرأي، الذي يَعرِف ما يجب أن يصنع من الخير ويجتنب من الشر، ولا يقال عن الإنسان البارع في الشر إنه عاقل، بل يقال إنه خبيث ماكر.

ويذهب علماء الكلام إلى معنًى آخر، فيقولون عن العقل إنه هو الذي يَقْبَل هذه القضيةَ ويرفضُ تلك، وهم يُشِيرون بذلك إلى المَلَكة التي تَتَقَبَّل الحقائق الجلية جلاءً عامًّا. وذهب أرسطو إلى معنًى مختلف عن ذلك بعض الاختلاف، فتكلَّم في التحليلات عن المَلَكة التي يَبْلُغ الإنسانُ بها — مباشرةً — يقينَ المقدِّمات العامة اللازمة. ويقول الفارابي: إن هذا هو قسم النفس الذي تحدُث المعرفة الأولى فيه، والذي يُدرِك مبادئ العلوم النظرية، وكذلك يوجد عقل للحقائق الخلقية، ذكره أرسطو في كتاب الأخلاق، وهذا هو قسم النفس الذي تحدُث فيه التجربة الخُلُقية، وهي التي يُتعوَّد بها، مع الزمن وبوساطة المبادئ الأولى، أن يُمَازَ في الأمور الإرادية ما يجب أن يُفعل وما يجب أن يُجتنب، ثم يأتي العقل الذي بُحث عنه في كتاب النفس والذي هو العقل بحَصْرِ المعنى عندنا.

ويصنع الفارابي — كما صَنَعَ الكندي — ولكن مع وضوح أشدَّ من ذلك، فيَقْسم العقل إلى أربع درجات، وهي: العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفَعَّال، ومع ذلك فيوجد في النظرية، أو في قائمته على الأقل، تَمَوُّج نَجِد من المفيد ملاحظته، قال مؤلِّفنا على حدِّ تعبيره: «إن العقل الذي هو بالقوة، هو نفس ما أو جزء نفسٍ، أو قوةٌ من قُوَى النفس، أو شيءٌ ما ذاته مُعدَّة، أو مستعدة لأن تنتزع ماهيات الموجودات كلها وصورها دون موادِّها، فتجعلَها كلها صورةً لها.» وهذه الصور المستخرجة من الموضوعات تصير صورًا للعقل بالقوة الذي ينتقل — إذ ذاك — إلى حال العقل بالفعل. وهذه الصور هي المعقولات بالفعل التي تُطابق العقل بالفعل. أجل، كانت النظرية جَلِيَّةً لدى الكنديِّ في هذه النقطة، غير أن من المهم إيضاح الوجه الذي أدرك به الفارابي وجود المعقولات، ثم إيضاح شأن العقل الفعَّال.

ومتى صارت هذه الصور، التي كانت في موادَّ خارجَ النفس، معقولات بالفعل، «فإن هذه المعقولات بالفعل ليس وجودُها — من حيث هي معقولات بالفعل — هو وجودَها من حيث هي صور في مواد.» ويرتبط وجودها بذاتها، وهو ما ندعوه بالوضعي، في مختلف مقولات الزمان والمكان والوضع والكمية والكيفية، وهي بتحوُّلها إلى معقولاتٍ بالفعل تُفْلِت من كثير من هذه المقولات، «فإذا حصلت المعقولات بالفعل صارت حينئذٍ أحد موجودات العالم، وعُدَّت من حيث هي معقولات في جملة الموجودات.»

«ومتى عَقَلَ العقل بالفعل لم يَعْقِلْ موجودًا خارجًا عن ذاته، بل إنما يعقل ذاته.» ويُطلق اسم العقل المستفاد، وهو اسم حال العقل الثالثة، على العقل بالفعل في وقت عَقْلِه المعقولات التي هي صُوَرُه، ولهذه المعقولات وجود بذاتها، «فإن الوجه الذي به نقول فيما هو فينا بالفعل عقل إنه فينا، فعلى ذلك المثال ينبغي أن يقال في تلك الصور إنها في العالم.» والعقل المستفاد هو كالقوام لهذه المعقولات، التي هي صُوَرُه الحاضرة، ولكنه بذاته كالصورة بالنسبة إلى المعقول بالفعل، وذلك على حين يكون العقل بالفعل بالنسبة إليه كالقِوَام والهَيُولي، والعقل بالفعل هو صورةٌ بدَوْره، وذلك بالنسبة إلى العقل بالقوة، وهذا العقل بالقوة هو كالهيولي من حيث الأساس، ويُهبَط — بعد هذا — إلى الصور الجسمية والمادية.

ولذا؛ توجد سلسلةٌ تصعد فيها الصور بدءًا من المادة الأولى التي في الأساس مفتَرِقةً من المادة بالتدريج، وتكون أصفى صور المادة متفوِّقةً، ويوجد تحت العقل بالقوة قوى النفس الأخرى، التي هي دون هذه الدرجة من العقل، ثم توجد الطبيعة وصور العناصر التي هي أسفل الصور في الوجود، ويوجد فوق العقل المستفاد عقول الأجسام المنفصلة، ويكون العقل الفعال في المرتبة الأولى.

قال الفارابي: «وأما العقل الفعَّال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب النفس، فهو صورة مفارقة لم تكن من مادة، وهو الذي جعل تلك الذات — التي كانت عقلًا بالقوة — وجعل المعقولات — التي كانت معقولاتٍ بالقوة — معقولات بالفعل. ونسبة العقل الفعال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين، التي هي بصر بالقوة ما دامت في الظلمة.» والتي تصير ناظرًا بالفعل بعد أن يظهر النور.

ومثل هذا ينصبُّ من العقل الفعال ضرب من النور على العقل بالقوة، ويجعله يرى المعقولات التي كانت موجودةً بالقوة فتصير بعد ذلك معقولاتٍ بالفعل، «والعقل الفعال نوعٌ من العقل المستفاد، وصور الموجودات هي فيه لم تزل ولا تزال»، بيد أنها توجد هنالك وفق نظام آخر غير الذي يكون لها في العقل بالفعل. والواقع أن عقلنا يَنْبَثِق من المعلوم إلى المجهول، وفي الغالب يكون المعلوم هو الأسفل، ويكون الأكمل هو الأكثر ما نجهل، وينبثق العقل الفعال وفق نظامٍ معاكس؛ أي إن الأكمل هو أول ما يشتمل، وتكون الصور المقسومةُ في المادة متحدةً في العقل الفعال.

ومن الإنصاف أن يُرَدَّ شرف هذه النظرية الرائعة إلى الفارابي، ولا ريب في أنه لم يظهر عند العرب — قبل الفارابي — أحدٌ عَرَضَها مثله عمقًا وبراعةً. أجل، إن من السهل أن يُرَى — من جهةٍ أخرى — أنه ليس مشائيًّا كما ينبغي، وإن كان يرجعها إلى أرسطو، غير أنها تحمل طابعًا واضحًا من الفكر الأفلاطوني الجديد.

وأحبَّ الفارابي الفلسفة السياسية كما أحبَّها أفلاطون، وقد نَشَرَ له ديتريسي رسالةً مطولة عنوانها «المدينة الفاضلة»،١٦ وتُعد هذه موسوعةً فلسفية قصيرة لا تشغل السياسةُ فيها غير مكان وضيع. ومن خيبة الأمل أن يُبْحَث في هذا الكتاب عن محاولةٍ لتطبيق الأفكار القديمة على الدولة الإسلامية، فلم يكن الفارابي أسبقَ من الفلاسفة الآخرين في منحنا مظهَرَ هذه التجربة الجريئة، فاقتصر على تقويمه إلينا، في صَفَحَاتٍ قليلةٍ عاليةٍ هادئة، وصفًا لما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة، وذلك من غير أن يفتح بابًا لمناقشات صعبة ضد أساتذته الوثنيين.

والفارابي في السياسة هو ما يمكن تسميته مَلَكيًّا إكليرُسيًّا؛ فرأيه يقوم على وجوب حيازة الناس لحكومةٍ ملكية وعقيدةٍ دينية، ويمكن نظامه الملكي — من ناحيةٍ أخرى — أن يتحول إلى جمهورية أرستوقراطية بغتةً. ويلاحظ فيلسوفنا أن أكمل دولةٍ هي التي تشتمل على جميع الأرض المعمورة، وذلك بعد أن وَضَعَ — كما صنع أفلاطون — مبدأً قائلًا: إن الناس خُلقوا ليعيشوا في مجتمع. ويُمكن هذا الرأي — القائل بحصر جميع الأرض ضمن نظام سياسي واحد — أن يُلقِيَ الحيرة في نفوس بعض القراء، ولا غرو، فقد تعوَّدنا الاعتقاد بأن مثل هذه الفكرة لم تستطع أن تنبت في بعض النفوس إلا بعد أحدث تقدم، وأنها لا تُعبِّر عن شيء غير الحد الممكن البعيد من التطور السياسي في العالم.

وليس الأمر كذلك؛ وذلك أنني — من غير أن أذكر أن فكرة الشمول السياسي كانت سائدةً للمبدأ الإمبراطوري الروماني، ثم للمبدأ الكَنَسي الكاثوليكي — أكتفي بأن أُصرح، وأنا سائر، بأنه كان — أيضًا — ضِمْنَ مبدأ الحكومة الدينية الإسلامية، وأنه كان منتشرًا في القرون الوسطى الشرقية أكثرَ مما يحاول تصوُّرُه بمراحل. ومع ذلك، فإن الفارابي لم يقف هناك، وإنما اقتصر على وصف نظام كامل للمدينة، ولم يخلُ بيانه من سذاجة، وذلك أن المدينة التي يُطلعنا عليها هي مدينة قدِّيسين يقوم بإدارتها حكماء؛ ومن ثم تظهر هذه المدينةُ نموذجًا قليلَ الصلاح للتطبيق العملي، ومَن يُرد أن يشعر بما هو جميل في نظريته فعليه أن يُوصِلَها كما صَنَعَ هو، بنظرية العالم العامة.

وكما أن العالم كلٌّ منسجم منظَّم تحت سلطان الله الأعلى، وكما أن النجوم والعالم الأرضي آخذٌ أحدهما برقاب الآخر ويتبع أحدهما الآخر، وكما أن النفس البشرية مؤلفةٌ من درجات متوالية من العقل أوضحناها منذ قليل، وكما أن الجسم البشري كلٌّ منظَّمٌ يسيطر عليه القلب، فإنه يجب أن تكون المدينة كلًّا منظَّمًا تنظيمًا مشابهًا لهذه النماذج الكريمة.

ويُنْصَبُ في المدينة سلسلة من الحُكَّام، يَسُودها رئيس عالٍ. ويلوح أن الصفات التي يَطْلُب الفارابي وجودها في هذا السيد مفرطة بالحقيقة؛ فهذا الرئيس «الذي لا يرأسه إنسان آخر»، هذا الإمام الذي هو سيد المدينة الكامل، والذي يجب أن يكون — كما يقول الفارابي غير مرة — «رئيسَ المعمورة من الأرض كلها»؛ لا بُدَّ من اتصافه بالخصال الآتية؛ أي أن يكون: جَيِّدَ الفهم، جيِّد الحفظ، حَسَنَ العبارة، مُحِبًّا للتعليم، غيرَ شَرِهٍ، كبيرَ النَّفْس، محبًّا للعدل، صعبَ القياد، قويَّ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يُفعل.

ومع ذلك، فإن هذه هي عين الخِصال التي يطلبها أفلاطون من حكَّامه، بيدَ أن الفارابيَّ يشك — بعد أفلاطون — في اجتماع هذه الفضائل الكثيرة في رجل واحد فَيَحُلُّ هذه المشكلة ببراعة ساذجة، وذلك أنه يقول: إن هذه الخصال إذا لم توجد في رجل واحد، فاجتمع بعضها في رجل، واجتمعت الأخرى في آخر نُصب هذان الرجلان على رأس المدينة، وإن هذه الخصال إذا لم تجتمع في غير ثلاثة رجال جُعل هؤلاء الثلاثة على رأسها، وإنها إذا لم تجتمع إلا في أكثر من ثلاثة جُعل من اجتمعت فيهم على رأسها، وهكذا فإن نظامه يؤدِّي إلى الجمهورية الأرستوقراطية.

ونمتنع عن تلخيص «ما بعد الطبيعة» لدى الفارابي؛ وذلك أن النظريات الأساسيةَ التي تتألَّف منها — أي النظريات عن واجب الوجود، وانبثاق الكثرة وسلسلة الموجودات — غير خاصة بهذا الفيلسوف حصرًا، وسوف نتفرَّغ لدراستها — فيما بعد — تحت إشراف ابن سينا، الذي عَرَضَها بإيضاح بديع، وأهمُّ من هذا لَدَيْنَا أن نُعَيِّن نهجَ الفارابيِّ بإظهارنا كيف أن لهذا النهج في جميع أجزائه الجوهرية تقريبًا مناحيَ ونتائجَ صوفيةً.

فللسياسة — التي تناولناها منذ هنيهة — غاية صوفية لدى فيلسوفنا، فهدف المدينة الكاملة في الأرض هو إنالة نفوس المواطنين السعادةَ بعد الموت، ولا أستطيع أن أقاوم رغبة الاستشهاد بالعبارة التي دلَّنا الفارابيُّ فيها على هذه النفوس الصالحة، التي انتهت إلى نيل غايتها.

قال الفارابي: «وإذا مَضَتْ طائفة فَبَطَلَتْ أبدانها، وخَلَصَتْ أنفسها وسعدت، فخَلَفَهم أناس آخرون في مرتبتهم بعدهم قاموا مقامَهم وفعلوا أفعالَهم، فإذا مضت هذه أيضًا وخلت، صاروا أيضًا في السعادة إلى مراتبِ أولئك الماضين، واتَّصَل كل واحد بشبيهه في النوع والكمية والكيفية، ولأنها كانت ليست بأجسام صار اجتماعها — ولو بَلَغَ ما بَلَغَ — غير مضيِّق بعضها على بعض مكانَها؛ إذ كانت ليست في أمكنة أصلًا، فتَلاقِيها واتِّصال بعضها ببعض ليس على النحو الذي توجد عليه الأجسام. وكلما كثرت الأنفس المتشابهةُ المفارقة واتَّصَل بعضها ببعض — وذلك على جهة اتصال معقول بمعقول — كان التذاذ كلِّ واحدة منها أزيَدَ شديدًا. وكلما لَحِقَ بهم مَن بعدهم زاد التذاذ من لحق الآن بمصادفة الماضين، وزادت لذَّات الماضين باتصال اللاحقين بهم؛ لأن كلَّ واحدة تعقِل ذاتها، وتعقِل مثل ذاتها مرارًا كثيرةً فتزداد كيفية ما يُعقل، ويكون تزايد ما تُلاقي هناك شبيهًا بتزايد قوة صناعة الكتابة بمداومة الكاتب على أفعال الكتابة. ويقوم تلاحق بعض ببعض في تزايد كلِّ واحد مقامَ ترادف أفعال الكاتب، التي بها تتزايد كتابته قوةً وفضيلةً، ولأن المتلاحقين إلى غير نهايةٍ يكون تزايد كلِّ واحد واحد، ولِذَاته على غابر الزمان إلى غير نهاية، وتلك حال كل طائفة مضت.» وهذه الزيادة لا حدَّ لها.

ونظرية السببية لدى الفارابي غريبةٌ جدًّا، ونحن نستخرجها من الرسالة التي عُنوانها «فصوص الحكم»، والتي نشرها ديتريسي: «(٤٨) كلُّ ما لم يكن فكان فله سبب، ولن يكون العدم سببًا لحصوله في الوجود، والسبب إذا لم يكن سببًا ثم صار سببًا فلسببٍ صار سببًا، وينتهي إلى مبدأ تترتب عنه أسباب الأشياء على ترتيب علمه بها.»

وكذلك ليس هذا — بشكله الموجز — سوى نظرية السبب الأول المشهورة، التي يَعْرِفها جميع فلاسفة العرب جيِّدًا، غير أن رأي الفارابيِّ لم يلبث أن أتى بوثبة، فقد قال: «لن تَجِدَ في عالم الكون والفساد طبعًا حادثًا أو اختيارًا حادثًا إلا عن سبب، ويرتقي إلى مسبِّب الأسباب، ولا يجوز أن يكون الإنسان مبتدئًا فعلًا من الأفعال من غير استناد إلى الأسباب الخارجية التي ليست باختياره، وتستند تلك الأسباب إلى الترتيب، والترتيب يستند إلى التقدير، والتقدير يستند إلى القضاء، والقضاء ينبعث عن الأمر، وكل شيء مقدر.»

وأين نحن؟ من الواضح أننا جاوزنا في ثلاثة أسطر ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الشرقية من فاصلة، ولكن هل انتهينا إلى مذهب جَبَريٍّ؟ إن من الصعب أن يُعرف ذلك. ومع ذلك، فإن المؤلف يقول موضحًا: «(٤٩) إنْ ظَنَّ ظانٌّ أنه يفعل ويختار ما يشاء، استكشف عن اختياره هل هو حادث فيه بعدما لم يكن أو غير حادث، فإن كان غير حادث فيه لزم أن يصحبه ذلك الاختيار منذ أوَّل وجوده، ويلزم أن يكون مطبوعًا على ذلك الاختيار لا ينفكُّ عنه، ولزم القول بأن اختياره مُقْتَضَى فيه من غيره، وإن كان حادثًا، ولكل حادث سبب مُحْدَث، فيكون اختياره عن سببٍ اقتضاه ومحدِث أحدثه، فإما أن يكون بالاختيار هو أو غيره، فإن كان هو بنفسه فلا يخلو إما أن يكون إيجاده للاختيار، وهذا يتسلسل إلى غير النهاية، أو يكون وجود الاختيار فيه، لا بالاختيار، فيكون محمولًا على ذلك الاختيار من غيره، وينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره؛ فينتهي إلى الاختيار الأزلي، الذي أوجب ترتيبَ الكلِّ في الخارج على ما هو عليه؛ فإنه إن انتهى إلى اختيار حادث عاد الكلام إلى الرأس، فتبيَّن من هذا أن كلَّ كائن من خير أو شر يستند إلى الأسباب المنبعثة عن الإرادة الأزلية.»

وهل أفضت هذه البرهنةُ القوية إلى الجَبَرية نهائيًّا؟ إنني لا أجرؤ على توكيد ذلك بالحقيقة؛ وذلك أنني لا أجد في أيِّ قسم آخر من أثر الفارابي أنه أنكر حرية الإنسان، وترى له في كل موضع لهجةَ رجلٍ يؤمن بالأخلاق والعمل الحر، ولو نُظِرَ إلى هذا المذهب المزعج، من حيث الأساس، لوُجِدَ أنه جَبَري وغير جَبَري معًا؛ فالإنسان عند الفيلسوف مختار، وهذا ما أنا مطمئنٌّ إليه، ولكن الفيلسوف يرى وجود سبب للعمل الحر، وقد يكون من المناسب أن يُطلَق معنًى آخر على كلمة السبب هنا؛ أي معنًى أقلَّ إطلاقًا من المعنى الذي لها في الحياة الفزياوية. وكل سبب — ولو ضمن هذا المعنى الجديد — مسبَّب أيضًا، والله هو سبب الأسباب؛ ولذا يوجد هناك تناقض، أو تعارض خفيٌّ على الأقل، ومن الجليِّ أن الفارابيَّ لا يقصِدُ حل ذلك إلا بالتصوف.

ويزدهر علم النفس لدى هذا المؤلِّف بالتصوف أيضًا، «(٢٧) فأنت مركَّب من جوهرين: أحدها مشكَّل مصوَّرٌ، مكيَّف مقدَّر، متحرك ساكن، متحيِّز منقسم، والثاني مباين للأول في هذه الصفات، غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل ويُعرِض عنه الوهم، فقد جُمِعَتْ من عالَم الخلق ومن عالم الأمر؛ لأن روحك من أمر ربك، وبدنك من خلق ربك.» ومما هو جدير بالنظر في هذه العبارة مقدار ما يُفصَل فيه من تقسيم الإنسان إلى روح وجسم تقسيمًا ثنائيًّا، وأغلب ما عليه الفلاسفة هو التقسيم الثلاثي مع الإيضاح، والقائم على كون النفس من روح وبَدَن.

«(٣٩) فالروح الإنسانية كمرآة، والعقلُ النظري كصِقالِها، والمعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقيلة.» فإذا كان رونق نفسك صافيًا ولا يُداخله أي عائق «لحظت الملكوت الأعلى واتصلتَ باللذة العليا»، «(٤١) والروح الإنسانية — وهي التي تتلقَّى المعقولات بالقبول — جوهر غير جسماني، وليس بمتحيِّز ولا بمتمكن، بل غير داخل في وهم، ولا مدرك بالحس؛ لأنه من حيز الأمر.»

وتُعبِّر صيغٌ كثيرة أخرى عن هذه المعارضة بين الحس والعقل إليك أكثرَها تكثيفًا: «(٤٤) الحس تَصَرُّفُه فيما هو من عالم الخلق، والعقل تَصَرُّفه فيما هو من عالم الأمر.» وقد أُتبِعت هذه الصيغة بهذه النتيجة، التي هي أكثر تصوُّفًا أيضًا: «وما هو فوق الأمر والخلق فهو محتَجِب عن الحسِّ والعقل، وليس حجابه غير انكشافه.»

ويَرَى الفارابي أن يُعرف الله: «(٤٥) الذات الأحدية لا سبيلَ إلى إدراكها، بل تُعْرَف بصفاتها، وغاية السبيل إليها الاستبصار بأنْ لا سبيل إليها»، ونظرية الله عميقة جدًّا: «(٨) واجب الوجود بذاته لا جنس له، ولا فصل له، ولا نوع له، ولا نِدَّ له … وهو مبدأ كل فيضٍ»، وهو داخل وخارج؛ أي ظاهر وباطن معًا، «(٥٣) فهو في ذاته ظاهر، ولشدة ظهوره باطن»؛ أي إن نور ظهوره وهو من الشدة ما يُعمِي، وهو خفي بهذا، «وبه يظهر كل ظاهر»، وكل شيء ظاهر فيه كما في نور الشمس، وله بعد ظهوره بذاته ظهور ثانٍ بآياته، «وظاهريته الثانية تتصل بالكثرة، وتنبعث من ظاهريته الأولى التي هي الوحدة.»

وإليك بعض الصِّيَغ التي تتعلَّق بالمعرفة بالله: «لا يجوز أن يقال: إن الحق الأول يُدرِك الأمور المبدِعة عن قدرته من جهة تلك الأمور كما تُدرَك الأشياء المحسوسة من جهة حضورها وتأثيرها فينا، فتكون هي الأسباب لعالمية الحق، بل يجب أن يُعلَم أن يُدرِك الأشياءَ من ذاته تقدَّست؛ لأنه إذا لاحظ ذاته لاحظ القدرة المستعلية فلحظ من القدرة المقدورَ، فلَحَظَ الكلَّ، فيكون علمه بذاته سبب علمه بغيره، إذ يجوز أن يكون بعضُ العلم سببًا لبعضه، فإنَّ علم الحق الأول بطاعة العبد الذي قدر طاعته سبب لعلمه بأن ينال رحمته.» «(٥٥) وفي علم الله الكثرة الغير المتناهية بحسب كثرة المعلومات الغير المتناهية، وبحسب مقابلةِ القوة والقدرة الغير المتناهية، فلا كثرة في الذات، بل بعد الذات، فإن الصفةَ بعد الذات لا بزمان، بل بترتيب الوجود.»

ومن ذلك كله، يُرى أن الفارابي يبتعِد عن النظرية الفلسفية القائلة: إن الله لا يعرف العالم، وأنه يُوغِل في الرأي الصوفي القائل إن الوجود الإلهي قادر على كلِّ شيء، ويُقدِّر كلَّ شيء، ويرى كلَّ شيء، ويعلم كل شيء، ويُجاوز الفارابي مُعْضِلة الفلسفة اللاهوتية من بعض الوجوه، وهو في كل دقيقة يتخطَّى حدود الفلسفة إلى التصوف، وإليك العبارةَ الآتية أيضًا: «(١٣) لَحَظْتَ الأَحَدِيَّة نفسها فكانت قدرة، فلحظت القدرة، فلزم العلم الثاني المشتمل على الكثرة، وهناك أُفق عالم الربوبية يليها عالم الأمر، يجري له القلم على اللوح،١٧ فتَتَكَثَّر الوحدةُ حيث يغشى السدرةَ ما يَغْشَى، ويلقى الروح والكلمة، وهناك أُفُقُ عالم الأمر، يليها العرش والكرسي والسماوات وما فيها كلٌّ يُسبِّح بحمده، ثم يدور على الأمر، وهناك عالَم الخلق يلتفت منه إلى عالم الأمر، ويأتونه كلٌّ فردًا.»

وقد خلط الفارابيُّ اصطلاح القرآن بالاصطلاح الفلسفي، ولكنه تَرَكَ القرآن والفلسفة بالحقيقة، وذلك ليدخل مناطق لا نستطيع أن نَتْبَعَه إليها الآن على الأقل، وسَنَحِيد عن هذه المذاهب، وسَنَتَقَبَّل منه هذا اللوم البَسْكَالِيَّ تقريبًا: «(١١) انفُذْ إلى الأحدية تُدْهَشْ إلى الأبدية.»

بَقِيَ علينا أن نقول كلمات قليلةً عن كتاب يظهر أنه كثير الإمتاع إذا ما حُكم عليه بعنوانه، وأنه كذلك بمقصده لا رَيْب، ولكن مع كون مطالعته تُخيِّب الأمل بعض الشيء؛ أي إننا نريد أن نتكلم عن رسالته في «اتفاق آراء أرسطو وأفلاطون». والواقع أن الفارابيَّ لا يعتقد وجود فلسفات كثيرة كما أشرنا إليه سابقًا، بل يرى وجودَ فلسفة واحدة، وهو لا يُسلم — مبدئيًّا — بوجود اختلاف بين آراء معلمَيْن يونانيَّيْن، ولا مراء في أن من عقائد ذلك الزمن التقليدية أن فلسفاتهما تتفق، بيد أن كثيرًا من العلماء المعاصرين لمؤلِّفنا اعتقدوا، إذ درسوا آثارهما الصحيحة أو المختلفة، أنهم يلاحظون عدمَ وجود هذا الاتفاق في كثير من المسائل، فإلى هؤلاء وَجَّهَ الفارابيُّ جوابَه في هذه الرسالة.

وأول ما يُحقِّق الفارابي، كون أفلاطون وأرسطو قد أدركا الفلسفةَ على وجه واحد، كعلم الموجودات وأحوالها؛ فاتَّفَق جميع الناس من مختلف اللغات على وضعهما على رأس الفلسفة؛ ومن ثم يجب أن يتَّفِقَا، وهذا هو الرأي التقليدي كما هو واضح، ثم يُشِير الفارابي — من الناحية المنطقية — إلى بعض أسباب ما يمكن من خطأ في تفسير آثارهما. وكان، بين الاختلافات التي يُنَبَّه إلى وجودها بين أفلاطون وأرسطو ما يأتي، وهو: أن أفلاطون كان بمعزل عن الأمور الدنيوية، على حين كان أرسطو يحبها، فيبحث عن الثراء والمراتب السَّنِيَّة، وأن أفلاطون كان يتكلَّم بالرموز والأساطير، فيطالِب بصفاء القلب لفهم كتبه، على حين كان أرسطو يُصنِّف الأفكار ويُرتِّبها، فيُوضحها لاستعمال الجميع، وأن أفلاطون جعل على رأس الجواهر أفضلَها وأقربَهَا إلى الروح، وأبعدَها من الحسيات، على حين ذهب أرسطو إلى أن الأفراد كانت أول الجواهر، وهذا فرق بسيط في وجهة النظر على رأي الفارابي، وأن أفلاطون بدا — في بعض عبارات من كتاب طيماؤس — غيرَ قائل بضرورة وجود نتيجة للقياس المنطقي، الذي تقوم مقدمتاه على: «الوجودُ أفضلُ من لا وجود، والأفضلُ تشتاقه الطبيعةُ أبدًا»، على حين يَرَى أرسطو ضرورةَ وجود نتيجة لمِثلِ هذا القياس المنطقي، وذلك من غير قول عن وجود اختلافات أخرى حول فصول الطبيعيات والمنطق والسياسة.

ويَحُلُّ الفارابيُّ المناقَضَاتِ المذكورةَ ببراعة، وذلك من غير إبداء رأي أصلي، يستحقُّ أن نَقِفَ عنده، ولكنه من حيث نظرية المعرفة يُفسِّر فرضية التذكُّر الأفلاطوني تفسيرًا اختباريًّا جديرًا بالذكر، فقد قال: إن أرسطو بيَّن في كتاب «التحليلات» أن المعارف لا تأتي إلى النفس إلا بطريق الحواس. وهكذا فإن المعارف تأتي في البُداءة من غير أن يُبحَثَ عنها، ولا يكون العلم تذكرًا، ولكنه متى شُعِرَ بالعلم كان هذا بعدَ تكوُّن معارفَ في النفس على وجه غير محسوس؛ ولهذا فإن النفس حينما تُدرك هذه المعارفَ تعتقد أنها دائمة فيها، ويساورها وهم في أنها تذكرها. ومع ذلك فإن الحقيقة هي «أن العقل ليس هو شيئًا غير التجارب، وكلما كانت هذه التجارب أكثرَ كانت النفس أتمَّ عقلًا … وهذا ما قاله أفلاطون: إن التعلم تذكُّر، وإن التفكر هو تكلُّف العلم، والتذكُّر تكلُّف الذِّكْر، والطالب مشتاقٌ متكلِّف، فمهما وَجَدَ مهما قَصَدَ معرفته طلب دلائل وعلامات ومعانيَ ما كان في نفسه قديمًا، فكأنه يتذكر عند ذلك.» ويجب أن يُعتَرَفَ بأن هذه محاولة في التوفيق تقضي جُرأتُها بالعجب.

وأما مسألة قِدَمِ العالم، فقد قال الفارابيُّ عن معاصريه إنهم يَرَوْنَ أن أرسطو كان يعتقد قِدَمَ العالم، وأن أفلاطون كان على عكس ذلك، ولا يُسلِّم الفارابي بأن أرسطو كان على هذا الرأي، وإنما يزعم أن هذا الاعتقاد عُزِيَ إليه بسبب مثال وَرَدَ في كتاب الجَدَل، وبسبب قضية جاءت في كتاب السماء. فرأي أرسطو الحقيقي يقوم على أن الزمان هو تعداد حركة الفَلَك، وأنه يحدُث بهذه الحركة؛ ولذا فقد اضْطُرَّ إلى القول بأن الخالق أظهرَ العالَمَ بلا زمان دفعةً واحدة، وأن حركة العالم أحدثت الزمان.

وأما بقية الرسالة فلا قيمةَ لها عندنا تقريبًا؛ وذلك لأن النظريات التي عُزيت فيها إلى أرسطو مستخلصةٌ من الكتاب المُخْتَلَق الذي عنوانه «إلهيات أرسطو».

والآن يُرى — كما أرجو — ما غَزَارةُ أثر الفارابيِّ وإبداعُه، ما هذا الأثر الذي يشتمل على قضايا لا نُحمِّل نفسنا حلَّها، لما لا نرى في أنفسنا من الجرأة ما كان عليه فيلسوفنا حيال نماذجه اليونانية. والواقع أن الفارابي — الذي كان اختباريًّا، صوفيًّا، سياسيًّا، زاهدًا، منطقيًّا، شاعرًا — ذو طبع قوي غريب. وعندي أنه أكثرُ جاذبيةً من ابن سينا؛ لأنه كان أكثرَ منه حرارةً باطنية وقدرةً على الصولة المفاجئة والضربات الأقلِّ توقُّعًا، ولفكره من الوَثَبَات ما للشاعر الغنائي، وهو حادٌّ في جدله بارعٌ متضاد، ويتصف أسلوبه بمزية الإيجاز والعمق النادرين، ويسمو هذا الأسلوب بضرب من الرونق الشعري.

ونَرَى أن الفارابيَّ قام بخدمة عظيمة في دراسة الفلسفة لا ريب، ولكن مع وثوبه فوق المعضلة السكلاسية.

ويلوح أنه — بدلًا من أن يبحث عن توفيق عقلي متينٍ بين العنعنات اليونانية وعلم الكلام الإسلامي — اقتصر على جَمْع غيرِ ملتحمِ الآراء تمامًا، محتفظًا لنفسه بكشف الرابطة الغامضة في رُبَى التصوف.

ولا جَرَمَ أن لقب الموسوعيِّ يلائم كلًّا من الفلاسفة الذين تكلَّمنا عنهم. والواقع أنهم كانوا موسوعيِّين، سواء بطبيعة ذهنهم أم بطبيعة آثارهم. ومع ذلك فإننا — بوضعنا هذا العنوان على رأس هذا الفصل — قَصَدْنَا على الخصوص جماعةً من الفلاسفة المُوَطِّئين الناشرين، أخذت على نفسها بكلِّ صراحة أن تقوم بوضع موسوعة للعلوم صالحة لاستعمال الجمهور؛ أي إننا نقصد الكلام عن «إخوان الصفا». وبما أن إخوان الصفا كانوا موطِّئين — ضبطًا — فإننا لا نُعلِّق أهميةً كبيرةً عليهم، وسنلزم جانب الاختصار في شأنهم. وفضلًا عن ذلك، فإن مما يُشجِّعنا على هذا الاختصار في هذه الحال كونَ أحد مستشرقي الألمان، وكنا قد ذكرنا اسمه، وهو فردريك ديتريسي، قد خصَّ هؤلاء الفلاسفة بسلسلةٍ من الكتب المفصَّلَة، تؤلِّف علمًا جامعًا من الآداب.١٨
وليس لدينا علم دقيق عن أصل هذه الجماعة، وإنما نعرف أن بعض الفلاسفة، في أواسط القرن الرابع من الهجرة، حين أشرفت خلافة بغداد على الأفول، اجتمعوا بالبصرة في مكان بعيد من مركز الدولة المفتوح لمؤثراتٍ مختلفة، صالح ليكون مركزًا للدراسة النظرية الحرة وللدعاية الجريئة. ومما لُوحظ أن هذا النظام لجمعيةٍ مغلقة لم يكن بدعًا في الإسلام، فقد كان الشاعر بشار بن بُرد ومؤسس فرقة المعتزلة، واصلُ بن عطاء، ينتسبان — قبل ذلك — إلى جماعة مماثلة،١٩ وكان فلاسفة البصرة يُدْعَوْن حلفاءَ الصفاء، ونُدَمَاء الصفاء، وإخوان الصفاء على العموم.٢٠

ولم تكن هذه الجماعة سياسيةً فقط، بل كانت شيئًا أكثرَ من هذا. ومن الصعب أن يقال ماذا كان ذلك تمامًا، ويحوم حولها بعضُ الغموض، فلا يدع هذا ما يُماز به غَرَضُها ولا شعائرها ولا وسائل عملها ضبطًا.

ولا مِرَاءَ في أنه كان لدى إخوان الصفا أدوات للدعاية غير كتبهم، حتى إن هذه الكتبَ لم تَقُلْ كلَّ شيء، ولا ماذا كانوا، ولا ماذا أرادوا، وإنما كان لهم عمل سياسي، وكانوا يؤلِّفون في المدن التي يُقيمون بها أنواعًا من المنازل لا يستطيع دخولها أحد غيرهم،٢١ وفضلًا عن ذلك، فإنهم كانوا لا يقتصرون على قبول الفلاسفة بينهم حصرًا؛ فقد كان يُمكن جميعَ الناس أن يُقبَلُوا في المنظَّمة مبدئيًّا، ولكلٍّ دوره وفق أهلياته؛ وذلك أن بعض الناس يُلقي دروسًا، وآخرين يُعطون نقودًا، ومن لم يكن من ذوي القرائح أو الغنى كان يقوم بأعمال وضيعة. والخلاصة أن هذه كانت جماعة عامةً مؤلَّفةً من عناصر متفاوتة، تربط ما بينها إدارة لا نعرف نوابضها، وروح لا نعلم عنه غير قليل، وليس من العسير أن نجد في زماننا مثل هذه الجماعة.

ومن يَنظُر إلى دعاية إخوان الصفا يعتقد — أولَ وهلةٍ — أنهم علماءُ أخلاق، فما يَعرِضون على مُرِيديهم هو وسائل تطهير نفوسهم. وكانت هذه هي الحقيقةَ الدينية، وكان هذا هو العلمَ، ضمنَ المعنى الخُلُقيِّ — الصوفيِّ تقريبًا — للكلمة؛ أي الذي يُبَشِّر بالنجاة. وإذا كانت قد وُجدت جمعيةٌ تُبيح لنفسها في الإسلام أن تَعِظَ بإنجيلٍ للنجاة، مستندةً إلى نفوذها الخاص، فاجتذبت النفوسَ إليها بوسائلَ سرِّيةٍ، دلَّ هذا على كون مذهبها يبتعد عن الإسلام لا ريب. وإذا ما نُظِرَ إلى هذا المذهب في مجموعه — كما نعرفه من رسائل الإخوان — وُجد أنه لا يختلف عن مذهب الفلاسفة إلا قليلًا جدًّا على كل حال. أجل، يُمكن أن يبدو إخوان الصفا بجانب الفلاسفة مثلَ موطِّئِين لأثر الفلاسفة، وناشرين له في الأوساط الشعبية، بيدَ أن الفلسفة، بتوطئتها في هذه الأوساط، تَعْرِض — بالنسبة إلى الوجه الذي تتجلَّى به عند الفلاسفة المحترفين — فروقًا في المنظر، نَرَى من المفيد أن نُشِير إليها.

يكون المذهب الفلسفي في الجماعة أقلَّ رسوخًا مما في ممثليها المستقلين، وكذلك يكون أكثر توحيدًا بين الآراء، ويكون أكثرَ انجذابًا إلى الأساطير، ويكون أسهلَ دَفْقًا في التصوف، وتُستدعى الأفكار الصوفية فيه كلَّ لحظة، على حين لا تظهر هذه الأفكار إلا مثل تكملةٍ ومثلَ حدٍّ في الفلسفة العلمية، ويكون العلم ممزوجًا بالعاطفة الدينية. وكان إخوان الصفا يُسلِّمون بكتب موسى وغيره من الأنبياء مع تسليمهم بكتب الفلاسفة. ويجب أن تُفسَّر كلمة «وغيره» هذه بأوسع معنًى. ومجمل القول أن العامل الخُلُقيَّ سائد لتعليمهم، ففي كل عشر سنين كان كل من يَثْبُت هذه المدة يُوعد خيرًا، فإذا ثَبَتَ خمسين عامًا فاز بالعقل الملائكي.

غير أن أطرفَ نقطة يُشار إليها في موضوع هذا المذهب هو الوجه الذي وَضَعَ به إخوانُ الصفا معضلةَ الفلسفة الكلامية. أجل، إنهم وضعوها على شكل قاطع جدًّا، ولكن مع تحديد وجيز خطير حُرِّفت به المسألة. ولا يوجد عند الفلاسفة — ولم يحدث قط — أن جَهَرَ الفلاسفة بأية حملة مباشرة على الدين الإسلامي. وقد كان وضع المعضلة الفلسفية الكلامية يحتمل لديهم قبولًا تامًّا للعلم والشريعة. وقد كان إخوان الصفا أكثر جرأةً من هذه الناحية بمراحل، ومن المحتمل أن كانوا أكثرَ حريةً فقط.

وقد رأوا — كما أخبرنا به الصوفي أبو حيان التوحيدي،٢٢ المتوفى سنة ٣٨٠ أو سنة ٤٠٠، والذي كان موسوعيًّا أيضًا — أن الشريعة الدينية لم تكن كاملةً، وأنها كانت تشتمل على أغاليطَ تحتاج إلى تنقيتها منها، وأنها لا يمكن أن تبلغ ذلك إلا بالفلسفة. وقد كانوا يعتقدون أنه يُوصَل إلى الكمال المذهبيِّ الحقيقي بربط الشريعة العربية بالفلسفة اليونانية ربطًا وثيقًا، فللحصول على هذه الغاية كَتَبُوا موسوعتهم.

وتشتمل تصانيفُ إخوان الصفا على إحدى وخمسين رسالةً في مجموع علوم الإنسان، وقد جُمِعَت العلوم فيها على شكل يختلف بعض الاختلاف عما تعوَّد الفلاسفة صُنْعَه، وذلك على أربعة أصناف تحتوي على علومِ الرياضيات والفلسفة العامة، وعلوم الطبيعة والأجسام، والنفس والعقل، والشريعة والله. ويُرجَّح أن تكون هذه الرسائل قد كُتبت من قِبَل كثيرٍ من أعضاء الجمعية، يُذكَر من بينهم أبو سليمان المقدسي، وكان الرياضي الأندلسي المجريطي مَسْلَمَة — المتوفَّى سنة ٣٩٥ أو سنة ٣٩٨ — قد ساح في المشرق، فجلب إلى وطنه مجموعة الرسائل، وقام بتجديد إنشائها على ما يحتمل واضعًا اسمه عليها؛ فلهذا عُزيت هذه المجموعة إليه في بعض الأحيان.

وكانت الرسائل مُوَجَّهَةً إلى الإخوان، وكانت تُعد جامعةً للعلم التركيبي التام، فلا بُدَّ من أن تُزَوِّد القارئ بزُبدةٍ ممزوجة من جميع الكتب الأخرى. وقد قيل فيها:٢٣ «وبالجملة، ينبغي لإخواننا أن لا يُعادوا علمًا من العلوم أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصَّبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمَع العلوم جميعها.»

ويكفي أن نُضيفَ إلى البيان السابق ثلاثة شواهدَ أو أربعة لفهم طابع هذه الموسوعة التي هي أقل إمتاعًا بكونها مستودَعًا للعلم من إمتاعها بما تقدَّم من مناحٍ فلسفية واجتماعية.

ففي إحدى الرسائل يوجَد مَثَل طويل،٢٤ مموَّه الإنشاء، يُرى فيه أناس ينتسبون إلى أمم مختلفة من يونان، وهنود وفرس، وتَتَر، وعرب، ويتجادلون هم والحيوان حول منافع الإنسان والحيوان النسبية، وذلك أمام تلك الجن، فلما رأى الإنسان أن جميع المنافع التي كان يظن إمكان استخلاصها من دقة ملاذِّه الحسية وكمالِ حِرَفِه ومِهَنِه قد رُدَّت إلى العدم، اضطُرَّ إلى الاعتراف بأنه لا فضل حقيقيًّا له على الحيوان إلا بخُلقيَّته. وقد عُبِّرَ عن هذه النتيجة بهذه العبارة:٢٥ «والآن ثِقْ، يا أخي، بأنَّ هذه الصفات التي انتصر بها الإنسان على أنواع الحيوان أمام ملك الجن تقوم على التزام هذه العلوم والمعارف التي جمعناها في هذه الرسائل الإحدى والخمسين مع الإيجاز والاستقامة ما أمكن.» وهذه إشارة إلى أسلوب في الدعاية على أساس خُلُقيٍّ.
ومن التسلية أن تَجِدَ في هذه الرسائل بعضَ المناظر الدنيا لنظريات فلسفية راقية جدًّا بنفسها، فاتَّفَقَ لها بهذه الأشكال الغليظة رواجٌ عظيم حتى أيامنا. ومن ذلك أن نظريةَ فيثاغورس العميقة في الأعداد ظهرت فيها، كما تُعرض على الفتيان في الوقت الحاضر أحيانًا؛ وذلك أن الخالق نَظَّم الموجودات وَفْقَ سلسلة الأعداد،٢٦ وأن كل نوع من الوجود يناسب عددًا معينًا، فأشياءُ تتصل اثنين اثنين؛ أي تتَّصِل الهيولي والصورة، والعلة والمعلول، والليل والنهار، والذكر والأنثى، وأشياء تتصل ثلاثةً ثلاثةً؛ أي تتَّصل أبعاد الحيز الثلاثة، وأقسام الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ووجوه الأمور الثلاثة: الممكن والمحال والواجب، وأشياء تتصل أربعةً أربعةً؛ أي تتصل الطبيعات الأربع: الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة، والعناصر الأربعة، وأمزجة بدن الإنسان الأربعة، والفصول الأربعة، والجهات الأربع … إلخ، وهذا من الفلسفة الشعبية تمامًا.

وهنالك نظرية أخرى كانت واسعة الانتشار في القرون الوسطى، وهي من أصل بالغ السمو، وهي نظرية العالَم الأكبر والعالم الصغير. فالعالم إنسان كبير، ويكوِّن الفلكُ الخارجي جسمَه وتؤلف أجزاء العالم أعضاءه، والعالم كالإنسان حي بالنفس العامة، وكما أن الإنسان يُدير نفسه بعقله يُدار العالم بالعقل العام، وتُعد قوى الطبيعة قواه المحركة. وعلى العكس يُعد الإنسان عالَمًا صغيرًا، ويُعد بَدَنُه طرفة الطبيعة، ويُدرِك خياله وعقله مجموع الموجودات، وتنطوي فيهما خلاصة جميع الأشياء.

وتكون هذه المقارناتُ جميلةً أولَ وهلة، ولكنها إذا ما أُصِرَّ عليها لم تَدَعْ للاعتبارات العلمية مجالًا، وقد أصرَّ إخوان الصفا عليها، وكان إصرارهم عليها ضمن معنى أفلاطوني جديد بالغ،٢٧ وذلك أن الله تامُّ الوجود والجلال، وهو عالم بجميع الأشياء قبل أن تكون، وهو قادر على دعوتها إلى الوجود متى أراد، وهو ينشر الفيضَ والفضل بحكمته، كما تَنْشُر الشمس النور، ويُدعَى بدءُ هذا السكب الذي يصدُرُ عنه بالسبب الخلَّاق، وهذا جوهر بسيط ونور خالص مُتَنَاهِيَا الكمال، وتوجد فيهما صور كلِّ شيء كوجود صور الشيء المعلوم في النفس العالِمة، وتُحدِث النفسَ العامةَ درجةٌ ثانيةٌ من السكب؛ أي تُحدث الجوهرَ الروحانيَّ البسيط، ويخرُج من النفس فيضٌ آخر يُدعى المادة العامة.

وأول صورة تتلقَّاها هذه المادة الأصلية هي صورة البُعد، وتصير المادة الثانية التي تنشأ عنها مادةَ الأجسام، فعند هذه النقطة يَقِف الفيض، ثم تتَّحِد النفس بالأجسام، وتمنحها الكمال والجمال. والصورة الأولى التي توجِدها النفس في الجسم هي صورة الفلك السماوي، والأرض هي أكثف الأجسام وأكثرها ظلامًا؛ ولذا فإن الله يُغضي عن هذا الخلق، ولكنه يريده، ويَعْلَمُه بالفعل.

وأخيرًا، إليك نداءً من الإخوان إلى أتباعهم،٢٨ يؤلف أطرف مثال على توحيد ما بين الآراء، فهم يقولون: «فهل لكَ يا أخي، أن تُبَادِر وتركَب معنا في سفينة النجاة، التي بناها أبونا نوح، فتَسْلَم من أمواج بحر الهَيُولي، ولا تكون من المُغرَقين؟ أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السماوات التي رآها أبونا إبراهيم لما جَنَّ عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟ أو هل لك يا أخي أن تُتِمَّ الميعاد، وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن، حيث قيل: يا موسى، فيُقضى إليك الأمر فتكون من الشاهدين؟ أو هل لك يا أخي أن تَصْنَعَ ما عمل فيه القوم كي يُنفَخَ فيك الروح، فيذهَبَ عنك اللوم حتى ترى الأَيْسُوع عن ميمنة عرش الرب قد قَرَّبَ مثواه كما يُقَرَّب ابن الأب، أو تَرَى مَن حَوْله من الناظرين؟ أو هل لك أن تخرُج من ظلمة أَهْرِمَن، حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فُسحة أفريحون؟ أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون، حتى ترى الأفلاك التي يحوكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية، لا ما يُشير إليه المنجِّمون؟»

•••

لقد انتهينا إلى حد القسم الأول من كتابنا، وقد سرنا أربعةَ قرون، متتبِّعين حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي. وقد رأينا قيام عمل هذا الزمن على وَضْعِ المعضلة الكلامية الفلسفية على الخصوص، وعلى استخلاص حلولها بالتدريج، والآن نقف. ونحن إذ نُقِيم على أرض ثابتة نُدَقِّق — على مَهْل — في الحلِّ الكبير الأول لهذه المُعْضِلة على يد ابن سينا.

١  الشهرستاني، طبعة كورتن، ٢: ٣٤٨.
٢  فلوغل: الكندي في رسائل جمعية المستشرقين الألمانية، سنة ١٨٥٧.
٣  الرسائل الفلسفية ليعقوب بن إسحاق الكندي، طبعة ألبينو ناجي مقدمة، ص١٠.
٤  فيزغ، الكتاب المذكور، ص٢٣٠.
٥  الطبعة المذكورة التي تؤلِّف قسمًا من «إسهامات في تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى»، التي نشرها بومكر وج. ف. فوك هرتلنغ، جزء، كراسة ٥، منشر ١٨٩٧.
٦  المسعودي: كتاب التنبيه.
٧  كتاب البدء والتاريخ لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي، طبعة كليمان هوار وترجمته. وقد ظهر منه الجزء الأول حتى الآن، باريس، لورو، ١٨٩٩، وهذا الكتاب قسم من نشرات مدرسة اللغات الشرقية الحية.
٨  كليمان هوار، الكتاب المذكور، مقدمة، ص١٤.
٩  موريتز شتاينشنايدر: سيرة الفارابي ومؤلفاته، وذلك في مذكرات الأكاديمية الإمبراطورية للعلوم في سان بطرسبرغ، جزء ١٣، رقم ٤، سان بطرسبرغ، ١٨٦٩.
١٠  شتاينشنايدر، الكتاب المذكور، ص١٨.
١١  ج. ج. ل. كوزغارتن، وذلك في مقدمته على كتاب الأغاني لعلي الأصفهاني، غرسفالد، ١٨٤٠.
١٢  كانت الرسائل التي دُرست فيما بعد قد نُشرت من قِبَل، ف. ديترسي: رسائل الحكمة للفارابي، ليدن، بريل ١٨٩٠.
١٣  أفرد برانتل في كتابه تاريخ المنطق في الغرب، جزء ٢، ص٣٠١–٣١٨، مقالة حول منطق الفارابي وفق المقتطفات التي استخرجت من كتب ألبرت الكبير.
١٤  أُضيفت هذه الترجمة إلى طبعات ابن سينا اللاتينية، ١٤٩٥ و١٥٠٠ و١٥٠٨، راجع شتاينشنايدر، الكتاب المذكور، ص٩٠.
١٥  منك: مقالات عن الفلسفة العربية واليهودية، باريس، ١٨٥٩، ص٤٤٨ وما بعدها.
١٦  ف. ديتريسي: رسالة الفارابي في أهل المدينة الفاضلة، زد ليدن، بريل، ١٨٩٥.
١٧  انظر إلى مذكرتنا «مختارات من علم الحشر والنشر الإسلامي» في محاضر المؤتمر العلمي الكاثوليكي، بروكسل، ١٨٩١، وذلك حول القلم الذي يكتب مقادير الموجودات، والسدرة التي تظلل الجنات وقبة العهد، والعرش الذي يجلس عليه الله.
١٨  نشر ديتريسي مختارات من رسائل إخوان الصفا، ليبسك، ١٨٨٣–١٨٨٦. وفضلًا عن ذلك، فقد خَصَّ هذه الرسائل بالكتب الآتية، وهي: فلسفة العرب في القرن العاشر، القسم الأول، العالم الأكبر، ليبسك، ١٨٧٦، القسم الثاني، العالم ليبسك الصغير، ١٨٧٩. المنطق وعلم النفس عند العرب في القرن العاشر، ليبسك، ١٨٦٨. المدرسة الإعدادية عند العرب في القرن العاشر، برلين، ١٨٦٥. علم طبائع الإنسان عند العرب في القرن العاشر، ليبسك، ١٨٧١. مبدأ الطبيعة والحكمة الطبيعية عند العرب في القرن العاشر، الطبعة الثانية، ١٨٧٦. المذهب الخاص بنفس العالم عند العرب، ليبسك، ١٨٧٢. مناظرة بين الإنسان والحيوان، قصة عربية، ترجمة، برلين، ١٨٥٨، طبعة ثانية، ليبسك، ١٨٨١.
١٩  بروكلمان: تاريخ الآداب العربية، ١: ٢١٣.
٢٠  غولدزيهر: مباحث إسلامية، ١، ص٩، رقم ١.
٢١  ديتريسي: رسائل إخوان الصفا، ص٦٠٩: «ينبغي لإخواننا حيث كانوا من البلاد أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم ويتحاورون فيه أسرارهم.»
٢٢  ج. فلوغل: محتويات رسائل إخوان الصفا ومؤلفها، ز، د. م. ج، جزء ٣، ١، ١٨٥٩، ص٢٣.
٢٣  رسائل إخوان الصفا، ص٦٠٩.
٢٤  ديتريسي: مناظرة بين الإنسان والحيوان.
٢٥  ديتريسي، الكتاب المذكور، ص٢١٧.
٢٦  الرسائل، ص٤٣٧ وما بعدها.
٢٧  ديتريسي: مذهب العقل الكوني، ص٣٤.
٢٨  ديتريسي: العالم الأكبر، ص٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤