الفصل الثالث عشر

القرن التاسع عشر: (ثانيًا) الهجوم من اليمين ومن اليسار

يشهد القرن التاسع عشر التطور الكامل للتغير الذي حدث في مصادر العيش لتلك الطائفة ذات الأهمية العظمى من الطبقات المفكرة، وأعني بها الكتَّاب، ويشهد كذلك اللمسات الأخيرة في عملية خلق تلك الفئة الحديثة ذات الصفات المعينة التي نسميها المثقفين. ولا بد أن يلقى هذان الموضوعان العناية في أي تاريخ للفكر في الغرب.

إن الكتَّاب من جميع الأنواع، شُعراء كانوا أم قصَّاصِين أم باحثين — كان لا بد لهم منذ أيام الإغريق حتى الأزمنة الحديثة المبكرة أن يحصلوا على دخلٍ من أملاكهم الخاصة، أو على المال يعينهم به رعاتهم الأثرياء كما كان «الميسناس» الرومان، أو تعينهم به الدولة كما كان كتَّاب المسرحية في أتيكا، أو هيئة من الهيئات كما كان نظام الأديرة. وبعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر اتسعت تدريجًا سوق الكتب حتى تمكَّن المؤلفون والناشرون شيئًا فشيئًا من أن يضعوا نظامًا لحفظ حقوق الطبع، وأمسى الكاتب تاجرًا مرخصًا له ببيع نتاجه بالتعاون مع الناشر الذي أخذ على عاتقه جانبًا كبيرًا من المخاطرة التجارية. ثم ظهرت المجلة، والصحيفة في القرن الثامن عشر، والصحافة التي كان الكاتب يعمل فيها نظير راتب يتقاضاه، أحيانًا ﻛ «ماهية»، وأحيانًا أخرى بالقطعة طبقًا لفئات معينة. والقرن الثامن عشر يُعَد هنا فترة انتقال؛ فقد كان حق الطبع لا يزال ناقصًا، وما برحت للرعاة أهميتهم، والصحافة لا تجزي حتى بالنسبة إلى أكثر العاملين فيها نجاحًا. وما عتَّم «شارع جرب» الإنجليزي مصطلحًا خاصًّا يعبِّر عن الطبقات العاملة المكافحة التي كانت صناعتها الكلمة المكتوبة. ومع ذلك فقد نَمَت طبقة من الناس — وبخاصة في إنجلترا وفرنسا — تعيش، مهما تكن المعيشة سيئة، على بيع ما تكتبه في سوقٍ حقيقية. وربما كان سير وولتر سكوت أول مَن أثرى من قلمه، وهي ثروة ضاعت منه فيما بعد — كما ضاعت من مارك توين — بسبب إسهامه بغير روية في العمل الناشئ الجديد الذي يتعلق بالنشر على نطاق واسع.

ولما انتصف القرن التاسع عشر أضحت للكتَّاب مكانتهم الحديثة الكاملة. وخُصِّصت المكافآت الكبرى لأولئك الذين يكتبون الكتب الرائجة في السوق، كما كان لمن لا يرقون إلى مستوى نجاح هؤلاء كسْبٌ مهما يكن ضئيلًا يعيشون عليه. واكتملت الصحيفة اليومية، والمجلات الدورية، يمدُّها بالكتابة مراسلون يتقاضون الأجور وموظفون وكتَّاب أحرار. وأخذت الدراما بظهور شيكسبير تدر الربح، وقد كان الرجل مديرًا مسرحيًّا من الطراز الأول بكل تأكيد. ولما حلَّ العصر الفكتوري أصبح النصيب العائد من المسرحيات الناجحة حقًّا يزداد في نسبته. ومن هنا يتضح الطريق إلى هوليوود. ثم كانت هناك فرصة أخرى لأولئك الذين يكسبون عيشهم بضم الكلمات بعضها إلى بعض فوق الورق، وأعني بذلك الإعلان التجاري. غير أن الإعلان في عام ١٨٥٠م كان لا يزال في المهد، ولم يكن مهنة محترمة كل الاحترام.

وبقيت الكتابة العلمية، بما فيها العلم البحت، تستمد الإعانات المالية وبخاصة من الهيئات. بيد أن الهيئات التي تقدِّم المعونة كانت في القرن التاسع عشر قد تحولت إلى علمانية أكثر منها دينية، وكانت عادة في القارة الأوروبية تحت رقابة الدولة. وفي عالم الكتب الدراسية تطور نوع من التجارة كان مصدرًا ثانويًّا للدخل يرحِّب به أعضاء العالم الدراسي. وظلت — على أية حال وبوجه الإجمال — بقية المثقفين ثقافة صافية بحتًا، أولئك الذين يعقلون ويعلمون، تتلقى المعونة من مختلف الجماعات — كالدولة والكنيسة والكلية وما إليها — على مخصصات ثابتة وضئيلة نسبيًّا. أما القانون فقد بقي — كما كان منذ قرون — مهنة علمية تخضع للمنافسة الفردية كأي عمل آخر. وأما الطب — وهو لا يكاد يكون مهنة علمية بأية حال حتى بداية الأزمنة الحديثة، فقد أمسى بحلول منتصف القرن التاسع عشر مهنة من أجلِّ المهن، وإن كان — كالقانون — من حيث العيشة الاقتصادية، من المشروعات الخاصة.

ولا نستطيع هنا أن نقتحم ذلك الميدان الساحر الذي أُهمل إهمالًا نسبيًّا، وأعني به سوسيولوجية المهن. وقد أشرت إلى نقطة واضحة، وهي أن الكتَّاب المحترفين في القرن التاسع عشر قد جرفهم تيار المنافسة الاقتصادية باعتبارهم بائعين للكلمة، وأن كل أولئك — بصفة عامة — الذين كان عملهم الأساسي نوعًا من التفكير والتدبير المقصود كانوا ينجذبون تدريجًا نحو تيارات المنافسة الاقتصادية الفردية في القرن التاسع عشر. وهؤلاء في ذلك الحين أكثر عددًا من أي عهد سبق على الإطلاق بالتأكيد، ونسبيًّا على الأرجح، بالقياس إلى مجموع السكان، ولم يشذ عن ذلك فيما يظهر سوى الوعاظ والمعلمين، ولم يكونوا كلهم كذلك. ومع ذلك فقد بقي المثقفون مثقفين، يفخرون بذلك، يحسون دائمًا — حتى في المجالات التي تشتد فيها المنافسة كالصحافة مثلًا — بنوع من النظرة إلى الحياة يفصلهم عن أولئك الذين يبيعون ويشترون السلع المادية. غير أن النجاح التجاري العظيم، وبخاصة في الميادين التي يمكن أن تكون على هامش الثقافة مثل العمل في هوليوود، والإعلان، والدعاية، يميل في أمريكا المعاصرة إلى أن يُقلِق ضمير الكاتب الناجح، ويدفعه نحو اليسار.

وأهمية هذا التحول في مركز المثقفين من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية إلى حدٍّ ما في العالم الغربي ليست — من وجهة نظرنا — أنهم يندفعون في دوامة تجارية سوقية، وأنهم يفقدون الرزانة والانفصال عن غيرهم؛ ذلك لأن المثقفين في الغرب لم يعيشوا قطُّ في أبراج عاجية معزولة عن التراب والحرارة في هذه الدنيا في أي عصر من العصور. وإنما الجديد في العالم الحديث هو العملية — التي تمَّت بشكل واضح في القرن التاسع عشر — التي جعلت المثقفين يعتمدون في عيشهم إلى حدٍّ ما على جمهور كبير، والتي فعلت ذلك بالكتَّاب بصفة خاصة.

وربما توقعنا من هذا الاعتماد على عادة الكثرة من الناس أن يقود أكثر الكتَّاب نجاحًا إلى مراءاة الجمهور، وإلى قبول العلاقات الإنسانية كما يجدونها — يقودهم بإيجاز نحو التشابه مع غيرهم من الناس. وليس من شك في أن من بين ملايين الملايين من الكلمات المطبوعة ما كُتب لمجرد تسلية الرجل العادي أو إثارته، لمعاونته على الفرار من هذا العالم، ولتثبيت أهوائه، ولتأييد نظرة التوفيق في العهد الفكتوري. إلا أن كلَّ مَن ندرس اليوم تقريبًا من الرجال الذين نَعُدُّهم جزءًا من ميراثنا، وكل الكتاب تقريبًا، وكثير من الكتاب المنسيين والعارضين، قد «هاجموا» الأمور السائدة. وكاتب الافتتاحية — كالواعظ — لا بد له في العالم الحديث من «معارضة» شيء ما. وقد عتب كبار الكتاب في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على الجنس البشري ما تردى فيه من فشل. انظر إلى كارليل، وإمرسون، وثورو، وماركس، ونيتشه؛ لقد كان هؤلاء — بطبيعة الحال — كتَّابًا «سياسيين أخلاقيين»، وما كان لهم أن يكونوا كذلك دون أن يُنسِبوا إلى إخوانهم في البشرية الخطأ، والشر، والخمول، والغباء. وكذلك كان كتَّاب الرواية أنفسهم صليبيين (أي متحمسين في هجومهم). وأوضح ما تكون فيهم هذه الصفة حينما يصرحون بأنهم يحللون السلوك البشري تحليلًا علميًّا. وهنا نذكر على الفور زولا أو دريزر.

وهنا نقترب من النقطة الثانية التي تتعلق بدور المثقفين في العالم الغربي الحديث، وهي مشكلة رئيسية في فرعٍ من فروع علم الاجتماع لم يبلغ حتى ما بلغه الفرع الخاص بالمهن — ويُعرف في علم الاجتماع بسوسيولوجيا المعرفة، والعلم، والأفكار. ولا نحتاج إلا إلى إضافة ملاحظة واحدة بشأن الموقف الحديث للكاتب الذي يعتمد على السوق الشعبية الكبيرة لسلعته، وكثيرًا ما كان أريح عمل يقوم به مثل هذا الكاتب أن يسيء إلى قرائه، وأن يبيِّن لهم مقدار غفلتهم — وبخاصة في أمريكا — حيث نجد الغافلين يقرءون «ركن الغافلين» لمستر منكن بسرور بالغ، وحيث الجُهَّال يُقبِلون على شراء كِتاب «الجُهَّال» لمستر لويس فيرجونه.

وليس لدينا — بأية حال من الأحوال — للثلاثة آلاف العام من الثقافة الغربية قدْرٌ كافٍ من الحقائق عن اتجاهات المثقفين — وأعني بهم «الطبقات المثقفة» كما عرَّفها الأستاذ بومر تعريفًا أوردناه في مقدمة هذا الكتاب — إزاء النظرة الكونية لمجتمعاتهم، كما أنا لم نصل بعدُ إلى أي تفسير مقنع أو نظرية عن الدور الاجتماعي للمثقفين. لدينا شذرات من المعارف، وبدايات لنظريات، وقد ذكرناهما بين الحين والحين في هذا الكتاب. ونستطيع أن نقول إن المثقفين كفئة — ربما مع استثناء مَن كان منهم في الأيام الأولى المقدسة من المسيحية — كانوا دائمًا على وعي بانفصالهم عن مجموع إخوانهم في البشرية؛ أي كانوا يحسون إحساسًا قويًّا ﺑ «الوعي الطبقي». وقد كان بعض أعضاء الطبقات المثقفة في أعلى مستوًى من مستويات المراتب الاجتماعية في كل العصور، حتى في العصور المظلمة عندما كانت الطبقة الحاكمة الجديدة ممن لا يقرءون ولا يكتبون، أو حتى في إسبرطة التي كانت تعادي الثقافة عن عَمْد. وكان بعضهم من حيث الأجور الفعلية في أسفل السُّلم، مثل قسيس الأبرشية الريفي في العصور الوسطى والمعلم في أكثر العصور.

بيد أنه من العسير حقًّا أن نُصدِر حكمًا عامًّا ذا أثر فعال، حتى لفترة معينة — بله أن نقول شيئًا عن مجرى التاريخ الغربي بأسْره فيما يتعلق باتجاه الطبقات المثقفة إزاء النظام القائم في مجتمعاتهم. وقد كان هناك دائمًا ثوار في أعلى السُّلم، وإن كنا لا نعلم إلا القليل عنهم في العصور المظلمة. والتتابع ظاهر من أفلاطون إلى الآباء المسيحيين الأوائل إلى أبيلارد ووايكليف والثائرين المثقفين العديدين في يومنا هذا. ومع ذلك فربما كانت الكثرة من الطبقات المثقفة، بل والغالبية العظمى حتى من أولئك الذين يعِظون، ويعلِّمون، ويخطبون، ويقومون بأعمال التحرير، ويكتبون التعليق من التابعين للنُّظم السائدة، والمؤيدين للأمور كما هي، محافظين بأبسط معنًى من معاني الكلمة، وهو «أن نترك ما لدينا دون المساس به». وقد كان المستمعون إليهم أو قراؤهم في سلوكهم بالتأكيد من الطائعين لنُظم المجتمع والمحافظين، وإلا لما كنا هنا ندرُس تاريخ الفكر في الغرب — وإلا لما كان هناك غرب. ومن المحتمل حقًّا أن القراء العديدين للأدب الثائر، الأدب الذي يهاجم النظام القائم — حتى في الغرب الحديث — لم يتأثروا البتة إلى الحد الذي يجعلهم هم أنفسهم ثائرين. إنما كانوا يتناولون نوعًا من أنواع المطهِّرات أو يأخذون سببًا من أسباب الراحة النفسية، كما كان أسلافنا يجدون الراحة النفسية في المواعظ التي تُلقى عليهم عن نار الجحيم.

ومهما يكن من أمرٍ فإن من الواضح أن «الجزء الخلاق» من الطبقات المثقفة كان على وجه عام منذ بداية حركة التنوير ساخطًا على العالم الذي كان من حوله، متحمسًا لإصلاحه، ومقتنعًا بإمكان ذلك، وكان فيما بين فلاسفة القرن الثامن عشر اتفاق — بالرغم من وجود بعض الفوارق في الوسائل — بأن الإصلاح يمكن أن يقوم على الفور، وأن المجتمع يمكن أن يُصاغ طبقًا لمعايير (هي معايير الطبيعة والعقل) يراها كل امرئ إذا استنار عقله. وهؤلاء المثقفون من المستنيرين كانوا يمقتون غير المستنيرين من «أصحاب الامتياز» — وأعني بهم القسس والنبلاء التقليديين، وتلك القلة من المثقفين الذين كانوا يعارضونهم — ولكنهم كانوا يحبون غير المستنيرين «من غير أصحاب الامتياز» ويضعون فيهم ثقتهم، وأولئك هم عامة الناس الذين كانوا يريدون أن يدربوهم على الحياة في «المدينة الفاضلة».

ولما حلَّ القرن التاسع عشر كان المثقفون الخلاقون لا يزالون في ثورتهم، ولكنهم لم يعودوا زمرة موحدة. وقد اتجه بعضهم في مُثُله نحو اليمين، نحو الدين القديم، نحو الأرستقراطية القديمة أو التي استردت شبابها، نحو نوع من أنواع السلطة، ونوع من أنواع التخطيط المحدد لكي يتحول أكثر الناس إلى الرقة والهدوء، بل وإلى السعادة، وأن يبقَوا دائمًا على هذه الحال، واتجه بعضهم نحو اليسار، نحو شكل من أشكال الاشتراكية، وأهم من ذلك أن المثقفين الخلاقين أخذوا بتقدُّم القرن يصطرعون مع نفس القوم الذين كان فلاسفة القرن الثامن عشر يدللونهم ويرعونهم — وأعني بهم المتعلمين العاديين من الطبقة الوسطى الذين لا نستطيع أن نَعُدَّهم مثقفين. وقد نبذ كتَّاب القرن التاسع عشر الذين ما زلنا نذكرهم ونقرؤهم — إلى حدٍّ كبير — أكثر المعايير التي بينَّاها في الفصل السابق وقلنا إنها تمثل التوفيق في العصر الفكتوري. كان هؤلاء الكتَّاب يشاركون الطبقات الوسطى في بعض اتجاهاتها، وبخاصة الاقتناع بأن التقدُّم حقيقي وممكن. وكانوا على الأقل جدًّا يشاركونهم في الإحساس بالتاريخ وبالتطور وبالتدفُّق. ولكنهم يمقتون الطبقات الوسطى بصفة خاصة، الذين اخترعوا لها أسماء لا تكرمها مثل «الفلسطينيين» (أو الرعاع). وحتى الكاتب الذي يفخر بما أنجزته الطبقات الوسطى، الكاتب الذي كان عشاق الجمال والفنانون من عامة الشعب يَعُدُّونه عادة من الفلسطينيين، حتى هربرت سبنسر الذي كتب «خلاصة» القرن التاسع عشر، لم يكن خاضعًا في تفكيره للنظام السائد، ولم يكن قانعًا، وإنما كان معارضًا لرجال الدين بشدة، مؤمنًا بأن العالم به من الخطأ الشيء الجسيم. كان سبنسر بإيجاز يحتج ويشكو ويتألم، ولم يستطِع أن يستطرد في الوصف أو التحليل دون أن يلقي اللوم — وقلما يلقي الثناء — ودون أن يُظهِر ضيقه وقلقه. كانت عنده باختصار تلك المرارة التي أصبحنا نتوقعها من الكتَّاب الجادين. كان المثقفون الخلاقون في القرن التاسع عشر يسيرون قُدُمًا بالفعل نحو الحالة التي بلغوها في أمريكا المعاصرة؛ حيث يتوقع المرء من المثقف أن يشكو بطبيعته كما يتنفس، وحيث يتوقع المرء أن يفتح أي كتاب منشور ويشرع في قراءة عيوب كلياتنا، أو أزمات أُسَرنا، أو إتلاف التربة السطحية، أو أسباب الشقاق في العلاقات الدولية، أو اقتراب ثقافتنا من نهايتها، بل إنك لتجد حتى الشكوى من دور المثقفين. وقد نشر كاتب فرنسي ممتاز اسمه جوليان بندا منذ بضع سنوات كتابًا عنوانه: «ماذا دهى المثقفين؟»

إننا لا شك مبالغون؛ فالعلم، أو المعرفة التراكمية لا يمكن في حد ذاتها أن تثني أو تلوم، أو تأمل أو تجزع، وقد كان هناك قدْر كبير من الكتابة العلمية في تلك الأيام. كما أن بعض الفنانين قد يعملون بقصد إدخال السرور على النفوس، لا بقصد الإصلاح، وإن كان الجانب الأكبر من الفن ربما تضمن حكمًا من الأحكام عن هذا العالم، ومع ذلك فإنه من الحق على وجه الإجمال أن الطبقات المثقفة الأكثر خلْقًا وإنتاجًا — والكتَّاب منهم خاصة — كانت على وجه التقريب منذ الثورة الفرنسية تلفظ أسلوب الحياة عند الطبقات الوسطى في الغرب وتنبذ القيم السائدة بين أفراد هذه الطبقات — ولا ننسى هنا أولئك الذين كانوا يقلِّدون هذه الطبقة ويتطلعون إلى مكانتها، وهم يؤلفون الكثرة العظمى من الطبقات العاملة في هذا العصر.

الهجوم من اليمين

سوف نقسِّم أنواع الهجوم على طرق المعيشة التقليدية في القرن التاسع عشر — لسهولة البحث — إلى هجوم من اليمين وهجوم من اليسار. وقد تولَّد هذان الاصطلاحان عن الحياة البرلمانية الفرنسية في مستهل القرن، عندما اعتاد الملكيون أو المحافظون أن يجلسوا جماعة إلى يمين رئيس الجلسة، وتجمَّع المصلحون الدستوريون والانقلابيون إلى يساره. وفي هذا إشارة رمزية لها دلالتها؛ لأن «اليسار» على وجه الإجمال يريد أن يدفع «مبادئ عام ١٧٧٦م وعام ١٧٨٩م» حتى يتحقق الغرض منها على أكمله، والأهداف الديمقراطية للثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، ويريد «اليمين» إجمالًا مجتمعًا أقل من ذلك ديمقراطية بدرجة كبيرة. وهذه الخطوط العريضة التي ترسم الفوارق بين هذين المصطلحين لا تكفي — بطبيعة الحال — لقياس ما في الآراء من تعقيد حتى في السياسة، وذلك لأمر واحد، وهو أن الوسط الذي نقيس منه اليسار واليمين ليس نقطة محددة واضحة؛ لأن الجذب الديمقراطي بين مُثُل الحرية والمساواة الذي ألمعنا إليه من قبلُ موجود دائمًا. كما أن المَثل الأعلى للأمن يزيد الأمر تعقيدًا. غير أن التقسيم إلى اليسار واليمين — برغم هذا — كوسيلة للتمييز بين الهجوم على الموقف الذي وضحناه في الفصل السابق، ينفعنا، وبخاصة إذا لاحظنا أن خط التقسيم منحنٍ يمكن أن يكون دائرة كاملة فيلتقي الطرفان. ومما يلفت النظر في السنوات الأخيرة من الجمهورية الفرنسية الثالثة أن الملكيين والشيوعيين، وهما في المصطلح السياسي يمين متطرف ويسار متطرف، كثيرًا ما صوَّتوا في جانب واحد في مشكلة معينة؛ فقد كان كلاهما يمقت في حماسة الفضيلة الجامدين من السوقة الذين لم يريدوا تغيرًا ثوريًّا.

إن فلاسفة القرن الثامن عشر — بما كان لديهم من غريزة سليمة تجعلهم يميزون أعداءهم — أبرزوا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ليوجِّهوا إليها أشد هجماتهم لأنك لو آمنت — كما فعل هؤلاء الفلاسفة — بالخير الطبيعي والعقل عند الإنسان العادي، فإن فكرة الخطيئة الأولى إذن تصبح في الطرف الآخر المناقض. ولكن المزيد من مجموعات الآراء التي تضمنتها حركة التنوير — المذهب الطبيعي الذي ينكر ما فوق الطبيعي، والمذهب المادي، والاعتقاد في التقدُّم الأكيد فوق الأرض، وكراهية التقاليد والمراتب الثابتة القائمة، والاعتقاد في الحرية أو المساواة، أو في الحرية والمساواة معًا في بعض الأحيان — كل ذلك وجد في المسيحية التقليدية المنظمة مجموعة من الآراء المعادية. وقد ذكرنا من قبلُ أن حركة التنوير ذاتها هي من بعض نواحيها وليدة المسيحية. وسوف نرى أن الكنائس الأشد محافظة، الرومانية الكاثوليكية والأنجليكانية — مثلًا — حتى هذه الكنائس لم ترفض بأية حال من الأحوال أن تكيِّف نفسها جزئيًّا للتغيرات التي حدثت منذ القرن الثامن عشر. ومن خطل الرأي حقًّا أن نقول إن «المسيحية» و«الروح الجديدة» نظامان من نُظُم القيم لا يتداخلان. وقد لاحظنا في الواقع في الفصل السابق أن من عناصر التوفيق في عهد فكتوريا الاحتفاظ بتقليد ارتياد الكنيسة، كاثوليكية كانت أو بروتستانتية. وقد ترتَّب على ذلك أن المسيحيين لا بد أن يؤمنوا بالديمقراطية، وبخاصة في الولايات المتحدة؛ حيث يعتقد الجميع في الديمقراطية مع استثناء أقلية متعصبة.

ومع ذلك فقد أخرجت الكنائس القائمة بين الحين والحين مفكرين كانوا من أشد خصوم الديمقراطية صلابة وثباتًا. وليس من بين هؤلاء بالتأكيد مَن هو أفصح، أو أقدر، بل وأكثر بعُدًا عن الواقعية فيما أحسَب، من جوزيف دي ميستر؛ فهذا الموظف من سافوي الذي أقصته الثورة الفرنسية حاول أن يرد زملاءه لِما كان يعتقد أنه الحقائق الأبدية، وبقدْر كبير من نفاذ البصيرة أشار إلى فرانسيس بيكون وعَدَّه أحد واضعي أسس الشر الحديث، وهو على وجه الدقة «أن بالإمكان ظهور شيء جديد طيب». وقلَّ من الأمريكيين مَن يستطيع أن يقرأ فقرة كالتالية دون أن تتولاه الدهشة، بل ويستولي عليه السخط والحنق. ومع ذلك فمن المهم أن ندرك أن من بين رجال ثقافتنا مَن آمن بهذه المعتقدات:

«إن عنوان مؤلفه (مؤلف بيكون) الرئيسي ذاته خطأ يلفت الأنظار؛ إذ ليس هناك «نوفم أورجانم» أو بالعربية «أداة جديدة» نستطيع أن نصل بها إلى ما لم يصل إليه أسلافنا. إن أرسطو هو المشرِّح الحقيقي — إن جاز هذا التعبير — الذي حلل الأداة البشرية تحت أبصارنا وأظهرها لنا. ولا يستطيع المرء إلا أن يبتسم في شيء من السخرية على رجلٍ يَعِدُنا ﺑ «رجل جديد». ولْنَدَع التعبير عن هذا الكتاب المقدس. إن الروح البشرية هي هي بعينها دائمًا … ولا يستطيع امرؤ أن يجد في الروح البشرية أكثر مما بها. ولأن تظن أن ذلك ممكن لهو أكبر الأخطاء، وليس في ذلك معرفة بالطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه … قد توجد في بعض العلوم المعينة مكتشفات يمكن أن تُعَدَّ آلاتٍ حقيقية تصلح كل الصلاحية لإبلاغ هذه العلوم حد الكمال؛ فقد كان حساب التفاضل نافعًا في علوم الرياضة، كما كان الترس نافعًا في صناعة الساعات. أما في الفلسفة العقلية فمن الواضح أنه لا يمكن أن توجد أداة جديدة كما أنه لا توجد كذلك أدوات جديدة في الفنون الآلية عامة.»

إن الكتاب الضخم الذي أخرجه ميستر «عن البابا» إنما هو دفاع عن السلطة البابوية في الواقع، بل عن عصمة البابوية عن الخطأ، ودفاع بوجه عام عن نظام تسلطي في عالم أحسَّ أنه يتحلل إلى فوضى العقائد والأعمال. جاء فيما قال: «بعدما أضعفتِ البروتستانتية والتفلسف، وألوف المذاهب الأخرى المعارِضة أو المسرفة بدرجةٍ ما، من شيوع الحق بين الناس، لا يستطيع الجنس البشري أن يبقى على الحالة التي يجد نفسه فيها الآن.» والظاهر أنه كان واقعيًّا إلى الحد الذي لم يجعله يأمل في أي إصلاح مفاجئ، وبخاصة بين قومٍ يرجع تاريخهم إلى الأنجلو ساكسون في الماضي البعيد. وأما ما عقد عليه الأمل فهو أن تَثْبت في مكانها نواة من الرجال الحكماء النظاميين في البلاد التي ما زالت كاثوليكية في صميمها، وذلك وسط زوبعة المادية، وانعدام العقيدة والتقدُّم العلمي، وتبقى قائمة لتعيد العالم إلى رشده بعد الانهيار الذي لم يكن منه مفر.

ويمكن أن نصف ميستر بلفظةٍ نعبِّر بها عادة عن الإساءة إلى الناس، وتنطبق عليه انطباقًا حرفيًّا، وتلك هي «الرجعي»، أو الرجل الذي يؤمن أن الجديد لا يمكن أن يكون طيبًا، والطيب لا يمكن أن يكون جديدًا، وأن المركَّب الكاثوليكي في العصور الوسطى صالح لكل العصور. ولكن حتى ميستر لم يستطِع أن يفر من أثر التاريخ، وإنك لتلمس فيه على الأقل في أسلوبه المحكم القوي الواضح طابع القرن الثامن عشر الذي لا نخطئه. وأكثر من ذلك أنه في كراهيته للحماسة العاطفية، وفي ازدرائه للإنسانيين في عصره يشفُّ عن مظاهر التسلط الكاثوليكي الذي لا يخلو من المرارة، ذلك التسلط الذي كان يؤلم النفوس الرقيقة في الكنيسة ذاتها. وأرجو أن تلاحظوا الطريقة التي يوحي بها في الفقرة السالفة إلى أن التعبير عن «الإنسان الجديد» وما يشبهه يَحسُن أن يُترك للكتاب المقدس. ثم إنك لو قرأت ميستر بعناية كافية وجدت أن لديه بعض الأفكار عن الطبيعة «العضوية» للمجتمع، وقوة الإنقاذ الكامنة في التقاليد وفي التعصب، مما نجده عند بيرك. غير أن «طريقة» ميستر أقل تسامحًا من طريقة بيرك، وهو يترك فينا الانطباع بأن مجتمعه العضوي الطيب إنما هو مجتمع ثابت ولكن بغير اطراد.

ولا يعدو ميستر في نظر أكثر الأمريكيين في القرن العشرين أن يكون نموذجًا غريبًا من عالم آخر. وأكثر الأمريكيين — لسوء الحظ — يجدون مثل هذه المشقة في فهم رجل أعمق نقدًا للديمقراطية، هو الرجل الأيرلندي إدمند بيرك، والعطف على آرائه. وقد عاش بيرك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ونشر أعظم كتبه «تأملات في الثورة الفرنسية» في عام ١٧٩٠م. وهو من أقدر المفكرين على البحث في المعتقدات الأساسية الحركة التنوير، وظل طوال القرن التاسع عشر المصدر العظيم لنوعٍ معيَّن من المعارضة المحافظة على القديم لاتجاهات العصر. وكان بيرك بروتستانتيًّا، وأنجليكانيًّا مخلصًا نشأ تحت التأثير الإنجليزي وشق طريقه في مجلس العموم البريطاني. وقد أيَّد قضية الثوار الأمريكيين في خطبٍ طالعناها أمدًا طويلًا في هذه البلاد، ولكنه منذ البداية أشار إلى ما ظن أنه من الاحتمالات التي قد تقضي على الثورة الفرنسية. وجعل من نفسه في وقتٍ مبكر زعيمًا في الحركة الفكرية المناهضة لها. وقد قادته هذه الخطوة إلى صراعٍ عنيف مع المفكرين المتقدِّمين في عصره، وجعلت أكثر الأمريكيين لعهد جفرسون يَعُدونه روحًا مظلمة تغشاها ظلمة الجهالة. وكانت «حقوق الإنسان» لتوم بين ردًّا على بيرك. ولا يزال أكثر الأمريكيين إلى يومنا هذا يميلون إلى الشعور بأن بين كان أقوى حجةً، ومع ذلك فإن بيرك يستحق الالتفات إليه حتى من الديمقراطي الواثق بنفسه من حزب اليسار؛ لأن الكثيرين يرون أنه قام ببعض التحليل للعلاقات الإنسانية التي تستحق أن نَعُدَّها إضافات لمحصولنا الضعيف من المعارف التراكمية في العلوم الاجتماعية، وقد يشق علينا أن نعتصر هذا المحصول من أسلوبه المسهب. وما زالت عند بيرك — فوق ذلك — نواة صلبة من العقيدة المسيحية لا يمكن أن تُختصر في صورة معرفة تراكمية بالمعنى العلمي.

كان بيرك يرى أن الثورة الفرنسية هي في صميمها من عمل نوع معين من المثاليين الذين تشبَّعوا بالآمال العظيمة التي كانت تتطلع إليها حركة التنوير. إن بيرك لم يعتقد بأن كل شيء كان على ما يُرام في فرنسا في عهدها البائد، وأنه ليست هناك حاجة إلى القيام بعملٍ ما لرفع مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية الفرنسية. لم يكن بيرك من هذا الطراز من الرجعيين، وإن كان بمواصلته جدله السياسي وبحلول عيد الإرهاب في فرنسا، كان قمينًا بأن يكتب المقالات بين الحين والحين التي يبدو فيها في مثل جمود ميستر. وأساس نقد بيرك لزعماء الثورة الفرنسية هو أنهم — بدلًا من السير قُدُمًا ومحاولة إصلاح اتجاه معيب، أو إعادة بناء سور قائم أو ما إلى ذلك، أو تقوية سطح من السطوح — كانوا يقترحون هدم البناء كله هدمًا فعليًّا ثم إقامة بناء آخر جديد كل الجدة رسم لهم تصميمه معلموهم من الفلاسفة. ولكن البناء القديم كان هو البناء الوحيد الموجود؛ وحتى لو أمكن للناس أن يتفقوا على البناء طبقًا لتصميم رجال النظريات، فإن البناء لا بد أن يستغرق بعض الوقت، ولكنهم في الواقع لم يكونوا على مثل هذا الاتفاق. وكل ما حدث أن البناء القديم قد انهار انهيارًا شنيعًا، وبقي الشعب الفرنسي بغير مأوًى يُئويهم من الزوابع. وكان لا بد للبناء الجديد في نهاية الأمر من أن يشيَّد إلى حدٍّ كبير من المواد القديمة؛ لأن الناس لا يستطيعون العيش في العالم الجديد بغير مأوًى. ولكن الفلاسفة لم يُشيِّدوا هذا البناء الجديد القديم، وكان لا بد من بنائه على يد رجل صاحب نفوذ قوي الإرادة، رجل يستطيع أن ينجز الأمور بطرقٍ تسلطية إن اقتضى الأمر — وكان ذلك الرجل هو نابليون بونابرت. ومن الحق أن بيرك الذي كان يكتب فيما بين عام ١٧٨٩م وعام ١٧٩٠م قد لمح في الأفق وتنبأ بصفة خاصة بظهور دكتاتور مثل نابليون، الذي استولى على السلطة نهائيًّا في عام ١٧٩٩م.

إن التشبيه الذي أوردناه في الفقرة السابقة لا يُنصِف بيرك، ولكنه قد يعين القارئ على متابعة تحليله. يبدأ بيرك بتشاؤم المسيحي بشأن الإنسان الحيوان. والواقع أن من بين ما كان يمقته أشد المقت روسو الذي كان يبشِّر بالخير الطبيعي عند الإنسان الذي لم تلوثه الحضارة، أو روسو الذي وصفه «بأنه سقراط الجمعية الوطنية المجنون». فإن عامة الناس إذا تُركوا لدوافع شهواتهم وميولهم يميلون دائمًا — كما يرى بيرك — إلى التخبط، والغش، والخداع، وإلى أن يسلكوا سلوك الحيوان. ومع ذلك فإن أكثرهم لا يفعل ذلك في حياتهم اليومية. والشواذ من المجرمين تُمكن دائمًا معالجتهم في مجتمعٍ سليم. إن المجتمع المدني يقدِّم لنا مثالًا رائعًا للناس السيئين في صميمهم و«بطبيعتهم» الذين يسلكون سلوك الطيبين، أو على الأقل سلوك الهادئين. ويجب أن نستنبط من ذلك أن الحقيقة هي عكس ما قال به روسو تمامًا. إن الإنسان ينجو — لا يتحطم — بعضويته في المجتمع، وباتباعه للتقاليد والمواضعات والاتجاهات السائدة، والقانون، وما إلى ذلك. وبيئته الاجتماعية والسياسية هي الشيء الوحيد الذي يحول بينه وبين الاضطراب الذي يتمرغ فيه.

ويترتب على ذلك أنه يتحتم علينا ألا نهدم الجانب الأكبر من النُّظم والمؤسسات والطرق المطروقة في تناول العلاقات الإنسانية التي نسميها «المجتمع المدني». ومن الحق أن أي إنسان نابه لديه المواهب الصحيحة يمكنه أن يبتكر كل ضروب الوسائل الجديدة لتناول هذه الأمور، تلك التحسينات النظرية التي لو أمكن تطبيقها لكانت تحسينات واقعية حقًّا. غير أن بيرك ينادي بوجوب السير في حذرٍ على هذا الطريق، ومحاولة قليل من التغيرات في الوقت الواحد، وبعدم محاولة تغيير المجتمع المدني «بأسْره». وقد حاول الفرنسيون في عام ١٧٨٩م فعلًا هذا الانقلاب الشامل. وسعَوا إلى تغيير كل شيء من نظام الموازين والمكاييل إلى انتخاب الأساقفة، وبناء الحكومة المركزية، ورجعوا في ذلك إلى أصحاب النظريات بدلًا من الانقياد لأصحاب التجربة العملية.

إن ما يبقي عامة الناس على الطريق القويم هو على الأقل العادة إلى حدٍّ ما، ونوع من التطابق العاطفي الذي يوجده الفرد بينه وبين المجتمع الذي يحس أنه جزء منه، وليس هذا الشعور بالأمر الذي يمكن أن نحدثه إن أردنا، إنما هو من الأمور التي لا بد أن تنمو نموًّا تدريجيًّا طبيعيًّا. وما كان بيرك ليقدِّر القصة التي تُروى عن أحد مباني الكليات الجامعية التي علَّقت إعلانًا يقول: «ابتداء من الغد يصبح من تقليد الكلية أن يخلع المستجدون قبعاتهم عندما يمرون بتمثال مؤسس الكلية.» إن ما يدعو إلى تماسك المجتمع في نظر بيرك ليس شيئًا معقولًا بالمعنى البسيط لهذه الكلمة وليس شيئًا مخططًا، وليس شيئًا مسطورًا على الورق كدستور جديد. بل إنه كان في الواقع يعتقد أن «الدستور الجديد» اصطلاح يخلو البتة من المعنى. إنك تستطيع — على أحسن تقدير — أن تُدخِل عناصر جديدة في دستور من الدساتير، كما تستطيع أن تُطعِم الشجرة بعملية عضوية لا عملية آلية.

إن بيرك بطبيعة الحال لم يستخدم اللغة التي استخدمناها فيما سبق. إنما هو يستعمل الاصطلاحات السائدة في عصره، بما فيها الاصطلاح المبارك المقدس: «العقد الاجتماعي»، ولكن ينبغي لنا أن نلاحظ المعنى المختلف الذي يكسبه لهذه الفكرة؛ فنحن معه لا نعالج المصالح بحساب لوك أو بنتام، وإنما نعالجها بتصورات هي بكل وضوح من تقاليد المسيحية في العصور الوسطى.

«ليس المجتمع في الواقع إلا عقدًا. والعقود الثانوية التي تتعلق بالأمور التي لا تهمنا إلا حينًا بعد آخر يمكن أن تنحل متى شئنا. ولكنا لا ينبغي أن نَعُدَّ الدولة شيئًا لا يفضِّل اتفاق شركة في تجارة الفلفل والبن، أو المنسوجات أو التبغ، أو شيئًا تافهًا كهذا، لا نأخذه إلا مأخذ المصلحة الموقوتة، وللشركاء أن يتحللوا منه عندما يريدون، بل يجب أن ننظر إلى الدولة بنوع آخر من الاحترام؛ لأنها ليست شركة في أشياء لا تخضع إلا للوجود الحيواني الضخم لطبيعة مؤقتة زائلة. إنما هي شركة في كل العلوم، وفي كل الفنون، شركة في كل فضيلة من الفضائل وفي كل سبب من أسباب الكمال. وبما أن غايات مثل هذه الشركة لا يمكن أن تتحقق في أجيال عديدة، فإنها تمسي شركة لا بين الأحياء فحسب، ولكن بين الأحياء والأموات وأبناء المستقبل. وكل عقد في كل دولة على حدة إنما هو بند في العقد البدائي العظيم للمجتمع الأبدي، العقد الذي يصل الطبائع السفلى بالطبائع العليا، ويربط بين العالم المنظور والعالم غير المنظور، وفقًا لاتفاق ثابت يباركه قسَم لا حنث فيه يوقف كل طبع من الطبائع المادية والمعنوية في مكانه المحدد له.»

ونستطيع أن نورد نصًّا آخر لنرى كيف أن بيرك يستعير عبارة أخرى مشهورة — ومتفجرة — من عبارات حركة التنوير وهي: «الحقوق الطبيعية»، ويخضعها للأفكار التقليدية التي تتعلق بالسلطة وعدم المساواة.

«إن الحكومة لا تقوم بفضل الحقوق الطبيعية، وهي الحقوق التي قد توجد — بل هي توجد فعلًا — مستقلة عن الحكومة استقلالًا تامًّا. هذه الحقوق توجد بوضوح أشد، وبدرجة أعلى من درجات الكمال المحرر مما تكون عليه الحكومة. غير أن كمالها المجرد هو عيبها العملي؛ فهي إذ تنادي بالحق في كل شيء تحتاج إلى كل شيء. أما الحكومة فهي حيلة ابتدعتها حكمة الإنسان لكي تَسُدَّ «الحاجات البشرية». وللناس الحق في سد هذه الحاجات بهذه الحكمة. ومن بين هذه الحاجات نذكر الحاجة في المجتمع المدني إلى الحد من ميول الناس بدرجة كافية. إن المجتمع ليس في حاجةٍ فقط إلى إخضاع ميول الأفراد، وإنما هو في حاجة كذلك في مجموعه — كما هي الحال في أفراده — إلى أن توجَّه رغبات الناس في كثير من الأمور وجهة أخرى، وإلى أن تُحَدَّ إرادتهم، وإلى إخضاع ميولهم. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا «بقوة من أنفسهم»، لا بممارسته وظيفته، مع الخضوع لهذه الإرادة وتلك الميول التي هي من واجبه أن يحد منها وأن يُخضِعها. وبهذا المعنى نجد أن القيود التي تُفرض على الناس، وعلى حرياتهم، هي بعض حقوقهم. ولكن الحريات والقيود تختلف باختلاف الأزمنة والظروف، وتسمح بتعديلات لا حصر لها، ولا يمكن أن تقوم على أية قاعدة مجردة. وليس هناك ما هو أشد حماقة من مناقشتها على هذا الأساس.»

وما حدث في فرنسا — بناء على قول بيرك — هو أن الحمقى من الناس وإن حسُنت نياتهم انتهزوا فرصة الأزمة المالية التي أدَّت إلى استدعاء القادة العسكريين لكي يحاولوا هدم المجتمع الفرنسي القديم، وقد نجحوا في تحطيم جانب كبير منه. إن الرجل الفرنسي المتوسط، الذي لم يَعُد قادرًا على الاعتماد على الوسائل القديمة الثابتة، اختل توازنه، وخابت آماله، فحوَّل هذه الخيبة إلى اعتداء، وكان حكم الإرهاب هو النتيجة الطبيعية لمحاولة إحداث تغيرات في المجتمع أضخم مما يُحتمل. ولو أن بيرك كان اليوم حيًّا لقال من غير شك بأن عصابات تهريب الخمور في أمريكا التي تكوَّنت في العشرينيات من هذا القرن في أمريكا كانت نتيجة طبيعية لمحاولة إرغام الناس على التخلي عن عادات الشراب القديمة بتعديل القانون.

غير أن بيرك لم يكن رجعيًّا؛ فقد كان يؤمن بإمكان التجدد والتجريب، بل في حتميتهما. كان «يريد الإصلاح لكي يبقي على القديم». وإصلاحاته التي اقترحها لم تَعْدُ أن تكون عقبات في طريق الانقلابيين القلقين من أمثال بين وأوين. والواقع أن الاتجاه الإصلاحي الحقيقي لا بد أن يرى في بيرك رجلًا لا يُعطف البتة عليه؛ لأنه في أعماقه رجل متشائم، وهو لا يؤمن البتة أن الناس جميعًا يمكن أن يكونوا سعداء فوق هذه الأرض في أي وقت من الأوقات. إنه يضع اعتراضاته على التخطيط العقلي الذي رسمه القرن الثامن عشر الذي كان مستنيرًا إلى حدٍّ كبير في عباراتٍ مما يتميز به ما نسميه «الإحياء الرومانتيكي» — في ألفاظ تعبِّر عن الطبيعة العضوية للجماعات البشرية (التي تتعارض مع الطبيعة الآلية)، في حدود التقاليد، والعواطف، بل و«الأهواء»، وهي لفظة تكاد تترادف مع «الإثم» عند فلاسفة القرن الثامن عشر. غير أن وراء هذا صفة أقدم لمجموعة من المشاعر أقدم، وهي مشاعر أوغسطين وأكويناس في أساسها.

وثمَّة مفكر مسيحي آخر لا بد من ذكره. وذلك هو الكاردينال نيومان، الذي كان زميلًا في أكسفورد ثم أصبح شخصية كبرى في الإحياء الأنجليكاني للكنيسة العليا في مستهل القرن التاسع عشر، وهي الحركة التي تُعرف باسم «حركة أكسفورد». كان نيومان شابًّا حساسًا، خياليًّا، أحس إحساسًا قويًّا بالحاجة إلى اليقين والسلطة. ولم يرضَ عن نفسه حتى تحوَّل في عام ١٨٤٥م إلى الكنيسة الكاثوليكية. وقد وجد نيومان — كما وجد ميستر وبيرك، بل وكل المحافظين من المسيحيين — عدوَّه في فلسفة حركة التنوير، وإن يكن قد استطاع في منتصف القرن التاسع عشر أن يستعمل لفظة «التحرر» لكي يسمي بها مجموعة الآراء التي يمقتها. يقول:

«إنني أعني بالتحرر حرية الفكر الزائفة، أو تعرض الفكر لأمور هي — بحكم تكوين العقل البشري — مما لا يمكن أن ينتهي فيها الفكر إلى نتيجة ناجحة، ومِن ثَمَّ فهو في غير موضعه … إن التحرر يقضي بأن الآراء والمذاهب الموحى بها لا يمكن أن تعترض النتائج العلمية وأن يكون ذلك أمرًا معقولًا. ولذلك فإن الاقتصاد السياسي — مثلًا — قد يقلب ما قال به المسيح عن الفقر والغنى، أو قد نتعلم من نظام أخلاقي أن أفضل حالات الجسد أساسية في العادة لبلوغ أسمى حالات العقل، أو أن هناك «حكمًا شخصيًّا» عادلًا؛ أي إنه ليست فوق الأرض سلطة جديرة بأن تتدخل في حرية الأفراد في التعليل والحكم لأنفسهم فيما يتعلق بالإنجيل ومضمونه، كما يشاء كل فرد منهم على هواه. ولذلك فإن المؤسسات الدينية — مثلًا — التي تحتاج إلى اشتراك مادي ليست من المسيحية في شيء. إن حركة التحرر تؤمن بأنه لا يوجد شيء اسمه الضمير الوطني أو القومي، وأن المنفعة والفائدة المباشرة هما مقياس الواجب السياسي، وأن السلطة الوطنية لها أن تتصرف في أملاك الكنيسة دون أن يكون في ذلك انتهاك لحرمة الدين. وأن الشعب هو مصدر السلطة المشروع … وأن الفضيلة وليدة المعرفة، والرذيلة وليدة الجهل. ومِن ثَمَّ فإن التربية، والأدب الصحفي، والسفر بالسكك الحديدية، والتهوية، ومجاري المياه، وفنون الحياة، هذه على سبيل المثال إذا نُفِّذت تنفيذًا كاملًا، تؤدي إلى أن يمسي السكان سعداء وعلى خلق.»

إن أهمية نيومان لنا على أية حال لا ترجع إلى هجومه على التحرر، أو حتى إلى قبوله المسيحية التقليدية قبولًا عاطفيًّا عميقًا، بمقدار ما ترجع إلى الجهود المذهلة التي بذلها بكل وضوح لكي يوفِّق بين تفكيره وروح العصر الفكتوري. وأرجو ألا تسيئوا فهمي هنا. فإن نيومان كان أقل مَن عرفنا تبعية لزمانه. وهو قطْعًا لم يبذل جهدًا مقصودًا للتعبير عن رسالة في عبارة قد تؤدي إلى قلب معناها، وإنما كان الرجل أذكى وأنفذ بصيرة بما كان يجري من حوله، بل وربما كان بريطانيًّا مغاليًا أمعن في بريطانيته، من أن يقف الموقف الصريح اليقيني الذي وقفه ميستر، وهو أن الجديد لا يكون طيبًا، أو حتى أن الجديد أمر ممكن. وقد ذهب نيومان في «مقاله عن تطور مذهب المسيحية» الذي نشره في عام ١٨٤٥م إلى حد الإصرار على أن المسيحية في صورتها التقليدية المقدسة صادقة، ولذلك فهي لا بد أن تتغير وأن تنمو وأن تتطور. حقًّا إنه يحصِّن نفسه ضد الوقوف موقفًا نسبيًّا كاملًا، فلا يقول إن الكنيسة فوق مستوى التطور لأنها قد بلغت بطبيعة الحال حد الكمال لأنها مؤسسة مقدسة. ولكن الكنيسة «لا بدَّ» أن تتطور بمقدارِ ما هي مؤسسة بشرية فوق هذه الأرض؛ لأن هذه هي سنة الحياة. «إن الأمر في العالم الأعلى على غير ذلك، أما هنا في العالم الأسفل فالحياة معناها التطور، ولكي تبلغ الكمال لا بد أن تكون «متطورًا» في كثير من الأحيان.»

وليس كل تغير طيبًا، بل إن نيومان يعتقد أن مثل هذه العقيدة هي من أكبر أخطاء المتحررين، ويجب أن نميز بين التطور والفساد؛ لأن الحياة التي تبشر بالتقدُّم تنطوي أيضًا على التهديد بالفساد. وليس باستطاعتنا أن نستخدم أي اختبار علمي بسيط يبين لنا متى يكون التغير إلى الأحسن ومتى يكون إلى الأسوأ؛ أي متى يكون تقدُّمًا ومتى يكون فسادًا. إننا يجب أن نعتمد في ذلك على ما أسماه نيومان قدرتنا على الاستنتاج. وهذه الفكرة التي بسطها بصفة خاصة في كتابه «قواعد الموافقة» الذي نشره في عام ١٨٧٠م، هي من الأفكار المبكرة التي سبقت الجانب الأكبر من المذهب المُعارض للعقل الذي سوف ندرسه في الفصل التالي. وأقول في إيجاز إن نيومان كان يبحث عن تفسير سيكولوجي (أو قل إن شئت) عن تبرير للعقيدة التي تتجاوز ذلك النوع من معايير الصدق التي يربط الإنسان الحديث بينها وبين العلوم الطبيعية، بل وبين الإدراك العام كذلك. وليس من الأنصاف أن نقول إن القدرة على الاستنتاج التي قال بها نيومان هي في أساسها ذلك الرأي العملي الشهير الذي نادى به وليام جيمس، وهو «إرادة العقيدة». فمن المؤكد أن نيومان لا يقول إننا يجب أن نعتقد فيما نريد العقيدة فيه. غير أنه يصر على أن الحياة الإنسانية الكاملة فوق هذه الأرض يجب أن تسترشد بشيء أكثر من الأفكار التي تتعلق بالصدق التي يهتدي بها العالِم التجريبي في معمله، وأن هناك شيئًا هو مزيج بين ما نسميه نحن الأمريكيين «تصورًا» و«معرفة عملية» بين الحس الجمالي، والحس الخلقي، والتجربة المحسوسة للمشكلات الواقعية. إن المعرفة التي نصل إليها عن طريق القدرة على الاستنتاج هي بالنسبة إلى المعرفة التي نصل إليها بالمنطق البحت أشبه بالحبل المفتول من عدة خيوط إذا قيس إلى القضيب المفرد من الصلب. كلاهما قوي، ولكن واحدًا منهما فقط هو الذي يتكون من قطعة واحدة بسيطة. إن القدرة على الاستنتاج تختلف باختلاف الأفراد، وهي عندهم أقوى — مثلًا — في أكثر الأحيان في الشئون الجمالية منها في الشئون الخلقية. ولا يمكن في أمثال هذه الأمور أن يكون لها اختبار عالمي كذلك الذي نجده في المنطق عند تطبيقه على العلوم، وليست هناك وسيلة نثبت بها صدق نوع معين من الأخلاق أو الجمال لشخص قدرتُه على الاستنتاج ناقصة أو غير مدرَّبة. ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يوجد في هذه الأمور صدق، بل الأمر على عكس ذلك؛ فإن الفكرة العامة للبشر خلال العصور لم تكن متشائمة أو متشككة في هذه الأمور التي تتصل بالحكم على القيم، بل قد اعترفت بالقديسين والفنانين، والحكماء، كلما التقت بهم. ولن نشعر أن حكمنا على القيم أحط في صحته من أحكامنا على وقائع العلم إلا إذا كنا نتوقع من حقائق المسيحية كما يباشرها الناس أن تكون كاملة، مطلقة، لا تتغير؛ أي إلا إذا كنا في الواقع يقينيين حيثما لا يكون اليقين صالحًا.

وقد ساقت ممارسة القدرة على الاستنتاج عند نيومان إلى اتجاه المحافظة في السياسة، ونحو تعزيز النظام القائم في العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولكن الهيكل النظري الذي أقامه هو من أفضل الهياكل لما يُسمَّى أحيانًا الكاثوليكية المتحررة، وهو تكييف الاتجاهات المسيحية عن قصد لتلائم درجة أعلى من درجات الديمقراطية، ونحو مزيد من الأخذ ببعض أهداف حركة التنوير.

وقد اخترنا ميستر وبيرك ونيومان كأمثلة للمفكرين الذين تصدوا للهجوم — من وجهة النظر المسيحية والتقليدية إلى الأمور الكونية والسيكولوجية — على معتقدات حركة التنوير المتفائلة التي تأخذ بحكم العقل. ومن العسير بطبيعة الحال أن نرسم حدًّا فاصلًا بين أمثال هؤلاء الرجال وغيرهم من المحافظين الذين عبَّروا عن آرائهم من الناحية الدنيوية أكثر ما عبَّروا عنها من الناحية الدينية. ولا بد أن يكون أكثر المحافظين مسيحيين على الأقل في الظاهر، ما دامت المسيحية هي العقيدة السائدة في الغرب. غير أن هناك في الواقع هجمات على الديمقراطية من اليمين، من وجهة نظر القائلين ﺑ «التسلط» أو ﺑ «شمول الدولة» الذين لم يكونوا في حقيقة الأمر مسيحيين أو تقليديين. وسوف نتصدى لهؤلاء بعد قليل. وقد كان تطورهم الأكبر في القرن العشرين، وإن كانت جذورهم تمتد إلى القرن التاسع عشر. وقد صدرت أهم معارضة عقلية في القرن التاسع عشر — كما كانت تصدر من قبل — عن مفكرين أرادوا الرجوع إلى شيء يَعُدُّونه أفضل شيء ساد في وقت من الأوقات هنا فوق هذه الأرض. وكانت الأرستقراطية في صميم الأمر هي ما يعارضون بها الديمقراطية؛ فالأرستقراطية هي حكم الحكماء الطيبين، وهي الصورة الكلاسيكية المتوارثة عن الرجل المهذب الإغريقي أو الروماني كما قامت بتعديلها الحياة المسيحية والإقطاعية.

وليس بوسعنا أن نعالج هنا معالجة منظمة أمثال هؤلاء المفكرين الذين يختلفون عن أمثال بيرك وبخاصة في نواحي اهتمامهم الشديد. وما إن حل القرن التاسع عشر حتى كان الكثيرون منهم قد اقتنعوا بأن الحكومة على صورة من الصور أمر لا مفر منه في الغرب. ويبدو أن اهتمامهم الأكبر كان موجَّهًا نحو ضرورة التفوق في ناحية من النواحي — غير القدرة على تكوين الثروة أو التحكم في الجماهير — تمهيدًا للمجتمع الديمقراطي المقبل.

والواقع أن اثنين من كبار المفكرين السياسيين ممن نضعهم عادة في صف المتحررين، وهما جون مل وأليكسس دي توكفيل، ينتميان — من ناحيةٍ ما — إلى هذه الفئة. وكان مل شديد القلق فيما يتعلق بالخطر من «تعسف الأغلبية»، وكان شديد الاهتمام بالتمثيل النسبي وفي غيره من المشروعات لحماية حرية أحزاب الأقلية. وكان توكفيل رجلًا نبيلًا فرنسيًّا مثقفًا وفد على الولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر لكي يدرُس نُظم السجون عندنا، ثم عاد إلى وطنه ليكتب وصفًا كلاسيكيًّا للمجتمع الأمريكي تحت عنوان «الديمقراطية في أمريكا» فيما بين عام ١٨٣٥م وعام ١٨٤٠م. ويعتبر الكتاب بحق من تلك الكتب المحببة إلينا نحن الأمريكيين، كأي مؤلف من مؤلفات المتحررين من بعض النواحي. بيد أن توكفيل كان يساوره القلق عنَّا، وعن إيثارنا للمساواة على الحرية، وعن انعدام ثقتنا في الدقة والامتياز في الأمور الثقافية والروحانية، وعن الخطر على مستقبل الرجل الغربي، الخطر الذي يلمسه في قوَّتنا العظمى، وفي عدم مبالاتنا بدرجة كبيرة — بل كراهيتنا بشدة — لنواحي التفوق التقليدية التي كان يتميز بها الرجل الكلاسيكي. كان أرستقراطيًّا كريمًا، تحيِّره الآمال الأمريكية في الكمال قريب الوقوع، وينفِّره منا تصويرنا لمبدأ المساواة، ويصعقه إيماننا بأن الأغلبية دائمًا على صواب، ولكنه تنبأ بعظمتنا المقبلة، بل تنبأ في الواقع — في إحدى عباراته التي تنفذ فيها بصيرته — بالصراع بيننا وبين روسيا، وكان يخشى أن نضع الأهداف المادية فوق الأهداف الروحية في عظتنا. بيد أن الوجه النبيل في «الحلم الأمريكي» لم يغِب عنه. وكان على خلاف كثير من الناقدين الأوروبيين لا يكتب قطُّ بأسلوب الاستعلاء الذي يسبب لنا شيئًا من الضيق.

وجاء متأخرًا بعد ذلك كاتب إنجليزي اسمه سير هنري مين، عبَّر في وضوح تام عن انعدام ثقة الأرستقراطية في الديمقراطية. وقد كاد انعدام الثقة عنده في كتابه «الحكومة الشعبية» الذي نشره في عام ١٨٨٥م أن يكون ذعرًا شديدًا. وكان مين يحترف كتابة التاريخ، تخصَّص في التاريخ الشرعي القديم، وقام بعمل كثير على هامش الدراسات الإنسانية (الأنثروبولوجيا). ولكن دراساته أقنعته أن خط سير تطور البشرية، بالنظر إلى الرجل الغربي باعتباره أعلى ممثل لها، يتجه من ربط الفرد في البدء بالتزامات معينة لا يؤديها قطُّ عن وعي أو طواعية إلى حرية الفرد الحديثة في أن يقرِّر لنفسه ما يعمل وما يكون عليه. إن تقدُّم الإنسان في عبارة مين الشهيرة هو «من المكانة المستقرة إلى التعاقد». وأما ما أزعجه في الثمانينيات من القرن الماضي فهو دلالة نشاط الاتحادات العمالية في بريطانيا، وتشريعات الضمان الاجتماعي في ألمانيا، والدعاية الاشتراكية التي علا صوتها في كل مكان، دلالة ذلك على أن بعض الناس يؤثِرون الأمن على الحرية، وأمان الاستقرار على أخطار حرية التعاقد. وكان مين أحد كبار الكتَّاب الأوائل في الغرب الذين استخدموا بعض آراء القرن الثامن عشر عن حرية الإنسان للدفاع عن «الحالة القائمة». كان مين يمثل المحافظين في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، يبشِّر بما بشَّر به الانقلابيون من قبل في الثمانينيات من القرن الثامن عشر. إن مبدأ: «دعه يعمل» الذي كان في يوم من الأيام يهدِّد النظام التجاري المستقر، بات اليوم مهددًا بالاشتراكية، وأمسى هو مذهب المحافظين من الطبقة الوسطى الرأسمالية. والواقع أنه ليس هناك تناقض في ذلك؛ فإن التغيرات الناجحة التي تمَّت في وقت سبق تجدها في المجتمع المتطور متضمنة في بناء المجتمع. وإذا واصل المجتمع تطوره — كما كان المجتمع الغربي قطعًا — فإن أولئك الذين يشجعون التغيرات الجديدة المقترحة يجدون أنفسهم معارضين ما كان انقلابيًّا في وقتٍ مضى. وقد كان توم بين يريد في عام ١٧٩٠م حكومة لا تحكم إلا في القليل، ولا تكلف إلا القليل، وتسمح للطبيعة أن تجري مجراها النافع، وإن أنت ناديت بذلك في عام ١٩٥٠م عَدُّوك من الجمهوريين القدامى ولم يَعُدُّوك انقلابيًّا مثل توم بين.

وكما أن نيومان يبدو رجلًا أحكم من ميستر؛ لأنه كان يسعى إلى إدراك حقائق التطور الاجتماعي، فكذلك كانت هناك مجموعة أخرى من المحافظين تبدو أحكم من مين وغيره من السادة المذعورين. وهذه المجموعة تتألف من الديمقراطيين المحافظين الذين ظهروا على أحسن صورة لهم في إنجلترا، البلد الذي أطلق عليهم هذا الاسم. وليس مرد ذلك بالضبط إلى أن الديمقراطيين المحافظين قومٌ عمليون بدرجةٍ أكبر من المحافظين الأقحاح؛ فالواقع أنهم — بالرغم من وجود بنيامين دزرائيلي بينهم رجلًا عنده من الصفة العملية ما يؤهله لأن يرتفع إلى مركز رئيس الوزراء أغلب الأحيان مثل الشاعر كولردج، أو قسيسين مثل ف. د. موريس — كانوا في الأغلب مثاليين ثابتين على المبدأ، قومًا متسامحين، نظريين، كانوا في أكثر الأحيان مسيحيين على وعي بعقيدتهم، يقبلون أحيانًا أن نطلق عليهم اسم «الاشتراكيين المسيحيين»، كانوا يعتقدون مع بيرك أن أكثر الناس يعجزون في ظل الحرية عن أن يهدوا أنفسهم إلى الحياة الطيبة، وأن الناس باختصار ليسوا إلا قطيعًا من الغنم لا غنى له عن الراعي. وقد أدت — في ظنهم — الثورة الصناعية وآراء حركة التنوير الخاطئة عن المساواة بين الناس إلى ظهور رعاة سيئين — وهم أصحاب المصانع، ورجال السياسة، ومثيرو الشغب، ورجال الصحافة. أما ما يحتاج إليه الناس فهم الرعاة الطيبون الذين يتكفلون بأن يحتفظ مفتشو الحكومة بنظافة المصانع وتوافر الشروط الصحية فيها، وبأن يكون للعمال ضمان اجتماعي، وأن كل شيء يسير على الوجه الأكمل. وهؤلاء الرعاة الطيبون هم القادة الطبيعيون للشعب، وهم أبناء الأسر الكريمة، المتعلمون — وتلك صيحة بالعودة إلى السيد الكلاسيكي مرة أخرى.

إن المبدأ الذي كان مقرَّبًا إلى نفوس الديمقراطيين المحافظين — وما يبرر تسميتهم بالديمقراطيين — هو أن الناس إذا أُعطوا فعلًا حرية الاختيار، وإذا كانت الصحافة والمدارس وكل وسائل الرأي العام مفتوحة لكل وجهات النظر، لاختار الناس فعلًا في مثل هذه الظروف الحرة من تلقاء أنفسهم بالتصويت الديمقراطي الرعاة الصالحين، أولئك الذين لديهم موهبة الحكم الحكيم والتدريب عليه. وهم يزعمون أن الحكماء الفضلاء حقًّا في القرن التاسع عشر في بلاد الغرب في خطر من أن تدور المعركة في غيبتهم، فهم خارج حلبة النضال السياسي، وقد تركوها لزعامة الرعاع، ولليساريين، وللمنحرفين من الناس، ولو أنهم تقدموا للناس بالحق لوجد الناس فيهم زعماءهم الصادقين.

كان الديمقراطيون المحافظون يعترضون على الفوضى في النظام، وعلى الخلط المبتذل، وعلى خشونة المجتمع الذي يسعى إلى تحصيل المال. وكثيرون منهم كانوا يعترضون كذلك على قبح زمانهم. ولكن أولئك الذين كانوا يصبون جام سخطهم على الوسائل الديمقراطية كما تطورت في القرن التاسع عشر من الناحية الجمالية يستحقون كلمة موجزة في حد ذاتهم. وليس من السهل أن نصنفهم وفقًا لقبولهم أو رفضهم لاتجاهات حركة التنوير. وكان بعض أصحاب العقول المرنة حقًّا، مثل وليام موريس الإنجليزي، يسمون أنفسهم اشتراكيين، ويزعمون أن مشكلة الديمقراطية هي النقص في مقدارها، وأنها لم تتغلغل تغلغلًا كافيًا، وأنها خَلقت حول الأفراد العاديين من رجال ونساء بيئةً جديدة سيئة، وأنه من الواجب تغيير هذه البيئة لكي نسمح للخير الطبيعي والحكمة الطبيعية عند الجماهير بالظهور. غير أن جون رسكن الذي كان يَعُدُّ نفسه محافظًا ربما كان مثالًا طيبًا لهذا الطراز.

وقد اتخذت اسم رسكن «المحافظ» هذا اسمًا لها إحدى كليات أكسفورد التي أُسست في نهاية القرن التاسع عشر لكي تتيح الفرصة للقادرين من أبناء العمال للدراسة في هذه الجامعة؛ جامعة الطبقات الحاكمة. وبقيت كلية رسكن سنوات عدة مركزًا لمعارضة حزب المحافظين الأصلي. والواقع أنه من العسير أن نستخلص أشكال المعارضة السياسية والخلقية للأمر الواقع في القرن التاسع عشر وأن نختص كل شكل باسم معين. وربما كان رسكن في هذا الشأن منضمًّا بغير حق إلى أولئك الذين كان يتركز شعورهم الأساسي بالمعارضة لعصرهم في الأمور الجمالية. ويبدو أن مركز اهتمامه كان كراهية الحصول على المال، وبعض أولئك الذين كانوا يقيسون النجاح بالمعايير المادية، أو بالتكريم الذي يحصل عليه المرء في مجتمعٍ يتنافس أفراده تنافسًا مبتذلًا. وهو في أمثال هذه الحالات يشبه كارليل، ويكاد في بعض الأوقات ككارليل يبحث عن زعيم — يخلصنا من هذه الحمأة المادية. وتستطيع أن تحكم على نقده الجمالي الاجتماعي من هذين النصين: «ليس هناك ثراء، إنما هناك حياة.» وقوله: «الحياة هي امتلاك الرجل الجريء للأشياء القيمة.»

إن النقاد الجماليين للثقافة الديمقراطية في القرن التاسع عشر كانوا على اتفاق على الأقل في اعتقادهم أنها أخرجت أشياء «رخيصة قبيحة» بكميات وافرة، وأن الآلة قد قضت على كل متعة في العمل الخلاق من النوع الذي كان يحسه أصحاب الحرف قديمًا، وأنها جعلت العمل عبئًا ثقيلًا، وأنها سمَّمت حتى أوقات فراغ العامل لأنها لم تهيئ له إلا كل تافه تنتجه إنتاجًا ضخمًا حتى في وسائل تسليته. ولم يكونوا على اتفاق بشأن المخرج، ولكن أكثرهم كان يؤمن بأن القِلَّة التي لم يلحقها الفساد، من أمثالهم الذين لا يزالون على علمٍ بالجميل والفاضل، لا بد أن يتصدروا الصفوف، وأن يخلقوا هنا وهناك خلايا بسيطة من الجمال والحكمة. وقد كان القرن التاسع عشر هو القرن العظيم الذي لم يُجرَ فيه إلا القليل من التجارب الاجتماعية، القرن الذي وجدت فيه الجماعات المثالية التي تكوَّنت للبرهان على أن البيئة الاجتماعية من نوع معيَّن يمكن أن تقيل الساقطين من عثرتهم. ولم تزل هناك مساحة شاسعة ميسورة في الولايات المتحدة، كانت من الأسباب التي أدت إلى تأسيس الكثير من هذه الجماعات فيها. كانت هناك «مزرعة بروك» في ماساشوستس، و«الجماعة الاشتراكية» في نيوجرسي، وجماعة «الانسجام الجديدة» في إنديانا، وجماعات كثيرة أخرى تكوِّن قائمة رائعة من آمال الناس وأسباب فشلهم. وقد أسَّس موريس، وكان من السادة أصحاب الموارد المستقلة، عدة دكاكين للعمل اليدوي، وبشَّر مخلصًا أمام جماعات صغيرة من المتحولين إلى الرأي الجديد، وصوَّر مدينته الفاضلة في كتابه «أنباء من بلد مجهول» الذي نشره في عام ١٨٩١م، تخلص الناس فيها من الآلات ومن المدن الكبيرة القبيحة، وعاشوا مرة أخرى فوق أرض بهيجة خضراء تقوم عليها الحرف والفنون.

وفي هذا الصِّنف من خصوم الديمقراطية من الناحية الجمالية نجد — من غير شك — أكبر مجموعة من الشواذ، من أولئك الذين لا يرون إمكان إقامة الفردوس على الأرض إلا بصورة واحدة، وهم ذلك النوع من المتعصبين الذين التحقوا في القرن السادس عشر بالطوائف الدينية المتطرفة. إنهم يسيئون إلى البرجوازيين المطمئنين بدرجةٍ تزيد أحيانًا عن مرتبتهم في الأهمية. إن أولئك الذين هدَّدوا بالفعل ما كان عليه الرعاع من طمأنينة في بيوتهم الصغيرة التي كانوا يتحصنون فيها في ضواحي المدن لم يكونوا من أمثال موريس أو رسكن، ولم يكونوا الاشتراكيين الذين يخططون المدائن الفاضلة في المجتمعات الصغيرة، إنما كانوا أتباع ماركس. ومع ذلك فإنه لا يَخلُق بنا أن نترك النقد الجمالي للديمقراطية بهذا الاستخفاف. إن أحياء الفقراء في مانشستر أو ليفربول، وقوائم شواء «السجق»، ومحطات البنزين، والفنادق التي تُقام لراكبي السيارات خارج المدن، «وكبائن» الطبقات الفقيرة التي تصطف على طول طرق السيارات الكبرى في أمريكا هي بالتأكيد من أقبح الأشياء التي شيدها الإنسان فوق هذه الأرض في أي وقت من الأوقات. فإن كان هناك تقدُّم، فإن هذا التقدُّم لم يحقق استبعاد القبيح أو حتى الإقلال منه. ثم إن هؤلاء النقاد — فوق ذلك — بالرغم من أن الكثيرين منهم كانوا يتصفون باللين وغير عمليين، ركَّزوا اهتمامهم في أوجه المشكلة ذات الأهمية القصوى، مشكلة الحوافز والجوائز التي تُمنح لقاء العمل في المجتمع الحديث. إن الفكر الرأسمالي والاشتراكي مال — ولا يزال حتى اليوم يميل بغير حق — نحو البحث في مشكلة العمل في حدود الأجور و«الكفاية» — بالمعنى الفني في تنظيم المصانع فحسب — غير أن أمثال موريس أو فورييه — ذلك الاشتراكي الفرنسي المثالي — من الرجال كانوا على علم أفضل، بالرغم من قصورهم في معرفة شئون الدنيا. فأشاروا إلى أن مشكلة تحويل الناس نحو العمل الضروري في هذه الدنيا، إنما هي مشكلة كاملة، معقدة، إنسانية، وليست مجرد مشكلة دولارات وأجزاء الدولار، أو مشكلة اتجاهات الكفاية. أشاروا إلى أن الناس لا يحبون أن يملوا، بل ويحبون أن يشعروا أنهم أدَّوا عملًا نافعًا وجميلًا، وأنهم يفخرون بالمهارة، وأنهم يتمتعون بالعمل في فرق أو مجموعات.

يتخيل موريس في كتابه «أنباء من بلد مجهول» أن غريبًا حلَّ بهذا البلد فلاحظ في الغابة العامة الجميلة، غابة كنزنجتن؛ حيث كانت تقوم ضاحية لندن القبيحة، لاحظ عصابات من الشبان الأشداء يحفرون الخنادق وهم مبتهجون، فيقول المرشد لهذا الغريب إنهم يتمتعون بالمنافسة في حفر الخنادق. وعندما يعبِّر الغريب عن دهشته، يذكِّره مرشده بما يعلمه من أن جماعات التجديف في أكسفورد وكامبردج في القرن التاسع عشر التي كانت تعمل ثمانية ثمانية، كانت تعاني أشق ضروب العمل البدني في سرور بالغ. وقد يبدو هذا الدرس سخيفًا عاطفيًّا، ولكنك إن تدبرت الأمر تبين لك أن مقدار «العمل» الذي تقوم به جماعة التجديف في الكلية أو يقوم به فريق كرة القدم يمكن بسهولة أن يبني مشروعًا للإسكان، وليس هناك من السحر ما يحول العمل إلى لهو رياضي، ولا يريدنا موريس أن نعتقد في وجود هذا السحر. ولكن هناك مشكلة حقيقية، هي مشكلة استخدام نشاط الناس الفائض بطرقٍ لها أثرها في المجتمع.

وتستطيع أن تجادل جدلًا قويًّا بأن نقاد الديمقراطية الذين شغلنا أنفسنا بهم حتى الآن في هذا الفصل كانوا من ذوي الاهتمامات التاريخية العقلية البحت (وهو ليس بالأمر التافه) ولكنهم لم يؤثِّروا في الواقع تأثيرًا قويًّا في العالم الذي نعيش اليوم فيه. إن الهجمات التي وُجِّهت إلى الديمقراطية وكان لها أثر فعَّال مباشر جاءت في الواقع من قاعدة غير قاعدة المسيحية أو قاعدة الفكرة الكلاسيكية التي تتطلع إلى الخير والجمال. إن الهجمات التي جاءت من غير هذه القواعد كانت تستند إليها أحيانًا كما كانت تستند إلى اتجاهاتٍ أخرى في تقاليدنا الغربية، ولكن أشد ما كانت تستند إليه — وهو ذلك السند الذي ننسبها إليه الآن — هو سند القومية المانعة، وطنية أو عنصرية تتحكم فيها البيولوجيا على أية حال. وعن هذه الهجمات تمخَّضت في القرن العشرين تلك الحركات الشاملة التي هبَّت من «اليمين» — الفاشستية والنازية والفلانجية الإسبانية وما إلى ذلك — التي أُصيبت بالعجز في حرب عام ١٩٣٩م ولكنها لم تَمُت.

إن مسألة الأصول الفكرية للحكم الشامل اليميني مسألة خلابة جذبت إليها الأنظار من قبل. وإني أريد أن أنبِّه القارئ مرة أخرى إلى أنه من سخف القول أن نزعم أن فاجنر — مثلًا هو المسئول عن الحركة النازية الألمانية، أو أنه الملوم عليها أو السبب فيها. إن النازية لا يمكن أن تُفسَّر تفسيرًا كاملًا شاملًا إلا بمقدارِ ما نستطيع أن نفسِّر السرطان أو شلل الأطفال تفسيرًا كاملًا شاملًا. إننا نعلم أن أمثال هذه الحركات تكون لها دائمًا مجموعة من الآراء في كل مسألة، صغيرة كانت أو كبيرة، ونستطيع أن نرى من أين جاءت بالحلول لهذه المسائل، وقد يكفي هذا كل الناس مع استثناء الميتافيزيقيين الثابتين على عقائدهم.

وقد لاحظنا من قبلُ أن مجموعة الأفكار والعواطف التي نسميها القومية قد أزعجت أولئك الذين كانوا يريدون للناس جميعًا أن يكونوا إخوة. وحتى في داخل الدول القومية التي تأثرت تأثُّرًا بالغًا بآراء حركة التنوير، وحتى في الدول التي تقع في قلب التقاليد الديمقراطية — الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والأقطار الأصغر التي تقع غربي وشمالي أوروبا — نجد أن مطالب الوحدة القومية، وتشكيل كل مواطن على غرار نمط قومي، مما يؤدي إلى الإقلال من الحرية الفردية، وتنوُّع الشخصية وأن يكون الناس أفذاذًا داخل هذه القوميات. ثم إن أكثر الدول الديمقراطية العظمى، بما فيها الولايات المتحدة، قامت في القرن التاسع عشر بحركاتِ توسُّع ناجحة كانت نتيجتها امتلاك أراضٍ يقطنها أقوام ذوو ألوان مختلفة وثقافات شتى. وقد ساد في كل مكان بين المواطنين في هذه الديمقراطيات في القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين شعور بأن طرائق حياتهم أفضل وأسمى، وأنه من واجبهم إن أمكن أن يفرضوا هذه الطرائق على هؤلاء الأقوام ذوي البشرة السمراء. ونشأ أدب بأكمله عن «واجب الرجل الأبيض» يبرِّر ما كان كتَّابه يَعُدُّونه في أغلب الأحيان تحويل بقية العالم إلى الثقافة الغربية تحويلًا لا مندوحة عنه.

وحتى في البلاد التي كانت التقاليد الديمقراطية فيها على أشدها كان هناك مَن يعتقد بأن هذه الشعوب غير الغربية لا يمكن في الواقع أن ترتفع إلى مستوى الغرب، وأنه من مصلحة هذه الشعوب أن تبقى في وضع أحط على الدوام، أو حتى أن تقبل المساعدة على قتْلها. وقد صُعق من الأمريكيين أمثال لوثروب ستودارد وميديسون جرانت، ومن البريطانيين أمثال بنيامين كيد، صُعقوا من «تيار اللون الصاعد» ونادَوا بضرورة القيام بعملٍ لحماية الأجناس العظيمة البيضاء التي سادت حتى آنئذٍ. وكان الرجل الإنجليزي سيسل رودس — وهو ليس من أصحاب النظريات، ولكنه من أصحاب الأعمال الذين أثرَوا في جنوب أفريقيا — يعتقد أن الأنجلو ساكسون (أو بعبارة أخرى الإنجليز والاسكتلنديين وأبناء ويلز والأمريكيين) قد بلغوا مستويات من الرقى الأخلاقي والسياسي ليس بوسع أي شعب آخر أن يبلغها، ومِن ثَمَّ فإن من واجبهم أن يتحدوا، وأن ينتشروا في الأرض ما استطاعوا، وأن يتكاثروا بأسرع ما يمكن لملء الدنيا.

غير أن أوضح طريق لمناهضة الديمقراطية من اليمينيين الذين صرَّحوا بآرائهم ومارسوها ظهر في التجربة الألمانية والإيطالية. ولا تدل وطنيتهم، وأخذهم فيما بعدُ بنظام الدولة الشمولية، على عجز فطري عن المستوى العالي في السياسة بين الألمان والإيطاليين. إنما سياستهم نتيجة مركَّبة لعوامل تاريخية عديدة. وهناك اتجاهات عديدة نَمَت نموًّا تاريخيًّا في القرنين الماضيين تساعد على تفسير ظهور المجتمعات الشمولية في القرن العشرين في هاتين الدولتين. وإنما نوجِّه اهتمامنا هنا إلى اتجاهات الفكر في القرن التاسع عشر التي عاونت على ظهور النازية والفاشستية. ومن الحق أن قلةً محدودة من العقلاء في القرن التاسع عشر هي التي تبيَّنت الاتجاه الذي كانت تسير فيه هذه القوى المعادية للديمقراطية. ولو قلت عند الحديث عن أي مفكر في القرن التاسع عشر إنه من «دعاة الفاشستية» لكان استعمال المصطلح في غير زمانه، ومِن ثَمَّ فإنه تعسُّف في الحكم. ولكنا إذا تذكرنا أن المعتقدات والنُّظم الإنسانية لا تنمو نموًّا حتميًّا كنمو البذرة إلى شجرة، وأن الخطوة التالية ليست نتيجة حتمية لخطوة سابقة، عرفنا أن البحث عن أصل الحكم الشامل (الشمولية) في القرن التاسع عشر لن يضللنا.

ومن الاتجاهات المؤكدة ذلك الاتجاه البسيط الذي يتمثل في القومية التاريخية التي ذكرنا من قبل أنها صفة عامة في الغرب. ويُضاف إلى هذه القومية — وبخاصة في ألمانيا — اتجاه قوي جدًّا نحو «العنصرية»، وهي الإيمان بأن الألمان هم من الناحية البيولوجية نوع خاص من الجنس البشري — فهم شُقر، أقوياء، في ملامحهم تناسق، فضلاء. وهم الجنس البشري الذي قُدِّرت له السيادة. ويرى الرائي من الخارج أن هذا مثال واضح من أمثلة الأساطير الاجتماعية؛ فالألمان ليسوا حتى في أغلبيتهم شقر اللون. ولكنا قد اعتدنا في هذه الأيام تلك الأساطير التي تؤثِّر في الناس تأثيرًا واضحًا وتدفعهم إلى العمل المشترك، حتى إن كانت هذه الأساطير مما لا يتفق مع الحقائق العلمية الثابتة. وفي هذه العبارة: «إن أول مصدر قوي أدبي حديث لهذه الأفكار التي تميز العنصر الجرماني واللون الجرماني يرجع إلى كتابات رجل فرنسي عاش في القرن التاسع عشر، هو الكونت دي جوبينو»، شيء من السخرية كثيرًا ما يُشار إليه. والواقع أن في الغرب تاريخًا طويلًا للامتياز الذي إن لم يتصل باللون الأشقر فعلًا، فهو على الأقل يتصل باللون «الفاتح». وحتى بين الإغريق القدامى كانت الأساطير تصوِّر الآلهة من أمثال أبولو شقر اللون وكل نظام المنبوذين في الهند يتوقف على ما يسمونه «فارنا» أي اللون. وحتى في التقاليد الفنية المسيحية نلمس اتجاهًا معينًا لتصوير القديسين أشد شقرة من المذنبين الآثمين، ولسنا ندري من الناحية العلمية إذا كان الشقر يميلون إلى أن يكونوا أكثر فضيلة من السمر. والموضوع في أساسه ليس له معنًى، غير أنه من الحق أن هذا الرأي وغيره من الآراء المشابهة قد دخل في عقيدة النازيين المعادين للديمقراطية. وقد كتب أحد المؤرخين الألمان في وقت مبكر، في عام ١٨٤٢م، ما يلي:

«إن الجنس الكلتي — كما تطور في أيرلندة وفرنسا — كان دائمًا يتصرف بالغريزة الحيوانية، في حين أننا نحن الألمان لا نعمل إلا بدافع الأفكار والآمال المقدسة حقًّا.»

وأمكن لموتلي المؤرخ الأمريكي لثورة الأراضي المنخفضة أن يفرِّق بين «الانحلال الكلتي» و«الطهارة الجرمانية».

أما الاتجاه الثالث، والذي ربما كان في الواقع أقوى الاتجاهات وأكثرها أهمية في النازية والفاشستية على السواء، فهو تأكيد سلطة الحاكم وجماعة صغيرة من صفوة الحزب التي تحيط بالحاكم، ولهذه الفكرة أيضًا أساس ثابت في القرن التاسع عشر، وهي في الواقع — من ناحيةٍ ما — مجرد عودة لظهور أفكار عتيقة كفكرة الحق المقدس للسلوك. وربما لا نجد أصلًا للفاشستية في القرن التاسع عشر أفضل من الكاتب الفكتوري توماس كارليل الذي كان يحظى بالتقدير في وقتٍ من الأوقات. فإنك تجد في كتابه «الأبطال وعبادة الأبطال»، وفي «ضرب نياجارا» وفي «مشكلة الزنوج» مواقفَ كثيرة تشير إلى مبدأ الزعامة، وضرورة خضوع الأغلبية الغبية للأقلية العاقلة، والحاجة إلى الدوام، والثبات، والطاعة، في مجتمعنا الذي يتنافس فيه الأفراد تنافسًا أحمق. وكان كارليل في بداية الأمر معتدلًا في مطالبه، يقول:

«الأرستقراطيون ورجال الدين، والطبقة الحاكمة والطبقة الرائدة — هاتان المجموعتان، المنفصلتان في بعض الأحيان، واللتان تسعيان إلى التوفيق بينهما، والمتحدتان في أحيان أخرى، ومعهما، الملك — وهو الملك المقدس — لم يقم مجتمع دون هذين العنصرين الحيويين، ولن يقوم.»

ولكن باقتراب القرن التاسع عشر من نهايته وصعود الديمقراطية — وبخاصة في بلده — تحول تدريجًا في دعواه إلى الإيمان بالسلطة الصارمة. وأخيرًا نادى بضرورة الحاكم العسكري العالمي المدرب، أو بالدكتاتور الحربي، رجل الأعمال لا الأقوال، الذي ليس عنده إلا إصدار الأوامر.

وفي أواخر القرن ظهر في ألمانيا ذاتها رجل من أفصح أعداء الديمقراطية، أحد بناة الأيديولوجية النازية حقًّا، وإن كان قطعًا عن غير قصد. ذلك الرجل هو فردريك نيتشه، وهو رجل غير سليم العقل إلى حدٍّ ما، ولكنه مثقف إلى أقصى حد، وفي صميمه أخلاقي حساس لم يستطع أن يحتمل القبح، والانحراف والتكلَّف، الذي بدا في إمبراطورية هوهنز وليرن البرجوازية الصاعدة. كان نيتشه — بكلِّ ما لديه من دقة الفكر — مثالًا رائعًا للرجل المثقف الحديث الذي يملك قدرة لا تُحَدُّ على الشعور بالألم، والسخط على القطيع البشري من حوله، والفزع من قبح دنيا الطبقة الوسطى التي صنعتها الآلات. وليس من شك في أن نيتشه لو عاش لوجد أن هتلر وجورنج وجوبلز وزمرتهم أبغض إلى نفسه. غير أن الواقع هو أنه دعا في حياته إلى «السوبرمان»، وإلى إعادة النظر في القيم حتى يتغلب مرة أخرى العنف النبيل على الدعة البرجوازية المنحطة، وكتب في ذلك هجومًا من أشد أنواع الهجوم على الأسلوب الديمقراطي في الحياة، يقول:

«كانت الديمقراطية في كل العصور نظامًا هلكت بسببه كل القوى الداعية إلى النظام … التحرر، أو تحويل البشر إلى قطيع من الماشية … إن الديمقراطية الحديثة هي الشكل التاريخي لفساد الدولة … إن الحزبين المعارضين: الحزب الاشتراكي، والحزب القومي — أو أيًّا ما كانت الأسماء التي تُطلق عليهما في أقطار أوروبا المختلفة — جدير كلٌّ منهما بالآخر؛ فالحسد والتراخي هما القوى الدافعة في كلٍّ منهما … إن مساواة جميع الأنفس أمام الله، هذه الأكذوبة، هذا الستار الذي يحجُب الأحقاد التي تتأجج في قلوب السفلة أجمعين، هذه الفكرة العتيقة التي تشبه القنبلة، والتي أصبحت هي الثورة الأخيرة، والفكرة الحديثة والمبدأ الجديد الذي يؤدي إلى هدم كل النظام الاجتماعي — هذا هو الديناميت (المسيحي).»

والواقع أن نيتشه كتب دستورًا كاملًا لشمول الحكم الذي يدعو إليه اليمينيون قبل استيلائهم على الحكم بجيل كامل، قال:

«إن مستقبل الثقافة الألمانية يتوقف على أبناء الضباط البروسيين … السلام وترك الآخرين وشأنهم — ليست هذه السياسة التي أوليها أي احترام. أما السيادة، ومعاونة أرقى الأفكار على الانتصار، فهما الشيء الوحيد الذي يمكن أن أعبأ به في ألمانيا … إن التربية التي تجعل الجندي والعالم من الأكفاء هي بعينها في كلتا الحالتين. وإذا أنعمنا النظر لتبين لنا أنه ليس هناك عالم حق يخلو من غرائز الجندي الصادق تسري في عروقه … أوصيكم بحب السلام وسيلة لحروب جديدة، وأُوثر لكم أن تقصُر فترة السلام على أن تطول … إن الحرب والشجاعة قد انتهت بأعمالٍ أكثر مما انتهى إليه الإحسان. إن الفرائس لم تنجُ حتى الآن بعطفكم عليها وإنما أنجتها شجاعتكم.»

وأقول في إيجاز إن الهجمات من جانب اليمينيين على طريقة القرن التاسع عشر في الحياة — أعني طريقة «التوفيق في عهد فكتوريا» — متنوعة كثيرة، ومن العسير جدًّا أن نرتِّبها وفقًا لنظام معين؛ فهناك الهجوم من ثمرة المسيحية التقليدية، وهو هجوم يتركز على مبدأ حركة التنوير العظيم، مبدأ الخير الطبيعي عند الإنسان ومعقوليته. وهناك هجوم يؤكد أهمية التقاليد، و«التحيز» والسلطة المسيحية القائمة في مجتمعٍ منظم. وهناك هجوم يتهم المجتمع في القرن التاسع عشر بإهماله — في حبه للمنافسة والتقدم — الحقيقة الأساسية التي تقول بأن الإنسان حيوان سياسي. وهناك هجوم صادر عن وجهة النظر التي تتمثل في المُثُل الأرستقراطية القديمة — المُثُل التي انحدرت مباشرة من الإنسانية المقتصدة ذات التقاليد الكلاسيكية — وهو هجوم يوجه نحو الديمقراطيات التي تميل نحو السير وراء الزعماء الذين يضجون بغير عقل، ونحو الغيرة من الأقليات الأرستقراطية، إن لم يكن من كل الأقليات، وتجنح إلى «عسف الأغلبية». وهناك هجوم من وجهة نظر الذوق السليم والثقافة، الذوق الجمالي الذي يرى أن المجتمع الجديد يكرِّس نفسه لإنتاج «الرخيص القبيح». وهناك هجمات أخرى، وبخاصة تلك التي تشير إلى الحكم الشمولي، مما لا يمكن وصفه إلا في دراسة للقرن التاسع عشر أوسع مما نستطيع هنا. ولا يمكن أن نقدِّم مختصرًا وافيًا شافيًا لهذه الهجمات. ولكنك إن أردت أن تأخذ بلفظ مفرد، فبوسعك أن تقول إن ما تعيبه كل هذه الهجمات على عصرها هو «ماديته».

الهجوم من اليسار

نستطيع بوجه عام جدًّا أن نقول إن هجمات القرن التاسع عشر من اليسار على ما صنعه التوفيق الفكتوري بمثل حركة التنوير كانت خلاصتها مد الديمقراطية السياسية حتى تشمل الديمقراطية الاجتماعية، والديمقراطية الاقتصادية فوق كل شيء، وليست هذه الصيغة إلا ضربًا من ضروب التبسيط؛ فلقد كان اليساريون يعانون من التوتر الدائم بين مُثُل الحرية والسلطة كما كان رجال الوسط.

وفي القرن التاسع عشر قدْرٌ معين من الكتابة والحديث الذي يزعم أن المتاعب الحقيقية إنما نشأت من أن آراء الرجال في عام ١٧٧٦م وعام ١٧٨٩م ووسائل هذين العامين لم تُتَّبع حقًّا، وأننا بحاجة إلى العودة إلى حقوق الإنسان البسيطة، وأن علاج مشكلات الديمقراطية هو مزيد من الديمقراطية من النوع القديم — إعلانات الحقوق، والدساتير المكتوبة، وحق الانتخاب، للجميع، والاقتراع السِّري، والمساواة بين الدوائر الانتخابية، والدور في الوظائف، والتعليم المدني الإجباري للجميع، وغير ذلك. وهذا في الأساس هو موقف الناس الذين نسميهم عادة ﺑ «الانقلابيين» مثل «أصحاب الميثاق» في إنجلترا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر. إنهم يقولون إن الديمقراطية السياسية إذا نُفِّذت تنفيذًا كاملًا، بما فيها من حقوق الإنسان وغير ذلك، لنتج عن التعبير عن الآمال الإنسانية المختلفة تعبير حر، شيء يشبه أن يكون مساواة اجتماعية واقتصادية في عمومها. لن يكون هناك غني جدًّا، ولن يكون هناك فقير جدًّا، وإنما سوف يكون هناك تنوُّع صحيح في الجزاء في حدود مجتمع تسوده المساواة إجمالًا. ولمَّا أخذ القرن يقترب من نهايته أخذ الانقلابيون يحسون شيئًا فشيئًا أن عملية التسوية هذه بحاجة إلى المساعدة من التشريع الاجتماعي من ذلك النوع الذي يألفه الأمريكيون ويسمونه «القانون الجديد». ثم أمسى الانقلابيون جماعيين، أو على الأقل مؤمنين بتدخُّل الدولة، وباتوا في نظر خصومهم اشتراكيين.

وتتمثل هذه العملية في أفضل صورة لها في بريطانيا حيث شرع حزب الأحرار في الثمانينيات من القرن التاسع عشر يؤيد التشريعات الاشتراكية، واضطُر المحافظون إلى شيء يشبه أن يكون دفاعًا عن المبدأ الكلاسيكي: «دعه يعمل». وتثبت حياة جون مل في أخرياتها كيف أن أتباع بنتام يمكن أن يُساقوا في يسرٍ إلى موقف سياسي جماعي مخفَّف. وربما كان رجل مثل ت. ﻫ. جرين، وهو أحد المحاضرين في أكسفورد، تأثَّر كثيرًا بالفلسفة الألمانية المثالية، وعاون على تشكيل الشباب الذين وضعوا في البرلمان وفي الخدمة المدنية أسس بريطانيا الاشتراكية إلى حدٍّ ما كما نعرفها اليوم، ربما كان رجل كهذا مثالًا أفضل. وكتابه «مبادئ الواجبات السياسية» الذي نشره في عام ١٨٨٨م ليس إلا هجومًا على ميتافيزيقيات وسياسة الراديكالية البريطانية. يرى جرين أن الآراء الاسمية النفعية تجعل الفرد في الواقع مجرد ذرة اجتماعية، يكافح مكافحة عمياء مع الذرات الأخرى، وليس بأي معنًى من المعاني حيوانًا اجتماعيًّا حقًّا. وفكرته الخاصة عن الدولة وعن غيرها من الجماعات الاجتماعية تؤكد سيطرتها العاطفية على الفرد، و«واقعيتها» بمعنًى يشبه المعنى المثالي الألماني. غير أن جرين لم يكن من دعاة الدولة الشمولية، وإنما هو يفسح مجالًا لحقوق الفرد إلى جانب واجباته. الدولة عنده شيء أكثر من الحكم في مباراة عادلة. إنها تعين الضعاف والأقل مهارة لكي يلعبوا دورًا أفضل في المباراة ولكنها لا تلغي المباراة كلية من أجل نوع من أنواع التدريب الجماعي.

والنقطة التي تهمنا هنا هي أن تيارًا من الفكر والعمل الجماعي أو الذي يدعو إلى التدخل ظهر في أخريات القرن التاسع عشر بدرجاتٍ مختلفة من القوة في الأجزاء المختلفة من المجتمع الغربي. وكانت الولايات المتحدة آخر الأقطار التي أحست هذا التيار. ولا يزال كثير من الأمريكيين الراسخين يقاومونه، ويَعُدُّونه دعوة إلى تحطيم حرياتنا التقليدية، ويَعُدُّونه «اشتراكية» و«اتجاهًا غير أمريكي»، ولا يزال التحليل الذي لا يمازجه الهوى لمشكلة تدخل الدولة في العمل وغيره من الشئون الخاصة بالفرد أمرًا شاقًّا على الرجل الأمريكي.

ومن الإنصاف أن نقول إن ذلك النوع من السياسة الذي يدعو إليه الفابيون وحزب العمال في بريطانيا، وتدعو إليه «القوة الثالثة» في فرنسا، ودعاة «القانون الجديد» في الولايات المتحدة، لا يتفق كل الاتفاق وتلك السياسات التي دعا إليها حتى أولئك الانقلابيون المعتدلون مثل هربرت سبنسر منذ مائة عام، وليس هناك ضرر كبير من قولنا إن الفارق يمثل تأثير التفكير «الاشتراكي» على التقليد الديمقراطي. ولكنا ينبغي أن نكون على علم واضح بأن التطور نحو «الاتجاه الفابي أو القوة الثالثة أو القانون الجديد» يختلف اختلافًا شديدًا عما لا يزال يُعَدُّ أفضل معنًى من معاني «الاشتراكية» وأكثرها تحديدًا — الاشتراكية بمعنى الطائفة الدينية المعينة التي أسَّسها كارل ماركس.

إن الفوارق بين طريقة الحياة الديمقراطية المعدلة، والنظرة الكونية، والثقافة، أو حتى الدين، كما تتمثل في الاتجاهات اليسارية المعاصرة في الغرب، والموقف الماركسي الأصيل، عظيمة جدًّا في الواقع. وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى بعض الخطوط الرئيسية التي ينبغي عند تحليل هذه الفوارق أن نسير عليها. ولكنا يجب أولًا أن نذكر أن الماركسية واليسارية اللاماركسية على السواء يمكن أن يرتدا إلى أصل واحد مشترك في حركة التنوير، وأن كليهما يعارض المسيحية التقليدية في نواحٍ هامة. كلاهما ينبذ فكرة الخطيئة الأولى ويستبدل بها نظرة إلى الطبيعة البشرية متفائلة في أساسها. وكلاهما يستبعد عنصر ما فوق الطبيعة، وكلاهما يوجه همَّه إلى فكرة الحياة السعيدة فوق هذه الأرض لكل فرد، وكلاهما يلفظ فكرة المجتمع الطبقي الذي تسوده التفرقة الثابتة في الوضع الاجتماعي والتفرقة العظيمة في الدخل. ومن الإنصاف أن نذكر أنه من الممكن اليوم لليساري اللاماركسي أن يقبل درجة من درجات التشاؤم المسيحي التقليدي، وأن يَعُدَّ نفسه في الواقع مسيحيًّا. أما الماركسية — وهي مذهب أشد صلابة — فلا تكاد تستطيع أن تتفق صراحة مع المسيحية أو أي دين إلهي، ولا بد لها من أن تبقى وضعية ومادية في ثبات.

والواقع أن هذه الصلابة في المذهب هي من الفوارق الرئيسية بين هاتين المجموعتين من المعتقدات؛ فاليساري الديمقراطي — حتى في أعلى مستوًى من مستويات آرائه الجماعية — يحتفظ على الأقل بحدٍّ أدنى من الإيمان الحر القديم بضرورة وجود الحرية الفكرية لقبول الأفكار الجديدة، وحرية التجريب والاختراع. وحتى حينما لا يكون متأثرًا بالشعور ﺑ «حقوق» الفرد، فإنا نجده يلتزم فكرة التقدُّم عن طريق التنوع، وهو يعرف أن الجماعات كجماعات ليست لها آراء جديدة. وتستطيع أن تفهم الكثير من الشعارات والعناوين التي لا يستطيع حتى المثقفون أن يتحاشوها. إن اليساري الديمقراطي لا يزال يؤمن بأن الفكرة اليقينية الوحيدة هي أنه ليس هناك يقين، أو أن المجال الوحيد للتعصب هو عدم التسامح مع المتعصبين.

ومن الحق أن هناك جماعة كانت طوال القرن التاسع عشر صريحة كل الصراحة — وإن تكن أقلية ملحوظة — في أنها ترجع في أصلها وفي وحيها إلى حركة التنوير في القرن الثامن عشر، ومع ذلك فقد انتهت إلى الحط من شأن الحرية الفردية، وإلى استخدام أكثر شعارات الشموليين، والدعوات إلى النظام، والطاعة، والإيمان، والتماسك. وهؤلاء هم من يسمونهم ﺑ «الوضعيين». إن مصطلح الوضعية كثيرًا ما يُستعمل بغير دقة ليدل على المادية، وليصف العقيدة التي تلفظ ما فوق الطبيعي، وتقف على أرض العلم الثابتة «الوضعية». غير أن الاصطلاح من الناحية التاريخية يعني اتباع الرجل الفرنسي أوجست كومت في «السياسة والأخلاق»، وهو الرجل الذي التقينا به من قبلُ وقلنا إنه واضع القائمة التي ترتِّب العلوم الطبيعية وفقًا ﻟ «نضجها». ولكن كومت لم يكتفِ بالدعوة إلى علم اجتماعٍ على مستوًى رفيع؛ فقد كان يسعى في سنواته الأخيرة — وبخاصة بعد فشل ثورات ١٨٤٨م — إلى إنشاء نوع من الكنيسة يقوم على أساس العقيدة الرسمية في التقدُّم، والعلوم الطبيعية، والإنسانية، وعدم الاعتقاد بشدة وبشكل رسمي في إله مسيحي. وكان كومت نفسه الكاهن الأكبر في هذه العقيدة الوضعية، التي كانت لها كنائسها المنظمة الخاصة بها، والتي انتشرت من جماعات متنوعة أخرى تشاركها إيمانها بالإنسان، والعلم، والمستقبل. ويجب ألا نخلط بين هؤلاء الوضعيين الدينيين، الذين لم ينقرضوا بعدُ تمامًا، و«الوضعيين المنطقيين» في الوقت الحاضر، الذين سوف نتعرض لهم فيما بعد.

وربما كان اليساريون الديمقراطيون — فيما خلا الوضعيين من أتباع كومت وأضرابهم (الذين ليسوا في الواقع ديمقراطيين) — يحتفظون دائمًا، حتى في أحدث صورة لهم، بشيء من انعدام الثقة القديم بأي نظام من نُظُم الفكر يحاول أن يُغرِق الفرد في الجماعة، وكأنه يجعل الفرد مجرد خلية في كلٍّ له كل الأهمية. اليساري الديمقراطي يحتفظ في أعماقه باحترام صادق لجانب كبير من جهاز حقوق الفرد، تلك الحقوق التي يميل إلى إنكارها — وبخاصة عند تطبيقها على الملكية — في شجاعة تامة في بعض مواقفه الفكرية. إنه لا يعتقد حتمية النضال الطبقي والثورة، ويأمل أن يحقق مزيدًا من المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ومزيدًا من الاستقرار في المجتمع، وإدارة أفضل في الأعمال الحرة وفي الحكومة، بطريقة التحول طوعًا، ذلك التحول الذي يحدث عن طريق التشريع الذي يتم بالوسائل الديمقراطية العادية. وهو بلغة المصطلحات الحديثة يؤمن بالتدرج وبالإصلاح، وهو — وبخاصة في السنوات الحديثة — يزداد ميلًا إلى الإصغاء إلى نقاد الأفكار الأساسية في حركة التنوير، نقاد من النوع الذي أطلقنا عليه هنا اسم المهاجمين من اليمين، ونقاد من النوع الذي سوف ندرُسه في الفصل التالي عن اللاعقليين. وبعدما شاهد المجتمعات الشمولية في النازية والفاشستية والشيوعية الروسية في عصرنا هذا آمن في النهاية أن التوحيد بين الناس والتجنيد، والسلطة المطلقة، ثَمَن أبهظ من أن ندفعه في سبيل النظام والأمان ضد دوامة المجتمع المتنافس في الغرب.

ثم نصل أخيرًا إلى الاشتراكية الماركسية أو الشيوعية. والماركسية — أو الاستالينية اللينينية الماركسية إذا أخذنا بالتتابع في رسم القواعد هي من وجهة نظرنا تطوُّر عنيف، أو قُل هي فهْم منحرف، للنظرة العالمية في حركة التنوير. وهي تقف إزاء الشكل الديمقراطي الرئيسي في حركة التنوير — من بعض النواحي — موقف الكالفنية من المسيحية التقليدية عند الكاثوليك الرومان، أو — وربما كان ذلك أفضل في المقارنة — موقف الكالفنية إزاء الأنجليكان الذين يقبلون في ظل تنظيم كنسي رسمي واحد كل صنوف العقائد من التوحيد إلى التقديس — الماركسية مذهب من المذاهب المادية الإنسانية المتفائلة في القرن الثامن عشر، وهي في اتجاهها هذا عنيفة، يقينية، متزمتة، حتمية، تقوم على أسسٍ ثابتة من التوجيه.

وإذا كنت تشعر أن التعبير ﺑ «الدِّين» ينبغي أن يقتصر على نُظُم المعتقدات التي تؤمن بوجود الله، أو آلهة، أو أرواح، أو على الأقل تؤمن بوجود شيء «غير مادي»، أو «فوق الطبيعي»، فأنت إذن لست معنا على الطريق عندما نقارن بين الوطنية القومية والدين. إنني قد طبَّقت في هذا الكتاب المصطلحات المستمدة من تاريخنا الديني في الغرب على أية مجموعة منظمة واضحة الأهداف من المعتقدات التي تتعلق ﺑ «المشكلات الكبرى» — الحق والباطل، والسعادة الإنسانية، ونظام الكون، وما إلى ذلك — مجموعة تؤثر فيمن يعتقد فيها على الأقل من ناحيتين: الأولى أنها تَمُدُّه بتوجيه فكري في هذه الدنيا (أي تقدِّم له الحلول لمشكلاته)، والثانية أنها تَمُدُّه بالمشاركة الوجدانية في جماعة من الجماعات عن طريق الطقوس وغيرها من ضروب العمل المشترك. والماركسية — بهذه المعاني، وبخاصة كما تطورت في روسيا، هي من أقوى أشكال الأديان فعالية في عالم اليوم، وهي دِين ينبغي لكل متعلم أن يبذل الجهد في فهمه.

إن الماركسية تَسُدُّ بكل وضوح مطلبًا من المطالب البسيطة للدِّين؛ فلها كتُبها المقدسة، ولها نصوصها التي تعادل الأحكام الدينية — وهي في التقاليد الأرثوذكسية الأصلية عبارة عن كتابات ماركس وإنجلز، مع الشرح، والتأويل، والإضافة، التي جاء بها لنين، وجاء بها ستالين بدرجةٍ أقلَّ كثيرًا من حيث الأهمية، ولها كذلك انحرافاتها، التي يرجع أهمها إلى حركة «المراجعة» في القرن التاسع عشر التي ارتبطت أول الأمر باسم إدوارد بيرنشتين، والتي استبدلت بالثورة «العنيفة» وما يترتب عليها من دكتاتورية البروليتاريا في الماركسية الأصيلة تحقيق الديمقراطية (المساواة) الاجتماعية والاقتصادية «تدريجًا» بالعمل السياسي المشروع. وتحولت حركة «المراجعة» إلى «التدرُّج»، وهو في أساسه الموقف الذي يقفه «الاشتراكيون» اليوم (إزاء «الشيوعيين»). ولم يكن التدرُّج عند المدافعين عنه مجرد حيلة للتهدئة من مخاوف البرجوازية، ولاكتساب انضمام البرجوازية إلى الحركة، وإنما كان كذلك في أذهان القادة من أمثال كوتسكس تصحيحًا تاريخيًّا لا بد منه لمقابلة فشل التنبؤات الماركسية عن حتمية ثورة عنيفة تقوم بها البروليتاريا في الغرب. وهناك جماعات كثيرة أخرى انشقت أو انحرفت عن الماركسية، لا نجد هنا مجالًا لذكرها. وليس وجود أمثال هذه الانحرافات بالضرورة علامة من علامات الضعف في الحركة. والواقع أنك لو فكَّرت في نشأة المسيحية لوجدت أن هذه الانحرافات هي من دلائل حيوية الماركسية، واستمرار التخمر الفكري الذي يُعَدُّ من علامات الحياة أكثر مما يُعَدُّ من علامات التفرق والانحلال.

ويجب علينا هنا أن نحصر أنفسنا في الشكل الأرثوذكسي للمذهب. إن العمل العظيم الذي قام به ماركس هو كتابه «رأس المال»، وهو من حيث الشكل رسالة في علم الاقتصاد. غير أنه من الواضح أن هذا الكتاب نفسه ليس مجرد دراسة للنظريات الاقتصادية من الناحية المهنية الضيقة، وإنما هو فلسفة للتاريخ، ونظام من نُظُم الاجتماع، وبرنامج للعمل السياسي. وهو — بالإضافة إلى بقية القواعد التي تُعزى إلى هذا المذهب — يقدِّم لنا نظرية كونية نظامية كاملة، أكثر مما يقدِّم لنا أي كتاب آخر «بمفرده» في الاتجاه الديمقراطي الأرثوذكسي لحركة التنوير؛ فالماركسية شيء «أحكم وأوضح» من أية ديمقراطية عرفية.

إن الماركسية تحمل الطابع الواضح للقرن التاسع عشر الذي عاش فيه ماركس، وإنجلز، وكتبَا فيه. وهي تقوم على أساس فكرة صريحة جدًّا عن التغير، والنمو، والتطور، باعتباره حقيقة نهائية صحيحة في كل مكان (أما اعتقاد ماركس أو عدم اعتقاده بأن هذه العملية التطورية لا بد أن تنتهي عند بلوغ المجتمع اللاطبقي، فموضوع شائق وإن يكن ليس بالموضوع الرئيسي، وسوف نعود إليه فيما بعد). وقد كانت حقيقة التغير وأهميته أحد الموضوعات الرئيسية في كل التفكير الغربي الذي يتعلق بهذه الأمور الرفيعة. وكان الطراز الأفلاطوني من التفكير يميل إلى محاولة تجنُّب أمور الموت والحياة في هذه الدنيا، لأنا نحن الحيوانات البشرية، نمارسها في عالَم آخر فوق الزمان والتغير. وأكثر من هذا أن الفلاسفة الدنيويين من أمثال العقليين في القرون الحديثة الأولى بحثوا عن أنواع من المنطق تكون مطلقة ولا تتغير. أما الماركسية — في ظاهرها على الأقل — فتجد التقدُّم في المسير، والتغير، وتحاول أن تلتمس في التغير ذاته الإجابة عن لغز التغير.

والإجابة المحددة عن اللغز التي استمدها ماركس من أستاذه هيجل هي «الجدل» (ارجع إلى ما ذكرناه في هذا الشأن في الفصل السابق عند الكلام عن «تكثيف النظرة الكونية الجديدة وتعديلها»). ولكن عملية التقاء الفكرة بضدها وتَولُّد المركَّب الجديد منهما — عند هيجل — كانت تتم تحت الدافع الذي أسماه الروح، وهي شيء غير مادي، أو قوة، أو فكرة، أو معنًى، أو هي على الأقل شيء لا تستطيع الحواس، والإدراك العام، أو العلوم الطبيعية، أن تدرك كنهه. وزعم ماركس — في زهو وافتخار — أنه أخذ الهرم الذي حاول هيجل بغفلته أن يضعه على قمته ووضعه وضعًا صحيحًا معقولًا على قاعدته العريضة؛ أي إنه «حوَّل الجدل المثالي إلى الجدل المادي». إن التغير في نظر ماركس يتم طبقًا لخطة، ولكنها ليست خطة الروح العالمية السخيفة التي قال بها هيجل. التغيير يلحق بالمادة، بمعنى العالم الذي يحيط بنا، الذي نحن أيضًا بكليتنا أجزاء منه، كغيرنا من الحيوانات الأخرى. والتغير الذي يحدث في هذا العالم المادي — ويمكن أن نسميه في بساطة البيئة التي نعيش فيها — يحدِّد (أو يحتم) حياتنا كلها، ورفاهيتنا المادية، ونُظُمنا، وفكرتنا عن الحق والباطل ونظرتنا إلى الكون. والكلمة الرئيسية هنا هي لفظة «يحدِّد» أو «يحتِّم»، وهي كلمة أثيرة عند ماركس، الذي كان يرى أن «المادية الجدلية» و«الحتمية التاريخية» تعبيران يكادان يترادفان.

وبعض هذه العوامل البيئية الحتمية هي — بطبيعة الحال — من النوع الذي عرفه الناس من قديم الزمان — كالمناخ على سبيل المثال. ولكن ماركس يتجه نحو ما كان يَعُدُّه ناحية من نواحي البيئة أرسخ أساسًا يسميها «وسائل الإنتاج» أو الطريقة التي يكسب الناس بها قُوتَهم. وعلى هذه المجموعة الأساسية من الظروف المادية يترتب كل شيء آخر في حياة الإنسان، وفي حياة المجموعات البشرية؛ فالبدو الذين يرعون القطعان فوق المراعي الآسيوية يأكلون ويشربون، ويكوِّنون الأُسَر، ويطيعون القوانين والعادات، ويتبعون الزعماء، ويقاتلون، ويؤمنون بدِين معين، كل ذلك طبقًا للتطور الحتمي الذي ينشأ عن وسائل الإنتاج في المجتمع البدوي الرعوي. وقد أبدى الباحثون الماركسيون مهارة فائقة وعلمًا غزيرًا في تطبيق هذه الآراء تطبيقًا محسوسًا على مختلف المجتمعات.

وكان ماركس نفسه يهتم فوق كل شيء بمجتمعه الغربي، الذي رسم له خطة شاملة للتغير الاجتماعي طبقًا لطريقته الجدلية، وقاعدته الأساسية هي وسائل الإنتاج في اقتصاد إقطاعي مكتفٍ بذاته في العصور الوسطى. إن المجتمع الذي حتَّمه هذا الاقتصاد الإقطاعي كان يتطلب طبقة من الرقيق عليها أن تعول طبقة السادة من النبلاء الإقطاعيين ومن يحيط بهم من رجال الدين. وكان لهذا المجتمع نظام مدرَّج صارم من الأوضاع الاجتماعية، ويؤمن بعقائد عن الإله وعن الكون تكلمنا عنها من قبلُ في الفصلين السادس والسابع. وهذا الاقتصاد الريفي والمجتمع الإقطاعي هو «الموضوع» أو «الفكرة». ومبدأ التغير عند ماركس شيء «مادي»، وليس فكرة في ذهن أي مخلوق — وإن يكن حتى ماركس. في واقع الأمر، كان لا بد له من الاعتراف بأن التغير المادي إنما يحدث لأن بعضًا من الناس يريدونه ويتصورونه. والتغير الذي بدأ به العالم الحديث هو في أبسط صوره المال، والتجارة، وبداية اقتصاد رأسمالي. وباستمرار هذا التغير تدريجًا تتكوَّن طبقة جديدة، طبقة متاجرة أو بورجوازية. وبين النبلاء الإقطاعيين القدامى والطبقة المتوسطة المالية الجديدة لا بد أن يحدث «نضال طبقي» فعَّال (والنضال الطبقي تعبير ماركسي آخر مشهور جدًّا). وللطبقة الجديدة فلسفتها، وهي فلسفة بروتستانتية بصفة خاصة بعد فترة من الزمن، ولها نظرتها الخاصة إلى فضيلة المنافسة، ومشروعية الربح، والحاجة إلى الديمقراطية السياسية لتفادي النفوذ الملكي وسلطة النبلاء — كان لها باختصار فلسفة للحياة كاملة. وهذا الاقتصاد التجاري، وهذا المجتمع الديمقراطي البرجوازي، هو «ضد الموضوع» أو «ضد الفكرة». وقد بلغ النضال الطويل بين «الفكرة» و«ضدها» — بعد انتصارات برجوازية مبدئية في إنجلترا وهولندا — ذروته في الثورتين الأمريكية والفرنسية والانتصار الكامل للبورجوازية في القرن التاسع عشر.

ولكن النضال الطبقي لم ينتهِ بذلك بأية حال من الأحوال؛ فإن هذه البورجوازية الظافرة اتحدت مع فلول النبلاء المهزومة، وكوَّنت «مركَّبًا»، أو فكرة جديدة، وأخذت تناضل مع «فكرة معارضة» جديدة، هي «البروليتاريا». وهذا النضال نفسه، والطبقات التي قامت بالنضال، كان النتيجة المادية لتغير آخر في وسيلة الإنتاج، هو ظهور نظام المصانع والصورة الحديثة للرأسمالية الصناعية والمالية. وقد انضم إلى البورجوازية القديمة صاحبة المصارف والتجارة رجال الصناعة وأصحاب المصانع، فظهرت طبقة رأسمالية جديدة أقوى. لقد تجمع العمال الآن في المصانع تحت أعين الظالمين لهم، تهبط بهم القوانين الصارمة للاقتصاد الرأسمالي إلى مجرد مستوى الأجور التي تمسك عليهم رمقهم، ولكنهم يستطيعون على الأقل أن ينتظموا، وإن يكن في الخفاء، ويصبحوا تحت القيادة الماركسية على وعي طبقي كامل. والآن نجد البورجوازية أو «الفكرة الأولى»، والبروليتاريا أو «معارضة الفكرة»، يخوضان المعركة الطبقية الأخيرة (وقد أعلن ماركس خطوط هذه النظرية أول الأمر في «البيان الشيوعي» في عام ١٨٤٨م) وبذلك تحقق النصر للبروليتاريا.

وأكد ماركس هذا النصر بتحليل اقتصادي غاية في التعقيد ليس بوسعنا أن نحاول تتبعه تتبعًا دقيقًا. وكان يهدف من الحجج التي ساقها إلى أن يبين أن الإنتاج بقوانين المنافسة الرأسمالية لا بد أن ينتهي من حين إلى آخر إلى زيادة في العرض عن الطلب تؤدي إلى أزمة في التجارة تدهور خلالها الشركات الضعيفة، ويتحول أعضاؤها إلى البروليتاريا، وتتضخم الشركات الباقية وتزداد قوة. غير أن الطبقة العاملة — برغم معاناتها في كل أزمة من الأزمات — تزداد عددًا وتشتد بأسًا. وفي عبارةٍ شهيرة عبَّر ماركس عن حتمية النتيجة التي يؤدي إليها القانون الاقتصادي، وهي أن يصبح الفقير أشد فقرًا، والغني أشد غنًى. وأخيرًا تأتي أزمة كبرى، يشتد فيها بأس البروليتاريا — وقد تم تنظيمها وكمُل وعيها الطبقي — وتستولي على وسائل الإنتاج. وهكذا تتهم دكتاتورية البروليتاريا، وفي غضون ذلك تسحب البنوك، والمواصلات، ووسائل النقل، والمصانع، من أصحابها البورجوازيين، وتؤمم، وتسقط في أيدي حكومة البروليتاريا الجديدة، وعندئذٍ تأتي المرحلة الأخيرة. وبتصفية أصحاب رءوس الأموال لا توجد طبقات أخرى — أو قُل إن شئت تبقى طبقة واحدة، هي طبقة البروليتاريا الظافرة. وإذن لا يمكن أن يكون هناك صراع طبقي. وما دام جهاز الدولة كله لم يكن — طبقًا للتحليل الماركسي — ضروريًّا إلا لكي ترغم الطبقة المتحكمة الطبقة المعارضة في النضال الطبقي، فلن تبقى حاجة إلى الدولة بشُرطتها، ومحاكمها، وجيوشها، وضرائبها. عندئذٍ تذوي الدولة ونصل آخر الأمر إلى المجتمع اللاطبقي، أو الفردوس فوق الأرض في الديانة الماركسية. والواقع أن ماركس نفسه لم يهتم بتفصيلات فردوسه، وحتى إنجلز والشُّراح المتأخرون كانوا على غموض في هذا الموضوع، ولكنهم باعتبارهم مؤمنين بالتقدُّم الذي عُرف في القرن التاسع عشر، مخلصين له، فإنهم لم يريدوا أن ينظروا حتى إلى الفردوس على أنه ثابت لا يتغير. وربما استطعنا أن نقول إن الماركسي يؤمن بأن النضال المرير اللاإنساني كنضال الطبقات سوف ينتهي بظهور المجتمع اللاطبقي، إلا أن التقدُّم سوف يستمر بطريق المنافسة الكريمة، الخالية من الألم، التي تشبه المباراة.

وقد انقضى الآن أكثر من مائة عام منذ إعلان «البيان الشيوعي» ولم يَسِر مجرى التاريخ كما رسمه ماركس. وفي الحق أن دورة الرأسمالي الذي يتنقل بين الرفاهية والأزمات قد استمرت، وأن الأزمات ربما اشتدت. ومن المؤكد أنه كان هناك اتجاه نحو تجميع رأس المال في الصناعة الضخمة إلا أن ذلك لم يحدث باطراد وبصورة واحدة حتى في الاقتصاد الألماني والبريطاني والأمريكي. ولا مشاحَّة في أن النظرية التي تقول بأن الأغنياء يزدادون غنًى وأن الفقراء يزدادون فقرًا لم تصدُق. والحكومة تتدخل لتنظيم الصناعة حتى في الولايات المتحدة. وقد ظهر في كل الأقطار الصناعية ميلٌ إلى درجةٍ ما نحو ما يُسمَّى في كثير من الأحيان «اشتراكية الدولة». وقد نشبت بطبيعة الحال في عام ١٩١٧م في روسيا المتخلفة صناعيًّا — وهي بلد كان ماركس نفسه لا يحبه — الحركة الثورية الكبرى الوحيدة التي استولت على الحكم تحت الرعاية الماركسية. وأقام الروس دكتاتورية البروليتاريا، ولكن ليس هناك حتى الآن أي دليل على تلاشي الدولة الروسية.

والواقع أن ماركس قد افترض بأن الثورة بمجرد نجاحها في أمةٍ عظمى سوف تنتشر على الأقل في بقية المجتمع الغربي، ثم في جميع أنحاء العالم تبعًا لذلك (والظاهر أن ماركس ظن أن الثورة سوف تشتعل أولًا في أكثر الأمم تقدُّمًا في زمانه، وهي بريطانيا العظمى). ويستطيع الماركسيون المخلصون — بطبيعة الحال — أن يزعموا أن الدولة لا يمكن أن تذوي في روسيا المحاصرة حتى تشتعل الثورة في كل أرجاء العالم.

ومهما يكن من أمر فإننا لا نهتم هنا أولًا بالنظر في مقدار صحة تنبؤ ماركس بالمستقبل؛ فإن الحركة التي وضع أساسها قد استولت على الحكم في دولة عظمى، وأتباعه — بالرغم من انشقاقهم بسبب الخلافات المذهبية — لهم قوة في كثير من أجزاء المجتمع الغربي. إن الماركسية دِين من الأديان — وإن كانت هذه اللفظة تصدم القارئ قلنا إنها مجموعة كبرى من مجموعات المبادئ التي يسترشد بها الإنسان — التي تتنافس اليوم لكي تظفر بولاء أهل الغرب لها.

والإله الماركسي هو قوة المادية الجدلية القديرة على كل شيء، وإن تكن قوة غير مشخصة. إن المادية الجدلية قادرة على كل شيء، شأنها في ذلك شأن الآلهة في الديانات المتقدِّمة الأخرى. والماركسيون أنفسهم لا يترددون في استعمال لفظة «الحتمية» بكلِّ ما تحمل من معانٍ قوية حملها إياها سنت أوغسطين وكالفن. وقوَّتها عندهم هي قوة العلم. وهم يصرون على أن هذا النظام نظام علمي؛ ولذلك فلا بد أن يكون صحيحًا. ولكن علمهم في نظر الخارج عنهم ليس علم المعامل والعيادات، وإنما هو علم مؤلَّه يؤدي لهم ما أداه علم نيوتن المؤله لفلاسفة القرن الثامن عشر. أي إنه يؤكد لهم أنهم قبضوا على مفتاح العالم فتطمئن نفوسهم.

فالمادية الجدلية إذن لا بد في نظر الماركسي أن تؤدي إلى ثورة البروليتاريا العالمية. وهي سوف تؤدي إلى ذلك بالرغم من كلِّ ما يمكن أن يبذله الرأسماليون من جهد. بل إن الرأسمالي كلما سلك سلوك الرأسمالي — متبعًا طريق العمل الذي تمليه عليه وسائل الإنتاج التي يعمل في ظلها — اقترب النصر للبروليتاريا. ولا يعمل آل روكفلر ومورجان إلا ما تريدهم المادية الجدلية أن يعملوه. ومن الجائز أن ذلك لا يجعل الماركسي يشعر بمزيد من العطف نحوهم أو نحو أمثالهم. كما أن التأكيد بأن نجم البروليتاريا يشير إلى نصرٍ محقَّق لهم لا يجعل الماركسي قدريًّا. وقد رأينا من قبلُ أن التأكُّد من سيادة إرادة الله — في نظر الكالفني — كان يزيد المؤمن استعدادًا للنزول في معمعان الدنيا والكفاح في سبيل إعانة إرادة الله في أن تسود. ورأينا أن الكالفني كان دائمًا ينقذ نفسه بالتشكك في أن الفرد من البشر الذي لا يعدو أن يكون دودة من الديدان — حتى إن كان عضوًا مخلصًا في كنيسة كالفن — قد لا يعرف حقًّا إرادة الله (ارجع إلى ما كتبناه في الفصل التاسع عند الكلام على أشكال البروتستانتية). أما الماركسي فلم يكن عنده حتى هذه البقية من التواضع المسيحي لكي يلتمس لونًا من ألوان التأييد المنطقي لسلوكه الواقعي كمناضل في سبيل الحق كما يراه. إن الماركسي — وماركس نفسه — يعلم علم اليقين أن المادية الجدلية لا بد أن تفعل فعلها بالطريقة التي قُدِّرت لها من قبل. ولكنا لا نشاهد الماركسي المؤمن بمذهبه جالسًا خلف الصفوف، يسمح للمادية الجدلية أن تفعل فعلها بدونه، بل على العكس من ذلك نراه داعية متحمسًا لمبدئه، ونجده مؤمنًا بالتقدُّم من الناحية الخلقية، ولو حكمنا بمسلكه وجدنا أنه يستطيع بجهوده الخاصة أن يخلق اختلافًا في السلوك البشري، ومرة أخرى أقول إنه ليس بوسعنا إلا أن نلحظ أن الاعتقاد الميتافيزيقي في الحتمية يبدو للماركسي — كما يبدو للكالفني الذي يشبهه كثيرًا — أمرًا يتفق كل الاتفاق مع العقيدة السيكولوجية في حرية الإرادة.

وإذا تابعنا تشبيهنا الماركسية بالدِّين قلنا إن الفردوس الماركسي كما تبيَّن لنا من قبلُ هو المجتمع اللاطبقي، وهي حالة يستطيع الناس بلوغها هنا فوق هذه الأرض، حالة تشترك مع الديانات المتقدِّمة الأخرى (التي تعتقد في يوم الحساب وفي الجنة والنار) في تصور أوضاعٍ لا يمكن ألا تُشبع فيها رغبات البشر. ومن الحق أن الماركسي يفخر بماديته، ويعتقد أن كل الشهوات الإنسانية «الكريمة» سوف تُشبع في المجتمع اللاطبقي. وهو ينكِر في إباء أن فردوسه يتفق في أية ناحية من النواحي مع تلك الصورة الصوفية — التي سادت بين المسيحيين المثقفين للجنة كمكان يتغلب فيه المرء على «كل» الشهوات ويطفئها ويتسامى بها روحيًّا. ومع ذلك فإن المجتمع الطبقي ليس بيئة سمجة وليس محلًّا لتلك المتع الحسية التي يربط الماركسي بينها وبين المُثُل الرأسمالية السوقية. والواقع أن هناك وجهًا بيوريتانيًّا (متطهرًا) في الماركسية بالمعنى العام الشائع للبيوريتانية. إن الماركسي — كأي كالفني — يحتقر جانب الحياة الأبيقوري البحت، ويحتقر المتع المبتذلة الخشنة، بل وكثيرًا من هذه المتع التي هذَّبت الأرستقراطية منها شيئًا ما. وقد كان ماركس نفسه رجلًا أخلاقيًّا، يجفل كما كان يجفل كارليل أو رسكن مما في المجتمع الصناعي من وعورة وتعسُّف. ويحاول الماركسي جاهدًا أن ينقذ أحد الجوانب الوضعية (الحسية) في جنته، ويصر على أن الناس في المجتمع اللاطبقي يتنافسون ويتقدمون كما يفعل الأبناء البررة في ثقافتنا. غير أن ما يسترعي النظر حقًّا في جنة الماركسي — وفي الجنات الأخرى — فهو فكرة اختفاء الصراع والفشل، وإبادة الشهوات.

ويمكن القول بأن فكرة الثورة ودكتاتورية البروليتاريا توازي بوجه عام الفكرة المسيحية عن يوم الحساب. غير أن هناك فارقًا واضحًا أذكره مرة أخرى، وهو أن الماركسي يعتقد أن الكارثة التي سوف تؤدي إلى إنقاذه سوف تتم عن طريق القوى الطبيعية لا عن طريق القوى فوق الطبيعية. إن حالة النعمة، والأمر الذي يميِّز بين المؤمن والملحد، هي مجرد قدْرته على أن يرى العالم في الحدود الماركسية، أو الحدود «العلمية» — كما يقول الماركسي. وماركس عنده مسيح يتصوَّره بعقله ويقابل به المسيح الروحاني — وهذا الأخير عند الماركسي هو بطبيعة الحال مسيح دجال.

ثم إن هذا الوعي بالانتماء وﺑ «معرفة الحق»، وبامتلاك النور الباطني يتوازن — كما هي الحال في أكثر الهيئات الدينية — بأداء بعض الأعمال الرمزية التي تربط المؤمن بجماعة المؤمنين كلها. وبعبارة أخرى أقول إن للماركسي كتُبه كما أن له عقيدته. إنه يقرأ كتُبه الماركسية المقدسة، ويرود المجتمعات، ولديه بطاقة الحزب، وعليه واجبات الحزب. وعنده لكل أمر مفتاح، ولكل سؤال جواب. ولا يدهش الرجل العليم من خارج الحزب إذا عرف أن في روسيا الشيوعية موسيقى شيوعية، وتاريخًا ماركسيًّا، بل وبيولوجيا ماركسية.

وربما كان من الحق أنه ليس هناك مرادف ماركسي واضح لذلك النوع من التجربة الدينية الذي يبلوره المسيحي في لفظة «الضمير». وقد ذكرنا في فصل سابق أن وجهًا بأكمله من أوجه المسيحية يتركز في مجاهدة الروح الفردية عند الإنسان الآثم في نضالها العنيد مع الله. إن المسيحية عقيدة مغرقة في الفردية وفكرتها عن الخلاص مغرقة كذلك في الفردية. أما الماركسية فترى أن تحقيق الفرد لذاته تحقيقًا صادقًا ليس بطبيعة الحال في مجرد المشاركة الآلية في الكل الاجتماعي التي تشبه مشاركة النمل أو النحل، ولكنه على الأقل في المطابقة التامة بين الفرد والجماعية الكاملة — الماركسية عقيدة جماعية، وفكرتُها عن خلاص الفرد لا يمكن أن تتشابه تشابهًا وثيقًا مع مثيلتها في المسيحية. ومع ذلك فإن للماركسي ضميره، ومهما تكن فكرة الضمير هذه لا تتلاءم تلاؤمًا جيدًا مع المادية الجدلية فإن الماركسي يمكن أن يعاني عذاب الضمير، وتتمثل هذه الفكرة في جلاء كافٍ في بطل «الظلام وقت الظهيرة» لآرثر توسلر. وإن أنت تحملت مشقة دراسة تاريخ حياة مستر كوستر نفسه، لَلمسْتَ الفكرة كذلك فيها.

وقد قام ماركس وإنجلز بالعمل الأكبر — من الناحية النظرية البحت، أو من ناحية الأصول الدينية الماركسية في أعلى مستوياتها. وبالرغم من أن التطبيق العملي السوفييتي قد عزا إلى لنين وإلى ستالين إضافات أساسية لمجموعة المعتقدات الماركسية الرئيسية، فإن المُشاهد من الخارج يرى أن أهميتهما ترجع إلى اعتبارهما من المنظمين لا من المفكرين. والماركسية لم تدمج بعدُ المفكر والعامل دمجًا ناجحًا كما اندمجا في القديس بولس. نعم إن لنين، لمَّا وُوجِه بنجاح الآراء الرأسمالية الغربية الشريرة في السنوات الأولى من القرن العشرين، وبأن هذه الآراء على الأقل لم تتحطم كما تنبأ لها ماركس، أضاف إلى التحليل الماركسي نتيجة طبيعية مؤداها أن الإنجليز وغيرهم من الرأسماليين الغربيين — بعدما بلغوا الذروة في استغلال مواطنيهم — أجَّلوا يوم الحساب، يوم يُسألون عما يفعلون، بالإمبريالية الاستعمارية، وباستغلال بقية العالم. غير أن هذا نفسه كان — طبقًا للنين — تأييدًا لماركس؛ فالإمبريالية هي حالة النضج التي لا مفر منها للرأسمالية، وهي المرحلة الأخيرة التي تسبق ثورة البروليتاريا.

والواقع أن الخدمة الكبرى التي أداها لنين للماركسية كانت في تنظيمه لثورة ناجحة في بلد متخلف. ولكي يقوم بذلك كان لا بد للرجل من تنظيم ثورة عنيفة — بشَّر بها ماركس دائمًا، وإن يكن بأسلوب أكاديمي — ثورة تُشعِل نيرانها أقليةٌ من الأشخاص المدربين اليائسين، لهم خبرة سنوات طويلة بالتآمر الخفي. لا تَخز ضمائرهم شكوك «بورجوازية ديمقراطية» عن مشروعية العمل، أو الشعور الإنساني الرقيق، والأمانة، وغير ذلك … وقد كان ماركس، بكلِّ ما عُرف عنه من إحساس بالكراهية للمصلحين المجردين، لم يرضَ قطْعًا عن الثائرين المحترفين المتآمرين. وإذن فإن لنين — في نظر بعض أتباع ماركس — لم يكن شارحًا للماركسية الصحيحة بمقدارِ ما كان كاشفًا عن سرِّها، وقد كان الماركسيون الرحيمون، المستبشرون، الذين يؤمنون بعالمٍ آخر (وقد كان هناك منهم من يؤمن بالعالم الآخر، وإن كانت هذه النظرة قد تبدو غير منطقية في عين المُشاهد من الخارج) كان هؤلاء يرون أن سلوك لنين الذي لا رأفة فيه؛ ذلك السلوك الواقعي المقصود، معناه قبول العالم البرجوازي الشرير الذي أرادوا أن يتجاوزوه. إن لنين — وأسوأ منه ستالين — قد استسلما — في نظرهم — لتلك الأوهام الخبيثة التي يُعبَّر عنها بالإدراك العام، والسلوك العملي، والنجاح.

أما ستالين فلم يكن مفكرًا إلا في نظر الشيوعيين الأصليين، وسياسته التي تنادي ﺑ «الاشتراكية في بلد واحد» ليست في الواقع إلا نتيجة عملية لماركس لها أهميتها القصوى، والظاهر أنها قد أُقحِمت على ستالين باعتبارها سياسة لا نظرية. وقد برهن بطبيعة الحال على أنه منظِّم ناجح للعقيدة الماركسية في حكومة قومية ذات تاريخ طويل وتقاليد وطنية عميقة، وعاون على دمج الثقافة الروسية، والتاريخ الروسي بمعناه الكامل، مع مجموعة الآراء التي تتعلق بمعنى العالم ومصير الإنسان والتي ترتبط بكارل ماركس وفردريك إنجلز. وثمَّة موازنة أخيرة وربما كانت مثيرة جدًّا. لقد كان ستالين من بعض النواحي في مركزٍ يشبه مركز المنظمين في أوائل المسيحية، عندما اتضح جليًّا أن يسوع لن يعود إلى الأرض فورًا، وأن كل المعتقدات المسيحية في يوم الحساب والجنة والنار، تلك المعتقدات المعقدة، لا بد أن تتفق وتوقيتًا آخر، بل وعالمًا آخر. وفي روسيا لعهد ستالين كان لا بد من تأجيل المجتمع اللاطبقي؛ ففي روسيا الحاضرة فشلٌ، وبؤس، ومنافسة، وتفرقة اجتماعية واقتصادية كبرى. وكان لا بد لستالين من أن يُلبِس وقائع الحياة في هذه الدنيا رداء التفاؤل الرئيسي عند ماركس. وسوف نعرف ذات يوم إلى أي حدٍّ نجح. أما اليوم، ونحن على الجانب الآخر من الستار الحديدي، فإننا نلاحظ بصفة خاصة أنه كان يستخدم حيلة قديمة جدًّا في الواقع، وهي تأكيد إصرار العدو الشيطاني وصلابته — وذلك العدو هو الرأسمالية.

إن مستوى القيم الخلقية والجمالية عند الماركسي في هذه الدنيا هو في أساسه برجوازي، رأسمالي، مع تحريف بيوريتاني مرير طفيف. وهناك دوائر متقدِّمة في الأقطار الغربية حيث تتحد الماركسية مع أنواع مختلفة من الثورة الخلقية والجمالية ضد المعايير التقليدية التي سادت الأوساط البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر — ولكن في غير روسيا. والواقع أن الماركسية من ورثة النظرة الكونية المادية والعقلية لفلاسفة القرن الثامن عشر، بل من أكثر هؤلاء الورثة شرعية. وقد كان ماركس نفسه يتصور مجتمعًا يؤدي وظيفته أداء صحيحًا شبيهًا شبهًا عجيبًا بمجتمع آدم سميث — يتصور اقتصادًا، ومِن ثَمَّ مجتمعًا — يسهم فيه كل فرد إذا سلك سلوكًا طبيعيًّا في رفاهية الجماعة وتيسير عملها. والمَثل الأعلى والغاية التي ترمي إليها الماركسية، هي الفوضى الفلسفية بين كائنات بشرية حرة متساوية، وذلك أحد الاتجاهات أكدتها حركة التنوير.

غير أن الوسيلة هي الثورة العنيفة وحالة انتقالية من الدكتاتورية تُستخدم فيها السلطة العليا استخدامًا صارمًا، ويسودها النظام الدقيق بين الجماهير، ويقوم فيها جهاز المجتمع الشمولي كاملًا. وهنا تختلف الماركسية اختلافًا شديدًا مع حركة التنوير، التي كانت — برغم اعتزازها بثوراتٍ كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية — تخجل بعض الشيء من وسائل التعذيب الشائنة ومن المقصلة، والتي كانت تَعُدُّ الثورة السياسية على أحسن الفروض شرًّا لا بد منه، يتجنبه الإنسان إن أمكن له ذلك. غير أن الوسائل في هذه الدنيا لها أثرها في الغابات. ولم تتجاوز حتى اليوم الجهود الماركسية التي بُذلت لبلوغ حالة الفوضى باستخدام السلطة، لم تتجاوز استخدامها استخدامًا صارمًا على أيدي طبقة حاكمة صغيرة. وحتى لو تمكَّنت التجربة الروسية من الاستمرار في عالمٍ لا يعادي روسيا ككيان سياسي فلا يحتمل أن تنشأ الجنة الماركسية فوق الأرض. إنك لا تستطيع أن تحقِّق غاية من الغايات بمحاولتك تحقيق عكسها إلا في عالمٍ هيجليٍّ من العقل المحض، أما في هذه الدنيا فإنك إن شرعت تبني مجتمعًا تسلك فيه الكائنات البشرية مسلكًا يشبه مسلك النمل بقدْرِ ما يمكن ذلك، فمن غير المحتمل أن تصل إلى مجتمعٍ تسلك فيه هذه الكائنات مسلك الأسود. إن المحاولة الماركسية لتخفيف التوتر الذي قام في القرن الثامن عشر بين الحرية والمساواة كان على وجه الجملة أقل نجاحًا من المحاولة الديمقراطية الأصيلة.

الخلاصة

إن دراسة القرن التاسع عشر قد أدَّت بنا — من غير داعٍ — إلى اعتبارات كثيرة تتعلق بالقرن العشرين. وقد تابعنا بعض أوجه الماركسية إلى أبعدَ من القرن الذي وُلد فيه المذهب. ويجدُر بنا أن نعود إلى تلخيص هذه المبادئ، أو أنواع التوتر التي تعرضنا لها في الفصلين السابقين، وذلك في شيء من الإيجاز.

نشأ في القرن التاسع عشر اتجاه — لم يكن ثابتًا — أطلقنا عليه اسم التوفيق الفكتوري. وقد سعى هذا التوفيق إلى الاحتفاظ بديمقراطية سياسية معتدلة وبقومية معتدلة، وبحرِّية فردية اقتصادية كبرى في العمل يزنها ناموس خلقي صارم، ومسيحية تقليدية تؤمن بارتياد الكنيسة. وفي المجتمع الغربي القائم على أساس هذا التوفيق حدث تقدُّم صناعي وعلمي عظيم. وحدثت فوارق مادية كبرى، ومع ذلك توافر للطبقات الدنيا مستوًى من المعيشة من الناحية المادية أعلى من أي مستوًى عرفته من قبل، كما كان هناك ازدهار متنوع حي من الناحيتين الفكرية والجمالية.

غير أن هذا الازدهار الفكري والجمالي إذا قارناه بالازدهار الذي حدث في القرن الثالث عشر، أو في أثينا في القرن الخامس، وجدنا أنه تعوزه وحدة الأسلوب، بل وربما أعوزته وحدة العرض؛ لأن القرن التاسع عشر كان فترة من الزمن ساد فيها تنوُّع عجيب في الفكر، وكان عصرًا من عصور التنوع بصفة عامة، التطرف فيه كان على أشده، والتوتر فيه على أوضحه — التقليد ضد التجديد، والسلطة ضد الحرية، والإيمان بالله ضد الإيمان بالآلة، والولاء للأمة ضد الولاء للإنسانية — ونستطيع أن نسترسل في هذه الأضداد إلى مدًى طويل. واستطاع القرن التاسع عشر بطريقةٍ ما أن يحفظ التوازن العسير بين هذه الآمال الإنسانية المتعارضة، وهذه المُثُل للحياة الطيبة التي تختلف في الأساس. وقد شهد القرن الذي نعيش فيه اضطراب هذا التوازن. ويشهد على هذا الاضطراب حربان كبريان وأزمة اقتصادية عظمى. ونحن نحاول اليوم أن نعبِّد نوعًا من التوازن خاصًّا بنا بين مُثُل بينها من الصراع مثلما كان بين مُثُل القرن التاسع عشر — وإن تكن في الواقع هي نفس المُثُل في أساسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤