الفصل الثالث

أزمة الثقافة الإغريقية

في الذكرى السنوية الأولى للحرب العظمى بين أثينا وإسبرطة (عام ٤٣١ق.م) ألقى بركليز قائد أثينا — الذي انتُخب انتخابًا ديمقراطيًّا — خطابًا في الصلاة التذكارية التي أُقيمت للأثينيين الذين ماتوا في العام الأول من القتال. وهذا الخطاب في ذكرى الموتى — كما رواه المؤرِّخ ثيوسيديد — تقويم بليغ أكيد لعظمة أثينا، قال:

إننا نسمي دستورنا ديمقراطيًّا؛ لأنه في أيدي الكثرة دون القلة، ولكن قوانينا تكفل المساواة في العدل للجميع في منازعاتهم الخاصة. والرأي العام عندنا يرحِّب — ويكرم — بالموهبة في كل ناحية من نواحي العمل، يرحِّب بها، لا من أجل سبب طائفي، ولكن من أجل الإتقان وحده … ولكنَّ مدينتنا برغم هذا ليست مدينة عمل يومي فحسب؛ فليست هناك مدينة أخرى تَمد مثلها للروح أسبابًا للترفيه متنوعة — من مباريات وتضحيات طوال العام، وجمال منشآتنا العامة — تحيي القلب وتَسُرُّ العين يومًا بعد يوم … نحن نعشق الجمال بغير إسراف، ونعشق الحكمة — دون أن نفقد الرجولة. والثروة عندنا ليست مجرد مادة للتفاخر، وإنما هي فرصة من فرص الإنتاج. وليس الفقر عندنا عارًا نشهر به، ولكنه حِطَّةٌ ينبغي أن يعمل المرء للتغلب عليها. ونحن نظفر بالأصدقاء لا عن طريق تقبُّل المعروف، ولكن عن طريق أدائه. ومِن ثَمَّ فنحن بالطبيعة أشدُّ ثباتًا في صِلاتنا؛ لأننا مشغوفون — باعتبارنا أصحاب فضل — أن نوثِّق بالعمل الطيب علاقاتنا إزاء الأصدقاء. فإذا لم يستجيبوا بمثل هذه الحرارة، فذلك لأنهم يحسون أن خدماتهم لن تُؤدى تلقائيًّا، وإنما تُؤدى وفاء لدين. ونحن وحدنا بين البشر مَن يؤدي لغيره المنفعةَ لا لحساب مصلحة خاصة، ولكن ثقة قوية منا بالحرية. وأنا أزعم في إيجاز أن مدينتنا هي في جملتها تربية للإغريق، وأن كل فرد من أعضائها لا يلي غيره في استقلال الروح، وتنوُّع الإنتاج، والاعتماد الكامل على النفس في الذهن والأطراف.

ويستشف الأمريكان في هذا الخطاب نغمًا مألوفًا؛ فهو خطاب مليء بالثقة والأمل، يؤكد أن لأثينا رسالة، وهي أن ترفع العالم إلى مرتبة النجاح العظمى التي بلغتها، وهو خطاب يشيد بقيمة اللحظة الحاضرة والمكان الحالي، وبما تقتضيه حياة العمل، الحياة الطيبة، من ضروبٍ للنشاط والكفاح. ولكنا لو فرضنا أن طفلًا قد وُلد عندما أُلقي هذا الخطاب، ثم عاش حتى سن الشيخوخة المتأخرة الممكنة، لرأى أثينا مهزومة في الحرب، محرومة من استقلالها، وهي وإن تكن ناجحة من الناحية المادية، إلا أنها فريسة للنزاع المستمر بين الطبقات والأحزاب، بحيث لم تَعُد قادرة على أن تُنتِج ثقافة عظمى في أي ميدان، وتكاد تكون عاجزة عن الاحتفاظ بمثل هذه الثقافة.

إن المشكلات التي تدور حول ما يمكن أن نسميه في مجازٍ لا يضللنا ميلادَ الثقافة وحياتها وموتها؛ هي مشكلات أساسية في أية دراسة لتاريخ الفكر. لماذا لم تَعُد أثينا هي أثينا في عهد بركليز؟ إن الأثينيين لم يُصابوا بالفناء، كما أن الحشائش لم تنمُ في طرقات المدينة — إلا بعد عدة قرون على الأقل. والجماعة، أو المجتمع، ما دامت متماسكة على أية صورة من الصور، هي جماعة خالدة بمعنًى ما. والتدهور البيولوجي، ومجرد الانحلال المادي، لأية سلالة من السلالات، يستغرق وقتًا طويلًا نسبيًّا. ومع ذلك فليس هناك ما هو أشد تأكيدًا من أن كل الجماعات، وكل ضروب المجتمعات قد نهضت، وانتعشت، وماتت خلال الفترة التي تربو على خمسة آلاف عام من تاريخ العرب المسطور. ولا يستطيع أن يكتب رواية مستقيمة، وأن يتحاشى كلية تصور تاريخ الجماعات التي يدرسها في إطار الارتفاع والسقوط، وفي دورة الربيع والصيف، والخريف والشتاء، دورة الموت، والشباب، والنضج، والشيخوخة، والموت. لا يستطيع ذلك إلا المؤرِّخ الذي يعوزه الخيال.

كان أسلافنا واثقين — وهم على حق — أنهم بلغوا ثقافةً لن تتحوَّل إلا في طريق التقدُّم، ولن تنهار، وسنعود في فصلٍ متأخر من هذا الكتاب إلى هذا المذهب المعروف؛ مذهب التقدُّم. بيد أن حربين عالميتين قد حدَتا بالكثيرين — وبخاصة في بلاد مثل فرنسا وألمانيا — إلى أن يدركوا أن بلادهم قد تأخرت بالفعل في أثناء حياتهم، على الأقل من بعض الوجوه التي يمكن قياسها إحصائيًّا كالسكان والثروة الحقيقية. وإذن فمشكلة تدهور الجماعات البشرية التي كانت في وقتٍ من الأوقات ثابتة، ناجحة، موفَّقة — الجماعات التي كانت في وقتٍ ما في الحالة التي وصفها بركليز في خطابه الشهير — هي مشكلة تبدو اليوم واقعية، حتى بالنسبة إلينا نحن الأمريكيين، بصورة لم تكن ممكنة لآبائنا.

ولكن مشكلة ارتفاع المجتمعات البشرية وسقوطها لم تُحَلَّ بعدُ، وقد تكون أعقد من أن تُحَل — أقصد أن تُحَل بمعنى أن تتمكَّن الكائنات البشرية من أن تقوم بعملٍ يَحول دون تدهور المجتمعات، بالمعنى الذي نفهمه من حل مشكلة أسباب الدرن بحيث نستطيع أن نقترب بدرجةٍ ملحوظة من القضاء على الدرن نهائيًّا. غير أن التقليد الطويل في مجتمعنا الغربي، وهو تقليد نابع إلى حدٍّ ما من هؤلاء الأثينيين أنفسهم، تقليد مجرد وجوده يدل على أن الجماعات التي تشبه أثينا في عهد بركليز، والثقافات التي تشبه ثقافة الإغريق الكلاسيكية، لن يدركها الفناء الشامل بمعنًى من المعاني — وهذا التقليد يسوقنا إلى أن نحاول إدراك العمليات الاجتماعية كي نوجِّهها أو نسيطر عليها.

ونستطيع على الأقل — إذا أثبتت العلوم الاجتماعية بحق أنها علوم تراكمية — أن نحصل على إجابات جزئية لمشكلات انهيار مجتمعات معينة، ويمكن لهذه الإجابات الجزئية في النهاية أن تضيف محصولًا جديدًا إلى أكثر المعارف النافعة. وهناك عناصر متعددة، وصور كثيرة من المعادلة المعقدة (لا يدركها الحصر) في مسألة التدهور في حالة بلاد اليونان في القرنين الخامس والرابع. وكثيرٌ من هذه العناصر أدخلُ في باب تاريخ الاقتصاد والسياسة منها في باب تاريخ الفكر. ولكن لما كان من واجبات تاريخ الفكر أن يحدِّد المشكلات الكبرى التي تعترض سير الحياة البشرية فوق هذه الأرض، وأن يحاول أن يجد لها الحلول، فسوف نحاول في نهاية هذا الفصل أن نعرض موجزًا مختصرًا لهذه الأزمة في ثقافة الإغريق العظمى. أما الآن فسوف نوجِّه اهتمامنا الأكبر إلى العناصر الفكرية في حدودها الضيقة. سوف نحاول أن نكتشف ما أصاب أسلوب الحياة من خلل — وهو أسلوب جذاب بالتأكيد لكثير من الكائنات البشرية — وهو الأسلوب الذي حاولنا أن نرسم صورة له في الفصل السابق، وربما لم يحدث أي خلل، ولعل الثقافة الإغريقية قد انتقلت إلى دَور الشيخوخة الذي نحس إحساسًا ذاتيًّا أنه أقل من الشباب جاذبية. ومهما يكن من شيء فإن مثل هذه الحتمية العضوية لا تزال تعترض تيار الفكر الغربي الحديث.

عمق الثقافة الكلاسيكية

ربما لم تكن الثقافة العظمى التي نربطها بأثينا القديمة سوى ثقافة الأقلية الممتازة، وربما كانت الجماهير — حتى في أثينا — بعيدة في الواقع عن الاستمتاع بهذه الثقافة. ويستحق هذا السؤال منَّا البحث، وإن تكن الإجابة عنه لن تعيننا بالضرورة على بيان السبب في انهيار هذه الثقافة؛ فقد كانت هناك مجتمعات بشرية كثيرة، عاشت طويلًا بالنسبة إلى غيرها، وكانت للطبقات الممتازة فيها آراء عن الفضيلة والجمال، لا تكاد الجماهير البتة تشاركهم فيها. وإن يكن «شيء» من مثل هذه المشاركة يبدو شرطًا من شروط المجتمع السليم حقًّا، وهو قطعًا من شروط المجتمع الذي يَعُدُّ نفسه ديمقراطيًّا، بالمعنى الذي نقصده من هذه الكلمة. ومن الأمثلة الواضحة لنوع الانفصال الاجتماعي الذي لا يتفق وآراءنا في الديمقراطية، وقد لا يتفق وأسلوب الحياة الذي يصوِّره بركليز في خطاب الذكرى، ذلك الانقسام الذي كان قائمًا في الجنوب الأمريكي في العهد السابق بين مجموعة صغيرة من الأرستقراط أصحاب المزارع وجمهور ضخم من البيض الفقراء والعبيد، وربما كانت «الهوة العميقة فعلًا» في نظر الرجل الغربي بين ثقافة الطبقة الحاكمة وثقافة الطبقة المحكومة هي بالفعل من دلالات الأزمة، ومما ينذر بالتدهور.

ومع ذلك فالإجابة عن هذا السؤال: إلى أي مدًى بلغ عمق الثقافة العظيمة في أثينا في القرن الخامس؟ شاقةٌ جدًّا. ولا يسعنا إلا أن نجمع شذرات من الأدلة، وأن نحاول وزنها.

والدليل الأدبي غامض يحتمل وجهين من أوجه التفسير؛ فإن أفلاطون بتشبيهه الرجال بالذهب، والفضة، والحديد، والبرونز، وأرسطو بتأكيده أن بعض الناس يُولدون عبيدًا، وكذلك كثير من الكتَّاب، يشيرون إلى أن المثقفين — على الأقل — يرون الفصل الشديد بين طبقة ممتازة جديرة بالعيش على مستوى الثقافة العظيمة، وطبقة منحطة من العمال ليست قمينة بالمشاركة في مثل هذه الثقافة، يرون ذلك أمرًا مرغوبًا فيه، وليس هناك ما يدل من ناحية أخرى — سوى علمنا المستقل بأن الرِّق كان موجودًا فعلًا — على أن بركليز في خطاب الذكرى كان يخطب في مجموعةٍ لا تشمل جميع سكان أثينا. وليس هناك ما يدل على أنه كان يعتقد في وجود مواطنين من الدرجة الأولى ومواطنين آخرين من الدرجة الثانية، ومن الجائز أن الكتَّاب من أمثال أفلاطون وأرسطو كانوا من المفكرين الذين خاب أملهم فعلًا، ومن شهود انهيار الثقافة العظمى، وأن كليهما كان إلى حدٍّ ما يكتب باعتباره هاربًا سياسيًّا.

والواقع أن دلالة الهجمات على الديمقراطية التي وجَّهها هذان الكاتبان إلى الديمقراطية، والتي وجهها بطريقة أخرى رجال من أمثال زينوفون المؤرخ، والكاتب المسرحي الهزلي أرستوفان، والكاتب الذي نشر رسالة باهرة من غير توقيع، الذي يسميه الباحثون «أوليجارك العجوز»، وغيرهم؛ دلالة هذه الهجمات على أن ثقافة أثينا في القرن الخامس في عهدها المتأخر قد تغلغلت في حياة الرجال والنساء، وعلى أن أثينا كانت تمارس الديمقراطية من بعض الوجوه — أقول الواقع أن دلالة هذه الهجمات لا تخلو من المعنى. ولم يكن بالإمكان أن يتحمس هؤلاء الكتَّاب كل هذه الحماسة ضد فكرة مجردة.

وليس لدينا — لسوء الحظ — عن أثينا شيء يشبه تلك المعرفة التي تمكِّننا من قياس عمق الثقافة المعاصرة على صورة من الصور. ليس لدينا إحصاء — مثلًا — عن عدد المتعلمين في أثينا، ولدينا في الواقع علمٌ ضئيل جدًّا بالتربية الرسمية فيها. لم يكن هناك نظام مدرسي تحت إشراف الدولة، ولم تكن هناك قَطْعًا طباعةٌ أو شيء يشبه صحافتنا اليومية والدورية. وكانت الكتب عبارة عن صحائف من المواد المكلِّفة منسوخة باليد، ولم يكن هناك شيء يشبه المكتبة العامة. ولما أُسست في القرن الثالث قبل الميلاد فيما بعدُ مكتباتٌ عامة ضخمة، كانت المكتبات للباحثين، ولم تكن لنشر المعرفة بين الجماهير. ولم يستطع في الواقع أن يمتلك الكتب إلا أصحاب اليسار.

ومع ذلك فإن لدينا دليلًا طيبًا على أن نوع الثقافة الذي عرضناه كان واسع الانتشار في أثينا على الأقل — حتى على مستوى التربية العامة والتعليم العام. وقد أصبحنا اليوم خاضعين كل الخضوع لسلطان الكلية المكتوبة، حتى إنه ليشق علينا أن ندرك كيف يمكن لمجتمعٍ أن يتثقَّف ثقافةً غربية دون استغلال الكلمة المكتوبة على نطاق فسيح. وقد يسيطر على أبنائنا — بطبيعة الحال — التليفزيون، أو ما يشبهه، كما تسيطر علينا الكلمة المكتوبة، فيعجب الأبناء كيف أن مخلوقاتٍ مثلنا اعتلت ظهورها الكتب تَعُدُّ نفسها متعلمة. ومهما يكن من أمرٍ فإن ثقافة أثينا الأدبية كانت تعتمد على الكلمة المقولة أكثر من اعتمادها على الكلمة المكتوبة. وكانت أسواقها، ومسارحها، ومعابدها، وغير ذلك من الأماكن العامة، في خير أيامها تعج بكل صنوف الرجال، يلغطون، ويتبادلون التجارة، ويتحدثون في السياسة، والجو، والفلسفة. وقد كانت فنون النحت، والتصوير، والعمارة، التي يشهدها الجميع في المنشآت العامة، وفي الطقوس الدينية، وفي الأداء المسرحي، كانت — فوق ذلك — بمثابة تربية عامة دائمة على تقدير الجمال.

كما أننا نعرف جميعًا أن الشئون العامة كانت في أثينا، وفي كثيرٍ غيرها من المدن الحكومية التي تتمتع بشكلٍ من أشكال الحكم الديمقراطي، من الأمور التي يهتم بها جميع الذكور من المواطنين اهتمامًا مباشرًا. وحتى الحكومة الأكثر أوليجاركية مثل إسبرطة لم تكن مطلقة، بل لقد كان مواطنوها يعلمون أنهم يشتركون في شيءٍ ما، وكان لهم على الأقل حق الموافقة أو عدم الموافقة في المجالس على قرارات حكامهم. وهذه المدن الحكومية الصغيرة — وحتى أثينا كانت صغيرة بمعاييرنا — ربما كانت أشبه بالمدن القديمة في إنجلترا الجديدة منها بأي شيء آخر في تجربتنا؛ فكانت الموضوعات ذات الصبغة العامة تُناقش دائمًا علنًّا، وكانت القرارات النهائية في الديمقراطيات الرسمية كأثينا تصدر بتصويت آلاف المواطنين المجتمعين للمناقشة العامة. كان الحكم عند الإغريق — في إيجاز — يقوم على أساس المناقشة، وكانت عندهم سياسة من النوع الذي نعرفه بهذا المصطلح، بل إن كلمة بولوتيقا (أو سياسة) ذاتها، إغريقية في أصلها.

والسياسة من هذا النوع لون من ألوان التربية، وضربٌ من ضروب الثقافة لأولئك الذين يشتركون فيها. ولكن النقاد من أصحاب العقول المرنة أصروا حينئذٍ — كما يصرون اليوم — على أن الرجل المتوسط يضعف عند الاستماع إلى الكلام البليغ، ويتأثر بالدوافع الذاتية الضيقة، ميال إلى العمل الجماهيري غير البصير، لا يقبل الامتياز أو التفوُّق الحق — أي كان باختصار — بمثابة المَعِدة (في جمهورية أفلاطون) وُضعت — لسوء الحظ — موضع الرأس والقلب. ولم يهاجم الديمقراطية العملية أحدٌ بمثل العنف الذي هاجمها به أرستوفان في مسرحية «الفرسان»، حيث يمثِّل ديموس (أي الشعب) بشخصية هزلية، نصفها شر، ونصفها الآخر حماقة. ومع ذلك فقد كان ديموس بآلاف الأعداد من المشاهدين — فيما نظن — في المسرح، يضحكون من هذا القذف فيهم، كما يشتري رجال الأعمال في أمريكا مسرحية «بابت» لسنكلير لويس ويقرءونها. وإذن فقد كان الناس من جميع الأنواع — على أقل تقدير — في أثينا وكثير من المدن الحكومية الإغريقية الأخرى في القرن الخامس، يدركون إمكان الاختيار في السياسة، وعليهم أن يقرروا، بالرغم من أن هذا العمل لم يكن على المستوى العقلي الرقيق الذي أراده الفلاسفة، وربما لم يكن عند هؤلاء الإغريق في الواقع إلا تلك الأناقة وذلك التنبُّه المدلل، وذلك الاهتمام السطحي بأمور الساعة الجارية، أو تلك السفسطة العامة التي نعرفها عند الرجل العامي من أهل لندن أو باريس أو نيويورك. ولكنا نسلِّم لعشاق الإغريق بشيء يسير: وذلك أنه من الجائز، بل من الراجح، أن المستوى العام في الفكر والذوق كان أعلى في أثينا لعهد بركليز منه في أية جماعة يمكن أن تُقارن بها في الحضارة الغربية.

وهناك شذرات من الدلائل التي تؤيد أولئك الذين يحسنون الظن بالمستوى المتوسط في الثقافة لدى الأثينيين في العهد العظيم. وأشهر شاهد في الأدب الأثيني على أن مستوى الثقافة كان رفيعًا حقًّا هو خطاب الذكرى لبركليز. ولكن بركليز كان سياسيًّا، وربما كان يداهن المستمعين إليه.

ونحن نعلم أن ألوف الأثينيين كانوا يقضون الساعات الطويلة في المسرح يشاهدون روايات كبار كتاب المسرحية الإغريق. وقد كانت هذه المسرحيات — والمآسي منها خاصة — على مستوًى عقلي رفيع جدًّا من أولها إلى آخرها. ولم يكن في هذه المسرحيات هبوط، ولم تكن فيها مشاهد لأصحاب الثقافة الوضيعة أو مشاهد لكي تقابل مطالب «الواقعية»، كمشهد حفاري القبور في «هاملت». وكذلك كانت الموسيقى والرقص اللذان يصاحبان هذه المسرحيات على نفس المستوى الرفيع بكل تأكيد، وربما كان خير ما يماثل ذلك في العصر الحديث الأوبرا — ولا أعني الأوبرا الإيطالية، بل ولا أعني فاجنر، وإنما أعني الأوبرا العسيرة المقيدة التي سادت في القرن الثامن عشر — وليس من شك في أن المقارنة خطرة، ولكن هل يمكنك أن تتصور أن كل سكان مدينة من المدن الأمريكية تقريبًا (على دفعات معقولة بطبيعة الحال) يشهدون أداء «دون جيوفاني» لموزار أو «أورفيوس» لجلك برُمَّتها؟ ربما كانت الجماهير في أثينا ترتاد هذه المسرحيات نظرًا لانعدام الملاهي الأخرى، ولكنهم كانوا على الأقل يفهمون شيئًا مما يجري؛ لأن موضوعات المسرحيات كانت جزءًا من الفولكلور عندهم. أما عند الأمريكان فموضوعات الأوبرا العظيمة ليست جزءًا من الفولكلور الخاص بهم، ربما كانت «أوكلاهوما» هي النظير الحقيقي.

وقد يكون من المعقول بطبيعة الحال أن نزعم أن هذه المسرحيات الأثينية كانت أداء دينيًّا في حقيقتها، كانت جزءًا من العقيدة المتصلة بالإله ديونيسس، وأن المشاهدين كانوا دائمًا يحسنون السلوك لأنهم كانوا يحسون إحساس رواد الكنيسة؛ أي إن الجموع كانت في الحقيقة ترتاد المآسي؛ «لأن» ذلك هو السلوك الديني الصحيح، وربما كانوا لا يفقهون للألفاظ الفخمة معنًى، بل ربما كانوا يملون ما يسمعون. وفي الكوميديات — حيث تختلف المواصفات — كثيرٌ من الخشونة والفحش. وكان أرستوفان بالتأكيد أحيانًا يحاول أن يجتذب انتباه الأفراد الذين لا يسبحون خاصة في بحار الأفكار العميقة. ولكن أرستوفان لم يقدِّم شيئًا يخلو من المعنى، أو يبلغ من السوء مبلغ قصةٍ مصورة من قصص هوليوود من الدرجة الثانية، أو شيئًا سخيفًا كالأوبرات الشعبية التي تُذاع في الراديو عندنا. وكثير من أعماله يبلغ من الدقة والفكاهة الرفيعة مبلغ المسرحيات الحديثة لكتَّاب مثل ج. ب. شو، ويتطلب تنبهًا ذهنيًّا من المستمعين كما تتطلب هذه المسرحيات.

وليس من شك في أن سمعة الإغريق قد تأثرت من الحركة الرجعية في القرن التاسع عشر ضد عبادةِ كلِّ ما هو إغريقي، وهي العبادة التي بدأت في الغرب في عصر النهضة. وما زلنا حتى اليوم نجد المعجبين باليونان القديمة — وبخاصة في أثينا في القرن الخامس — الذين يرون كل أثيني جديرًا بتقديرِ خيرِ ما في الفكر البشري والأمل الإنساني. وهؤلاء المعجبون هم الكلاسيكيون الذين يعتقدون أن الرق نفسه لم يكن في الحقيقة رقًّا، وأن أفضل ترجمة للفظ اليوناني للرقيق (دولوس) هو «زميل في العمل». ومن الطبيعي في جيلنا الواقع أن يتعجب المرء كيف أنه لم يكن في أثينا — حتى في ميدان الفن والأدب — ما يماثل موسيقانا العاطفية العامة، وصورنا الفكاهية الشائعة، ومجالاتنا الشعبية، وألواننا البراقة، وهدايانا التي لا نفع فيها، وطرقنا الرئيسية للسيارات التي تقع على جوانبها المباني القبيحة. لم يصل إلينا ما يماثل ذلك، ولكن ربما كان الزمن يتخير للبقاء أفضل الأشياء.

وليس بالإمكان اليوم أن نرى رأيًا نهائيًّا موضوعيًّا يقع وسطًا بين حكم أفلاطون على مواطنيه وحكم بركليز عليهم، وربما أمكننا أن نطبِّق هنا كذلك مبدأ الوسط الذهبي الإغريقي وكانت الثقافة الأثينية في أوجها مِلكًا لجميع الأثينيين من بعض الوجوه، ولكن الأثينيين جميعًا لم يعيشوا وفقًا لمقاييسها في كل لحظة من اللحظات. وقد كانت أوسع انتشارًا في الميادين الجمالية منها في الميادين العقلية البحت. وفي الحياة السياسية والخلقية كان الأثيني من العامة أبعدَ ما يكون عن الوسط الذهبي، وعن «الفضائل المدنية» التي يتحلَّى بها أي اجتماع في أية مدينة من مدن إنجلترا الجديدة. ولم يكن رجال خياليون من أمثال جلبرت مري على خطأ تام في صميم الأمر؛ فقد كانت في أثينا — في واقع الأمر — حماسة، وطاقة مندفعة، ومغامرة، لم تتمثل في الآراء التي وردت في كتب الدراسة عن الثقافة العظمى. ويستطيع المرء أن يجرِّد الموضوع من كلِّ ما يحوطه من أحكام عاطفية، ويقول إن الإغريق في الثقافة الكلاسيكية ربما وضعوا المُثُل العليا في الاعتدال، وضبط النفس، والانسجام «لأنهم كانوا في واقع حياتهم مندفعين نحو المبالغة في كل أمر من الأمور». وربما كان الإغريق الكلاسيكيون متطرفين مشاغبين، متقلبين غير ثابتين، غير مروَّضين، فكانت مُثُلهم الثقافية نوعًا من التعويض عما فقدوه.

ولعل خير مَن يصوِّر في إنجاز روح الحياة الأثينية ثيوسيديد، وقد كان هو ذاته محافظًا معتدلًا، رسم لأهل كورنثيا صورة حية تمثِّل المفارقة بين حيوية الأثينيين وتراخي الإسبرطيين:

«الأثينيون ثوريون، وتتميَّز خططهم بالسرعة في التصوير والتنفيذ. أما أنتم أيها الإسبرطيون فعندكم القدرة الفائقة على الاحتفاظ بما لديكم، وهي قدرة مصحوبة بالافتقار الكامل إلى الابتكار. وعندما تضطرون إلى العمل قلما توغلون. هم مغامرون فوق قدرتهم، وجريئون إلى حدٍّ أبعد من أحكامكم. وهم عند الخطر شديدو الحماسة. أما أسلوبكم فهو المحاولة على مستوًى أدنى مما تمكِّنكم قدراتكم، والشك حتى فيما تؤكده أحكامكم، والظن بأن أخطاركم ليس لها نهاية. هم يعجِّلون، وأنتم تؤجِّلون. ليسوا مطمئنين في ديارهم، ولستم مطمئنين بعيدًا عنها. هم يأملون بهجرتها أن يمدوا من أملاكهم، وأنتم تخشون أن يتعرض ما تملكون للخطر من أي مشروع جديد. ما أسرعهم إلى متابعة النجاح، وما أبطأهم في التراجع عن نقيضه. هم يبذلون أجسامهم بذلًا سخيًّا في سبيل الوطن، ويجندون عقولهم في غيرةٍ لخدمة البلاد. والمشروع الذي لا ينفذ هو في أعينهم خسارة واضحة، والمشروع الناجح فشل نسبي. إذا أخفقوا في محاولةٍ عوَّضوا الخسارة بالتعلُّق بآمالٍ جديدة. وعلى خلاف أي شعب آخر، الأمل عندهم تحقيق، فما أسرعهم في تنفيذ الأفكار. إنهم لا يكفُّون عن العمل في وجه المتاعب والأخطار طوال حياتهم، ينهمكون في التحصيل، وقلما يستمتعون بما يُحصِّلون. ولا يرون في يوم العطلة إلا أن يعمل المرء ما تتطلبه المناسبة. وليس العمل الشاق عندهم من سوء الحظ كانعدام العمل والراحة. ويستطيع المرء في إيجاز أن يقول — وهو على حق — إنهم وُلدوا في هذه الدنيا لكيلا يريحوا أنفسهم أو يريحوا غيرهم».

الديانة الإغريقية كمقياس للثقافة

إننا لم نجد إجابة مباشرة لهذا السؤال: إلى أي حد تغلغلت الثقافة العظيمة في المجتمع الإغريقي؟ ولا يَسَع الأمريكي المثقف الحديث إلا أن يقيس بمشاعره، وفروضه، وتساؤله في الثقافة الأمريكية، الثقافةَ الإغريقية. إنه يعتقد في وثوق أن إمرسن وهويتمان — بالرغم مما ترى المعلمات — ليسا عند أكثر الأمريكيين إلا مجرد اسمين، وهو يشك في أن سقراط وإيسكلس في أثينا القديمة — التي لم يكن فيها حتى المعلمات — لم يكونا كذلك سوى اسمين عند أكثر الأثينيين. وقد تبيَّن لنا أخيرًا أن هذه النظرة على الأرجح تحريف للحقيقة، وأنه لم يكن هناك في الواقع في أثينا — تلك المدينة الصغيرة نسبيًّا — في القرن الخامس تمييز واضح بين أصحاب الثقافة العميقة وأصحاب الثقافة الضحلة.

ومن حسن الحظ أن يجد تاريخ الفكر مصادرَ غير الأدب والفلسفة، ومن أفضل هذه المصادر تاريخ الديانة. وليس من اليسير حتى في هذا المجال أن نتعرَّف عقائد الرجل العادي وسلوكه، ولكن من الجلي الواضح أنه كانت لديه معتقدات دينية، وأن هذه المعتقدات كانت لها علاقة بمسلكه، وليس من شك في أن هناك مِن أرباب الفكر المتطرفين مَن يؤمن حقًّا بأن ما وصف به لابريير الفيلسوفُ الأخلاقي عامةَ الفلاحين الفرنسيين قبل الثورة العظمى من أنهم «حيوانات تشبه الآدميين»، إنما هو وصفٌ موضوعي لعامة الرجال والنساء، وأن أمثال هؤلاء الرجال والنساء ليسوا حقًّا ذوي كفاية للحياة العقلية. ولكن هذا الرأي المتطرف، وإن كان يجعل صاحبه يَحُس بالاستعلاء وهو مطمئن، لا يتفق وواقع السلوك البشري؛ فإن فكرة الإله قد تعني الكثير لرجل الدِّين المتعلم مما لا تعنيه عند عامة المؤمنين الجهلاء. ولكن من الخطأ الفاحش أن نقول إن فكرة الإله لا تعني «البتة شيئًا» للمؤمنين الذين تعوزهم القدرة على التعبير.

وقد كانت هناك ديانة إغريقية رسمية، بل وثابتة من بعض النواحي، في العهد الأعظم للثقافة الإغريقية. وأما ما يجعل من العسير علينا أن نصف — بله أن نفهم — هذه الديانة الرسمية، فهو أنه لم تكن لها أصول ذات قواعد، ولم يكن لها كتاب مقدس، أو كهنة محترفون، أو كنائس — لم يكن لها على الأقل شيء من هذه العناصر في صورها التي تجعلها تربيتنا المسيحية مألوفةً لنا. وهذه العقيدة في آلهة الأولمب لم تعنِ — في مصطلح العقيدة — أكثر من الاعتقاد بأن الآلهة موجودة، وأن لكلٍّ منها قدراتٍ خاصةً وصفاتٍ خاصة، وأن ما تقوم به يمكن أن يكون له في حياة المرء أثر. لم تكن هناك مذاهب، أو أصول الدين، ولم تكن هناك — فوق هذا — عقيدة بأن هذه الآلهة هي وحدها الموجودة. نعم كان هناك قساوسة وقسيسات يقومون فعلًا بالكثير من الطقوس الدينية في المعابد، ولكنهم لم يكونوا كأسباط اليهود أو أكليروس الكاثوليك، جماعة تنفصل تمام الانفصال عن بقية الناس، وإنما كانوا إلى حدٍّ ما قساوسة غير متفرغين. وكانت هناك بطبيعة الحال مبانٍ للمعابد، ولكن ديانة الإغريق التي تعتقد في آلهة الأولمب لم تكن لها كنائس بالمعنى الذي تحمله لفظة «كنيسة» لنا من أنها جماعة من المؤمنين توجد في داخل مجتمع الدولة الأوسع. وما كان الإغريقي ليفقه فكرة الأمريكان عن حرية العقيدة الدينية، أو فصل الكنيسة عن الدولة، وعندما كان يشترك في عيد الإلهة آثنا في أثينا — مثلًا — ويدخل معبد آثنا في البارثينون، كان في حالة عقلية تشبه من بعض وجوهها ما نسميه بالوطني، ومن بعض وجوهها الأخرى ما نسميه بالديني. ويشق علينا كثيرًا أن نسبر غور حالته العقلية «بكليتها».

وليس معنى هذا كله أن الرجل الإغريقي العادي لم يعتقد في آلهته. وحتى عندما حل عام ٤٠٠ق.م ظهرت أقلية من المثقفين لا تعتقد في هذه الآلهة، وكانوا يبحثون عن عقيدةٍ في إلهٍ آخر، أبسط وأرقى من الناحية الخلقية. كما ظهرت أقلية أخرى من المتشككين، اللاأدريين، والعقليين، نبذت الآلهة القديمة دون الشعور بالحاجة إلى آلهة غيرها. كما أن بعض الإغريق قد أخذوا يمارسون عقائدَ أكثرَ صوفية، إما بالإضافة إلى الديانة الرسمية وإما بدلًا منها. غير أن غالبية الإغريق العظمى في عهد الثقافة العظمى كانوا — فيما يظهر — يمارسون الديانة الرسمية. وليس في وسعنا أن نعرف إلى أي حد كان إيمانهم حارًّا أو عميقًا. ربما كانوا لا يتجاوزون أداء الحركات، بيد أن أداء الحركات معناه الاشتراك في طقوسٍ دينية رسمية، ومثل هذه المشاركة عملٌ له أهميته من الناحية الاجتماعية. وفي القرون الستة أو السبعة التالية اندثرت الديانة الإغريقية الرسمية كما يمكن لأية ديانة من الديانات أن تندثر اندثارًا كاملًا. ولكن ليس لدينا ما يبرِّر الاعتقاد بأنها لم تكن جانبًا هامًّا من جوانب الحياة الإغريقية في هذا العهد.

وحتى في أمريكا الحديثة التي حَطَّمت تحطيمًا أشملَ مما فعل أيُّ بلد آخر من البلدان العظمى السحرَ الذي ألقته الثقافة الإغريقية العظمى على أسلافنا في عصر النهضة، حتى في أمريكا الحديثة هذه لا يزال هناك من الميثولوجيا الكلاسيكية شيء يُذكر؛ فنحن نعرف أن زيوس (أو جوبتر باللاتينية) كان أبًا للآلهة، أو زعيمًا لها، وأنه كان يقذف الصواعق، وكانت له بالإلاهات كما كانت له بالأحياء من النساء علاقات غرامية. وفي أذهاننا صورة غامضة عن صندوق باندورا، ورأس جورجون، وأعمال هرقل (أو هيركيوليز باللاتينية) الشاقة، وغير ذلك من الحكايات. ومجموع هذه الحكايات عن الآلهة والأبطال التي تتألف منها مادة الديانة الإغريقية الأولمبية، ضخمة في الواقع، ولكنها لم تُثبَت أو تُدوَّن في كتاب مقدس.

وربما استمد أكثر المتعلمين من الإغريق معرفتهم عن الآلهة من قصائد هومر خاصة، التي كان الكثيرون يحفظونها عن ظهر قلب في شبابهم، ولكن هناك مصادر أخرى كثيرة، بعضها يرجع إلى ماضي الإغريق الأوائل السحيق، وربما كان بعضها منقولًا عن أولئك الذين كانوا يقطنون اليونان قبل أن يهبط الإغريق من الشمال أو وسط أوروبا إلى حوض البحر المتوسط ليغزوهم. ويمثِّل التطور في تعدُّد الآلهة الذي حدث في القرنين الخامس والرابع في بلاد اليونان تاريخًا طويلًا، اشتغل به طويلًا علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والتاريخ. وليس من واجبنا هنا — على أية حال — أن نحاول الإجابة عن الأسئلة التي تُثار حول منشأ الديانات، أو حول الاعتقاد بالأشباح، أو وجود الحياة (الروح) في الريح، والأشجار، ومساقط المياه، وفي كلِّ ما يسميه المحدَثون الطبيعة. ولما حلَّ عام ٤٠٠ق.م كان قد انقضى على الإغريق قرون تساءلوا فيها، وفكروا، واعتقدوا، ووصلوا إلى مجموعة من المعتقدات والمراسم، ليست منظمة كل التنظيم، وليست شائعة كل الشيوع حتى بين الإغريق أنفسهم، ولكنها كانت — برغم ذلك — نظرة معينة إزاء مشكلات الوجود البشري الكبرى.

وهذه نظرة عامة وصفية بسيطة نهائية: كانت هناك آلهة محلية كثيرة، وجنيات، وأبطال، بل وأرباب وربات محلية، أو اتجاهات محلية في عبادة أرباب وربات أكثر عالمية. وكانت آثنا بمعنًى ما الآلهة المحلية الخاصة في أثينا، ولكنها كانت في كل أنحاء العالم الذي يتكلم اليونانية آلهةً معترفًا بها باعتبارها ربة الحكمة. وبالرغم من هذه المحلية الشديدة، وبالرغم من أن الآلهة الجدد قد يظهرون في أي مكان، كان هناك ما يشبه النظام الإغريقي الفيدرالي في الدين أكثر مما كان في أي نشاط بشري آخر. وكانت معابد زيوس في أولمبيا، حيث كانت الألعاب الأولمبية تُقام، ومعابد أبولو في دلفي، تعتبر ملكًا روحيًّا لبلاد اليونان كلها.

وأكثر شراح شئون الإغريق يتفقون على بعض الأحكام العامة الأخرى التقديرية المعينة فيما يتعلق بالديانة الأولمبية؛ فالأرباب والربات أولًا «كائنات بشرية»، لا تموت، وهي مجيدة بالمعنى الطيب لهذه الكلمة التي أُسيء استخدامها. وهي أقوى من الأحياء بدرجةٍ لا تُوصف. وهي لمن يعتقد فيها مخلوقات تتجاوز فعلًا هذه الحياة الدنيا، ولا يمكن وصفُها، وربما كانت أشبه بتلك الرسوم التي تمثل السوبرمان في صورنا الفكاهية للطفل، بل ولغير الطفل، «ولكنها» — فيما خلا ذلك — كانت كالكائنات البشرية؛ فأسرة الأرباب والربات تأكل، وتشرب، وتتشاجر، وتتبادل الحب، وتستغرق في كل لذة ممكنة في كل حين — شأنها في ذلك شأن بني الإنسان. وهي لا تظفر دائمًا بما تريد؛ لأن رغبات الأرباب والربات الأخرى قد تعترض رغباتهم، وحتى زيوس نفسه لم يكن قادرًا على كل شيء. والواقع أنك حينما تقرأ عن محاولات زيوس للسيطرة على أسرته العاصية، تحس أن زيوس هو أكثر الأرباب إخفاقًا في تحقيق آماله، ولكنه يسترد دائمًا نفوذه بالنسبة إلى البشر؛ لأنه في علاقته بالرجال والنساء على كل شيء قدير.

ويترتب على ذلك أنه يتحتم على البشر أن يبذلوا قصارى جهدهم لكي يظفروا برضا الآلهة ويتجنبوا غضبها. وكان كذلك دائمًا عملًا شاقًّا، إذا صدَّقْنا ما رواه هومر؛ لأن بطله أوديسيس أرضى آثنا كلَّ الرضا، ولكنه أساء إلى منافسها وعمِّها بوزيدون — إله البحر — إساءة شديدة. وفي النهاية أفلح أوديسيس لأن آثنا إجمالًا — وفي هذه الواقعة بالذات — كانت أعلى مقامًا من بوزيدون. ولكن الرجل العادي من الأحياء لا يستطيع أن يتثبت من الحكم على الإله الظافر أكثر مما يستطيع أن يتثبت من الحكم على أي الخيول يربح في السباق.

ولكن هذا الشك لا يُثني — بطبيعة الحال — أكثر الناس عن الرهان. وكان الإغريق يراهنون على الآلهة بمعنًى ما. كان الأحياء يقومون بأداء الطقوس — يُضحُّون بالحيوان، وينصبون لوحات النذور، وما إلى ذلك. ويتوقعون، أو يأملون، أن يظفروا من الآلهة بالثواب لقاء ذلك. والعبارة الوصفية المألوفة في هذا الشأن هي أن هذا الوجه من أوجه الديانة الإغريقية كان يسير وفقًا لهذه العبارة اللاتينية: إنني أعطيك لكي تعطيني. والكاتب الحديث يشير دائمًا — وهو على حق — إلى أن العابد الإغريقي وهو يضحِّي بالحَمَل لبوزيدون لكي يقوم برحلة بحرية آمنة، لم يكن يدعو إلهًا شخصيًّا، ولم يكن يحاول أن يكفِّر عن إثم ارتكبه أو قد يرتكبه، ولم يكن يتحد مع إلهٍ من آلهة الحق الذي يهتم بالحياة الباطنية كما يهتم بالحياة الخارجية لمن يعبدونه فوق هذه الأرض. وأقول في إيجاز إن ديانة آلهة الأولمب لم تكن ديانة المسيح، أو ديانة محمد، أو ديانة بوذا.

ومن المعالم الكبرى لديانة الإغريق وجود الكاهن. وأكبر الكهان هو أبولو في دلفي. وكان كل امرئ تقريبًا في وقتٍ من أوقات حياته يستشير الكاهن في مشكلة من المشكلات العائلية العويصة، أو في أزمة مالية، أو رحلة خطرة يوشك أن يقوم بها، أو ما يشبه ذلك. وكانت إجابة الإله — الذي يتكلم عن طريق قساوسة المعبد — تحتمل وجهين في أغلب الأحيان، أو «تكهنية» (أي مبهمة)، ولكنها كانت كذلك عادة معزية، لا تتطلب قطُّ عملًا خياليًّا أو غير تقليدي، وليس من شك في أن هؤلاء الكهان كانوا يعاونون كثيرًا على الاحتفاظ بالطرق المستقيمة في الحياة الإغريقية. واختلاف وجهات النظر إزاء الكهان ربما كان — على الأقل في عهد بركليز — شبيهًا باختلاف وجهات النظر إزاء المعجزات بين المسيحيين المحدثين. وهناك أدلة كافية على أن كثيرًا من الإغريق المتعلمين لم يعتقدوا فيهم، ومع ذلك فقد كانوا من غير شك جزءًا من الديانة الرسمية.

ومهما يكن من أمرٍ فقد كان الكهان على غير اتفاق مع الأداة الجديدة للعقل البشري التي أسميناها التعليل الموضوعي؛ فكان الكهان في أغلب الأحيان يتدخلون، وكذلك لم يكن من المعقول لإلهٍ مشغول أن يهتم بشئونٍ خاصة شخصية كثيرة. ولا غرو إذا كان صاحب العقل المرن من المعجبين المحدثين بالإغريق القدامى لا يرضى عن التوجُّه إلى الكهان، كما لا يرضى عن أمثلةٍ كثيرة أخرى من الخرافات الغليظة التي شاعت بين هؤلاء القوم — أبناء النور. ولكنه يعزِّي نفسه — إلى حدٍّ ما — بملاحظة الإعلانات الكثيرة عن المنجمين والعرافين في الصحف الأمريكية المحترمة. وهو يلاحظ كذلك — بحق — أن الإغريق كانوا أقرب جدًّا منَّا إلى المجتمع البدائي الذي نشئوا عنه. ومِن ثَمَّ فلم تكن هناك مندوحة — حتى في ثقافتهم العظمى — من بقاء شيء من ذلك النوع من الأعمال التي يربط الأنثروبولوجيون في العهد الحديث بينها وبين الشعوب «البدائية». وهو أخيرًا يرى أن الإغريق لم يكونوا من العقليين ذوي العقول الضيقة. ولكنهم قوم يدركون تمام الإدراك عمق الحياة ولغزها، كما يدركون كل ذلك الجانب من الخبرة البشرية، الذي لا يخضع خضوعًا واضحًا للعقل المدبِّر. والكهان، والنذور، والضحايا، والمعاملات الشخصية مع آلهة وإلاهات ليسوا نبلاء كل النُّبل — كل ذلك ليس بعيد الصلة عن الكفاح الأكثر روحانية الذي يقوم به كتَّاب المسرحية والفلاسفة في عالمٍ يبدو كأنه لم يُخلَق في الواقع — في إصرار وعناد — لكي يكون الإنسان سعيدًا فيه.

والمشكلة هي أن الانطباع الواضح لكل هذا على القارئ الأمريكي العادي هو — على الأرجح — أن الإغريق لم تكن لهم في الواقع ديانة، أو على الأقل لم يكن لديهم ذلك النوع من المشاعر التي نربطها بالدين. وليس من شك في أن هذا الانطباع خاطئ لم يحس الإغريقي إزاء آلهته كما نَحُس، أو كما نرى أنه يجب علينا أن نحس، إزاء إلهنا، ولكنه أحسَّ إحساسًا واضحًا أن هذه الآلهة واقعية، وأن لها عليه وعلى بقية الكون سلطانًا، وأنه يستطيع بنوع معين من السلوك (أي بأداء الطقوس) أن يستخدم هذا السلطان لمصلحته، ولو أنه، بطبيعة الحال، أهمل هذا السلوك، فهو يخاطر باستخدام هذا السلطان فيما يؤذيه. وليس هذا البتة هو أسمى ما حلَّق إليه الخيال الديني عند الإنسان، ولكنها كانت ديانة صادقة، وفي الفترة التي كان الناس يعتقدون فيها، كانت تؤدي جانبًا من جوانب الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي، والإحساس بالمشاركة في شيء عام، لا بد منه للإبقاء على كل مجتمع بشري، وكانت أشكال طقوسها عديدة، معقَّدة، تقابل الاهتمامات البشرية كلها، على الأقل على المستوى التقليدي للحياة اليومية.

وإنما يبدو لنا اليوم النقص في هذه الديانة بعد قرون عديدة من التجارب؛ فلم تكن ديانة فيها عزاءٌ كافٍ. ولعلها كانت تكفي الراضين، والناجحين. ولكنها للخاسرين، وللفاشلين دائمًا، لا تكاد تقدِّم شيئًا — حتى ولو كان تفسيرًا مُرْضيًا لما أصابهم من فشل. إنها لم تَعُد بالمثوبة في حياةٍ أخرى تعوِّض الآلام التي يكابدها المرء في هذه الدنيا، وإذا مُنيت المدن الحكومية بالفشل السياسي والاقتصادي، وإذا ازداد عدد الأفراد الذين يجدون أن الآلهة — على وجه العموم — لم تمنحهم ما في هذه الحياة من أشياء طيبة، الأشياء التي تقيم لها الثقافة العظمى وزنًا كبيرًا — إذا حدث هذا تحتَّم على الفرد العادي من الأحياء أن يلتمس في مكانٍ آخر الرضا الذي لم تمده به آلهة الأولمب.

ولم تكن هذه الديانة الرسمية الأولمبية تخلو من جنةٍ واضحة وجحيم واضح فحسب، ولكنها كذلك لم تقدِّم في الحاضر نوعًا من الرضا، يشق وصفه، ولكن ربما كان خير تعبير عنه أن نقول إنه المشاركة في الغبطة الدينية. وشكل من أشكال هذه الغبطة، يكفي لأن نعرف الأمريكان بها تعريفًا تقريبيًّا، هو ذلك النوع من السلوك الذي نربط بينه وبين «حركة الأحياء الإنجيلية»، أو اجتماعات المعسكرات، أو الجماعات الدينية المقدسة. وليست بنا هنا حاجة إلى أن نبحث عن مدى تهذيب هذه الغبطة، أو نُبْلها، في بعض الديانات. والمهم هنا هو أن نذكر — بقدْرِ ما نستطيع الحكم — أن مثل هذه الغبطة لم يصدر عن الخدمات المدنية الموقرة التي كانت تُؤدى تكريمًا لآثنا، أو عن الألعاب التي كانت تُقام تكريمًا لزيوس: نعم كانت هناك إثارة، وكان هناك شعور لا يختلف كلية عن المشاعر التي نحسُّها نحن الأمريكيين يوم ٤ من يوليو. ولكن لم تكن هناك غبطة دينية معينة، ولم تكن هناك «جلالة».

وأخيرًا، بدأت هذه المجموعة من الحكايات عن الآلهة تبدو للكثيرين عبثًا من الناحية العلمية، وشيئًا يصدم المرء من الناحية الخلقية؛ فقد كان زيوس — على سبيل المثال — يتخذ شكل الإوزة العراقية لكي يتبادل الحب مع ليدا، وهي من النساء الحيات. ومن لقائهما وُلد المحاربان التوءمان كاستور وبولكس.

ونحن اليوم نرى أن العمليات البيولوجية التي تنطوي عليها هذه القصة تبدو لبعضنا أمرًا غير عادي إلى حدٍّ ما. ولكنك حتى لو استطعت أن تقبل قصة ليدا والإوزة باعتبارها معجزة، أو حادثًا خارقًا للتاريخ الطبيعي، فإنك برغم ذلك تحس — كما أحس سقراط وأفلاطون — أن الغواية والزنا شَيْن لا تليق بالآلهة. وليس بالإمكان أن نزن في هذا التاريخ الذي بلغناه التأثير النسبي لهاتين الطريقتين: العلمية والخلقية، عندما نسبر غور الديانة الأولمبية. وربما كان الرجل المتعلم العادي متأثرًا بالطريقتين، ومع ذلك فإن هذا النقد العقلي العام ربما يتغلغل كثيرًا بين السكان، حتى في أثينا، عندما حل عام ٤٠٠ق.م وكان القذف في الدين — أو الشك في الديانة القائمة والتعبير عنه صراحة — أحد المبررات التي من أجلها حُكم على سقراط بالموت.

وإذن فإن ما يجده المرء عند نهاية عصر الإغريق الأعظم هو تلك الديانة التقليدية التي وصفناها، مع خلافات كثيرة محلية، وقد استقرت عقيدة عند جمهرة الإغريق. كما يجد المرء — بوجه عام — نوعين من الانحراف عن هذه الديانة التقليدية، أو نوعين من تطورها: النوع الأول هو الفلسفي الذي نعرف عنه الكثير، والثاني هو العاطفي أو الصوفي الذي نعرف عنه قدْرًا أقل، والذي ربما كان أكثر أهمية.

ونحن نجد منذ العهود القديمة جدًّا إشارات مبعثرة فيما كتبه الإغريق إلى مراسم الجماعات، أو مذاهبها، التي تدخل في النطاق الواسع جدًّا للديانة التقليدية. ويبدو أن في هذه المذاهب عناصرَ عاطفية معينة لا تتوفر في الديانة، أو تتوفر فيها بدرجة طفيفة. والموضوع شديد التعقيد، وقد أُجريت فيه مباحث عديدة، وليس بوسعنا هنا إلا أن نذكر أن هذا الضرب من «الألغاز» يرتبط بدميتر، إلهة النمو، وقوى الحياة، أو يرتبط بديونيسس، أو باكس، إله الخمر، أو بأورفيس الموسيقي الأكبر الذي سحر حتى إله العالم السفلي. أما إلى أي حدٍّ كانت تقوم هذه المذاهب على الآلهة الأجانب، أو على ثقافة مستوردة من الشرق، وأما إلى أي حد كانت هذه المذاهب بقايا عبادة بدائية جدًّا، هي عبادة قوى الأرض، وإلى أي حد كانت هذه المذاهب نموًّا مستقلًّا في بلاد اليونان المتمدنة، أما هذا وذاك فهو من المسائل التي يختص بها جدل الباحثين. ويبدو أن كل المذاهب كانت تتوافر فيها عناصر لم تتوافر في الديانة الأولمبية، أو اشتُقت منها بعد تهذيبها.

وقد وعدت هذه المذاهب خاصة لمعتنقيها نوعًا من الخلود الشخصي الحقيقي. وكانت «الأورفية» في الواقع تبشِّر بمبدأ تناسخ الأرواح. وصاحب هذا المبدأ شيء شديد الشبه بفكرة الخطيئة الأولى، وتطابق الخطيئة مع المادة، أو حياة الحواس، الحياة في هذه الدنيا. وإذا كانت الروح لا تستطيع التخلص من الجسد — طبقًا للأورفية — فقد حُكم عليها بدورة أبدية من التناسخ، ومن الآلام تبعًا لذلك. غير أن المرء إذا أخذ بألغاز الأورفية، فإنه يستطيع بهذا التحوُّل أن ينجو من هذه الدورة، وأن يخلص روحه لحياة أبدية في النعيم، ولسنا نعرف على وجه الدقة أي الطقوس والعبادات يلزم لتحقيق ذلك، وأي نوع من التدريب المتواصل على هذه الأرض — فوق كل شيء — يلزم لأن يجعل هذا الخلاص أكيدًا، ويقول الخصوم من النقاد إن الأورفية لم تكن إلا لونًا من ألوان السحر، خِلوًا من الأفكار الخلقية الرفيعة، وأن معتنِقها يظفر بالخلاص بترديده عبارات معينة، وبتطهير نفسه بالطقوس، وبدفع المال للكهان. ولكن هذا الضرب من الجدل المعادي للعقائد يظهر دائمًا في تاريخ كل دين.

ثم إن هذه المذاهب فيها فكرة الإله الذي يموت ويُبعث، فيبرهن بذلك للمؤمنين على أن الموت يخدع، وأن خلود الفرد موجود بغض النظر عن ظاهرة الموت والجسم يموت، ولكن الروح تخلد — إذا كنا قد جعلناها جزءًا من روح الله. وهذه المطابقة بين روح الإنسان والإله الخالد تتم باعتناق المذهب وتبقى بممارسة الطقوس. ثم إننا لا نعرف على وجه الدقة تفصيلات هذه الحفلات، ربما أحس عَبَدة «باكس» عندما يبلغون قمة الغبطة الدينية أنهم أصبحوا هم أنفسهم «باكس». وكان المؤمنون يأكلون الوجبات التي أُعدت للحفلات، وربما أحس بعضهم وهم يتناولون هذه الوجبات أنهم يأكلون لحم إلههم، فيكتسبون بذلك في بساطة تامة وبطريقة مباشرة قوَّته الخالدة.

قلنا إن الديانة الأولمبية لا تشجِّع العبادات، بل ولا تسمح بها، أما مذاهب الألغاز فهي تشجِّعها وتسمح بها صراحة. بيد أن تفصيل ذلك مضطرب متناقض. ولكن من المؤكد أن معتنقي هذه المذاهب كانوا قادرين على أداء جانب كبير من الحركات المثيرة والتوتر العصبي بالمشاركة في الطقوس؛ فكان المؤمنون المخلصون لباكس يرقصون حتى درجة الجنون. ومع ذلك فإن عبادة باكس ذاتها لم تكن لمجرد إلهاب الأعماق الدنيا من الطبيعة البشرية. وإذا أخذنا بكلية الكاتب المسرحي يوربيديز — الذي لم يكن بالتأكيد من معتنقي أي مذهب من المذاهب، والذي ربما كان عنده تشكُّك العقليين في الغبطة الدينية — فإن أولئك الذين كانوا يسعون إلى باكس إنما كانوا يلتمسون الطمأنينة التي تلتمسها كل الديانات العليا. وفي نشيد مشهور في مسرحية «الباكيون» The Bacchae تغني بعض العذارى هذه الكلمات:
آه لو عُدت إلى تلك الرقصات الطوال،
فأنفقتَ فيها ظلام الليل حتى تخبو النجوم!
آه لو أحسستَ بالندى في حلقي،
وبنسمة الصباح تداعب شعري،
وظهر بياض قدمي في الفلاة المظلمة!
أيها الظبي الفار إلى الحقول الخُضر
وحيدًا وسط الأعشاب والجمال،
أيها الصيد،
اقفز إلى الأمام بغير وجل،
وتخطَّ الشِّباك والمطاردة القاتلة.
إن في الأفق البعيد صوتًا يُسمع،
هناك صوت، وهناك خوف، وهناك كلاب مسرعة،
وعمل شاق، وعدو وحشي
صوب النهر والوادي …
أيتها الأقدام المُسرعة،
أمن سرورٍ أم من فزعٍ تسرعين؟
إن الأشياء الصغيرة تعيش مختفية في الغابة،
حيث الأرض العزيزة الموحشة،
التي لا يزعجها إنسان،
حيث لا تتردد الأصوات
وسط الخضرة الوارفة الظليلة،
ماذا تكون الحكمة غير ذلك؟
ولأي شيء غير هذا يبذل الإنسان جهده،
أو يهبنا الله نعمته الكبرى، بعظمتها وجمالها؟
أي شيء بعد التحرُّر من الخوف،
وتنفس الصعداء والترقب؟
وأي شيء بعد أن يرفع المرء يده فوق الأحقاد؟
عندئذٍ نحب الجمال إلى الأبد.

وما كان أشد شيوع هذه الديانات التي تدعو إلى الغبطة! ولعلها كانت ديانة رجل الشارع. وهل كانت ديانة أولمب — شبيهة بما أسميناه الثقافة العظمى — جزءًا من واقعها فقط من حياة أقلية، أرستقراطية، حتى في أثينا؟ إننا لا نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة ونحن واثقون. وإنما الراجح أن مذاهب الألغاز هذه لم تكن في أي فترة من فترات عهد الإغريق الأعظم ديانةَ غالبية الإغريق في الواقع، إن ما نعلمه عن الأورفية، ومذهب ديونيسس، وحتى الألغاز الأشد تمسُّكًا بالعرف التي تُنسب إلى دميتر في الوزيا القريبة من أثينا، إنما حققناه من ضم أشتات، ومراجع متناثرة، ونُتَف من المعرفة مبعثرة هنا وهناك، ومن الحق أن هذه المذاهب كانت سرية، وأن الحقائق التي تتعلق بطقوسها لم تُنشر في حينها. ومن الحق أن هذه المذاهب كانت تخرج عن نطاق التقاليد المهيبة للثقافة العظمى، وأن الكتَّاب في هذه الثقافة كانوا عادة من خصوم هذه المذاهب، أو ممن لا يكترثون بها. ومن الحق أننا لا نملك على أحسن تقدير إلا سجلات متقطعة من الثقافة اليونانية، وأننا لا نملك شيئًا يشبه البتة أن يكون حصرًا للمذاهب الدينية، بيد أن الظاهر — برغم ذلك — أن مذاهب الألغاز كانت على هامش صميم الحياة الإغريقية في العهد الأعظم، وأنها «لم تكن» عقيدة رجل الشارع. وهي أشبه، من الناحية الكمية وبالقياس إلى تيار الثقافة الإغريقية الرئيسي، بجماعة «العبادة المقدسة» و«شهود يهوه» منها بطائفة المعمدان أو النظاميين، أو بالأحرى منها بالكاثوليك.

وأما ثورة الفلاسفة ورجال الأدب على الديانة الأولمبية فنحن نعلم عنها الكثير؛ إذ إن لدينا رسائل بأكملها، لا مجرد شذرات من المعرفة. وفي هذا الكتاب رأينا من قبل أن في أعمال سقراط مثالًا من الطريقة التي كان الفلاسفة يسلكونها لتفسير الكون بصورةٍ أقرب إلى العقل من أسلوب الحكايات القديمة، وكيف كانوا يسعون إلى مستويات من السلوك أفضل من التي كانت هذه الحكايات تدعو إليها، وكان بعضهم يقف عند حد الرضا بالمعقولية، وقبول هذه الدنيا التي تميزها معايير الوسط الذهبي من الناحية الخلقية والجمالية. ولم يكن بعضهم الآخر — وبخاصة أفلاطون — على هذه الدرجة من الرضا. إنما كانوا يريدون عَالمًا أفضل — أو عالمًا آخر. وأخذ الفلاسفة بالتدرُّج يؤثِّرون في الألغاز، ويمدونها بأصولٍ دينية مهذبة — أصول دينية كُتب لها أن تكون ذات أثر بالغ في الأصول الدينية المسيحية، كما حدث مثلًا في فكرة الإله الذي يموت ثم يُولد من جديد التي ذكرناها من قبل.

وأكثر الأثينيين المثقفين في أواخر القرن الخامس تجاوزوا كثيرًا المعتقدات والطقوس التقليدية التي تتصل بالديانة الأولمبية، ولكنهم لم يبلغوا في ذلك مبلغ سقراط أو أفلاطون. ومهما يكن من شيء فإن عبادة آثنا كانت مشاركة في أثينا المتفائلة الناشطة في أيامها العظمى. وقد نشأ هؤلاء الأثينيون المثقفون على قصص هومر. ولمَّا شهدوا هذه القصص وغيرها مترجمة إلى مسرحيات تأثَّروا، على الأقل كما تأثَّر الناس في عهد إليزابث بمسرحيات شيكسبير التاريخية.

وقد ارتفعت هذه الحكايات التي عالجها كتَّاب المسرحية — حتى أكثرها توحشًا بدائيًّا، الذي يعج بجرائم القتل والانتقام العنيف — إلى مستوى الجدل في مصير الإنسان. وكانت مآسي يسكلس، وسوفوكليز، ويوربيديز عبارة عن مناقشات رفيعة، شعرية، محسوسة، لذلك الضرب من الأسئلة الذي كان يقضُّ مضاجع الفلاسفة. ما هو العدل؟ وما هي الفضيلة؟ وهل العالم الذي نعيش فيه مكانٌ عادل؟ وهل الإنسان حرٌّ في اختيار الحق والباطل؟ وكيف يستطيع المرء أن يميز بين الحق والباطل؟ إن كتَّاب المسرحية لم يقدموا جميعًا نفس الإجابات. وحتى الثلاثة الذين نملك مسرحياتهم كانوا ذوي أمزجة مختلفة.

ولا نكون — برغم هذا — بعيدين عن الإنصاف إذا قلنا إن هذه المآسي تشترك في قواعدَ خلقيةٍ تعلو كثيرًا على المستوى الذي ينعكس في الميراث الحقيقي للأساطير اليونانية، وأنها تقف موقف القبول في إباء وشجاعة لهذه الدنيا الصارمة التي لا تفترق عن الدنيوية الأكثر تفاؤلًا التي عرضناها عرضًا موجزًا عند دراستنا للثقافة العظمى. المأساة في أتيكا لا تقوم على حكم العقل، ولا تتجاهل أعماق المشاعر الإنسانية، ولا يغيب عنها كثير من الألغاز. ولكنها بالتأكيد لا تفرِّق تفرقة واضحة بين عالم الحواس هذا وبين عالم آخر من الحقيقة الإلهية كذلك الذي رسمه أفلاطون أو المسيحية. إن هذا الكون عند هؤلاء الأثينيين المثقفين لم يُخلَق قطُّ لسعادة الإنسان الميسَّرة. وكثيرًا ما يعاني الناس بسبب أعمالهم الطيبة، وليس بسبب ما يقترفون من آثام فحسب. وليست الآلهة — إن كان هناك آلهة — تلك الصور المعظمة البريئة للإنسان، كما كانت تُصوَّر في الحكايات القديمة على ما يبدو؛ فالآلهة أيضًا تخضع للقدَر، وللحاجة، ولتلك الارتباطات الغامضة التي لا مفر منها التي تربط الناس أجمعين. والناس يحملون مصيرهم في ثنايا شخصياتهم، التي لم يخلقوها كلها لأنفسهم؛ لأنهم يحملون عبء الميراث الثقيل، وهو ميراث اجتماعي وبدني. غير أن الناس يستطيعون — مع ذلك — أن يواجهوا هذا المصير، وهذه الحاجة، بشجاعة وإباء، ويفوزون من المعركة بالشرف، بل وبنوع من الطمأنينة. إن الحياة الطيبة ليست حياة سهلة، وليست حياة رخيصة، وليست دائمًا حياة ناجحة بمعنى النجاح الشائع. ولا بد من قضائها هنا فوق هذه الأرض إن كان لا بد أن تُقضى، ولكنها حياة ممكنة.

ولم يكتفِ أفلاطون، ولم يكتفِ كثيرون غيره من الإغريق المتعلمين، بهذا القبول الصارم للدنيا. والواقع أن أفلاطون استمدَّ شيئًا من جماعةٍ منظَّمة تُسمَّى الفيثاغوريين، وهي جماعة تكون حلقة بين مذاهب الألغاز الشائعة وعمل الفلاسفة. كان الفيثاغوريون نوعًا من أصحاب المذاهب المتحذلقين استمدوا اسمهم من زعيمهم ومؤسس طائفتهم الفيلسوف الرياضي فيثاغورس، الذي أشرنا من قبل إلى نظرياته في المثلثات ذات الزوايا القائمة. كانوا يقولون بتناسخ الأرواح، وكثير غير ذلك من الآراء الأورفية أو الشرقية في منشئها. وكانوا يخلطون رياضياتهم (وهي رياضيات متقدمة ممتازة بالنسبة إلى عصرها) بالإيمان الصوفي، الطرق الصوفية، بطريقةٍ ربما كانت شبيهة بالطريقة التي يمزج بها بعض الفلكيين المحدَثين علمهم ببحثهم الصوفي عن الإله الذي لا يُحَدُّ. وإحساسهم الأساسي بأن العلم لا يكشف عن عالم آلي، منتهٍ، أوتوماتيكي (وهو عالم يشبه عالم الفيزياء المتوسط في القرن التاسع عشر)، وأن العلم إنما يكشف عن عالمٍ غامض يدعو إلى مغامرة الفكر، هذا الإحساس يتفق تمام الاتفاق وموقف كثير من علمائنا المعاصرين. لقد كانوا محترمين من الناحية العقلية قطعًا، وربما أخذ أفلاطون عنهم الكثير.

ويأتي أفلاطون في النهاية بمعايير خلقية هي — وإن لم تنكِر الجسمَّ كل الإنكار، وتنبذه نبذًا كاملًا، وتحاول أن تعذِّبه — على الأقل متطرفة في تعلُّقها بالعالم الآخر. إن الشهوة — وحتى الشهوة المعتدلة — ليست عند أفلاطون شيئًا مستحبًّا. إن كثرة الناس تتمرغ في حمأة الحواس، ولكن القلة المفتداة قد ترى النور، وتعيش عيشة طاهرة، وتحيا حياة الفكر والمثل الأعلى. الجسم يفنى، ولكن الفكرة — أو الروح — خالدة. وربما اعتنق أفلاطون في وقتٍ من الأوقات صورةً من صور المذهب الفيثاغوري الذي يقول بتناسخ الأرواح، ولكنه ينتهي آخر الأمر إلى مثال خالص فريد، ويكاد في الواقع يكون مسيحيًّا ومن المتطهرين. إلهه واحد، أبدي، كامل، حقيقي، غير محدود. والروح البشرية تستطيع — بل يتحتم عليها — أن تتطلع إلى الاتحاد مع هذه الألوهية، ولكن بغير طريق الطقوس، أو السحر، أو أي عمل دنيوي. لا بد للروح أن تطهِّر نفسها من الجسم المادي بازدرائها الأشياء التي يحتاج إليها الجسم ولسنا نعرف هل كان أفلاطون نفسه زاهدًا؟ وفي كثير من محاوراته — كمحاورة فيلبس على سبيل المثال — يقترب من الفكرة الإغريقية التقليدية عن متعة الجسد، وهو لم يُشِر قطُّ إلى تحرير الروح بالانتحار، وإن يكن في لحظاته الثائرة يسوي بين الجسم، والمادة، والشر. إن الخلاص يتوقَّف على حياة مادية إلى أدنى حد مستطاع، روحانية إلى أقصى حد ممكن. والواقع أن هذا تعبير عام — بل ومضلِّل في عين أتباع أفلاطون — عما يصوغه أفلاطون في ألفاظٍ بلغت غاية الجمال. ولكنه يبيِّن لنا إلى أي حد ابتعد أفلاطون، لا عن رجل الشارع فحسب، بل عن التقاليد والمُثُل في الثقافة العظمى. وتدل هذه الأفكار على أقل تقدير على أن كثيرًا من الناس لم يَعُد يجد هذه الدنيا مكانًا طيبًا مثيرًا، جذابًا، كما وجده قطعًا بركليز، وكما وجده رجال الفن ورجال الأدب في العصر الأعظم.

أزمة القرن الرابع

تحوَّلت الثقافة التي سبق شرحُها تحوُّلًا كبيرًا في القرن الذي يقع بين بداية حرب البلوبونيز في عام ٤٣١ق.م وانتصار الملك فيليب المقدوني على المدن الحكومية اليونانية في عام ٣٣٨ق.م، ولم تَعُد المدينة الحكومية — التي نشأت فيها هذه الثقافة كما نشأت ثقافتنا في الحكومة القومية — مستقلةً استقلالًا حقيقيًّا. وبالرغم من أن كل المدن الحكومية قد احتفظت بكثير من مظاهر حكمها المحلي ومن الأشكال القديمة، إلا أنها وقعت تحت السيطرة النهائية للمقدونيين أولًا، وللرومان فيما بعد، واندمجت في نوع جديد من الدولة سوف نتعرض له بالدرس في الفصل التالي. وبنهاية استقلال هذه المدن اختفى من ثقافتها شيءٌ ما، ولم يسترد الإغريق قطُّ بعد القرن الرابع الأصالةَ، ووحدة القوة مع الرقي، والانتشار والتنوُّع، الذي اتصف به ما أسميناه الثقافة العظمى. وأطلق المؤرخون لفظة «الهلينستية» عنوانًا للثقافة التي سادت في القرون الثلاثة الأخيرة قبل ميلاد المسيح، تمييزًا لها عن الثقافة «الهلينية» أو الإغريقية. وارتبط هذا الاصطلاح (الهلينستية) دائمًا بالدلالة على الحذلقة، والأكاديمية، والتقليد، والمهارات الفنية، دون عمق أو إلهام.

ويجب أن نقف هنا لحظةً أخرى عند إحدى صعوبات تاريخ الفكر، وهي صعوبة التقينا بها من قبل، وتلك هي مشكلة الحياة والموت، أو الازدهار والتدهور، في ثقافة من الثقافات. وإن احتفاظ مجتمعنا الغربي بدوام البقاء ليدل على معنًى من المعاني. وكانت المدن بين الحين والحين تتحول إلى دمار شامل بحيث لا يبقى فيها ساكن واحد، كما حدث في مدينة بلميرا الصحراوية. ولم يبقَ من أثينا ذاتها في عام ١٦٠٠م سوى منازل قليلة متناثرة بين أطلال أكروبوليس، وإن تكن اليوم — بالرغم من الحروب والاضطراب المدني — تحوي سكانًا أكثر مما حوت في عهد بركليز. أما روما فلم تتدهور قطُّ إلى المستوى الذي انحدرت إليه أثينا. ومن الواضح أن حياة الاستمرار في الأجيال لم تنقطع قطُّ كلية. كما أنه لم يوجد من الأجيال ما عاش بغير اضطراب مدني، أو شغب، أو قلقلة اقتصادية، أو شكاوى فردية.

ونستطيع أن نقول — برغم هذا — كمثال محسوس، إن أوائل القرن الخامس قبل الميلاد ومنتصفه كانت نقطة مرتفعة في بلاد اليونان، كانت من أوقات الأعمال الثقافية العظمى، ومن أوقات الاستقرار والأمن النسبي، كانت وقتًا سعيدًا. ونستطيع أن نقول إن القرن الذي تلا نشوب حرب بلوبونيز كان عهد تدهور، وقلاقل، واضطراب في الأمن، كان وقتًا تحمل فيه حتى الأعمال الثقافية العظمى طابع النضال، أو قُل كان وقتًا غير سعيد. وبالرغم من أن أمثال هذه المقارنات لا تكون دقيقة إطلاقًا، ولا تعدو أن تكون مجرد إشارة من الإشارات، إلا أن القرن التاسع عشر قد يبدو في لوحة التاريخ نقطة مرتفعة في الأمن والثقافة، كما يبدو القرن العشرون عهد اضطراب وقلاقل.

ومِن ثَمَّ فقد كانت حرب بلوبونيز نقطة تحول. نعم كان هناك إغريق سعداء بعد هذه الحرب، وكان هناك إغريق تعساء قبلها، كما كان هناك كتَّاب وفنانون عظام بعد الحرب، إلا أن شيئًا قد اختفى من الحياة اليونانية، وهو ذلك الشيء الذي تظهر حقيقته في أحسن صورها في خطاب الذكرى لبركليز. ولقد فشل الإغريق في مقابلة الأزمة التي اعترضتهم في عام ٤٣١ق.م بنجاح.

وقد كانت تلك الأزمة في غاية التعقيد. ولم تكن قطُّ روحية فقط أو فكرية فقط. وأحس بها — بطبيعة الحال — الناسُ ككل حي في خبرة حياتهم. وإذا اردنا لأغراض التحلل أن نُفتِّتها إلى عناصر سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وفكرية، فإننا نفتِّت كلًّا كما يفتِّت الكيماوي — من بعض الوجوه — الماء إلى هيدروجين وأكسيجين. فليس الماء وحده وليست حرب بلوبونيز وحدها، وليس نضال الطبقات المرير وحده في ذلك الحين، وليس انهيار المدينة الحكومية، وليس انحلال القيود الخلقية القديمة وحده، ليس هذا ولا ذاك وحده هو أزمة الثقافة الإغريقية.

واتخذت الأزمة «السياسية» بشكل ظاهر، صورةً تُماثِل بدرجة مذهلة صورتَها في يومنا هذا، لم تستطِع في الواقع المدن الحكومية ذات السيادة أن تعيش مستقلة بعضها عن بعض كالقوالب العديدة في الفسيفساء، أو البقع الملونة في المصوَّر الجغرافي. غير أن تبادل العلاقات المستمر بينها كان ينتهي دائمًا بالحروب. وأخذت هذه الحروب تشتد وتطول تدريجًا، حتى اقتربت من موقفٍ يجعل المدن المتحدة الظافرة في مثل الإنهاك الذي تكابده المدن المهزومة. وقد كانت هذه المدن الحكومية اليونانية في وقتٍ من الأوقات — في التسعينيات والثمانينيات من القرن الرابع — قد اتحدت، مع قليلٍ من الفتور لا يعدو تلك الخلافات العادية بين الحلفاء، لكي تهزم تلك القوة الأجنبية، الآسيوية، الفارسية العظمى. ومن الارتفاع الذي حدث من هذا الانتصار على الفرس يبدأ تاريخ بلوغ القمة في الحركة الصاعدة في الثقافة التي درسناها. فنمت أثينا خاصة في ثروتها وقوَّتها، وشرعت تبني المدن الحكومية في المساحة الإيجية على غرار النظام الأثيني، فكانت في أول الأمر اتحادًا دفاعيًّا ضد الخطر الماثل دائمًا — خطر عودة الفرس — ثم تقاربت إلى ما نسميه منطقة نفوذ، وانتهت إلى إمبراطورية أثينية. وهذا التهديد للنظام القديم؛ نظام المدن الحكومية المستقلة استقلالًا تامًّا، التي لم ترتبط إلا بأنواع من التحالف المتغير، هذا التهديد هو الذي جر إسبرطة إلى الحرب لكي تحتفظ باستقلال اليونان.

ولم تكفَّ المدن الحكومية اليونانية عن التقاتل فيما بينها، وقد أخذ هذا التقاتل يشتد حتى بات من المؤكد أن سلطة خارجية، إن عاجلًا أو آجلًا، سلطة غير إغريقية، لا بد أن يستهويها التدخل وتغزو الإغريق جميعًا. ولم تكن الإمبراطورية الأثينية قطُّ جهدًا مقصودًا لتجاوز نظام المدينة الحكومية، إنما كانت امتصاصًا عن طريق الغزو، لم تحاول فيه إلا قليلًا أن تكتسب الولاء الفعال للبلدان الممتصة. وهذه المدن الحكومية التي امتصتها أثينا انتهزت جميعًا في الحرب البلوبونيزية فرصة انتصارات إسبرطة لكي تتخلَّى عن أثينا وتؤكد «استقلالها». ولم تكن إسبرطة أو طيبة — بعد هزيمة أثينا — أكثر نجاحًا في توحيد العالم الإغريقي.

وإذا أنت استبدلت «الحكومة القومية في القرن العشرين» ﺑ «حكومة المدينة في القرن الخامس»، وجدْت موقفًا يشابه موقفنا من بعض الوجوه في جلاء ووضوح. ليس من المحتمل أن تحتمل الحكومات القومية ذات السيادة في عهدنا التكاليف المادية والروحية لحروبٍ كالحربين الأخيرتين. وكذلك ليس من المحتمل أنها تستطيع أن تتحاشى الخوض في هذه الحروب، ما دامت ترغب في الإبقاء على سيادتها. والمشكلة التي تدعو إلى السلام (كمسرحية لسستراتا الممتِعة على سبيل المثال) واضحة اليوم في أعين الكثيرين منا، بيد أنها ربما لم تكن في مثل هذا الوضوح للإغريق القدامى، وليس عليك إلا أن تقرأ مسرحيات أرستوفان في بداية القلاقل — أو نهاية الجدل العظيم بين ديموستنيس وخصومه بشأن تدخُّل مقدونيا في السياسة الإغريقية؛ لكي تتحقَّق من أن الإغريق أحسُّوا طبيعة الأزمة.

وفي عهدٍ متأخر جدًّا، في القرن الثالث، حاولوا أن يضموا المدن الحكومية طوعًا في وحدة فدرالية حقيقية، كما انضمت المستعمرات الأمريكية الثلاث عشرة فيما بين ١٧٨٧م و١٧٨٩م. ولكن بالرغم من أن اتحاد إيجة واتحاد إيتوليا كان كلاهما تجربة شائقة في تجاوز المدينة الحكومية ذات السيادة، فإن نجاحهما كان جزئيًّا، ولم يحدث إلا في عهدٍ متأخر جدًّا. وفي هذا الوقت كان أعظم الدول الاستعمارية في تاريخنا الغربي، وأقصد روما، على استعداد لأن تحل محل مقدونيا المستضعفة.

وإذن فلم يكن هناك في ذلك الحين تخطيط واضح لقيام حكومة عليا، أو حركة قوية أو محاولة مقصودة لتجاوز الشكل السياسي الذي يسبِّب المتاعب، كما يحدث اليوم. ويبدو أن صاحبي النظريات السياسية العظيمين في وقت القلاقل هذا — وأعني بهما أفلاطون وأرسطو — كانا لا يبصران أوجه النقص في المدينة الحكومية. والظاهر أن كليهما افترض أن الإغريق يمكن أن يعيشوا على الدوام في المدينة الحكومية في عهد الثقافة العظمى، أو في صورة معدَّلة لهذه المدينة الحكومية. ونستطيع أن نقول إن الإغريق دخلوا «العالم القديم» الذي مهَّد لهم دون أن يدركوا تمام الإدراك ما هم فاعلون. ونستطيع في الوقت عينه أن نقول — ونحن مطمئنون — إن شر الحروب المستمرة في الأعوام المائة التي سادت فيها القلاقل التي تهمنا، كان أحد العوامل الرئيسية في اضطراب عقول الناس.

وكانت الحروب إلى حدٍّ ما من أجل الثروة، وكذلك من أجل النفوذ والكرامة، حروب لفرض الجزية على المهزوم، وللحصول على الاحتكارات التجارية، بل وربما للحصول على العيش والمجال الحيوي لمقابلة ازدياد السكان الذي يؤثِّر في مستوى المعيشة — وإن يكن التثبُّت من ذلك غير ممكن بسبب عدم وجود أرقام إحصائية. ومما لا شك فيه أن أثينا — باعتمادها على التجارة الخارجية لتوفير الطعام لكثرة سكانها — كانت في موقفٍ يجعل الدوافع الاقتصادية من العوامل الهامة في شن الحروب. ونحن نعلم أن المدن الحكومية كانت آخذة في الثراء وازدياد السكان على وجه العموم لعدة قرون. وهذا النمو أدَّى — وبخاصة في المدن التجارية العظمى مثل أثينا وكورنث — إلى نمو طبقة تجارية من أصحاب الأموال. وكان ذلك سببًا في اقتلاع الفلاحين من الأرض، وقذفهم إلى الحياة المدنية بما فيها من قلق وإثارة. وانتهى الأمر — وبخاصة في أثينا — إلى مجتمعٍ متنوع، يحتك فيه الأغنياء بالطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة، مجتمعٍ يستطيع فيه حتى العبد الذي يقوم على مشروعٍ ناجح أن يكسِب المال، مجتمع يقوم على أسسِ الطبقات، ولكن في غير صرامة — أو مجتمع شبيه بمجتمعنا في كثير من وجوهه. وكان هناك في أوقات الرفاهية ما يكفي جميع الطبقات، وكان هناك أمل في حالة أفضل. ولم يكن هذا المجتمع المختلط عرضة للإجهاد الشديد. ولكن بتوالي الحروب، وبتراكم أسباب النقص، وباشتداد التوتُّر، أُضيف نضال الطبقات إلى الحرب الفاشية بين المدن الحكومية، والصراع بين الأغنياء والفقراء، بين الأرستقراطية والديمقراطية، بين اليمين واليسار، تحوَّل في النهاية إلى نضالٍ بين أثينا وإسبرطة؛ لأن الحزب الديمقراطي أو الشعبي في كل مدينة من المدن — عندما اشتدت أزمة الحرب — انضم إلى جانب أثينا، وانضم حزب الأوليجاركية أو الأرستقراط إلى إسبرطة.

وقد عبَّر ثيوسيديد تعبيرًا بسيطًا عن نتيجة ذلك كله، عندما كتب عن نشوب أول حرب طبقية في إطار حرب بلوبونيز، التي وقعت في كوركيرا على الساحل الغربي لبلاد اليونان. قال:

«وهكذا نشبت الحرب الأهلية في المدن، وابتدع الثائرون المتأخرون — ونُصْب أعينهم أمثلة سابقة — أفكارًا جديدة، تجاوزت كثيرًا الآراء القديمة، وكانت مشروعاتهم محكمة، وطرق انتقامهم طريفة. وتغيَّرت المعاني العادية للكلمات وفُسِّرت الألفاظ بمدلولات جديدة. واعتُبر التهوُّر في استهتارٍ شجاعةً عند المحارب المخلص، وبات التردُّد المتسم ببُعد النظر مسوِّغًا للجبن، والاعتدالُ حُجَّةً في ضعف الشهامة، وأمست القدرة على رؤية جوانب الموضوع عجزًا كاملًا عن العمل. وعُدَّ الاندفاع التلقائي علامة الرجولة، والحذرُ من المؤامرة مسوِّغًا ظاهرًا للتهرُّب من العمل. يثق الناس دائمًا بأسلوب العنف، ويشكُّون في معارضيه. والنجاح في التآمر ذكاء، وأشد منه ذكاءً أن تبتكر المؤامرة. أما إذا أنت ابتكرت سياسة تجعل مثل هذا النجاح في المؤامرة أو هذا التشكُّك أمرًا لا حاجة بأحد إليه، فأنت خارج على حزبك، تبدي الخوف لخصومك.»

وقد يبدو هذا الوصف العام لبعض العقول كلامًا مجردًا أو غير واقعي. ولكن دعنا نسمح لثيوسيديد بالاستمرار في أسلوب الرواية المحسوس، الشائع بين المؤرخين. فرَّ بعض أهل كورسيريا من حزب الأرستقراط إلى حصنٍ جبلي، وأسلسوا القيادة مطمئنين لأهل أثينا. وبحيلة غير شريفة استطاع أهل كورسيريا من الديمقراطيين — بموافقة سلبية على الأقل من جانب حلفائهم الأثينيين — أن يخرجوا من تحت الحراسة بعض الأفراد، ويغتالوهم. يقول ثيوسيديد:

«بهذه الطريقة أُخرج ستون رجلًا وقُتلوا دون علم أصدقائهم المقيمين في نفس المبنى، الذين ظنوا أنهم إنما ينقلون من سجن إلى آخر. وأخيرًا فتح أحد الناس أعينهم للحقيقة، وعلى أثر ذلك دعَوا الأثينيين ليقتلوهم — إن شاءوا — ورفضوا أن يتركوا المبنى، وقالوا إنهم سيبذلون كلَّ ما في وسعهم لكي يمنعوا تسلل أي امرئ إلى الداخل. ولما كان أهل كورسيريا راغبين عن اقتحام الأبواب، فقد تسلَّقوا المبنى، واخترقوا السقف، وألقَوا الأحجار التي اقتلعوها جانبًا، ثم سدَّدوا نحوهم السهام، التي اتقاها المسجونون قدْر المستطاع. وقد انتحر أكثرهم، وحزُّوا رقابهم بأنفسهم بنفس السهام التي صوَّبها العدو نحوهم، أو شنقوا أنفسهم بالحبال التي خلعوها من بعض الأسِرَّة التي كانت بالمكان، وبأشرطة صنعوها من ملابسهم واتخذوا — في إيجاز — كل وسيلة ممكنة لقتل أنفسهم، كما وقعوا كذلك فرائس للقذائف التي رماهم بها خصومهم من السقف. وبينما كانت هذه الأهوال تشتد فزعًا حل المساء، وانقضى الجانب الأكبر منه قبل أن تنتهي المعركة. ولما بزغ النهار ألقى أهل كورسيريا الجثث أكوامًا في العربات ونقلوها خارج المدينة. وبيعت كل النساء — اللاتي كن في الحصن أسيرات — إماءً. وبهذه الطريقة قضت العامة على أهل كورسيريا المتحصنين في الجبل. وهكذا انتهت الحرب الطبقية بعد أعمالٍ بالغة العنف، انتهت على الأقل فيما يتعلق بالفترة التي اشتعلت فيها؛ إذ لم يبقَ في الواقع أحد من حزب واحد من الأحزاب.»

وامتزجت الصعاب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقل اليوناني وكوَّنت أزْمَة القرن الرابع. وتبدو هذه الأزمة — من الناحية العقلية — ثورةً على العقائد القديمة، والأخلاق القديمة في المدينة الحكومية، وأساليب «الرجال الذين خاضوا معركة ماراتون». وهي تبدو في أعمال رجال مختلفين كأرستوفان، الذي ودَّ لو فرَّ من الموقف بالعودة إلى الأيام القديمة الطيبة، وأفلاطون الذي ودَّ لو فرَّ إلى المستقبل في مدينة فاضلة. وهي تبدو في بحث سقراط عن الروح، وفي سخرية السفسطائيين الثابتة. ثم إن لها طابعًا حديثًا جدًّا. ويستطيع المرء أن يتصور أن علماء التحليل النفساني كان من الممكن أن يَلقَوا عند الناس قبولًا خلال هذه الفترة العصيبة في حياة الإغريق.

إن الأرستقراطي من كورسيريا الذي نجا بمعجزة من الفتك الذي وصفه ثيوسيديد لا يستطيع أن يجد العزاء لفقده كل شيء وكل عزيز لديه بتفكيره في الحياة الطيبة التي تسير وفقًا للوسط الذهبي «ولا تبالغ في شيء»، وقد مر بالفعل بموقف فيه كثير من المبالغة. وما حدث في كورسيريا كان يحدث في كل أنحاء العالم الإغريقي. وربما احتفظت قلة من الطبقات المثقفة، ذات عزم وتصميم، بالمعايير الخلقية والجمالية للثقافة العظمى. ولكن حتى هؤلاء كان لا بد لهم من موقفٍ صلب ومن تجميد أسلوب حياتهم في النظام الرواقي المتشائم الواعي بنفسه.

أو خذ صبيًّا عاديًّا من الطبقة الوسطى في أثينا؛ صبيًّا محدود القدرة فيما يتعلق بالألفاظ، واعرض عليه دقائق سقراط، وتبادل الأفكار تبادلًا حيًّا؛ ذلك التبادل الذي نعلم أنه كان شائعًا في أثينا في ذلك الحين، ليس من شك في أن مثل هذا الصبي سوف ينتهي إلى أن الحكايات القديمة عن الآلهة التي تعلَّمها في حداثته ليست صادقة. وليس من المحتمل أن يساير سقراط أو أفلاطون حتى يرتفع إلى وحدانية خلقية رفيعة، بل الأرجح أن ينتهي إلى الاضطراب والشك، أو إلى نوعٍ من السخرية الرخيصة لسنا نجهلها في جيلنا هذا. ومهما يكن من أمر، فهو ليس بالرجل الذي يصلح للقيام بما يفرضه عليه نظام الحكم والثقافة في أثينا.

واذا أنت ضاعفت من مثل هذه الحالات، وأضفت إليها كثيرًا، من اللاجئين، والمحاربين العاجزين، وأولئك الذين فقدوا أملاكهم أو تجارتهم، من الظافرين والمهزومين على السواء. إذا أنت فعلت ذلك كانت لديك المادة البشرية التي كان السخط العقلي في ذلك الحين يفعل فيها فعله. وينبغي هنا أيضًا أن نتجنب المبالغة. كم من إغريقي في وقت الأزْمة احتفظ بإيمانه بالآلهة، وبالمدينة الحكومية، وبأسلوب العيش الذي تعلَّمه من هومر، ومن أبويه، ومن الناس الذين خالطهم في السوق وقاعة المجلس والجيش. إن أساليب العيش، والمعتقدات، والعادات، قلما تموت موتًا كاملًا فوق هذه الأرض. ولكن المتاعب الجديدة قد أخلَّت بالتوازن بين القديم والحديث، واقتلعت الكوارث من الأساليب القديمة لبَّها. وأحس المبتكرون والأذكياء خاصة بأنهم مسوقون إلى نبذ القديم، كما أحس كثير من الفرنسيين بعد الهزيمة في عام ١٩٤٠م أنهم مسوقون إلى نبذ الجمهورية الثالثة.

وبالنسبة إلى المتعلمين كانت الأزمة — إذا صوَّرناها في شيء من التجريد — هي الانحلال النسبي في الروابط التي كانت تصل بعضهم ببعض في المدينة الحكومية، والاتساع النسبي في المجالات التي بات حتمًا عليهم أن يتصرفوا فيها بأنفسهم، وذلك هو النظام المعروف في الحياة الإغريقية الذي تحطَّم من أثر الفردية المتزايدة. والأفراد إذا تُركوا وشأنهم يسلكون مسالكَ مختلفة، وإن تكن أهدافهم عالمية — كالثراء، والمتعة، والسلطان، وكل ذلك بروح المنافسة القوية التي كان يتميز بها الإغريق دائمًا، وهذه المنافسة المهلكة كانت محتملة من القلة الناجحة، بل وكانوا يرحبون بها. وأما للفاشلين فقد جعلت الحياة شيئًا لا يكاد يُحتمل.

ولم تنجُ الجماهير الغفيرة من هذه الأزمة؛ فقد حملوا عبء الكوارث التي حاقت بهم في أوقات الضيق. ولم تمدُّهم الديانة التقليدية في المدينة الحكومية — كما رأينا — إلا بجانبٍ يسيرٍ من العزاء عن شرور هذه الحياة، وأمل ضعيف في حياةٍ أخرى. والراجح أنهم لم يجابهوا المشكلات الفكرية المعقَّدة التي جابهتها الطبقة العليا، غير أن مجرد شيوع الحرب الطبقية ليدل على أنهم فقدوا الثقة بالطبقات الحاكمة.

ولْنلخِّص الموضوع في إيجاز، وفي صورة محسوسة بالنسبة إلى المدينة الواحدة: كانت آثنا — إلهة أثينا — بالنسبة إلى الأثينيين كالكنيسة والدولة «معًا» بالنسبة إلينا. كانت آثنا بمثابة واشنطن، ولنكولن، والقوة السماوية التي تتحكم في حياتنا، في آنٍ واحد. ولكن آثنا أخفقت في الأمرين معًا لمَّا حل عام ٤٠٠ قبل الميلاد؛ فهي لم تمنع عن مدينتها الهزيمة، ولم تُبقِ على أثينا مدينةً رزينةً يصدر عنها النور. ومن المؤكد أن كلمات بركليز لم تَعُد تصْدُق عليها في هزيمتها، وذلك حينما قال:

«ليست هناك في الوقت الحاضر مدينة غيرها تقابل محنتها بعظَمَةٍ لم يحلُم بها إنسان، وليست هناك مدينة غيرها بلغت من القوة ما يجعل الغازي لا يحس بالمرارة لِما يكابد على يديها، وما يجعل رعيتها لا تشعر بالعار من اعتمادها على غيرها».

لم تَعُد آثنا كافية، ولم يَعُد الاعتدال، والتوسُّط، والوقار، وتربية الشهوات الطبيعية وإشباعها بالعقل والحكمة، و«الابتعاد عن التطرف»، وكل قائمة الفضائل الأبولية — لم يَعُد كل ذلك يكفي، بل ولم يَعُد ممكنًا في هذه السنوات القلاقل الأخيرة. ولا بد للناس من البحث عن الهداية في مكانٍ آخر — مكان بعيد جدًّا في نهاية الأمر — لا بد من التطلع إلى جزء من الأرض المعرفة به ضئيلة، وهو جزء مما كان يُعرف عند الإغريق دائمًا بالشرق المتبربر — لا بد من التطلع إلى الأرض التي اغتُصبت من فلسطين والتي يُطلق عليها اليوم مرة أخرى اسم «إسرائيل المزعومة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤